(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن، باب النَّهي عن الصَّلاةِ بعد الصُّبح وبعد العصرِ.
فجر السبت 18 جمادى الأولى 1442هـ.
باب النَّهْىِ عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ
587- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا". وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الصَّلاَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ.
588- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ، حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَغِيبَ".
589- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَقَامَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ، ذَكَرْنَا تَعْجِيلَ الصَّلاَةِ أَوْ ذَكَرَهَا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَىِ الشَّيْطَانِ، أَوْ عَلَى قَرْنِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا، لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً".
590- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَتَحَرَّ أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلاَ عِنْدَ غُرُوبِهَا".
591- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
592- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: لاَ تَحَرَّوْا بِصَلاَتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَطْلُعُ قَرْنَاهُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَغْرُبَانِ مَعَ غُرُوبِهَا، وَكَانَ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَى تِلْكَ الصَّلاَةِ.
593- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ الْمُنْكَدِرَ فِي الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ.
الحمد لله مُكرِمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته، سيِّدنا مُحمَّد مُختار الله وصفوته، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته، وأهل مُتابعته ومحبّته ومودّته، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين محلُّ اختيار الحقّ -تبارك وتعالى- من خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- "باب النَّهْىِ عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ". وذلك أن من الأوقات والأحوال ما مُنِعَ فيه الصَّلاة؛ على وجه الكراهة التنزيهية أو التحريمية؛ وذلك لدقة تنظيم الشَّريعة المُطهرة لأحوال العبد؛ عبوديةً لله -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- وأدبًا معه. وليس العبادة منوطة بمجرد صورة صلاة، ولا مجرد صورة صوم، ولا مجرد صورة من صور العبادات الأُخرى؛ ولذا جعل الله للصَّلاَة مواقيت وجعل لها أوقات يُنهى فيها عن التَّنفُل مع أن "الصَّلاَة خير موضوع"، قال نبينا: "فمَن شاء فليستكثر ومَن شاء فليَستقلل". ومع ذلك نُهي عن النَّوافل في أوقاتٍ مُعينة، كما عليه اجتهاد أئمة الدِّين فيما استنبطوه على الخلاف أو الاختلاف الذي حصل لهم من استنباطهم من النُّصوص، فمنها هذين الوقتين وهي أعظمها:
1- ما بعد صلاة الصُّبْح حتى تطلع الشَّمس؛ بل حتى ترتفع قدر رُمح.
2- وما بعد صلاة الْعَصْر حتى تغرُب الشَّمس.
فهذان من أهم الأوقات التي جاء النَّهي فيهما عن الصَّلَاة.
ثم جاء في الخبر أيضًا: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلَّى أية ساعة شاء من ليلٍ أو نهار".
فهذان الموضعان من أشهر ما ذكر أهل العلم النَّهي عن الصَّلَاة فيه وهو موضع: ما بعد صلاة الصُّبْح حتى تطلع الشَّمس، بل حتى ترتفع قدر رُمح. وما بعد صلاة الْعَصْر حتى تغرُب، ومن حين أن تُصلى الصُّبْح حتى تطلع الشَّمس.
أما وقت الزوال وكذلك الصَّلاَة بعد الْعَصْر ففيها اجتهاد الأئمة؛
1- وقت الغروب.
2- والطُّلوع.
3- وبعد الصُّبْح.
4- وبعد الْعَصْر.
وأجاز الصلاة عند الزوال ولم يَعُدّها من الأوقات المنهي عنها.
1- وقت الزوال، و استثنوا يوم الجُمُعة، لقوله أنه: "ساعةٌ تُسْجَرُ فيها جَهَنَّمُ" وقوله الحديث الآخر: أن جهنم "لا تُسعَّر يوم الجُمُعة"، فقالوا: تعمُّد إيقاع تكبيرة الإحرام عند وقت الاستواء ممنوعٌ عند الشَّافعية إلا في يوم الجُمُعة؛ فإنه لا تُسجَّر جهنم في ذلك اليوم.
2- وقالوا: بعد صلاة الصُّبْح حتى تطلع الشمس.
3- عند طلوع الشَّمس حتى ترتفع قدر رُمح.
4- وبعد صلاة الْعَصْر حتى تغرُب.
5- وعند الاصفرار حتى تغرُب.
