(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن ، باب ما جاء في القرآن.
فجر الأحد 5 جمادى الأولى 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ
549- حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ لَهُمْ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق:1] فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَجَدَ فِيهَا.
550- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ مِصْرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ فَسَجَدَ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ.
551- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَسْجُدُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ.
552- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ بـ (والنَّجْمِ إِذَا هَوَى) [النجم:1] فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى.
553- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سَجْدَةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَنَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ. فَلَمْ يَسْجُدْ، وَمَنَعَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا.
554- قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الإِمَامُ إِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيَسْجُدَ.
555- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا، أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً، لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ.
556- قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ يَقْرَأُ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ شَيْئاً بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَلاَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَالسَّجْدَةُ مِنَ الصَّلاَةِ، فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ سَجْدَةً فِي تَيْنِكَ السَّاعَتَيْنِ.
557- قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ قَرَأَ سَجْدَةً، وَامْرَأَةٌ حَائِضٌ تَسْمَعُ، هَلْ لَهَا أَنْ تَسْجُد؟َ قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَسْجُدُ الرَّجُلُ وَلاَ الْمَرْأَةُ، إِلاَّ وَهُمَا طَاهِرَانِ.
558- قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ قَرَأَتْ سَجْدَةً، وَرَجُلٌ مَعَهَا يَسْمَعُ، أَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا؟ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا، إِنَّمَا تَجِبُ السَّجْدَةُ عَلَى الْقَوْمِ يَكُونُونَ مَعَ الرَّجُلِ، فَيَأْتَمُّونَ بِهِ، فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُونَ مَعَهُ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ سَمِعَ سَجْدَةً، مِنْ إِنْسَانٍ يَقْرَؤُهَا لَيْسَ لَهُ بِإِمَامٍ، أَنْ يَسْجُدَ تِلْكَ السَّجْدَةَ.
الحمد لله مُكْرِمنا بالشَّريعة الغراء، وعبادته التي خَلَقَنا مِنْ أجلها، ومُبيّنها على لسان خير الورى. اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على المُبلّغ عنك والمُبيّن، أعلى الخلائق قدرًا، سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه ومَنْ بمجراهم لأجل وجهك جرى، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمُرسلين العُظماء الكُبراء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- "باب ما جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ"؛ أيّ: السُّجُود عند تلاوة آيات السَّجْدَة مِنَ القُرآن، إذا قرأ القارئ أو استمع المُستمع إلى آية مِن آيات السُجود في الكتاب العزيز. وهذا السُّجود في المواضع المعلومة التي لا تتجاوز خمسة عشر سجدة. ولم يقل أحدٌ مِنَ الأئمة بسُنّية سجدة التِّلاوة في خمسة عشر موضعًا، إنّما قالوا في أربعة عشر موضعًا أو في إحدى عشر موضع.
○ فكان مَنْ عدّ أنَّ في سورة الحجّ سجدتين، لم يقل بأنّ سورة (ص) مِن آيات تلاوة.
○ ومَنْ قال أنَّ في سوره الحجّ سجدة واحدة، عدّ سورة (ص) مِنْ سجدات التِّلاوة.
فصار عند الكُلّ أربعة عشر. كما هو عند الإمام أبي حنيفة والإمام الشَّافعي عند كُلّ مِنهما أنَّ سجدات التِّلاوة أربعة عشر، وكذلك عند الإمام أحمد وعند الإمام مالك أنَّ عزائم السّجود أحدى عشر.
فمنهم وهو الذي استقر عليه القول في مذهبه أنَّ السَّجدات في أحد عشر موضع ليس مِنها سجدات المُفصَّل. والمُفصَّل؛ مِن الحُجرات أو سورة (ق) إلى آخر القُرآن على أشهر الأقوال، ففيه ثلاث سجدات:
1- سجدة في سورة النَّجم.
2- وسجدة في سورة الانشقاق.
3- وسجدة في سورة اقرأ.
فهذه الثلاث سجدات في المُفصَّل، لم يقُل بها الإمام مالك عليه رضوان الله تبارك وتعالى. وقيل أنَّ معنى قول: "أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ"؛ أنَّ هذه الثلاث سُنّة ولكن ليست تأكيدُها كتأكيد هذه السَّجدات، فيوافق مذاهب الغير في هذا، وبذا قال بعض أصحابه، والمشهور في مذهبه: أنّه لا سجدة في المُفصَّل.
