(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن، تتمة باب ما جاء في الدُّعاءِ.
فجر الأحد 12 جمادى الأولى 1442هـ.
تتمة باب مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ
574 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أبِي زِيَادٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ".
575 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ طَاوُوسٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ, كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ".
576 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ طَاوُوسٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْت، وَإِلَيْكَ حَاكَمْت، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ".
577 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الأَنْصَارِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ مَسْجِدِكُمْ هَذَا، فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، وَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الثَّلاَثُ الَّتِي دَعَا بِهِنَّ فِيهِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي بِهِنَّ، فَقُلْتُ: دَعَا بِأَنْ لاَ يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلاَ يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ، فَأُعْطِيَهُمَا، وَدَعَا بِأَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمُنِعَهَا، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَنْ يَزَالَ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
578 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلاَّ كَانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلاَثٍ، إِمَّا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَه، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ.
الحمد لله مشرِّفنا بذكره، الآذن لنا بدعائه، وصلى الله وسلم على عبده وحبيبه، خاتم أنبيائه، وصفوة أصفيائه، سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأهل محبته واتباعه وولائه، وعلى الأنبياء والمرسلين من إخوانه وآبائه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بالدعاء، ويذكر لنا حديث: "عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ"، والحديث في سنن الترمذي، كذلك أخرجه في كتاب الدعوات.
"أَفْضَلُ الدُّعَاءِ" يعني: أكثر بركةً، وأعظم ثوابًا، وأقربه إجابةً، "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ،"
في ذلك اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فهو من الأيام التي فضّلها الله -تبارك وتعالى- وبارك فيها، وجعل فيها للأمة خيرًا كثيرًا.
وقد جاء عنه ﷺ أنه قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من النار" وفي لفظ: "أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة ويقول لهم: ما أراد هؤلاء؟". وهكذا، جاء عنه ﷺ: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهلِ الأرضِ أهلَ السماءِ، فيقول: انظروا إلى عبادي، شعثًا، غبرًا، ضاحين"؛ معنى ضاحين: متعرّضين لأشعة شمس، "ضاحين جاؤوا من كل فجٍ عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي"، فلم يُرَ يومٌ أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة، كما قال ﷺ: "ما رُئِيَ شيطانٌ في يومٍ أصغرَ، ولا أدحرَ، ولا أحقرَ، ولا أغيظَ منه في يوم عرفة"، وما ذاك إلا لما رأى، ولما يرى من تنَزُّلِ الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رئي يوم بدر، فإنه رأى جبريلَ يقدمُ الملائكة، يقدّم فرسَه، فكان في ذلك اليوم أحقرَ، وأغيظَ، وأدحرَ، وما رُئِيَ في يومٍ أشدَّ منه غيظًا، ودحرًا، وذلةً، من بعد ذاك اليوم -يوم بدر- من مثل يوم عرفة في كل سنة، لما يرى من عفو الله عن عباده، وتجاوزهِ، فما أحسده! وما أشد عداوته! يكره مغفرة الله لخلقه، ويكره تجاوز الله عن عباده وتحمّله لسيئاتهم! (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)[ فاطر:6]، فعجبًا لمن يصغي إليه ليله ونهاره! (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي..) [يس:60-61] (...أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف:5].
وهذا حال جميع الكفار والعصاة الموالين للعصيان، المقرّين لأنفسهم على المعصية على ظهر الأرض، يتخذون عدوّهم وذريته أولياء من دون الله خالقهم، وهذا عدوّهم يوالونه، ويقتدون به، ويصدّقونه، فيما يوسوس إليهم! وهو يُدحر كل ما رأى فيض فضل الله على عباده، وكل ما رأى ظهور الخير في الخلق، فيكون أغيظ ما يكون، ولذا يكون تجرّده لمحاولة الإغواء لمن أخذ العلم بحقّه، وعَمِلَ به، وانتصب لتعليمه خلقَ الله تعالى، فإنه يناصبُه العداء بقوّة؛ لأنه على ضدّ ما يريد الخلق عليه أن يكونوا من أصحاب السعير، وهذا ينقذهم من السعير ومن النار، ولذا قال: (..لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف:16]. دفع الله شرّه عنا وعن جميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات.
"أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ" لجميع المؤمنين في ذلك اليوم، من طلوع فجره إلى غروب شمسه، وللحجاج خاصة، وفي موطن عرفة أخص، فيكون الدعاء مفضًّلا بفضل اليوم. إذًا ففيه: إثبات فضل الأيام والفوارق بينها.
وفيه أنزل الله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3] فإذا صادف يوم عرفة يوم الجمعة، فقد اقترن بقوله: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة" فكيف إذا كان يوم جمعة ويوم عرفة أيضًا؟! وقد اختاره الله لنبيّه في عام حجته، فوقف بعرفة يوم الجمعة ﷺ. ويروى فيه: أنه إذا صادف يوم عرفة يوم الجمعة، كان بسبعين حجة، وأنكر بعضهم سند الحديث، ولكن الكل معترف بأنه:
"أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ" ما تكلّمت به ونطقت شفتي "أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي" والأنبياء أفضل خلق الله -تبارك وتعالى- وأعلاهم منزلةً لديه، فخير أقوال الخلائق أقوال الأنبياء، لكن قال: "وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ"
وهكذا جاء في روايات:
ومجموع الروايات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير"، فهذا من أفضل الأذكار، ومن خير ما يتقرّب بذكره إلى الله في يوم عرفة.
وهل هو ذكر أو دعاء؟
الذكر إذا جاء مقترنًا بالتمجيد والتعظيم والحضور القلبي كان دعاءً. وفي الحديث القدسي: "من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي عبادي الصالحين" أو: "أعطيه أفضل ما أعطي السائلين"، لا إله إلا الله! رزقنا الله الإكثار منها، والتحقّق بحقائقها، فهي المِنّة الكبيرة، والنعمة العظيمة.
وكل شؤون الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وشؤون الإسلام، وشؤون الإيمان، واليقين بدرجاته، وشؤون الإحسان، والمعرفة الخاصة، وجميع مراتب القرب من الله، ونيل رضوانه، مرتب، ومركب، ومتفرّع عن لا إله إلا الله! فلا إله إلا الله رأس الأمر كله، وهي أصل المعجزات والكرامات، وأصل جميع الدرجات في القرب من رب الأرض والسماوات، لا إله إلا الله… ولكن للمتحقّقين بحقائقها، والغائصين على معناها، والقائمين بمقتضاها، اللهمّ اجعلنا من خواصّ أهلها.
والطريق: الإكثار منها بحضور القلب، وكثرة تردادها على القلب واللسان، حتى تنفتح أبواب إدراك معناها، وتصل إلى ميادين تذوّق وإدراك حقائقها، والعمل بمقتضاها، فما أعظم قدر الإكثار من لا إله إلا الله! وبالسبعين ألف منها تُشترى النفس الأمارة، وتُعتق الرقبة من النار. "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير".
وذكر لنا في الحديث بعد: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ" وهو استعاذة بالله من أربعة شرور فيها السوء والمحذور، "كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ"، وفيه: الاعتناء بالدعاء، وبتعلمه، وبأخذه.
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ" أتحفظ، وأتحصّن، وأستجير "مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ" أي: النار بجميع طبقاتها، وإن كان يُطلق "جهنم" على الطبقة الأخف منها، الطبقة الدنيا منها، وأهون أهلها عذابًا، وهم عصاة المؤمنين، هذه طبقة ودَرَكة في جهنم مخصوصة لعصاة الموحّدين؛ من مات و في قلبه ولو مثقال ذرة من إيمان من أهل الذنوب التي لم يعفُ الله عنها، فيدخلون هذه الطبقة، أما من تجاوزها إلى ما بعدها، فلا يخرج أبدًا، وأما أهل هذه الطبقة، فيخرجون برحمة الله بعد انقضاء مدة عذابهم. وقد تنال الشفاعة: قِصر المدة.
فتتنوّع وتتعدد شفاعته ﷺ، ومنها: الشفاعة العظمى في المقام المحمود، ومخصوصة به ﷺ . وقيل أن بعض أنواع الشفاعات الأخرى مخصوصةٌ به، ويشاركه الشفعاء في عموم تخفيف عذاب، أو إدخال قوم إلى الجنة بالشفاعة من غير عذاب.
يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ،" ومهما تصوّرت من عقاب وتعذيب مؤلم، فليس شيء مثل جهنم كائنًا ما كان، لا تعذيب كهرباء، ولا ضرب، ولا ببرد، ولا بماء، ولا بحديد، ولا بنار دنيا.. لا شيء مثل عذاب جهنم أشد وأخطر (..رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) [الفرقان:65]، "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ"، (..فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ..) [آل عمران:191-192].