فهذه خمسة أوقات عند الشَّافعية عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وجاء في الحديث عن عُقبة بن عامر الجُهني، قال: "ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّه ﷺ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ" كما جاء في صحيح مُسلم. وعَلِمنا استثناء الإمام مالك لوقت الزوال. وعَلِمنا أن الأوقات خمسةٌ عند الشَّافعية ففيها وقت الزوال،
أما قولهم:
فاثنان مُتعلقان بالفعل، وثلاثة مُتعلقة بالزمن.
ومجموع ما اختلف فيه الأئمة من الأوقات يصل إلى عشرة، وعدَّ بعضهم أكثر من ذلك، فمنها ومن الذي قويَ الاختلاف فيه:
أما ما كان من سبب مُتقدم أو قضاء نافلة أو فريضة؛ فجائز ولو بعد الصُّبْح ولو بعد الْعَصْر؛ يجوز عندهم أن يُصلي أية صلاة غير النَّافلة المُطلقة، والتي لها سبب مُتأخر عنها.
فالنَّوافل ذوات الأسباب منها:
فقالوا:
وقضاء جميع النَّوافل، وقضاء الفرائض يجوز عند الشَّافعية في هذه الأوقات؛ ما بعد صلاة الصُّبْح حتى تطلُع. وما بعد صلاة الْعَصْر حتى تغرُب الشَّمس.
فإنما يحرُم ما لا سبب له من النَّوافل المُطلقة مثل: صلاة التَّسبيح، والتَّنفل لله تعالى بالصَّلاة، أو له سبب متأخر عنه. ويجوز: إن كان سبب مُتقدم، كذلك قضاء النَّوافل وقضاء الفرائض.
إذًا، قال الحنفية: الصَّلاة ممنوعة بإطلاق، وقيل أن ما عدا المفروض سواء كان سُنَّة أو نفل. وقول أنها النَّفل دون السُّنن كما سمعت كلام الشَّافعية. وكان ذلك لسبب ما جاء في العُمومات الواردة، فمن ذلك قوله: "إِذا نَسِيَ أحدُكُمْ صَلَاةً أوْ نامَ عَنْهَا فليصليها إذا ذكرها"، وهذا يستغرق جميع الأوقات. فقال الشَّافعية والمالكية: يجوز يقضي شيئًا من الصَّلوات في هذا الوقت لأنه قال: "يُصَلِّها إذا ذَكَرَها"؛ فأخذوا بعموم ذلك وأنه يستغرق جميع الأوقات.
وكذلك أحاديث النَّهي تقتضي عموم أجناس الصَّلوات المفروضة والنَّوافل؛ فأخذ بهذا الإطلاق الحنفية. واستشهد الإمام مالك أيضًا بحديث: " … مَن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ". فجعل هذا دليل قاطع أن الصَّلوات المفروضة لا تدخل في هذا، وهي المُستثناة من عموم الصَّلوات.
يقول الحنابلة: أوقات النَّهي ثلاثة:
إن كان مُسافر وقدَّم الْعَصر بعد الظُّهر؛ فعند الحنابلة خلاص امتنع، وكذلك عند الشَّافعية لكنهم خصّصوه بالنَّافلة المُطلقة وما لا سبب له مُتقدم. السبب المُتأخر والنَّافلة المُطلقة عند الشَّافعية، ولم يَقُل بالجمع الحنفية. فيقول الحنابلة: من صلاة الْعَصْر ولو مجموعة وقت الظُّهر إلى غروب الشَّمس، إلا أنه عندهم يمكن أن يُصلي بعدية الظُّهر في جمع تقديم أو في جمع تأخير؛ عندهم يصح أن يصلي هذه الصَّلاَة السُّنَّة في ذلك الوقت.
تحرُم في هذه الثلاثة الأوقات عند الحنابلة.
إذًا، فهذا الوقت الثاني بعد صلاة الصُّبْح كما جاء في الصَّحيحين عن رسول الله ﷺ: "لا صلاةَ بعدَ الصُّبْحِ حتى تطلُعَ الشمسُ، ولا بعدَ العَصْرِ حتى تغرُبَ الشمسُ". وقال الشَّافعية: أنه ﷺ قضى سُنَّة الظُّهر بعد صلاة الْعَصْر؛ فدَّل على أن ما لها سبب مُتقدم أو كانت مقضيّة؛ تجوز في هذا الوقت.