وابتدأ الأحاديث بسجدة في المُفصَّل كما سَمِعْتم عندنا، فروى لنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- عن سيِّدنا "أَبَي هُرَيْرَةَ أَنَّه قَرَأَ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق:1]" وهي مِنْ سور المُفصَّل "فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَجَدَ فِيهَا." وهكذا جاء في الصَّحيحين، في البُخاري ومُسلم، عن أَبَي هُرَيْرَةَ -رضي الله تبارك وتعالى عنه- يذكر: أنَّ النَّبي كان سجد في هذه. ثُمَّ إنَّ مِنْ مجموع الرِّوايات يُعلَم أنَّه ﷺ كان يسجُد في أكثر أحيانه إذا مرَّ بآية سجدة، بل إذا سمعها أيضًا سماع، وأحيانًا لا يسجد فكأنَّه بيّن الجواز.
وقال الجُمهور: أنَّه ﷺ سجد في بعض المواضع، وبعضها في نفس الموضع لم يسجد في مرات أُخَر. وجاء عن سيِّدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله تعالى عنه- أيضًا قوله: أُمِرنا بالسُّجود -يعني للتلاوة- فمَنْ سجد فقد أصاب، ومَنْ لم يسجُد فلا إثم عليه. وكما جاء عندنا في المُوطأ: أنَّه قرأ آية السَّجدة في الخُطْبَة ثُمَّ خرج فسجد وسجد أهل المسجد بسُجوده، ثُمَّ أنَّه قرأها في الخُطْبَة الثَّانية في الجُمْعة الثَّانية وتهيأ النَّاس للسجود فلم يسجُد، وقال: على رِسْلكُم ولم يخرج للسجود. وقال: أنَّها لم تُفرض علينا؛ معنى كلامه إنَّما هي سُنَّة مِنْ شاء أن يسجد، فلم يسجُد ليُثْبت أو ليُثبِّت عند النَّاس سُنّيتها. فكان هذا مذهب سيِّدنا عُمَر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- والذي أيضًا عليه الجُمهور كما سمعت.
وكان اتفاقهم في السَّجدات الإحدى عشر وفيها الخبر عن السُّجود. وفي سجدتين مُختلف فيها؛ سجدة الحجّ الثانية وسجدة اقرأ فيها الأمر بالسُّجود. واختلفوا عند المواضع التي فيها الأمر بالسُّجود، واتفقوا في المواضع التي فيها الخبر عن السُّجود. فاتفقوا على سُنِّية السَّجدة أو وجوبها عند الخبر عن السُّجود. والخبر؛ بمعنى الأمر، والتي جاء بنصّ الأمر (..فاسجد واقترب) [العلق:19]، وكذلك الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا…) [الحج:77]؛ اختلفوا فيها.
○ وكذلك الآية التي استدلّ بها الإمام أبو حنيفة على سُجود وهي خبرية، واختلفوا فيها وهي قوله: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ)؛ وهي خبر، وبها استدلّ أبو حنيفة -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- على الوجوب.
○ وبقية السَّجدات فيها الخبر مثل قوله: (...إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم:58].
○ (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ…) [الإسراء:109].
فكُلها أخبار وهذه فيها الأمر. وفي رواية عن الإمام أحمد بوجوب السَّجدة كقول أبي حنيفة، والمشهور في مذهب أحمد وعليه الفتوى عندهم: أنَّها سُنَّة مؤكدة ينبغي الاعتناء بها.
وهي سُنَّةٌ للقَارىء أولًا ثُمَّ لمَنْ استمع ثُمَّ للسَّامع. والذي استمع؛ مَنْ قصد السَّماع. واختلفوا في مُجرد السَّامع الذي سمع صُدفة مِنْ دون أنْ يقصد السَّماع؛ أيسجُد لتلك القراءة أم لا؟ لأنَّه لم يقصد السَّماع ولكن مرَّت على أُذُنه الآية.
