(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القرآن ، باب ما جاء في القرآن.
فجر الأربعاء 1 جمادى الأولى 1442هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ
542- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ الله ﷺ أَقْرَأَنِيهَا فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ الله ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "أَرْسِلْهُ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَأْ يَا هِشَامُ". فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ. فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ"، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ فَقَرَأْتُهَا. فَقَالَ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ".
543- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا، أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ".
544- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ". قَالَتْ عَائِشَةُ: "وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا".
545- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فِي عَبْدِ الله بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، جَاءَ إِلَى رَسُولِ الله ﷺ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ اسْتَدْنِينِي، وَعِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْرِضُ عَنْهُ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: "يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا". فَيَقُولُ: لَا وَالدِّمَاءِ مَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا. فَأُنْزِلَتْ (عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى).
546- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ. ثُمَّ سَأَلَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، عُمَرُ نَزَرْتَ رَسُولَ الله ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، قَالَ، فَقُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، قَالَ: فَجِئْتُ رَسُولَ الله ﷺ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ، هَذِهِ اللَّيْلَةَ، سُورَةٌ، لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ". ثُمَّ قَرَأَ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا).
الحمدُ لله مُكرِمِنا بالقرآن ومَن أنزله عليه، فأحسن الدلالة والدعوة إليه، سيِّدنا مُحمَّد المُختار وآله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن والاهم في الله وعلى منهاجهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين معادن الصِّدق والأنوار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقربين، وجميع عِباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريم يا غفّار.
أما بعدُ،
فيواصل الإمام مَالِك -عليه رِضوان الله تَبارك وتعالى- ذِكْر الأحاديث المُتعلقة بالقُرآن الكريم، وبما جاء في القُرآن في تِلاوته على أحرُفٍ نزلت على رسول الله ﷺ وعلَّمها أصحابه الكرام، وكُلٌ يقرأ ما تيسر له من تلك الأحرُف الرَّبانية، النَّورانية، القُرآنية المُتعبَّد بتلاوتها والتي يُتلى بها في الصَّلاة. ويذكر لنا حديث: "هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ"، وهِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَام أسلم مع وَالده في يوم الفتح، وَوالده ابن أخ أم المؤمنين خديجة -رضي الله تعالى عنها-، وهِشَامَ بْنَ حِزَام هذا كان مِن فُضلاء الصَّحابة ممَن يأمر بالمعروف وينهى عن المُنكر، ومات قبل أبيه.
قال سيِّدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، "سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا"؛ يقول: سمعته يقرأ وفيها كلمات بحروف أُخَر غير التي سمعها سيِّدنا عُمَرَ من النَّبي ﷺ، وكان سيِّدنا هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ أيضًا أخذها عن النَّبي ﷺ، قال سيِّدنا عُمَرَ: كان رسول الله ﷺ هو الذي بنفسه الشَّريفة "أَقْرَأَنِيهَا"؛ يعني: سورة الفرقان، فإذا هو يقرأ على حروف لم يُقْرئنِيهَا رسول الله ﷺ، فكان هناك كلمات مُعينة من السُّورة كان النُّطق بها على خلاف ما سمع سيِّدنا عُمَرَ من النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-. قال: "فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ"؛ يعني: أُبادر بمخاصمته والإنكار عليه والتَّعرُّض له. قال: إنه في صلاة فأمهله حتى يُكمِل الصَّلاة؛ وذلك لتعظيمهم للقُرآن، وخوفهم من التَّحريف فيه والتَّغيير والتَّبديل؛ فبذلك امتلأ سيِّدنا عُمَرَ غيظًا على تغيير هذه الأحرُف، ما عَلِم أنها من الأحرُف التي أُنزلت على رسول الله ﷺ، فكاد يعجل هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ في صلاته. قال: "ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ"؛ يعني من الصَّلاة. قال -كما جاء في البُخاري-: "فكدت أساوره في الصَّلاة فتصبّرت حتى سلَّم"؛ خرج من الصَّلاة. فهكذا قال: "ثُمَّ لَبَّبْتُهُ"؛ يعني: أخذت رِداءه، ووضعته على عُنقه، وجمعته عليه، وشددته به. قال: "بِرِدَائِهِ"؛ أخذت بمجامع ردائه، وجعلته في عُنُقه، وجَررته به، فجئت به رسول الله ﷺ. قال: ما لك تقرأ على غير حروفه؟ مَن أقرأك هذا؟ قال: اقرأنيه رسول الله ﷺ. قال: كذبت، إنه ﷺ اقرأنيها على غير ما قرأت. قال: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ﷺ، ظنَّ أن هشام خالف الصَّواب، وأخذه وكان سيِّدنا هشام شابًا.
