(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن، باب العملُ في الدُّعاء.
فجر الإثنين 13 جمادى الأولى 1442هـ.
باب الْعَمَلِ فِي الدُّعَاءِ
579 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَدْعُو وَأُشِيرُ بِأَصْبُعَيْنِ، أَصْبُعٍ مِنْ كُلِّ يَدٍ، فَنَهَانِي.
580 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَالَ بِيَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، فَرَفَعَهُمَا.
581 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء:110] فِي الدُّعَاءِ.
582 - قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِالدُّعَاءِ فِيهَا.
583 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ فِي النَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِى إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ".
584 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى هُدًى، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَه، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى ضَلاَلَةٍ، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئاً".
585 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَه، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ.
586 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُومُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: نَامَتِ الْعُيُونُ، وَغَارَتِ النُّجُومُ، وَأَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
الحَمدُ لله مُكرمنا بِحبيبهِ المصطفى، سيّد أهل الصدِّق والوفاء، وإمامِ أهل النقاء والصفاء، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليهِ وعلى آله وأصحابه الحُنَفاء، وعلى من تبعهم والاهم بإحسانٍ في الظاهِرِ والخفاء، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين ساداتِ الحُنفاء، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم، وجميع الملائكة المقربين، وعباد الله الصالحين ومن بعهدهِ وفى، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وهو حسبُنا وكفى.
ويواصل الشيخ سِيّدنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بالعمل في الدعاء، حيث الكيفية وكيف يدعو إذا أراد الدعاء، كيف يعمل إذا أراد الدعاء، "باب الْعَمَلِ فِي الدُّعَاءِ".
وأشار في الحديث الأول إلى أن من الطرق الواردة في الدعاء، رفع إصبع السبابة نحو السماء ثم يدعو، وأورد لنا حديث: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَدْعُو وَأُشِيرُ بِأَصْبُعَيْنِ، أَصْبُعٍ مِنْ كُلِّ يَدٍ، فَنَهَانِي"؛ ارفع إصبع واحدة، إصبع اليمنى السبابة ترفعها، وإنما نهاه ابن عمر لما علم من سُنة النبي ﷺ، ونهيه من رفع الإصبعين، وأمره أن يرفع إصبعًا واحدة، كما جاء في الحديث المرفوع عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قالَ: مَرَّ عليَّ النَّبي ﷺ وأنا أدعو بإصبعي فقال: أحِّد أحِّدْ"؛ ارفع إصبع واحد "أحِّدْ أحِّدْ وأشارَ بالسَّبَّابةِ"، هكذا جاء: "فقالَ: أحِّدْ أحِّدْ وأشارَ بالسَّبَّابةِ" جاء في رواية الترمذي وقال حسن، ورواية الحاكم وقال صحيح، ورواية النسائي أيضًا: أن رجلاً كان يدعو بإصبعيه وجاء نفس حديث سيدنا سعد بن أبي وقاص عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
وأما ما يروى عن سهل قال: ما رأيت ﷺ شاهرًا يديه يدعو على المنبر وغيره إلا كان يجعل إصبعيه بحذاء منكبيه فيدعو؛ فالمراد: في رفع اليدين فتكون الأصابع محاذية المنكبين في مستوى رفعهما. وليس المراد: رفع إصبعين، ولكن الأصابع من كل يد توازي المنكبين حين يرفعهما في دعائه ﷺ.
ومن هنا جاء استحباب رفع اليدين للدعاء خارج الصلاة:
فلِدفع المرهوب يجعل ظهر كفّيه نحو السماء، ولِنيل المطلوب يجعل باطن كفّيه نحو السماء.
وكله واسع.
فرفع اليدين بالتذلّل والتضرع والابتهال
وقد مدَدْتُ يـدِي بالـذُّلِّ مبتهـلاً *** إليك يا خير من مُـدَّتْ أليـه يـدُ
فـلا ترُدَّنهـا يـا ربِّ خائـبـةً *** فبَحْرُ جودِكَ يروي كل منْ يَـرِد
وكذلك بعد إكمال الدعاء -وهذا في خارج الصلاة- يمسح وجهه بكفّيه تعظيمًا وإجلالًا وإكبارًا للحقّ -جلّ جلاله- وتبركًّا بدعائه، فهكذا عند الأئمة -عليهم رضوان الله-
وقد ورد في كل ذلك أحاديث، وألّف الإمام السيوطي رسالة: (فضّ الوعاء في رفع اليدين عند الدعاء)، وأورد عددًا من الأحاديث المتعلقة برفع اليدين وكيفية رفع اليدين في أنواع الأدعية، وما جاء عنه في خطبته، وفي دعائه خارج الصلوات وفي مختلف الأوقات ﷺ.