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ" والمراد: كل النار وإذا كان من جهنم أخفها طبقة، فمن باب أولى بقية الطبقات. فإذا خرجوا منها وآخرهم خروجًا: جهينة، بعد مرور سبعة الآف سنة عليه، يخرج من النار، فيأذن الله بإخراب هذه الطبقة -طبقة جهنم- فتبقى الست الطبقات توصد على أهلها، (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ)[الهُمَزَة:8] ولا يطمع أحد بالخروج بعده.
ثم يُذبح الموت، وينادي المنادي: يا أهل الجنة، خلودًا فلا موت.. ويا أهل النار، خلودًا فلا موت! .. اللهم اجعلنا من أهل جنتك.
"أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ"، فيجب على كل مؤمن أن يستعيذ بالله من النار، فإنها التي خوّف الله بها عباده، وهي أشد عذابٍ يلاقيه الإنسان، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26]، فالخلق في قبضته، وفي زمامه، لا يملك أحد أن يفلت، ولا أن يهرب، (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ).
"وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"؛ العذاب الذي يحصل في القبر، وهو وإن كان دون عذاب النار، ولكنه شديد. أَجِرنا من عذاب القبر يا رب، واجعل قبورنا، وأهلينا، وأولادنا، وذرياتنا، وطلابنا، وأحبابنا، رياضًا من رياض الجنة. وفيه: إثبات عذاب القبر، كما أشار القرآن إليه في عرض قوم فرعون على النار صباحًا وعشيًا إلى يوم القيامة (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46]. وثبت عذاب القبر ونعيمه في أحاديث كثيرة، فعذاب القبر حق، ونعيمه حق.
ومن لم يُقبر ممن أكلته السباع، أو حُرّق، أو رُميَ في البحر، فكذلك يُسأل، وتنعّم روحه، أو تعذّب، ثم يعيد الأجسام مَن صنعَها عند النفخ في الصور، ويحييها بعد ما أماتها، لا إله إلا هو. والقبر أول منزل من منازل الآخرة، وآخر منزل من منازل الدنيا، فإن نجا منه صاحبه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه، فما بعده أشد. اللهم اجعل قبورنا رياضًا من رياض الجنة.
" كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ"، يعلّمهم التعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، وهي من التعوذات التي وردت في الصلوات بعد التشهد، وقبل الخروج من الصلاة أربعة أشياء:
ممسوح العين، الذي يمسح الأرض بقدميه؛ المسيح الدجال؛ أعور، لا عين له ولا حاجب، مكتوب على جبهته كافر: كاف، فاء، راء، يتبعه الناس -والعياذ بالله تعالى- ويدّعي الألوهية، وهو أعظم فتنة تبرز على ظهر الأرض، فأرشدنا ﷺ إلى الاستعاذة.
ولم يزل المسلمون من عهده ﷺ يستعيذون من فتنة المسيح الدجال، فيَحفظهم الله بتلك الإستعاذة ممّا يُشابه ويقابل فتنة المسيح في حياتهم، ويحفظ لهم الدعوة لذريّاتهم، حتى من أدركه الدجّال من ذرياتهم عصم ببركة استعاذاتهم على مدى القرون. ويخذل الله من يخذل -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ويفتن من يفتن.
فهي الفتنة التي مقدار وقتها قصير، وشرّها مستطير، لا تساويها الفتن التي بقيت سنين. وهي فتنة لمدة أربعين يوم، إلا أن اليوم الأول كمقدار سنة، واليوم الثاني كمقدار شهر، واليوم الثالث كمقدار أسبوع، ثم بقيّة الأيام كما هو معتادٌ في اليوم والليلة. ما ينتهي اليوم الأول إلا وأكثر أهل الأرض كفروا بالله وآمنوا بالدجال -والعياذ بالله تعالى- فتنة شديدة أُمِرنا بالاستعاذة منها، والأنبياء من قبلنا أمروا أممَهم أن يستعيذوا من فتنة الدجال. والحديث جاء في صحيح مسلم: "وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال".
