(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن ، باب ما جاء في قراءةِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، و(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ..).
فجر الإثنين 6 جمادى الأولى 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) وَ ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ )
559 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"
560 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَجَبَتْ". فَسَأَلْتُهُ مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "الْجَنَّةُ". فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ، ثُمَّ فَرِقْتُ أَنْ يَفُوتَنِي الْغَدَاءُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَآثَرْتُ الْغَدَاءَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ فَوَجَدْتُهُ قَدْ ذَهَبَ.
561 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا.
الحمد لله مُكرِمنا بالكتاب وتنزيله، وبيانه على لسان عبده وحبيبه ورسوله، سيدنا مُحمَّد الذي أَذِنَ بتقديمه على جميع خلقه وتفضيله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه وجيله، وأهل ولائه في الله ومتابعته في فعله وقيله، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك، مَحَلِّ جودك وكرمك وتفضيلك، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذكر الأبواب المتعلقة بالقرآن والقراءة والذكر، ويذكر في هذا الباب: "مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)"، وهي من فُضْلَيات السور الكريمة، وذلك أنّ القرآن المُفضَّل العظيم الذي يتعبّد الرحمن بتلاوته
"لا أقول الم حرف؛ ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
مع هذا الفضل العظيم للقرآن فإن الحق -جل جلاله- فضّل بعضه على بعض كما فضّل الرسل بعضهم على بعض، تفضيلًا لا يؤدي إلى احتقار أحدٍ ولا تنقيصٍ في قدره، فكلُّ القرآن عظيم، وما فيه من الآيات الكريمة، والكلمات والأحرف التي مُيزت وخُصِّصت، وكذلك لبعض آياته، ولبعض سوره فضائل مخصوصة أشار إليها خاتم الرسائل ﷺ، فيجب اعتقاد أنّ لها مزايا وخصائص ليس لغيرها، ثم لا تأتي فيها المقاييس الظاهرة، بِمثلِ أنّ مَن استؤجر لقراءة ختمة أن يقرأ ثلاثًا من سورة الإخلاص مثلًا ولا غير ذلك، فهذا مما لا يصح ولا يأتي، ولكن يُثبت الحديث فضلًا وجزاءً يعطيه الله -تبارك وتعالى- قارئ هذه السورة مثلًا، وفي غيرها مما جاء من فضائل بعض الآيات والسور الكريمة.
ثم ذكر لنا هذا الحديث "عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً" وكان ذلك الرجل قتادة بن النعمان، وكان أخًا لأبي سعيد من أمه، وكان جاره، فلهذا يسمعه لمّا يقرأ، وفيه: أنّ الصحابة كانوا لا يغفلون ولا يهملون القيام بالليل، وأنّ لهم في الليالي قراءات وتلاوة للآيات، قال ربنا: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ…)[الزمر:9]؛ وهم القانتون آناء الليل الساجدون الذين يحذرون الآخرة، ويرجون رحمة الرحمن -جل جلاله- (...وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ…)؛ الذين لا يقومون بالليل ولا يحذرون الآخرة، ولا هم قانتين (لَا يَعْلَمُونَ)، من عَلِمْ قَنَتَ وقام آناء الليل، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه فيسجد ويركع ويتضرع ويخشع، هذا مظهر العلم، وهذه علامات العلم وهذه ضرورات صفات أهل العلم.
يقول: فكان أصحابه يقومون، وكان في قيامهم أيضًا قد يجهرون بالقراءة بحيث يسمع الجار، وهذا "أنّ رجلًا سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يُرَدِّدُهَا،" (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الإخلاص:1-4]، يكررها في قيامه عامة الليل، عامة قيامه وهو يردد: قل هو الله أحد. وجاء في رواية الدارقطني: "إنَّ لي جارًا يقوم بالليل، فما يقرأ إلا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)" يرددها.