وجاء في سنن البيهقي عن سهل بن سعد قال: "ما رأيت رسول الله ﷺ شاهرًا يديه قط يدعو على منبره ولا على غيره، ولكن رأيته يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعقد الوسطى بالإبهام"، هكذا جاء في رواية البيهقي عنه ﷺ فهو من العمل في الدعاء.
ثم ذكر فوائد هذا الدعاء ونفعه للأحياء والأموات فقال: "أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ" أي: يرفع درجاته في الجنة، "بِدُعَاءِ وَلَدِهِ"؛ بسبب دعاء أولاده له،"مِنْ بَعْدِهِ"ومن تبعه كذلك، قال: "وَقَالَ بِيَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ" يعني: سعيد بن المسيب،"فَرَفَعَهُمَا" فتأتي في الكيفيات:
فيرفعها يدعو لأبويه -سيدنا سعيد بن المسيب- وهذا الكلام من سعيد بن المسيب ممّا لا يُقال بالرأي، وقد جاء بسند حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- كما قال ابن عبد البر عن النبي ﷺ: "إن المؤمن ليُرفع الدرجة في الجنة فيقول يا رب بمَ هذا؟ فيقال له: بدعاء ولدك لك"، وفي رواية: "بدعاء ولدك من بعدك"، في رواية: "باستغفار ابنك"، فتُرفع درجة الأب بالابن البار والمستغفر لوالديه والداعي لهما، ربِّ ارحمهما كما ربّونا صغارًا، رفع الله درجات الآباء والأمهات، وجمعنا بهم في أعلى الجنات، وهكذا أثر الولد الصالح "أو ولد صالح يدعو له".
ويشتد الحال على من أهمل أولاده أبناء أو بنات، وعَرّضهُم لأن يتأثروا بما ينتشر في الأرض من الفساد في الفكر والسلوك، ثم مات وتركهم على تلك الحالة ولم يُبالِ أن يجالسوا الأشرار، ولم يبالِ أن يضيّعوا الفرائض، ولم يبالِ أن يستمعوا إلى ما يغيّر فِكرهم ويحرف عن الحق، ثم يموت فتبقى سيئاتهم فوق سيئاته، له مثل سيئاتهم لإهماله ولِعدم مبالاته، أما لو أدّى واجبه وذكّر ونصح وأرشد واستعمل الوسائل فلا إثم عليه مما يفعل أولاده بعد ذلك وقد بلّغهم واستنفد وسعه في وسائل وأسباب هدايتهم بالحكمة، فإذا قصّر في ذلك.. فيموت ولا تموت سيئاته، ولا تموت ذنوبه -والعياذ بالله- وكلّما أذنبوا وقصّروا رجع له عليه مثل آثامهم لإهماله إياهم، والولد إما حسنة من حسنات أبيه، وإما سيئة من سيئات أبيه، وجميع سيئاته يكون سيئة من سيئات أبيه أو يكون بجميع حسناته حسنة من حسنات أبيه.
فما أعظم التربية والقيام بها؛ ولذا حرص خيار الأمة كما هو المذكور عن أسلافنا -عليهم رضوان الله تعالى- حسن التربية في القول والفعل والنظر والحجز عن مجالسة الأضداد، والتعليم والإرشاد، والرأفةِ والرحمةِ، والترغيب والترهيب، وبكل ذلك ربَّوا واعتنَوا عليهم رضوان الله.
ويتسرب إلى أفكار بعض المسلمين يقولون له: لا تعقّد ولدك! إيش معنى لا تعقّده؟ ما تعقده من الشر يعني؟ ما تعقده من قل الأدب؟ ما تعقده من المنكر يعني، حتى يألفه؟ إيش معنى ما تعقّد ولدك؟! فيصير يترك حسن تأديبه وتربيته، فتتلقّفه أيدي الفساق والفجار ويتكوّن فكره على أيديهم، أبى أن يكوّن الفكر والسلوك على النور والهدى فأخذته أيدي الضلال والظلمة، وكوّنت فكره وكوّنت سلوكه! بدل يد الخير ويد النور جاءت له يد الشر ويد الظلمة ولعبت به لعب.. وذا يتفرج! وقال: إلا إن أوحى إليه الكفار ألا تعقد ولدك وأعطه الحرية! وما أوحى إليك الجبار شيء؟ وما قال لك: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا..)؟ [التحريم:6] وما قال لك: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ..)؟ [التغابن:14] وما قال لك: (والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ..)؟ [الفرقان:74] هذا وحي الله ما أثّر فيك، ووحي الكفار أثّر فيك؟! لا تعقّد ولدك.. أعطِه الحرية.. أعطِه الثقة بنفسه.. حتى يأخذونه هم منك!! معناه خلِّ ولدك من القرآن والسنة والنبيّ والأولياء، خلُّه لنا، خلُّه لنا نستأثر به ونلعب به ونصيغه لك صياغة تنال بها العقوق في الدنيا والآخرة، هذا معناه.. خلُّه من النور وخلّصه لنا، سلّمه خالص لظلماتنا وآفاتنا.. هكذا يلعبون على عباد الله، دفع الله شرّهم.