هذه فتنة المحيا. "وَالْمَمَاتِ"؛ فتنة الممات: ما يعرض من الفتنة عند الموت، بظهور إبليس ومحاولته أن يزيغ قلب الميت بمختلف الوسائل، وهي آخر فرصة مع عدوّه إبليس، إذا فاتته خرج عن ركبه ونجا. ثم ما يحصل أيضا في القبر، وفي القيامة،
الفتنة في القبر من السؤال.
فتنة الممات؛ ما يعرض من الفتن عند الموت، حتى إن من الشياطين من يتصور لبعض الأموات بصور من مات من قبله من أصحابه وأقاربه، ومن أحب الناس إليه، فيقول: أنا قد متُّ قبلك، فاعلم أن أحسن دين النصرانية، أو ما وجدت خيرًا من اليهودية، فيموت على اليهودية والنصرانية -والعياذ بالله تعالى- ويظنون أنه مات على الإسلام، فيغسلونه، ويكفنونه، ويصلون عليه، ولا شيء ينفع -نعوذ بالله من غضب الله- وهكذا…
ويرى شدة العطش، فيتصوّر له الشيطان حاملًا كأسًا من ماء، فيقول: اسقني فيُخاطبه بروحه بعد قبض لسانه، فيقول: لا أسقيك حتى تسجد لي، فإن أشار إليه بقلبه بالسجود، رمى الكأس، وفاضت روحه، عطشان كافر! والعياذ بالله تعالى.. وأنواع من الفتن تعرض عند الموت : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ..) [إبراهيم:27]. فيا ويل من لم يثبّته الله، نسأل الله حسن الخاتمة لنا، وأهلينا وأولادنا وأحبابنا وأصحابنا وطلابنا، وذوي الحقوق علينا، والمسلمين والمسلمات، اللهم إنا نسألك كمال حسن الخاتمة.
في رواية الإمام مسلم : "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات"، وجاء في رواية بزيادة: "ومن المغرَم والمأثم"؛ أي: من الدَّين، والوقوع في الإثم.
وكان ابن عباس يعدّ الاستعاذة من عذاب القبر من واجبات الصلاة، ويقول: من لم يتعوّذ من عذاب القبر في صلاته، لا تصح صلاته. وأمر بعضَ الذين رآهم صلّى، قال: تعوّذت من عذاب القبر؟ قال: لا، قال: قم أعد صلاتك. كما جاء عن طاؤوس أنه قال لابنه -بعدما صلى-: أَدعوتَ بها في صلاتك؟ قال: لا، قال: أعد صلاتك. فكان ابن عباس وطاؤوس اليماني -راوي الحديث عن ابن عباس- يرى وجوب الاستعاذة بالله من هذه الأربع في التشهد.
وسمعت حديث مسلم: "إذا تشهّد أحدكم، فليستعذ من أربع"، وجاء أنه كان ﷺ يدعو: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال، ومن المغرم والمأثم"، والصحيح في روايته: المسيح بالحاء، ويقال مقرونًا بالدجال؛ لأن المسيح يطلق على سيدنا عيسى بن مريم مطلقًا من دون قيد، ولا يطلق على الدجال إلا مقيدًا: المسيح الدجال؛ لأن سيدنا عيسى كان ممسوح القدم، وكان لا يمسح على شيء إلا برأ، وكان سائحًا يمسح الأرض بقدمه، فسُميّ المسيح ابن مريم عليه السلام.
وهذا عدوّ الله الدجال، المسيح الدجال، أيضًا يدخل كل بقاع الأرض والمدن، إلا مكة والمدينة. ويختبر الله سيدنا المهدي بعد أن مكّنه في الأرض، وأقام حكم الشريعة، فيختبره الله ومن معه من المؤمنين، فيأمره أن يفرّ بهم إلى الجبال، حتى يهلك المسيح الدجال بنزول عيسى بن مريم. فيفر المؤمنون إلى الجبال، ويمشي سيدنا المهدي، ويقاتله الدجال وأتباعه، فيقاتلهم. ثم تكون آخر أيام الدجال، يرجع من تحت المدينة المنورة إلى بيت المقدس في باب لُد، وسيدنا المهدي في الشام، يصلّي بمن معه شرقي دمشق، عند المنارة البيضاء، يصلي بهم صلاة الصبح، تقام الصلاة، وسيدنا عيسى نازل على جناح ملكَين، فيتأخَّر سيدنا المهدي، ويطلب من سيدنا عيسى أن يتقدّم، يقول له: لا، قد أقيمت الصلاة باسمك، وأنت من ذريّة محمّد، وأقيمت الصلاة باسمك، فصلِّ، فيصلي المهدي الصبح بهم إمامًا، وسيدنا عيسى مأموم في هذا الفرض وحده، ثم يصير هو الإمام -سيدنا عيسى عليه السلام- فيصلي بالناس، ويصلي خلفه الإمام المهدي.