ويشهد لذلك ما جاء عنه ﷺ: أنَّه قرأ عنده بعض الصَّحابة آية سجدة، فسجد القارئ وسجد النَّبي ﷺ. ثُمَّ قرأ آخر ومرَّ بآية السَّجدة، فلم يسجد ولم يسجد النَّبي ﷺ، ثُمَّ قال: أليس فيها سجدة؟ قال ﷺ: نعم ولكن كنت إمامنا فلو سجدت لسجدنا. فجعل القارئ كالإمام.
يقول: "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ لَهُمْ" وكأنَّه كان في الصَّلاة، كما جاء صلَّيت خلف أبي هُرَيْرَةَ العِشاء فقرأ سورة (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) كما جاء في البُخاري معنى قرأ لهم؛ يعني في الصَّلاة "(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق:1] فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ"؛ يعني: مِنَ الصَّلاة. "أَخْبَرَهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَجَدَ فِيهَا". وهذا أيضًا يَرُدّ الرِّواية الضَّعيفة التي وردت أنَّه ﷺ لم يسجُد في المُفصَّل مِنذ هاجر أو مِنذ الهجرة. فإنَّ أبا هُرَيْرَةَ إنما أسلم بعد الهِجرة بسنين، ونقل عنه السُّجود وبأسانيد صحيحة عند البُخاري ومُسلم وغيرهما، فتُرجّح على ما جاء بسندٍ ضعيف أنَّه لم يسجُد مُنذ هاجر المدينة في المُفصَّل، فرواية أبي هُرَيْرَةَ صريحة في ذلك وأسانيدها قوية. "(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فَسَجَدَ" وسجدوا معه. وهكذا فقراءة الآية في الصَّلاة وخارجها إلا للمأموم، فإنَّ المأموم لا يُمكنه أنْ يسجُد إلا بسجود إمامه، فإذا سجد الإمام وجب على المأموم أنْ يسجُد.
1- وأنَّ الأصحّ عندهم أنَّه لا يُسجد بها في الصَّلاة. فإنْ سجد بطلت صلاته. قالوا: فإذا صلَّى خلف مَنْ سجد بسجدة سورة (ص)؛ صلَّى خلفه وسجد. قال الشَّافعية: لا يسجد معه؛
○ فإما أنْ يُفارقه.
○ وإما أنْ ينتظره للقيام للخلاف فيها.
2- والقول الثاني عند الشَّافعية: أنَّها سجدة تلاوة. فعلى هذا القول تكون السَّجدات عند الشَّافعية خمسة عشر. على القول بأنَّ سجدة سورة (ص)؛ سجدة تلاوة؛ تصير خمسة عشر سجدة في الكتاب العزيز. ومما ذكرنا سابقًا فعلى المُعتمد في مذهب أبي حنيفة ومذهب الإمام الشَّافعي. فعلى هذا القول في مذهب الشَّافعي تصير السَّجدات خمسة عشر سجدة في كتاب الله تعالى:
بأعراف رعدِ النحل سبحان مريم *** بحجٍّ بفرقانٍ بنملٍ وبالجرز
بـ حم نجمٍ انشقت اقرأ فهذه *** مواضع سجدات التلاوة إن تجز
أربعة عشر؛ هي ثلاثة عشر موضع لكن الحجَّ فيه سجدتان. كما جاء في أحاديث أيضًا أوردها الإمام مالك عليه رضوان الله تبارك وتعالى. وكذلك عند الإمام أحمد بن حنبل: أنَّ في سورة الحجّ سجدتان. والمُعتمد عند الإمام أحمد بن حنبل وهو مذهب الإمام الشافعي عليهم رضوان الله تعالى.
يقول -عليه رضوان الله تعالى-: "أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ مِصْرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ الْحَجِّ فَسَجَدَ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ". وعَلِمنا أنَّ هذا مذهب الإمام الشَّافعي والإمام أحمد بن حنبل، أنَّ في سورة الحجّ سجدتين للتِّلاوة. وجاء أيضًا في رواية البيهقي: أنَّه صلَّى مع عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- الصُّبْح فسجد في الحجّ سجدتين؛ يعني قرأ سورة الحجّ في الصَّلاة، فسجد أول مرة وسجد في السَّجدة الثَّانية؛ فسجد في الحجّ سجدتين.