وقال: "فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ -الذي سمعه في الليل- لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ" إما الذي غدا وهو أبو سعيد، أو الذي يقرأها نفسه كما جاء عند بعض أهل العلم، "وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا"؛ أي: يراها قليلة؛ فيحتمل أن يكون الذي يراها قليلة لكونه لا يحفظ غيرها كثيرًا من القرآن ويردد هذه السورة تولّعًا بها ويظن في نفسه أنها قليلة، فيتأسى بها إذ لا يحسن غيرها، وهذا على القول بأنه هو الذي أخبر النبي ﷺ نفسه القارئ لا أبو سعيد -رضي الله تعالى عنه- وعلى القول الثاني أن أبو سعيد هو الذي أخبر النبي ﷺ.
فيؤيد الاحتمال المذكور أولًا ما جاء في رواية عند الإمام البخاري عن أبي سعيد نفسه أنه قال: "أخبرني أخي قتادة بن النعمان: أن رجلًا قام في زمن النبي ﷺ، يقرأ من السَّحر: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، لا يزيد عليها، فلما أصبحنا أتى الرجل النبي ﷺ.."، وهكذا.. فهذه الرواية تؤيد ذلك الاحتمال، ورواية الدارقطني التي أشرنا إليها؛ تؤيد الاحتمال الثاني، وهو أن أبا سعيد هو الذي غدا إلى رسول الله ﷺ وأخبره.
قال: "فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا"، يراها قليلة "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ"، أقسم وحلف ﷺ "إِنَّهَا" يعني: سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) "لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ".
ففيه تمييز النبي ﷺ لهذه السورة وذكر شأنها وفضلها، ثم إن أهل العلم خاضوا فيما يراد بمعنى كونها ثلث القرآن، ولكن يعود كثيرٌ مما خاضوا فيه إلى ما انتهى إليه فهمهم وعلمهم، والحبيب ﷺ يتكلم بنور النبوة ولا يبلغ ذلك النور سواه، فلذلك يكون المعنى المراد له -عليه الصلاة والسلام- أكبر مما ينتهي إليه فهم أهل العلم، إلا أنّ الذي لا يُختلف فيه أن لها مزية ومكانة وثوابًا مخصوصًا وقدرًا عظيمًا -هذا لا يُختلف فيه-، فهذا المعنى متفق عليه وصحيح.
وأمّا أنّ آيات القرآن: منها أحكام، ومنها أخبار، ومنها توحيد، وهذا في ثلث التوحيد، فيأتي في أنه كثير من الآيات أيضًا جاءت في خالص التوحيد: كخواتيم الحشر، وكآية الكرسي، ولا يقال فيها مثل هذا أنها تعدل ثلث القرآن ولم يرد، فليست المسألة راجعة إلى شيء من هذا التصنيف في غالب الظن، وخبر رسول الله ﷺ بمداركه الواسعة ونورانية النبوة أوسع من أن يُحصر في ملحظ من الملاحظ، ومدركٍ من المدارك، فهو الناطق بالحق والهدى ويجب أن يعتقد ذلك كذلك.
حتى أشار الإمام أحمد أنه كمثل آيات الصفات التي تُعتقد كما جاءت، وكذلك أشار الإمام مالك في بعض كلامه إلى أن الخوض في تفصيل ما ورد في النصوص فيما يتعلق بالعمل، النصوص المتواردة المتعلقة بعمل الناس يخوضون فيها ويفصِّلونها، أما ما تعلق بالإيمان ويتعلق باليقين فيأخذونها كما جاءت، ويمرّونها ولا يطولون الخوض في تفصيلها ومعانيها؛ فإنها مناطة بتعلّق القلوب بما فيها من الإيمان والذي يُرفع لصاحبه الشأن، ويفهم كل واحد على قدر وسعة علمه وصفاء جنانه من المعاني البديعة الواسعة؛ (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)[آل عمران:163]، فأثبت لنا ﷺ خصوصية سورة الإخلاص ومرتبتها العظيمة عند الحق -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، وعبّر عن ذلك بأنها تعدل ثلث القرآن، فكان ينبغي الااعتناء بمثل هذه السورة.