وتكون آخر أيام المهدي، فينطلق سيدنا عيسى إلى نحو الدجال، فيُخذل ويُخزع، وإذا رآه مقبلًا تصاغَر وتذاوَبَ، كما يتذاوب الملح في الماء، فيقتله، وتنتهي فتنة الدجال. ثم يموت سيدنا الإمام المهدي، ويمكّن الله لسيدنا عيسى في الأرض، فيُقيم شريعة النبي محمد ﷺ، ولا يقبل من النصارى إلا الإسلام أو القتل، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فتدين له الأرض، فيقيم فيها حكم الله، فتكون من أحسن الأيام، ثم يختبره الله بخروج يأجوج ومأجوج. وهكذا الدنيا؛ لا صفاء ولا راحة إلا في الجنة، ولأهل القلوب الصالحة في مختلف الأحداث والفتن والمصائب، مع الله.. هم المرتاحون وحدهم، ومن سواهم في الحزون والهموم والغموم، لا اله الا الله!
إذًا، فهذا الدعاء مهم، وخصوصًا في الصلاة. وذكر دعاء كان يأتي به ﷺ في قيامه في الليل، وهو ما رواه "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ" وسط الليل "يَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ"؛ أي: قائم عليها، وفي رواية: "قيِّم" في الصحيحين وغيرهما، "قيِّمُ السموات والأرض"، وفي رواية: "قيوم السموات والأرض"؛ والمعنى واحد، أي: القائم عليها، والمدبّر لها، والماسك لها. (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا..) [فاطر:41]، (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ..) [الحج:65].
"أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ"، وجاء في رواية: "أنت نور السموات والأرض" (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..) [النور:35]. "أَنْتَ الْحَقُّ" يعني: الواجب الوجود، المتصف بكل كمال، المنزّه عن كل نقص، القدير، القيوم، القاهر، العلي، العظيم. "أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ" : ثابت بلا مرية، ولا ريب. " وَوَعْدُكَ الْحَقُّ"؛ لا يدخله خلف، ولا شك. "وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ"؛ بالبعث بعد الموت لجميع الأولين والآخرين. "وَالسَّاعَةُ حَقٌّ"؛ يوم القيامة آتٍ لا ريب فيه.
وجاء في الرواية عند البخاري ومسلم وغيرهما: "والنبيون حق، ومحمد ﷺ حق"؛ "النبيون حق"؛ صادقون أمناء مبلِّغون عن الله. "ومحمد حق" : خاتم النبيين، وإمام المرسلين، مقدَّمٌ على الأولين و الآخرين، حبيب رب العالمين، حق.
"اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ" : انقدت، وخضعت ممتثلًا لأمرك، منتهيًا عن زجرك. "وَبِكَ آمَنْتُ"؛ لا بغيرك. "وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ"؛ في الأمور كلها اعتمدت، واستندت، ووثقت. "وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ"؛ رجعت، واستكنت. "وَبِكَ خَاصَمْت"؛ بما أعطيتني من الحجة والدليل والبرهان، خاصمت الأعداء. "وَإِلَيْكَ حَاكَمْت"؛ فحكمي إليك لا إلى أصنام، ولا إلى بشر، "وَإِلَيْكَ حَاكَمْت"؛ احتكامي إلى أمرك، وقولك ووحيك وتنزيلك، وإلى حكمك.."وَإِلَيْكَ حَاكَمْت".
"فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ"؛ أخفيت، "وَأَعْلَنْتُ" : أظهرت، وما تحدثت به النفس، وما تحرك به اللسان. "وما أنتَ أعلم به منّي"، فعلَّمَنا طلبَ المغفرة وهو المعصوم، المغفور له ما تقدّم له من ذنبه وما تأخّر، وكان كل ليلة يناجي ربه هكذا: "أَنْتَ إِلَهِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ"، جاء في رواية في البخاري : "ولاحول ولا قوة إلا بالله".