قال: "فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إنِّي سَمِعْتُ هَذَا" الذي أمسكته هذا هشام بن حكيم "يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ، عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: أَرْسِلْهُ"؛ افتحه؛ فكَّ يدك منه، دعه يهدأ ويطمئن ونسمعه. "أَرْسِلْهُ" حتى يتمكّن من إيراد القراءة التي قرأ، وننظر ماذا قرأ حتى لا يُدركه الانزعاج. وقال: "أَرْسِلْهُ"، ثُمَّ قَالَ ﷺ لسيدنا هشام: "اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ" يقرأ بها في الصَّلاة، "فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ"؛ تصويب لقراءة هشام، وقال: "اقْرَأْ"؛ يعني: أنت يا عُمَر، أمره بالقراءة لئلا يكون الخطأ أيضًا والتغيير من جهته؛ "فَقَرَأْتُهَا" على القراءة التي أقرأنيها هو ﷺ غير قراءة هشام في كلمات وحروف مُعينة، فقال ﷺ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ".
وجاء في رواية: قرأ رجلٌ غير قراءة عُمَر -رضي الله عنه- فأخذه إلى النبيّ ﷺ فقال: ألم تُقرئنيه يا رسول الله؟ قال: بلى، فوقع في صدر عُمَر شيء عرفه النبي ﷺ، فضرب على صدره وقال: "أبعِد شيطانك" قالها ثلاثًا، وقال: يا عُمَر، القرآن كلُّه صواب، ما لم تجعل رحمةً عذابًا، وعذابًا رحمة، وهذا في رواية عند الطّبري ولكن لم يصح، والذي صحّ أن غير سيِّدنا عُمَر أيضًا وقع له مثل هذا، وعدد من الصَّحابة، وأحدهم لمَّا سَمِع النَّبي ﷺ يقول: هكذا أُنزلت، هكذا أُنزلت… داخله ما داخلَه من الشكّ، فعرف ﷺ ذلك في وجهه، فوضع يده على صدره، قال: فقرأ عليّ فكأني أرى ربي، وقوي إيماني ويقيني.
وهكذا اختار الله تعالى لهذه الأُمة اليُسر، كما قال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ..) [البقرة:185]؛ ومن ذلك ما جاء من التعدّد في:
وما إلى ذلك؛ فاستوعبت لغة قريش ولغة مُضر وما هو أوسع من ذلك (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء:195]، ولها تعلُّق بمعاني تتعلق بما ذكر أيضًا الإمام عبد العزيز الدّبّاغ: أنها أحرُف النُّبوة والرِّسالة وأحرُف العِلْم، وبيّن معانٍ تتعلق بالذات النَّبوية الشَّريفة، وأن تغيُّر الألفاظ يتعلق بهذه المعاني في الذّات الشَّريفة، ومع ذلك يستوعب هذه اللُّغة التي أنزل بها ويُسهِّل بها على النَّاس هذه القراءة من إمالة وغير إمالة، وتسهيل وغير تسهيل إلى غير ذلك مما نزل عليه ﷺ، ثم أقرَأ كُلّا من الصَّحابة بشيءٍ من ذلك؛ فتجمّعت تلك القراءات وصار:
○ المُتواتر منها ما بين سبعٍ إلى عشرٍ.
○ والشّاذ إلى أربعة عشر.
فهذا المُتواتر كُلُّه قُرآن حقٌ يُقرأ به في الصَّلاة وغيرها. وما زاد على المُتواتر، ما زاد على العشر القراءات، فلا يُقرأ به في الصَّلاة.
يقول: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"؛ جمع حرف، وبذلك جاء في ألفاظهم: أن فُلان يقرأ بحرف ابن عامر، وفُلان يقرأ بحرف ابن هشام، وأن فُلان يقرأ بحرف ابن كثير، وأن فُلان يقرأ بحرف عاصم… فيستعملون الحرف للقراءة؛ وليس هي المُراد بالحديث الشَّريف. وقد اجتمع نحو واحد وأربعين قول في معنى: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ" حتى قال بعض أهل العِلم كأبي جعفر مُحمَّد بن سعدان: هذا من المُشكَل الذي لا يُدرى معناه؛ ولكن يُفهم من خلال الحديث أن له تعلُّق بالألفاظ وتنوّعها، وأن ذلك فيه تيسيرٌ للأُمة. وفي حديثٍ عند الإمام مُسلم يقول: "إن ربّي أرسل إليّ أن اقرأ القُرآن على حرفٍ واحد فرددتُ إليه أن هوّن على أُمتي؛ فأرسل إليّ أن اقرأه على سبعة أحرُف".