وجاء أيضًا عند سعيد بن المنصور بن أبي شيبة وابن مردويه والبيهقي: أنَّ عُمَرَ كان يسجُد سجدتين في الحجّ، ويقول هذا القول: "إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ"؛ يعني ليس هُناك سورة غيرها فيها موضعين للسُجود إلا سورة الحجّ فقط.
وكذلك روى: عن "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَسْجُدُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ". وعَرفت أنَّ هذا مذهب الإمام الشَّافعي والإمام أحمد رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين. ونقل في (المُدوّنة) عن ابن عباس والنّخعي: أنْ ليس في الحجّ إلا سجدة واحدة، ولكن مِنْ قول ثان عن ابن عباس وعن ابن عمر قال: سجدة التِّلاوة في الحجّ هي الأولى، والثانية سجدة الصَّلاة.
وجاء: "عَنِ الأَعْرَجِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ بـ (والنَّجْمِ إِذَا هَوَى) [النجم:1] فَسَجَدَ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى". جاء في الرواية "ثُمَّ قَامَ"؛ يعني: بعد أنْ سجد فقرأها لإكمال الرَّكعة (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ …)، وقرأ بعد أنْ أكمل سورة النَّجم -آخرها سجدة- سجد وقام فقرأ (إِذَا زُلْزِلَتِ) ثُمَّ ركع. هكذا جاء في روايات أنَّه قرأ (إِذَا زُلْزِلَتِ). فيما قال هُنا في المُوطأ: فقرأ بسورة أُخرى، تبيّنت في روايات صحيحة أنَّها سورة الزلزلة.
وكذلك روى "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سَجْدَةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَنَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ"؛ أيّ: نزل مِنْ على المِنْبر، "ثُمَّ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ"؛ أيّ: على هيئتكم، "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا"؛ أيّ: لم يفرضها علينا، "إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ. فَلَمْ يَسْجُدْ". فكان شبه إجماع مِنَ الصَّحابة أنَّها غير واجبة. وأصل الحديث أيضًا جاء في البُخاري، عن ربيعة بن عبد الله التَّيمي أنَّه حضر عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، حتى كانت الجُمْعة قرأ على المِنْبر بسورة النَّحل حتى إذا جاء السَّجدة، نزل فسجد، فسجد النَّاس معه. حتى إذا كانت الجُمْعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السَّجدة قال: يا أيُّها النَّاس أنْ لا نُأمر بالسجود فمَنْ سجد فقد أصاب، ومَنْ لم يسجُد فلا إثم عليه. ولم يسجُد عُمَر رضي الله عنه-. وجاء عن ابن عُمَر: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وهذا الذي ذكره مِنْ كلام سيِّدنا عُمَر -رضي الله تعالى عنه. وأوَّلَ الحنفية ذلك: بأنَّه لم يُفرض علينا أداءه على الفور، وعندهم أنَّه يُمكن أنْ يُؤخر السَّجدة إلى ما بعد، فيسجد بعد الخُطْبة أو بعد الصَّلاة؛ عندهم يستمر وقت السُّجود.
"وقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الإِمَامُ إِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيَسْجُدَ". وهو الذي جاء عن سيِّدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أنَّه لم يستمر على عمل بعد ذلك، ولم يجد عليه أحد مِنْ فُقهاء المدينة -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-، إلا أنَّ فِعل سيِّدنا عُمَر كان أمام الصَّحابة، ولم يُنكر أحد.
وقال يحيى: "قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا، أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ". فأخرج مِنْها الثَّلاثة التي في المُفصَّل: التي في سورة النَّجم، وفي سورة الانشقاق، وفي سورة اقرأ.
وهكذا يأتي عند المالكية كُرِه تعمُّدها؛ أيّ السَّجدة بفريضة أو خُطْبة لأنَّه يخل بالنظام. قال: إنْ سجد وإنْ لم يسجُد. ويقول الحنفية: لو تلا على المِنْبر سجد، وسجَد السامعون. وكذلك عند الشَّافعية.
قال يحيى: "قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا، أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً، لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ". وعَلِمت تفسير قوله: "عَزَائِمَ سُجُودِ" أنَّها هي المؤكّدات. ففيه أخذ بعض المالكية مِنْ أتباعه أنَّ سجدات المُفصَّل أيضًا مسنونة ولكنها غير مؤكدة. وكما هي في الإحدى عشر موضعًا. وعَلِمت أنَّ القول المشهور في مذهبه: أنَّه لا سجدة في المُفصَّل. إذًا عَلِمنا هذا وعَلِمنا
1. أنَّ الأربعة عشر عليها الجُمهور.