فهذه من الأدعية التي وردت في الصحيحين، وغيرهما، في قيامه ﷺ، فما أحسن أن يناجي المؤمن ربه بما ناجاه به أحب محبوبيه، وأقرب المقربين إليه ﷺ. وبحمد الله، يُؤتى برواية في صحيح البخاري لهذا الدعاء في كل ليلةٍ من مصلى أهل الكساء، وفي الميكرفون، وفي الإذاعة.، ولكن النائم نائم، والهائم هائم، وسيكون نادم..والذاكر ذاكر، والمستحضر مستحضر، والمستغرق بالرب مستغرق، وهم درجاتٌ عند الله!
إذا فازوا أهل التقى بالعلا *** وبالفوز، يا حسرة المبطلين
إذا صُفّت أقدامهم في الدجى *** وطابت مناجاة أهل اليقين
وطاب المنام لأهل السقام *** في الليل، يا حسرة الغافلين
هذا من أدعيته ﷺ. وجاءنا حديث: "جَاءَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الأَنْصَارِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ مَسْجِدِكُمْ هَذَا" لما جاء إليهم، فقال لأحدهم وهو جابر بن عتيق، فقال "لَهُ: نَعَمْ"؛ لأن سيدنا ابن عمر كان حريص على تقصّي الآثار "وَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهُ"، من المسجد أنه صلى هنا، "فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا الثَّلاَثُ الَّتِي دَعَا بِهِنَّ فِيهِ؟" في هذا المكان كان دعا بثلاث دعوات "فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ : فَأَخْبِرْنِي بِهِنَّ، فَقُلْتُ: دَعَا بِأَنْ لاَ يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ"، فأجيب ﷺ بذلك، فلو اجتمع كفار الأرض من يهودها، ونصاراها، وملحديها، ومجوسيها، وجميع الخارجين عن المِلة، ليستأصلوا المسلمين، ماقدروا على ذلك، ولن يُسلَّطوا عليهم، ومن أين ذا اللعب على المسلمين؟ من أذناب المسلمين.. من الأتباع لهم من المسلمين.. لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم!!
أما هم، ما يقدروا يواجهوا، لو اجتمعوا كلهم وواجهوا المسلمين لذلّوا، ولهَلكوا دونهم، وإن كان معهم أسلحة الدمار الشامل. وكيف يصلون إلى المسلمين؟ من عناصر المسلمين، من بين المسلمين، من الغافلين الجاهلين، من عُبّاد المصالح، من عُبّاد السلطات، من عُبّاد المال من المسلمين، عبرهم يلعبون بالمسلمين، وإلا ما يقدرون عليهم، ودعا ﷺ ربه فأجابه ألّا يُسلّط عليها عدو من خارج أنفسها. فنعود بالله من الذنبية لأهل الكفر، والتبعية لأهل الفسوق، وإيثار السلطة والمال، على ذي الجلال، وحسن المآل.
يقول: "دَعَا بِأَنْ لاَ يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلاَ يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنِينَ" ما يهلكون بآفة عامة تعمّ أمّته أبدًا، لا زلزلة، ولا صاعقة، ولا خسف، يعمّ الأمة كلها، لا! قد يحصل شيء من التعذيب أو الخسف بطائفة أو جماعة، ولكن ما يعمّ الأمة عذاب كما حصل للأمم السابقة. "فَأُعْطِيَهُمَا"، فتكفّل الجبار له أن لا يعمّ أمته بعذاب، و أن لا يُسلّط على المؤمنين عدو من خارجهم، "وَدَعَا بِأَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ"، فقال : لا، سبق القضاء مني، أجعل بأسهم بينهم، قال : "فَمُنِعَهَا"، قال سيدنا ابن عمر: "صَدَقْتَ".
ثم قال ابن عمر: "فَلَنْ يَزَالَ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"؛ يعني القتل في الأمة، واعتداء بعضهم على بعض، كل ساعة تظهر طائفة، شيء لأجل السلطة، وشيء باسم الدين، شيء لأجل المال، يتقاتلون بينهم البين، ويضرّون بعضهم البعض، ويؤذون بعضهم البعض، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! هذه المصيبة التي وقعت في الأمة.