والحق أعلم بخلقه وتكوينهم ونفسياتهم وأفكارهم وعقولهم، وشرَع شرائع، "مُروا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنينَ واضربوهُم عليها وهمْ أبناءُ عشرٍ وفرِّقوا بينهُم في المضاجعِ"، "كلكم راعٍ وكلكم مسؤولً عن رعيته"، هذا كلام المرسَل من قِبل مكوّن النفسيات، مكوّن العقول.. الله، هل أحد أعلم من الله؟ أعرف بمصلحة هذا الإنسان وكيفية تكوينه فهمه وعقله ونفسيته؟ من أعلم بالإنسان من ربّه وخالقه جلّ جلاله؟ ولكنهم نصبوا أنفسهم آلهة فتَبِعَهم بعض المسلمين.
قال سيدنا عدي بن حاتم: لما سمع النبي يقرأ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ..)[التوبة:31] قال: إنهم لم يعبدوهم! قال له ﷺ: أليس حرّموا عليهم ما أحلّ الله فتبعوهم؟ قال: نعم، قال: وأباحوا لهم ما حرّم الله عليهم فتبعوهم؟ قال: نعم، قال: وأوجبوا عليهم ترك ما فرض الله فتبعوهم؟ … فتلك عبادتهم إياهم، هذه العبادة اتخذوهم أربابًا من دون الله! وهؤلاء عدد من الكفار نصبوا أنفسهم آلهة لعباد الله وناس تبعوهم، يحرّمون ما أحلّ الله، ويحلّون ما حرّم الله.. أنت خالق؟ أنت مكوّن؟ أنت مبدع؟ وأنت مخلوق من نطفة.. عيب عليك! أنت واحد من الناس تحتاج إلى منهج ربك الذي خلقك حتى تسلم وحتى تنجح حتى تفوز، ولكن (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)[الفرقان:43]، (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّه..)[الجاثية :23] لو اتبع هواه نفسه أضلّ وفَسَد.. الآن قام يتّبع هوى واحد ثاني! حتى هواك أنت ستضِل فكيف تجيء بهوى واحد ثاني وتسلّطه عليك؟! حوّل الله أحوال المسلمين إلى أحسن حال، وتمّم لهم الشرف والكرامة والعزة بتبعية منهجهِ ورسوله في كل حال، في النيات والأقوال والأفعال، ولهم بذلك الشرف والعزة والكرامة في الدنيا والمآل.
كل واحد يَدّعي الهداية، لكن هذا صادق وهذا كاذب، وهذا حق وهذا باطل، وهذا نور وهذا ظلمة، وهذا خير وهذا شر، وهذا هُدى وهذا ضلال، وهذا تقوى وهذا فسق، فمن الصادق منهم ومن الكاذب؟… صدق الله وصدق رسله، وفي القيامة يقال للجميع: (..هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، ما أحد يقول صدق المفكرون، ولا صدق العبقريّون، ولا صدق الحزبيون، ولا صدق المتحضّرون، (..وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52] الرّسل هم الذين صدقوا فهم وأتباعهم أهل الصدق، فإن قالوا: اتبعونِ أهدكم سبيل الرشاد، نقول: صدقتم، وأولئك يقولون: نهدِكم سبيل الرشاد، نقول: كذبتم! فمفهوم الرشاد عندكم: تنكّر للخالق، ولعب بالخلق، وحيازة مصالح، وعبادة شهوات وما هذا برشاد! (..فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)[هود:92] والنتائج: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُود) [هود:98-99].
ثم ذكر لنا حديث الجهر والمخافتة:
وأورد: "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء:110] فِي الدُّعَاءِ."