2. والثاني: إحدى عشر بإسقاط الثلاث مِنَ المُفصَّل.
3. والقول الثالث: بأنَّ خمسة عشر كما ذكرنا في القول الثاني عند الشَّافعية إذا اعتبر آية (ص) مِنْ سجدات التِّلاوة. وكذلك هو مذهب سيِّدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وابن عبد الله بن عُمَر، فيسجُدون في (ص) ويسجُدون في الحجّ سجدتين؛ فصارت خمسة عشر سجدة على هذا القول. وهذا في رواية عن أحمد، وكما اختاره ابن شُريح والمروزي مِنَ الشَّافعية وجعلوها سجدة تلاوة؛ في سورة (ص).
4. والقول الثاني عند أحمد مثل الشَّافعية بإسقاط (ص). وهذا الأصح عند الشَّافعية والحنابلة أنَّها أربعة عشر سجدة.
5- وقول خامس: أنَّها أربعة عشر سجدة، بإسقاط سورة النَّجم وإثبات سورة (ص).
○ ومَنْ قال أنَّ عند مسروق يقول: أنَّها إثني عشرة سجدة. أسقط ثانية الحجّ و(ص) والانشقاق.
○ ومَنْ يقول أنَّ ثلاثة عشر بإسقاط ثانية الحجّ. وهو قول عطاء الخُراساني: ثانية الحجّ والانشقاق.
○ ومَنْ قال: أنَّ العزائم خمس فقط. يُروى عن ابن مسعود؛ في الأعراف، وبني اسرائيل، والنَّجم، والانشقاق، واقرأ.
○ ومَنْ يقول: أنَّ عزائم السُّجود أربع. يُروى عن سيِّدنا عليّ: الم تنزيل، وحم تنزيل، والنَّجم، واقرأ.
○ ومَنْ يقول أنَّها ثلاث. عن سعيد بن جُبير ذكر: الم تنزيل، والنَّجم، واقرأ.
○ ومَنْ يقول أنَّها: الم تنزيل، والأعراف، وحم تنزيل، وبني إسرائيل؛ أربع. هذا مذهب عبد بن عُمير.
○ ومَنْ يقول أنَّها: عشر سجدات. يقول ابن أبي شيبة: أنَّ أشياخًا من جهيم بعثوا رسولًا إلى المدينة وإلى مكة يسأل لهم عن سجود في القُرآن، وأخبرهم أنَّهم أجمعوا على عشر سجدات.
فإذًا، عندنا السَّجدة الثانية مِنَ الحجّ:
وسجدة (ص):
وجاء عن ابن عباس في رواية أبي داود، أنَّ النَّبي ﷺ سجد فيها؛ أيّ في سورة (ص). وكذلك جاء عن أبي الدرداء. إذًا، فسورة (ص) ليست مِنَ العزائم عند الشَّافعية، ويُسجَد بها في غير الصَّلاة على المُعتمد في مذهبهم. وجاء عن ابن العباس في ما رواه البُخاري في صحيحه: أنَّ (ص) ليست مِنْ عزائم السُّجود. وقد رأيت النَّبي ﷺ يسجُد فيها. وجاء أيضًا فيما أخرجه النِّسائي عن ابن عباس أن النَّبي ﷺ سجد في (ص)، فقال: "سجدها داود توبة، ونسجُدها شُكرًا".
وجاء أيضًا في البُخاري عن مُجاهد أنَّه سأل ابن عباس: أنَّ في (ص) سجدة؟ قال: نعم، ثُمَّ تلى (... فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ...) [الأنعام:90] تلى آية مِنْ سورة الأنعام. لمَّا قال له، تذكُر النَّبي داود وسُجوده. هذا ربك يقول: (... فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ...) سجدوا؛ تسجد كما سجد؛ فاستدل بها. وفي لفظ عن مجاهد قال ابن عباس، فقال نبيكم مِمَن أُمِر أنْ يُقتدى بهم.
"قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ يَقْرَأُ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ شَيْئاً بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَلاَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ"؛ يعني الأوقات التي تُكره فيها صَّلاة النَّفل. وهذا أيضًا موضع خلاف.
وقال: "وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَالسَّجْدَةُ مِنَ الصَّلاَةِ، فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ سَجْدَةً فِي تَيْنِكَ السَّاعَتَيْنِ." يقول: بعد ذلك بالكراهة أو الحُرمة إذا تعمَّد؛ أراد السُّجود مُتعمّدًا فلا يسجُد. وأما إذا جاءت في حزبه أو تلاوته أو قرأها غير مُتعمّدًا للسجدة في هذا الوقت، فيسجُد. فكان سجود التِّلاوة مِنْ جُملة الصَّلاة لهذا -كما يأتي معنا- وجب لها الطهارة، وحرمت في الأوقات التي تحرُم فيها النّوافل. وهكذا كما قال في المُوطأ: لا يقرأ بها بعد الصُّبْح إلى طلوع الشَّمس، ولا بعد الْعَصْر إلى غروب الشَّمس. وروى أبي القاسم في المُدونة عن الإمام مالك أنَّه يسجُد لها بعد الصُّبْح ما لم يُسفِر، وبعد الْعَصْر ما لم تصفَّر الشَّمس. وهكذا وهو وقت الكراهة عندهم.
"سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ قَرَأَ سَجْدَةً، وَامْرَأَةٌ حَائِضٌ تَسْمَعُ، هَلْ لَهَا أَنْ تَسْجُد؟َ قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَسْجُدُ الرَّجُلُ وَلاَ الْمَرْأَةُ، إِلاَّ وَهُمَا طَاهِرَانِ." وعلى ذلك جماهير العُلماء. وما روي عن ابن عُمَر أنَّه يسجُد على غير وضوء، وما تبعه الشَّعبي خالف فيه عامة أهل العِلم وجماهير أهل العِلم؛ فلا يُعتَد به ولا يُفتى به. فأجمع الأئمة الأربعة على أنَّه: لا يجوز لأحد أنْ يسجُد سجدة تلاوة إلا وهو طاهر مُتوضئ، ولا تصحّ مِنَ المُحدث. كما قال الإمام مالك: "إِلاَّ وَهُمَا طَاهِرَانِ"؛ لا رجُل ولا امرأة يجوز أنْ يسجُدوا للتلاوة إلا على طهارة.
وهكذا "وَسُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ قَرَأَتْ سَجْدَةً، وَرَجُلٌ مَعَهَا يَسْمَعُ، أَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا؟ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا"، لأنَّها ما تصح أنْ تكون إمام له، ولأنَّ القارئ إمام. وقال الشَّافعية: يسجُد، ولكن تتأكد السَّجدة على المُستمع إذا سجد القارئ، وتتأكد على السَّامع إذا سجد المُستمع. ولهذا ينبغي للقارئ أنْ يُبادر بالسُّجود إذا تلا آية السَّجدة. وكثير مِنْهم يقرأ آية السَّجدة ويسجُد النَّاس وهو ما يزال يبحث عن سواكه أو يُصلح هيئته ليسجُد والنَّاس قد سجدوا! أنت إمامهم يا قارئ! اسجُد قبلهم؛ باشر وبادر بالسُّجود قبل أنْ يسجُد الآخرون. بل لا تتأكد عليهم حتى تسجُد أنت، فينبغي للقارئ أنْ يتنبّه ولا يكون أبله! قرأ آية السَّجدة، وسجدوا الحلقة كُلهم وهو ما يزال يُصلِّح نفسه ليسجد! هم مُستعجلين، وهو مقصِّر ومتأخر… بادر وباشر حتى تتأكد على البقية بالاتفاق، اسجد أنت أولًا قبلهم ما دمت أنت القارئ.