وقد جاءنا أيضًا في الحديث الصحيح: أنه أمّر ﷺ بعض الصحابة في سرية فخرج، فكان كما هي العادة أن أمير الجيش هو الذي يصلي بهم، فكان يصلي بهم ويسمعونه في كل صلاة جهرية مهما قرأ من القرآن شيئًا بعد الفاتحة فيختم الركعة بقل هو الله أحد، وهكذا في كل ركعة يقرأ أي شيءٍ بعد الفاتحة ويختم بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وقال له بعضهم: في كل ركعة تأتي بسورة الإخلاص! ما سمعنا بهذا عن النبي ﷺ! إما تأتي بسورة وإما تقرأ سورة الإخلاص ولا تأتي بسورة غيرها، قال: أنا لن أختم ركعتي إلا بسورة الإخلاص، فإن أردتم أحد منكم يصلي بكم..، قالوا: لا، أنت أميرنا ولا أحد يصلي غيرك، فلما رجعوا أخبروا النبي ﷺ بخبره، فقال: سلوه لِمَ؟ فقال: إنها صفة الرحمن وإني أحبها، فقال: إن الله قد أحبك كما أحببتها. وجاء في رواية أخرى: "حبّك إياها أدخلك الجنة".
وفيه: أن قراءة السور في الصلاة من الأمر المطلق الذي أطلقه النبيّ ﷺ ولم يقيّد فيه الأمة بقراءة سورة مخصوصة ولا محل مخصوص، وإنما مما واظب عليه ﷺ كان سُنّة لأمته المحافظة عليه والحرص عليه في صلواتٍ مخصوصة، ورد عنه المواظبة على سور وآيات مخصوصة:
وأنّ الأمور المطلقة؛ ليس من البدعة ولا من الزيغ ولا من الضلالة أن يرتب الإنسان لنفسه شيئًا منها، كما رتب الصحابي على نفسه (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في كل ركعة، لم يأتِ بها أحد، وما أتى بها لا من عند النبي ولا أحد من كبار الصحابة كان يعمل ذلك، وهو يعمل بذلك، فلما بلغ النبي الخبر؛ أقرّه على ذلك، وما قال: أتستحدث شي من راسك؟ ومن عندك تجيء تصلي بهذا الشيء! ما قال هكذا، بل قال: "حبّك إياها أدخلك الجنة"، وقال له: إن الله يحبك كما أحببتها".
فهكذا تشريعه -عليه الصلاة والسلام- وتبيينه لفضل هذه السورة الكريمة. وقد جاءنا في الرواية الثانية: "عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ مَوْلَى آلِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَمِعَ -النبي ﷺ- رَجُلاً يَقْرَأُ" احتمال يكون في الصلاة، أو خارج الصلاة "(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)" السورة بتمامها وسمعه ﷺ- "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَجَبَتْ. فَسَأَلْتُهُ: مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" ماذا وجبت؟ إيش وجبت؟ ما الذي وجب؟ "فَقَالَ: الْجَنَّةُ" الله أكبر! كأنه سمع في تلحين لفظ الرجل بها إخلاصًا وصدقًا وامتلاءً بالعظمة، فعلم أنه من أهل الجنة.
فَقَالَ: "وَجَبَتْ"، قال: ما وجبت يا رسول الله؟ ماذا؟ "فَقَالَ: "الْجَنَّةُ"، الله أكبر!.
"فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ"؛ إلى الرجل يعني: القارئ، "فَأُبَشِّرَهُ،"؛ هذه البشارة عندما النبي قال عنه كذا، قال: "ثُمَّ فَرِقْتُ"؛ يعني: خفت، "أَنْ يَفُوتَنِي الْغَدَاءُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، قال: المراد بالغداء؛ صلاة الغداء يقول بعضهم، ولكن الذي عليه الجمهور: أنه معناه حضور وقت غداءه ﷺ؛ وهو في وقت الضحى ليأكل معه -عليه الصلاة والسلام-، وكان أيضًا في نفس الوقت لا يجد طعامًا غيره، قال: فتأخّرت من أجل الغداء، فذهبت للغداء مع رسول الله ﷺ؛ حتى لا يضعف عن العبادة ومواصلة السير معه ﷺ، ولعدم وجود ما يتغدّى به إلا هذا الذي يأكله مع رسول الله، "ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ" القارئ لأبشّره "فَوَجَدْتُهُ قَدْ ذَهَبَ." روّح.. ما وجده، فطال الوقت؛ فكأنه كان في مكان إمّا مشتغل بالتلاوة والذكر وإما يصلي في ذلك المكان، فسمعه النبي يقرأ بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)؛ على أنه لا يجوز لمؤمنٍ أن يتقالّ شيئًا من الآيات ولا من السور قطعًا، فكل حرفٍ من حروف القرآن عظمته أكبر مما يتصور كل إنسان، فهي عظيمة وجليلة.