وذكر ابن عبد البر عن الإمام مالك أنه قال: أحسن ما سمعت فيه: أي لا تجهر بقراءتك في صلاة النهار، ولا تخافت بقراءتك في صلاة الليل، قال: والصبح من النهار لكنه ملحق في القراءة بصلاة الليل، ولا تجهر بصلاتك في النهار ولا تخافت بها في الليل، ففي الليل يجهر وفي النهار يُسِر، أي:
ومن العجيب أيضًا ما جاء عند فقهاء الشافعية في صلاة الليل:
ولا هناك حالة بينهما، كيف بينهما؟ لا تُسمع نفسك فقط، وأسِمع غيرك؟ أو لا تسمع غيرك؟ وبعدين وكيف أصنع لا أسمع غيري ولا أقتصر على إسماع نفسي… كيف وسط؟ قالوا: إن أسمعت غيرك فهو جهر، وإن لم تسمع غيرك فهو إسرار.. أين بين الجهر والإسرار؟ أين؟ لا شيء بينهم! قالوا: تجهر بآية وتُسِرّ بآية.
وحمله بعضهم على ظاهره؛ فقال: لا تجهر جهرًا بالغًا، ولا تخافت مخافتةً بالغة، وتوسّط بأن يسمعك من بقُربك ولا يسمعك من بَعُد عنك، وجعلوا: (..بين ذلك سبيلا) هو هذا، فالأمر واسع في مفاهيم الآية الشريفة.
"قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِالدُّعَاءِ فِيهَا." قال الإمام مالك: لا بأس أن يدعو الرجل بجميع حوائجه في المكتوبة، حوائج دنياه وآخرته، في القيام والجلوس والسجود قال: وكان يكرهه في الركوع، هذا الذي جاء في المدوّنة عن الإمام مالك.
وجاء عندنا في الصحيحين وغيرهم قوله: اللهم انجِ فلان انج فلان انجِ فلان… ذكر أسمائهم في الصلاة في قنوته ﷺ، فلا يضر في خطاب الحق تعالى ذكر أسماء ولا غيره، وهكذا يجيء الدعاء في الصلاة .
وفي الحديث: أنه ﷺ صلى في صلاة القيام في الليل فجعل لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل الله من رحمته، ولا بآية عذاب إلا وقف واستعاذ بالله من عذابه. وما أشرنا إليه من الحديث في الصحيحين: اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم انج المستضعفين من المؤمنين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف.
فالدعاء له مواطن في الصلاة، من أهمها:
قال ﷺ: "أَقْرَبُ ما يَكونُ العبد مِن رَبِّهِ وهو ساجد، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ فقَمِنٌ.."، وفي رواية: "فحريٌّ" "..أن يستجاب لكم". وجاء في الآية النهي عن الاعتداء: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف:55]
فإمّا أن يدعو بقطيعة رحم، أو بإثم أو بإيذاء مسلمين أو غير ذلك، هذا من الاعتداء في الدعاء، أو يحوّله إلى صياح ومهاترة أو يدعو بأن يكون له منازل الملائكة والأنبياء هذا اعتداء في الدعاء! (..إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أو يدعو بتحقيق معصية؛ له أن يتيسّر له سرقة على فلان أو يضرّه!! قليل حياء وقليل أدب.. فهذا هو الاعتداء في الدعاء (..إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
والعجيب ما ذكر ابن عابدين قال: لا ينبغي يسأل العافية مدى الدهر، فإن الحكمة في أن يمرض الإنسان من وقت لوقت.. ولكن ذلك لم يشكل عند غيره فيسأل الله العافية، والحق له في تصريف خلقه حِكم وأسرار، وكان شيخنا الحبيب إبراهيم في أواخر أيامه وعنده الأمراض الكثيرة فيقول: أسأل الله كمال العافية أو حقيقة العافية، ثم يقول: أتدرون ما حقيقة العافية؟ ما حقيقة العافية؟ قال: سلامة القلب من الاعتراض على الله، هذه حقيقة العافية، أن لا يكون في قلبك ذرّة من الاعتراض على الرب؛ قال هذه العافية هذه حقيقة العافية؛ أن تكون على مقام الرضا والتسليم ليس في قلبك ذرّة من الاعتراض، قال حقيقة العافية: سلامة القلب من الاعتراض على الله.