قال ابن عمر: "فَلَنْ يَزَالَ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ."والحديث أصله في صحيح مسلم. وجاء في رواية ابن أبي شيبة، وابن مردويه عن سيدنا حذيفة بن اليمان قال: خرج النبي ﷺ إلى حرّة بني معاوية -هذا المكان- واتّبعت أثره، حتى ظهر علينا، فصلى الضحى ثمان ركعات، فأطال فيهن، ثم التفت إليّ، قال: إني سألت الله ثلاثًا فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمّتي عدوًا من غيرهم، فأعطاني، فليس على المسلمين خوف من عدو، المصيبة بينهم البين بعضهم البعض، وسألته أن لا يهلكهم بغرق، فأعطاني، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعني.
جاء في رواية الإمام أحمد، والإمام مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبزار، وابن حبان، والحاكم: أن ثوبان -رضي الله عنه- سمع رسول الله ﷺ يقول: "إن ربي زوى لي الأرض حتى أُريت مشارقها ومغاربها، وأعطاني الكنزَين الأحمر والأبيض، وأن أمّتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها -مشارق ومغارب- وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسِنةٍ عامة فأعطانيها"؛ يعني جائحة تكتنفهم، أو أمر يعمّهم، أو عذاب، فأعطانيها، قال: "وسألته أن لا يُسلّط عليهم عدوًا من غيرهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يُذيق بعضهم بأس بعض، فمَنَعَنيها"، وقال: "يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً لم يُرد، إنّي أعطيتك لأمتك أن لا أُهلكها بسنة عامة" سنة عامة: قحط، ولا أي نوع من أنواع العذاب الذي يعمّ، "ولا أظهر عليهم عدوًا من غيرهم، فيستبيحهم عامة، ولو اجتمع من بأقطارها"، ولو اجتمع من بأقطارها، هكذا يقول: "ولو اجتمع من بأقطارها" ما يقدروا على المؤمنين، ولا يستأصلوا المسلمين أبدًا. "حتى يكون بعضهم هو يُهلك بعضًا، وبعضُهم هو يسبي بعضًا".
قال ﷺ: "وإني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المُضِلين"، حكام الجَور، ودُعاة العلم بغير بصيرة، قال هذا الذي أفزع على الأمة منه، فيصلّحون مظالم وفتاوى بلية للناس باطلة، فيحصل بها ضُرّ، ونزاع بين المسلمين -والعياذ بالله- من الأئمة المضلين، هؤلاء يحكمون، وهؤلاء يُفتون، فبئس الأئمة هم.
ثم ذكر في خاتمة الباب: أن الداعي على فائدة مطلقًا، "مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلاَّ كَانَ بَيْنَ إِحْدَى ثَلاَثٍ"،
وهكذا جاء في عدد من الروايات مرفوعًا عنه ﷺ: ففي رواية ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والإمام البخاري في (الأدب المفرد)، والحاكم، عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال: "ما من مسلمٍ يدعو الله بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ، ولا قطيعة رَحِمٍ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يُعجّل له دعوته، وإما أن يدَّخرَها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلُها". هذا الفائدة كلها في الدعاء! "قالوا: إذًا نُكثِر، قال: الله أكثر." ..أكثِروا، الله أكثر وأطيب.
فالداعي على خير، وعلى فائدة بيقين، فلو عرفنا قدر الدعاء، ما كففنا عن الدعاء. والحق يقول في صرف العذاب بسبب الدعاء: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ..)[الفرقان:77]. وفي إنجاح المطالب في الدعاء: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9]، فالداعي رابح، وميزانه راجح، ومدفوعة عنه أنواع القبائح، فأكثِر دعاء ربك، متذللاً، خاضعًا، خاشعًا، فإنه يُحِب المُلِحِّين في الدعاء، وإن كان علمه قد كفى.
قد كفاني علم ربي *** من سؤالي واختياري
فدعائي وابتهالي *** شاهدٌ لي بافتقاري
شاهدٌ لي بافتقاري؛ علامة فقري وحاجتي.
فلهذا السرّ أدعو *** في يساري وعساري
قال المتحقّق بحقائق اليقين:
أنا عبدٌ صار فخري *** ضمن فقري واضطراري
وقال:
قد تحققتُ بعجزي *** وخضوعي وانكساري
فهنيئًا لهؤلاء!.. والله يصفِّي قلوبَنا حتى تذوق هذه الحلاوة في تذلُّلِها للرب صدقًا، وخضوعها حقًا، اللهم أكرمنا بذلك، واسلك بنا أشرف المسالك، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
13 جمادى الأول 1442