ولما سمع ﷺ من ينتقد على أخيه وصاحبه أنه لا يقرأ إلا ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) في الصلاة، فسمعه ﷺ ولاحظه، فتقدّم في الصلاة فقرأ: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، ثم قال للرجل: ما رأيت؟ قال: يا رسول الله رأيتك اقتصرت على سورة الفلق، قال: فإنها وإنها… فعلَّمه عظمة آياتها، فليس في القرآن صغير، وليس في القرآن قصير، وليس في القرآن قليل، كل آية تحمل معاني ودلالات وأنوار وأسرار وإشارات وعظمة، في كل آية، وفي كل كلمة، بل في كل حرف من حروف القرآن الكريم.
بل لو مكّن الله عبدًا من أهل الخير والصلاح في فتحٍ؛ لاستخرَج معاني القرآن من كل حرفٍ على حدةٍ من حروف القرآن، يستخرج من الحرف الواحد بقية معاني القرآن كله، لو فتح الله عليه به، فما أعظم كلام الله! وليس شيء أحب من كلام الله، ولا يستطيع مخلوقٌ أن يكلّم الله ويخاطبه بمثل كلامه، فأحْسَن ما يُنادى به الحق ويُكلّم؛ كلامه الذي جاء منه، فتخاطبه أنت به تكرّمًا منه عليك وتفضُّلًا واصلًا إليك.
ثم ذكر في الحديث الثالث: "عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ،"؛ وهذا لا يُعرف بالرأي، فما يكون إلا أخذه من النبي ﷺ، "وَأَنَّ -سورة- (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) تُجَادِلُ"؛ تخاصم تضارب "عَنْ صَاحِبِهَا."؛ من صاحبها؟ من يُكثر قراءتها، من يلازمها، أقلّه في كل يوم وليلة مرة؛ فإنها تشفع لصاحبها.
كما جاء في سورة تبارك، يقول: "ثلاثونَ آيةً شفعَت لرجلٍ في قَبرِه، وددت أنْ تَكون في قلب كلِّ مُسْلِم"، قال أحب من كل مسلم آمن بي أن يجعل هذه السورة في قلبه؛ يحفظ سورة تبارك الذي بيده الملك، ثم لا يهمل قراءتها في كل ليلة فإن من يقرأها في كل ليلة؛ فهي:
والقرآن يأتي شفيعًا لأصحابه، ويُجادل عن أصحابه، ولكن فيه سور مخصوصة وآيات مخصوصة قوية الجدال عن صاحبها والمدافعة عنه يوم القيامة لصرف العذاب عنه، كما قال عن البقرة وآل عمران: "فإنَّهما يأتيانِ يَومَ القيامةِ تُحاجَّانِ عن صاحِبِهما".
يقول القرآن لمن يكثر قراءته: "يا رَبِّ، منعته النوم بالليل، فشفّعني فيه"، منعته النوم؛ يعني: ساعات من الليل عادة الناس ينامون فيها، ونفسه تريد تنام وهو ترك النوم يقرأني من أجلك فشفعني فيه.
كما جاء عن الصيام والقرآن أنهما يعترضان عند المرور على الصراط، فيقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفّعني فيه، ويقول الصوم: منعته الأكل بالنهار فشفّعني فيه، قال: فيشفعان فيه؛ ويكون سببًا لغفران الذنوب.