وهكذا كما سمعت يقول الحنابلة: يجوز يأتي بالسُّنَّة الفجر بعد صلاة الصُّبْح، لِما جاء عن قيس بن فهد، قال: خرج علينا رسول الله ﷺ فأُقيمت الصَّلاَة؛ أي: صلاة الصُّبْح، فصليت معه الصُّبْح، فوجدني أُصلي؛ يعني: بعد صلاة الصُّبْح، فقال: مهلًا يا قيس أصلاتان معًا؟! أول مرة وثاني مرة تصلي الصُّبْح، قلت يا رسول الله: إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر فالآن صليتها. قال: فلا إذًا. قال: فلا إذًا. فظنّ أولًا أنه يُصلي الصُّبْح بعد أن صلّاه معه؛ فأنكر عليه. فلما عَلِم أنه يُصلي سُنَّة الفجر لم يُنكر عليه.
وقد عَلِمنا أنه ﷺ قضى سُنَّة الظُّهر لمّا شغله عنه الوفد بعد الْعَصْر. ثم كان من خصوصيته: أنه كل ما دخل بيته بعد الْعَصْر صلى ركعتين؛ لأن عمله ديمة. فأما القضاء فله ولغيره عند الشَّافعية والمالكية والحنابلة، وأما الاستمرار على القضاء فهذا من خصوصياته لأن عمله ديمة. في يوم واحد شغله الوفد عن سُنَّة الظُّهر، فقضاها بعدما صلّى بالناس الْعَصْر بالبيت؛ فصار كُلَّ ما دخل البيت بعد العصر، يُصلي الركعتين؛ لأن عمله ديمة، وهذا من خصوصياته ﷺ.
كذلك بعد صلاة الْعَصْر معنى حديث الصَّحيحين، "لا صلاةَ بعدَ صلاة الْعَصْرِ حتى تغرُبَ الشمسُ".
كان ﷺ يقول: "إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ"؛ يعني: طرفها الأعلى، "إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ"؛ يعني: طرفها الأعلى من قرصها، "فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ، حَتَّى تَبْرُزَ"؛ يعني: تصير ظاهرة بارزة، بأن ترتفع مقدار سبع أذرع في رأي العين، وهو مقدار الرُمح. الرُمح: سبع أذرع؛ يعني حتى تكون في نظر العين أو في مرأى العين مقدار السَّبع الأذرع من محلِّ الطُّلوع، وهذا يتم في خلال أربع درج، والدرجة أربع دقائق، فأربع درج؛ ستة عشر دقيقة. فمن بداية الطُّلوع إذا مرت 16 دقيقة؛ قد ارتفعت قدر رُمح؛ أباحت الصَّلاَة حينئذٍ؛ تُباح الصَّلاة حينئذٍ؛ من بداية الطُّلوع إلى 16 دقيقة تكون قد ارتفعت قدر رُمح في نظر العين.
وهذا الحديث يُضعف القول: بأن هناك صلاة إشراق غير صلاة الضُّحى وأنها تبدأ من الطُّلوع، ويكون هذا القول ضعيفًا، بل لا صلاة عند طلوع الشَّمس حتى ترتفع قدر رُمح. كما جاء في عدد من النُّصوص. "إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلاَةَ، حَتَّى تَبْرُزَ"، فحاجب الشَّمس أول ما يظهر من قُرصها عند بداية طُلوعها.
ثم ذكر لنا حديث سيِّدنا أنس، أن النبي ﷺ قال: "تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَىِ الشَّيْطَانِ، أَوْ عَلَى قَرْنِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعاً، لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً". فاستدّل أن من علامة النِّفاق: تأخير صلاة الْعَصْر إلى وقت الاصفرار، ثم يقوم يُصليها بلا حضور قلب، ينقر نقرات أربع، ويقول صليت؛ ولهذا كان يعتني سيِّدنا أنس بتقديم الْعَصْر وصلاتها في أول وقتها.
كما جاء عن العلاء عن ابن عُمَر يقول: دخلنا على أنس بن مالك بعد الظُّهر؛ بعد خروج وقت الظُّهر، فقام يُصلي الْعَصْر، ولما فرَغ من صلاته، ذكرنا تعجيل الصَّلاَة، فذكر الحديث عن الذين يؤخرون صلاة الْعَصْر حتى تصفرّ. وعليه حمل بعض الأئمة حديث، "مَن فاتتْهُ صلاةُ الْعَصْر"، قال: بأن أخرّها إلى وقت الاصفرار، "مَن فاتتْهُ صلاةُ الْعَصْر فَكأنَّما وُتِرَ أَهلَهُ ومالَهُ"، و"مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه"، وهي الصَّلاَة الوسطى على الأرجح، من الأقوال صلاة الْعَصْر.