وهكذا قال: "وَسُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ قَرَأَتْ سَجْدَةً، وَرَجُلٌ مَعَهَا يَسْمَعُ، أَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا؟ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ مَعَهَا، إِنَّمَا تَجِبُ السَّجْدَةُ عَلَى الْقَوْمِ يَكُونُونَ مَعَ الرَّجُلِ، فَيَأْتَمُّونَ بِهِ"؛ يعني: ما هو في الصَّلاة حتى يأتمون به، حتى في القراءة يستمعون إليه ويُنصتون إليه؛ هذا معنى يأتمون به، فيسجد فيسجدون معه. "وَلَيْسَ عَلَى مَنْ سَمِعَ سَجْدَةً، مِنْ إِنْسَانٍ يَقْرَؤُهَا لَيْسَ لَهُ بِإِمَامٍ"؛ يعني: ما يصلح له أنْ يكون إمام له، "أَنْ يَسْجُدَ تِلْكَ السَّجْدَةَ". هذا مذهب الإمام مالك. فسُنَّة السُّجود على السامع مُقيده عند المالكية بثلاثة شروط:
قال الإمام مالك: إذا ظهرت قرينة على ذلك حتى إذا سَمِعت آية السَّجدة، اتركه لا تسجُد معه؛ لأنَّه مُرائي ومُتسول بالقرآن؛ ما يصُح للإمامة، وليس أهل للإمامة. وكذلك فَهِمنا أنَّ السَّامع والذي يقول مالك: ليس عليه سجدة. يقول أبي حنيفة: عليه السُّجود. بل يجب. وكذلك يقول الشَّافعية: ولا فرق بين الرَّجُل والمرأة عندهم.
وقال أهل المعرفة: وللقلب سجودٌ، إذا سجده لم يرفعه أبدًا! ما يقدر يرتفع.. إذا قد تحقّق القلب بالسجود، ما يقدر أنْ يرتفع. كيف يرتفع؟ كيف يرتفع؟ تذهب ألوهية الله وربوبيته؟! ما يُمكن يرتفع… فتثبت عبديته وعبوديته وعبودته لله -تبارك وتعالى- فيبقى القلب ساجدًا أبدًا. الله يُكرمنا بهذا السُّجود العظيم. الله يُكرمنا بهذا السُّجود العظيم. وإلا أجسادنا سجدت عدد مِنَ السَّجدات كثيرة، لكن باقي القلوب لو سجدت لربها لطاب لها التذلل سرمدًا! فهذا تجده ساجد القلب وإنْ تكلم، وإنْ جلس، وإنْ أكل، وإنْ شرب.. قلبه ساجد، دائم على صلاة، خاضع خاشع حيثما كان. صاحب القلب الساجد لا يجيء مِنه التّعالي، ولا الترفُّع.. ساجد، دائمًا ساجد. والحقّ أحق أنْ يُسجد له كُل شيء، ولكن قلب ابن آدم هذا والجّان هُم الذين يتأبّون عن السُّجود ويُخالفون، أمّا بقية الأشياء كُلها تسجد (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم …) [الرعد:15] حتى آثارهم ساجدة. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ..) [الحج:18] كُلهم يسجُدون. ولكن قلب ابن آدم وقلب الجّان تتخلف عن السُّجود. يتأبّى.. ساعة يسجُد، وساعة ما يسجُد، وساعة ما يسجد أبدًا والعياذ بالله.
الله يُكرمنا بسرِّ السُّجود وحقيقة السُّجود، ويُكرمنا بسجود القلب الذي لا يرفع عنه صاحبه أبدًا، ويجعلنا بذلك مؤتّمين بسيِّد السَّاجدين، فلم يتحقق بحقائق السُّجود لله قلبٌ كما تحقّق قلب مُحمَّد ﷺ، فهو السَّاجد على الحقيقة وهو المُتقلّب في السَّاجدين، وقال له ربّه: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء:218-219]. فبسرِّ سجوده سجدوا. ولمَّا خاطب الرَّحمن الأرواح في عالم الأرواح، وأشهدهم ألست بربكم؟ أجاب: ببلى، فأجابوا وراءه ببلى، فسجد فسجدوا وراءه؛ فهو أول السَّاجدين وإمام السَّاجدين وأعظم الخلائق تحققًا بالسجود صلوات ربي وسلامه عليه. فما أعظم سجود قلبه للرحمن في كُل شأن على الأبد والدّوام، فهو سيِّد السَّاجدين.
اللَّهمّ ارزقنا الإئتمام به، وسِرْ بنا في دربه؛ حتى تُسقينا مِنْ شُربه، وتُنعم علينا بقُربه، وتجعلنا في حزبه، بجاهه عليك ومنزلته لديك بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
07 جمادى الأول 1442