وهكذا جاء في رواية النّسائي: أن جبريل وميكائيل أتياني، فقال جبريل: اقرأ القُرآن على حرف، فقال: ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف، قال: فنظرت إلى ميكائيل فسكت؛ وعَلِمت أنه قد انتهى العدد. وجاء تبيين هذا العدد؛ فسرها بعضهم بسبعة لغات وما إلى ذلك، وتفسير الأحرف ببعض معاني الذّات النّبوية أقرب، ويترتّب عليه اختلاف الألفاظ أيضًا، والسعة فيها فيما ورد:
يُقال أن هذا الموجود من القراءات السبع والعشر أنه مُتعلق ببعض هذه الأحرف لا بجَميعها. وعلى كل الأحوال، كل الموجود بين يديّ هذه الأُمة من هذا القُرآن ممّا يندرج في القراءات السبع إلى العشر؛ مُتواتر بالأخْذ والتلقّي إلى رسول الله ﷺ. وفيه عظَّمة حُسن بلاغه واستيعابه لهذا البلاغ والأداء حتى سُمِع منه هذا وهذا وهذا ثم تُلُقِّي وتواتر في هذه الأُمة، فصلَّى الله على المُبلِّغ الأمين المؤتمن على البلاغ، المُهيأ له، المُعان عليه من قِبل الرَّب سبحانه وتعالى.
"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"؛ ما سَهُل عليكم ووجدتم فيه طريقكم، وهكذا.. فوجدتها حتى مع لغات العرب بعضهم في لهجتهم المُعتادة يستعملون الإمالة فيسهُل عليهم أخذ رواية الإمالة، وبعضهم في لهجتهم ما يستخدمون الإمالة إلى غير ذلك، ففي القُرآن سعةٌ لاستيعاب الجميع، قال: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"؛ إشارة إلى حكمة من حِكم تعدّد الأحرف.
وأورد لنا حديث "عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ"؛ التي عليها العِقال؛ المشدودة بالعِقال؛ الحبل الذي يُشدّ في رُكبة البعير. "إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا"؛ يعني: إذا هو داوم وتفقّد أمرها صاحب الإبل، "أَمْسَكَهَا"، يعني: استمر إمساكه لها وحُفِظَت، "وَإِنْ أَطْلَقَهَا"؛ أرسلها، كُل ساعة ينفلت واحد من العُقل وتتفلَّت، وتشرُد عليه ولا يقدر يُمسكها وتذهب واحدة هُنا وواحدة هُنا ويُضيّعها، فذلك صاحب القُرآن ومَن حفظ القُرآن، إن تعاهد القُرآن وتردده؛ ثبُت في ذهنه وثبُت في قلبه، كما هو إن قصَّر في ذلك، تفلت منه آية، تفلُت منه كلمة، فيجب تعاهُد القُرآن. "تعاهدوا هَذَا القُرْآنَ، فوالذي نفسي بيده لَهُوَ أشَدُّ تفصيًا" وفي رواية "أشَدُّ تَفَلُّتاً في صدور الرِّجال مِنَ الإبلِ فِي عُقُلِهَا".
وكذلك أورد حديث "عَائِشَةَ -أُم المؤمنين رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، سَأَلَ رَسُولَ الله ﷺ"، هذا الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ بن المُغيرة المخزومي، أسلم يوم الفتح واستُشهد في خِلافة سيِّدنا عُمَر في فتوح الشَّام. "سَأَلَ رَسُولَ الله ﷺ: كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟" يعني: صِفة الوحي فيما ينزل عليه من القُرآن الكريم.
"فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "أَحْيَاناً"؛ أي في بعض الأوقات والأحوال "يَأْتِينِي"؛ يعني: الوحي الشَّريف "فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ"؛
"صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ"؛ الجلجل الذي كان يعلق في رؤوس الدَّواب؛ والمُراد: أن الحواس إذا صادمها تأثير قوي حصل فيها أثر، وكذلك إذا سمع أصوات مُبهمة كالطنين والصَّلصة والهمهمة، إذا تمّ الأثر حصل العِلم. فقال: "مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ"؛ والقصد أنه يُلقيه عليه الْمَلَكُ في ملكيته دون أن يتمثّل له في صورة البشر، فيبدو عليه ﷺ صوتًا عظيمًا يعي منه ويُدرك كلمات هذا الوحي الشَّريف، ثم يقرؤها.