وقوله: "كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَىِ الشَّيْطَانِ، أَوْ عَلَى قَرْنِ الشَّيْطَانِ"؛ مُشيرًا إلى عَبَدة الشَّمس والقمر أنهم يتحرّون وقت طلوعها ووقت غروبها، فيسجدون، وأن الشَّيطان يفرح، فيأتي أمام الشَّمس حتى يكون السُّجود له؛ فيسجدون له عند طلوعها وغروبها وهو يفرح من هؤلاء الكُفار المُشركين الذين يُشاركونه في دخول النَّار، يفرح منهم ويصطف أمام صفوفهم وهم يسجدون للشمس من دون الله، (.. لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت:37] جلَّ جلالُه.
وفيه: ثِقل الصَّلاَة على المُنافقين وأنهم يتراخون عنها إلى أواخر الأوقات، تلك صلاة المُنافقين. وأن المؤمنين يُعجبهم المُبادرة إلى الصَّلاَة والتَّبكير بها في أوائل أوقاتها؛ وهو من أفضل الأعمال، وتثقل على المُنافقين فيتراخون إلى آخر الوقت.
"لاَ يَتَحَرَّ أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلاَ عِنْدَ غُرُوبِهَا"؛ يعني: ما يتقصّد ذلك ويرتقِبه. "يقول أبِو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ".
يقول: أن الشَّمس تطلع مع قرن الشَّيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها. فعند الاستواء؛ محل نهي عن الصَّلاة عند الأئمة الثلاثة. وعَلِمنا استثناء الإمام مالك فلم يرَ بأسًا بالصَّلاَة عند استواء الشَّمس. فإذا زالت فارقها، وإذا دنت وقت الغُروب قارنها، وإذا غربت فارقها؛ فنهى ﷺ عن الصَّلاَة في تلك السَّاعات كما جاء أيضًا في سُنَّة النَّسائي وابن ماجه.
وحديث "إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ" جاء في الصَّحيحين، وحديث: "تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِينَ" رواه الإمام مالك، كما سمعت في هذه الرِّواية والنّهي عن تحرّي الصَّلاَة؛ أي: قصدها عند الطُّلوع وعند الغُروب جاء في الصَّحيحين أيضًا، وقول أبو هريرة: "نَهَى ﷺ عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ"؛ يعني: مُرتفعة بقدر رُمح.
وقُلنا أن الإمام الشَّافعي استثنى مكة المكرمة ولم يستثنيها غيره من الأئمة، وذكر عن سيِّدنا عُمَرَ: "لاَ تَحَرَّوْا بِصَلاَتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَطْلُعُ قَرْنَاهُ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَغْرُبَانِ مَعَ غُرُوبِهَا، وَكَانَ يَضْرِبُ النَّاسَ عَلَى تِلْكَ الصَّلاَةِ". يقول بعض التَّابعين سألت أنَسًا عن التطوّع بعد العصر، قال: كان عُمَرَ -رضي الله عنه- يَضْرِبُ الأيادي على الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ. وقوله: "يَضْرِبُ الْمُنْكَدِرَ". الْمُنْكَدِرَ؛ ابن عبد الله بن الهدير بن عبد العُزى، والد محمد بن المُنكدر؛ فهذا هو تابعي، في الصَّلاة بعد الْعَصْر يضربه إذا قام يُصلي بعد الْعَصْر. لا تصلُح الصَّلاة بعد الْعَصْر حتى تزيغ الشَّمس وبعد الصُّبْح حتى تطلع الشمس، وكان عُمَرَ -رضي الله عنه- يضرب على ذلك.
جعلنا الله وإياكم من المُقبلين بالكُلية عليه، والمُتحققين بحقائق الصَّلاة وخشوعها وخضوعها وإخلاص القصد فيها، ويكتب لنا القبول في كُل صلواتنا ورَكعاتنا وسجداتنا، ويجعلنا داخلين في دوائر الرُّكع السُّجود، مُقتدين بسيِّدهم محمد ﷺ صاحب المقام المحمود. اللَّهمّ ارزقنا حُسنَ الائتمام به في سجوده وركوعه، وخشوعه وخضوعه، واسعدنا بمرافقته، وامنُن علينا بكريم مُتابعته ظاهرًا وباطنًا. بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
19 جمادى الأول 1442