وذكر لنا من أدعيته ﷺ ويروى هذا الدعاء بعد الصلاة، ويروى أن الله أمره أن يقول هذا الدعاء بعد الصلاة وهو: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ فِي النَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِى إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ"، كما جاء في سُنن الترمذي، فروى لنا هذا الدعاء النبوي، وقد جاء من أحاديث بأسانيد متعددة إليه ﷺ أنه كان يدعو يقول:
ثم أورد حديث ما روى مسلم وأصحاب السنن قال ﷺ: ""مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى هُدًى، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَه، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى ضَلاَلَةٍ، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئاً"، ولهذا الذي يدلّ الناس على الشرور تصعب توبته، سيتوب بعد ذلك، طيب وإذا تُبت.. وهؤلاء الذين ضلّوا من ورائك والآثار مستمرة من بعده! إيش بتعمل فيهم؟! أمره خطير! إذا كان يدعو إلى ضلالة، ولكن واجب عليه يتوب على كل الأحوال، فإن علم الله صدقه رفع عنه الإصر والآثام، وإلا وقع عليه ما وقع، والعياذ بالله تعالى.
وكيف أدخل هذا في باب الدعاء؟
فيه إشارة إلى أن الدعاء يكون بدعوة الناس ودلالاتهِم، ويكون الدعاء أيضًا إذا دعوت لظالم بتأييده لك مثل إثمه، وإذا دعوت لصالح فتُشاركه في أعماله وما يقوم به من صلاح وهكذا… كمثل الداعي إلى الهدى والداعي إلى الضلالة؛ هناك من يدعو الله للظلمة والفسّاق بتمكينهم أو تأييدهم أو نصرتهم فيُشاركهم في إثمهم، والذي يدعو للصّالحين والأتقياء بتوفيقهم وتأييدهم وطول عمرهم يشاركهم في أعمالهم.
ويتضاعف الأجر من واحد إلى واحد، وهكذا… فلا يسبّح أحدنا تسبيحة إلا ولمُعلّمه مثلها، ولمعلّم معلّمه مثل الاثنين، ولمعلّم معلّم معلّمه مثل الثلاثة؛ فإذا هي تسبيحة واحدة لي فلمُعلّمي تسبيحة، معلّم معلّمه له تسبيحتين؛ حقي وحق معلّمي، معلّم معلّم معلّمي له أربع؛ ثنتين حق معلّم المعلّم، وواحدة حق المعلّم واحدة حقي؛ صار أربع، معلّم معلّم المعلّم هو له سبع أو ست أم كم؟ حقي وحق المعلم وحق معلم المعلم؛ ثنتين وأربع.. ثمان يحصل، أنا سبّحت مرة وهو له ثواب ثمان تسبيحات! وبعدين معلم معلمه له مثل هؤلاء كلهم ثمان وأربع.. اثنا عشر، وثنتين.. ست عشر، واثنتين أخريات.. ثمان عشر! وهكذا ستصل إلى عند الصحابة كم يحصلون؟ والحبيب تجتمع كلها عنده، فكم يُكتب له في كل لحظة؟ كم يسبّحون عباد الله في الأرض وكلها تتضاعف تتضاعف تصل لعنده كم؟ صلوات ربي وسلامه عليه، ولهذا هو في كل نفسٍ يرتقي في كمالاته.
وقال: "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ"؛ يعني: مقتدى مهتدى بي، يلحقني ثوابهم وأنال مثل ثوابهم (..وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74]. قال: "أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُومُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: نَامَتِ الْعُيُونُ، وَغَارَتِ النُّجُومُ، وَأَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ." فيتأمّل في بديع السماوات والأرض، ويعظّم الموجِد المكوّن لا إله إلا الله! وجاء هذا في الأرق؛ لمن أرِقَ من نومه، كما جاء عند ابن السني: عن زيد بن ثابت، رضي الله عنه قال: شكوت إلى رسول الله ﷺ أرقًا أصابني، فقال: "قل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حيٌّ قيوم، لا تأخذك سِنةٌ ولا نوم، يا حيّ يا قيوم، أهدئ ليلي، وأنِم عيني، فقلتها، فأذهب الله عزّ وجل عني ما كنت أجد" راح الأرق منه بتعليم الحبيب ﷺ هذا الدعاء له، والله أعلم.
الله يكتبنا وإياكم في ديوان أهل الصدق والإخلاص، وأهل الذكر وأهل الدعاء المقبول، ويجعل دعواتنا مستجابة، ويعجّل لنا في كل دعوة بالإجابة، وأنواع ما يهَب ويُعطي ويعجّل ويدّخر للمحبوبين من عباده من خيراته الكبيرة ومِنَنه الوفيرة، و يرزقنا السير على خير سيرة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
14 جمادى الأول 1442