قال: "وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ"؛ لأنه يبقى فيه المَلَك في ملكيته -جبريل- ولا يظهر له بصورة إنسان ولا بشر، فيتلقى من الْمَلَكُ بهذه الصورة وهو أشدُّ أنواع الوحي. إن كان ليَعرق في يوم الشَّدِيدِ الْبَرْدِ في المدينة المُنورة؛ من ثقل الوحي وعظمته ﷺ. قال: "فَيُفْصِمُ"؛ الوحي والملك "فَيُفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ".
"وَأَحْيَاناً"؛ أي: بعض الأوقات الأُخرى "يَتَمَثَّلُ"؛ يتصوّر ويتشكل لي الْمَلَكُ؛ واحد الملائكة والمُراد هُنا جبريل -عليه السَّلام-، "رَجُلاً"؛ أي: مثل رَجُل أو على هيئة رَجُل. وقد جعل الله القُدرة على التّشكّل للملائكة والجان؛ يتشكّلون بأشكال..
هذا بالنسبة للجان، فيتَصورون بصور ويتشكّلون بأشكال، وقد تحكُم عليه الصّورة فلا يستطيع العود إلى ما كان عليه وقد يتمكن من ذلك. بخلاف الملائكة فإنهم لا يتشكّلون إلا بوحيٍ ولفائدة وحكمة، ثم يعودون إلى ما كانوا عليه من هيئاتهم وأجسامهم النّورانية. وأجسامهم من نور لا من طين، ولا من نار، ولا من شيء من بقية الأجزاء؛ ولذا استغنت عن الطعام والشَّراب والمنام والنِّكاح، ليس في شيء من هذه الخصائص التي يجعلها الله مُعلّقة بالأجسام التي يكوّنها من الطين ومن النَّار ومن هذه المواد -جلَّ جلالُه-.
قال: "فَيُكَلِّمُنِي"؛ ذلك المَلَك "فَأَعِي مَا يَقُولُ". قال سبحانه وتعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) [الأعلى:6]، وقال له: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة:17-18]. "قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ ﷺ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ"، وكانت المدينة باردة في أيام الشِّتاء، قالت: "فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا"، اللَّهم صلّ عليه وعلى آله. قالت: "فَيُفْصِمُ عَنْهُ"؛ يعني: يقطع وينتهي الوحي، "وَإِنَّ جَبِينَهُ" الشَّريف؛ جبهته الشَّريفة -عليه الصَّلاة والسَّلام- "لَيَتَفَصَّدُ عَرَقاً"؛ يعني: يتقطع عرقًا؛ عرق يسيل، إسالة العرق شبّهته في إسالة الدَّم، "لَيَتَفَصَّدُ عَرَقاً" صلوات ربِّي وسلامه عليه. وفي رواية عن البيهقي: "وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته؛ فيثقُل؛ فتضرب بجِرانها" من ثقل ما يوحى إليه (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل:5].