وجاء أيضًا في الحديث: أنّ رجلًا كان مسافرًا فضرب فسطاطه -يعني خيمته- على مكان في الأرض وبات فيه، فسمع صوت يقرأ: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، انتبه، بحث عن الصوت فإذا به من الأرض من تحته! وإذا بتلاوة: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1-2] إلى آخر السورة… (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، تعجّب! إيش هذا الصوت من وسط الأرض يقرأ تبارك! فجاء إلى عند النبي ﷺ فأخبره، قال له: وضعت فسطاطك على قبر رجل كان يقرأ بها في الدنيا؛ فهي تؤنسه في قبره؛ خيمتك جاءت فوق قبر رجل الذي كان يقرأ بهذه السورة في الدنيا فهو يتأنّس بها في قبره.
لا أحد بيدخّل عندك القبر أغاني ولا شيء من الكلام الفارغ تؤنسك، لن تؤنسك إلا تبارك، صاحبها مواظب على قراءتها في كل ليلة، قال: "شفعت لرجل في قبره" سورة تبارك، "وددت أنها في قلب كل مسلم".
كان سيدنا علي يقول: لا أرى مؤمن يعقل يبيت وما يقرأ آية الكرسي! قال: مؤمن عاقل يمرُّ عليه الليل وينام وما يقرأ آية الكرسي، هذا إيش من مؤمن؟! هذا عنده عقل أم ما عنده عقل!.. ربطنا الله بكتابه وآياته وجعلنا من أهل تلاوته وذكره.
وهي على عدد أيام الشهر: فأيّام الشهر ثلاثين، وحتى أنه ما تكون رؤيا صادقة ولا صالحة في أي يوم من أيام الشهر إلا وفي عدد الآية التي تناسب اليوم من أيام الشهر؛
الآية المناسبة ليوم الشهر؛ مناسبة لتأويل الرؤيا، تُناسب تأويل تلك الرؤيا التي رآها الرجل الصالح، إن رآها في يوم سبع وعشرين ينظر الآية السابعة والعشرين من تبارك، من رآها في الخامس عشر ينظر للآية الخامسة عشر من تبارك، فإنه يتطابق معناها مع تأويل تلك الرؤيا.
(تَبَارَكَ..) أي: تعاظم، وجلّ وتقدّس، (..الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ..) على الحقيقة، فلا ملك لغيره، وما مع الخلق إلا مَجاز الملك؛ وهو ملكٌ قصيرٌ صغيرٌ منتَهٍ زائل أشبه بالخيال، لو أن مَلِكًا من ملوك الأرض مَلَكَ الأرض كلها، حاكمًا فوق الخلق مدة ألفين.. ثلاثة ألف سنة، ثم مات، لكان كل حكمه وملكه أشبه بالخيال لا حقيقة له! وهو في أيام ملكه ما يقدر يمشّي جسمه على ما يريد جسمه، ساعة يصيبه مغص، ساعة يصيبه مرض كذا، ما يقدر يقول: لا ممنوع..، مسكين ما يقدر! فضلًا عن المملكة اللي تحت يده، يصلّح قانون كذا، وشخص يخالف كذا، يقول له اعمل كذا؛ يعمل كذا، أين الملك؟ صورة فقط صورة… في أشياء معينة يقدر عليها، وأشياء ما يقدر عليها، سمّوه ملك! ثم انتهى وروّح كله، ما بقي شيء! وإيش معنى الملك هذا؟ هذا مجاز، صورة فقط! المُلك بيده هو، هو المَلك، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؛ هو المَلك على الحقيقة لا ملك سواه؛ (.. بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) سبحانه.
الله يرزقنا كمال الإيمان واليقين، والاتصال بالآيات والذكر، ويرزقنا صفاء الفِكر، ويرفعنا مراتب الشكر، ويحنّن علينا روح سيد الذاكرين والشاكرين، وأصفى الخلائق فِكرًا، وأعظمهم معرفةً برب العالمين، عبده الأمين سيدنا محمد، اللهم ثبّتنا على دربه، وأسقنا من شربه، وأدخلنا في حزبه، وأكرمنا بمودّته ومحبّته ورؤيته وقربِه، وأنظِمنا في سلكه، واحملنا في فُلكه في لطف وعافية، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
08 جمادى الأول 1442