وروى لنا "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ (عَبَسَ وَتَوَلَّى)"؛ يعني: سورة عبس "فِي عَبْدِ الله بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ"، اسمه عمرو على المشهور في اسمه، "جَاءَ إِلَى رَسُولِ الله ﷺ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ" يخاطبه، "اسْتَدْنِينِي"؛ يعني: قرّبني "وَعِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ" يرجو أن يهديه الله -جلَّ جلاله- إلى الإسلام، فما كان مجيء سيِّدنا "عَبْدِ الله بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ" مناسبًا في هذا الوقت وإلحاحه على النَّبي ﷺ في شُغله بالقيام بهذه المهمة والأمر، وهو مأمونٌ على تأديب أصحابه عليه الصَّلاة والسَّلام وترقيتهم وتزكيتهم، فكان من جُملة ما أدّبه به وزكّاه فجعل النَّبي ﷺ يُعرض عنه:
جاء في رواية عند ابن جرير وابن مردويه: بينما ﷺ يُناجي عُتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المُطلب، وأبا جهل، فإنه تصدى له كثيرًا رجاء أن يسلموا فيتبعهم كثير، فأقبل رجل أعمى هو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ يمشي وفي أثناء كلام رسول الله ﷺ معهم، فجعل عَبْدِ اللَّهِ يستقرئ النَّبي آية من القُرآن، يقول: أُدنُني، علِّمني، كلِّمني يا رسول الله،… وأقبل على أولئك في بيانه لهم ودعوتهم إلى الإسلام. يقول: "يَا أَبَا فُلاَنٍ، هَلْ تَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْساً" ما الذي يمنعك عن تصديقي؟ هل ترى شيئًا فيما بلغتُه ودعوتُكم إليه يقتضي أن تتأخر وأن تنقطع عن الإيمان؟ يقول المشرك: "لاَ، وَالدِّمَاءِ"؛ أي: دِماء الذَّبائح كان يحلف بها، "مَا أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْساً. فَأُنْزِلَتْ (عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى)"؛ لإعراضه ﷺ عنه، فبعد أن سكت سيِّدنا عبد الله بن مكتوم وبلَّغ النَّبي ﷺ مُهمته بدعوة القوم وبيانه ومخاطبته إيّاهم، رجع إليه وعلَّمه، فوقع في قلبه ﷺ هذا الأحبُّ إلى ربي في كوني أقبلت على هؤلاء المُحتاجين، وهو ذلك غير طبيعة النَّفس؛ فالنَّفس تُحب أن تتكلم مع الذي يُحبّها ويُصدّقها ويُعظّمها، لا مع الذي يُكذّب به ولا يؤمن؛ فأنزل الله له يُقرّر ما فعل ويُخبره أن في ذلك تزكيةً لأصحابه ولأُمّته، فيقول له: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى) [عبس:1-2].
وعادة الإنسان يُقبل على من يُعظّمه ويُحبه ويُكرم عليه، ولكن رسول الله ﷺ في بلاغِه للرِسالة أبعد عن أن يكون في مُجرّد الانطلاق والتأثّر البشري، (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى)، قال: (وَمَا يُدْرِيكَ .. )؛ لعلّك بإعراضِك هذا عنه تُؤدبّه (.. لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)؛
(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ..) بواجبه ومهمّاته (..فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) [عبس:3-4] ؛ فإنك جريت على غير مُقتضى الطّبع البشري تعظيمًا لأمرنا وحقنا، وهمًّا بعبادنا ولأُمتك التي أرسلناك إليها. (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى) [عبس:5-6]؛ والنَّفس ما تُحب التصدي لمَن استغنى بنفسه، ويشقّ عليها ذلك ولكن لأجل البلاغ عنّا وإقامة أمرنا تصدّيت له، وأقبلت عليهم وهم مُعرضون، خُضوعًا لجلالِنا وخروجًا عن مُقتضى الطّبع البشري ومع أنه ما يضرّونك (وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى) [عبس:7]؛ ولكنك حريص ورحيم فأقبلت عليهم تؤدّي الأمانة في البلاغ، وترجو أن نهديهم بتسبُّبك بهدايتهم.
(وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى) [عبس:8-9]؛ والنَّفس تُحبّ الذي يُقبل عليها بالخشية والمحبة والتعظيم، (فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) [عبس:10]؛ أعرضت عنه مُخالفةً للطبع البشري؛ لأجل تزكيته وتعليمه، ولأجل إبلاغ هؤلاء وإنذارهِم، (كَلاَّ ..) حقًا (.. إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) [عبس:11]؛ مسلكٌ صحيحٌ وقويمٌ قُمت به في الأداء عنّا والبلاغ وتهذيب عبادنا وتعليمهم (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ) [عبس:11-12]؛ فأقرّه سُبحانه على مسلكه الكريم وصراطه المُستقيم، صلوات ربِّي وسلامُه عليه.
قال: فأنزل (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى). وأما ما ورد من قول: إذا نظر إليه، بسط له رداءه حتى يُجلسه عليه، وكذلك إذا خرج من المدينة يستخلفه بالصَّلاة في النَّاس، فذلك كان كثيرًا، وذلك مُقتضى خُلُقه الكريم -عليه الصَّلاة والسَّلام-، ورعايته لمَن أخذ نصيبه من تزكيةٍ وأدب أن يُبادره بالإكرام والاحترام عليه الصَّلاة والسَّلام. وقول السيِّدة عائشة: هذا مَن عاتب الله به نبيه بسورة عبس؛ أي: أورد هذا التقرير على صورة العتاب، فإن فهمت المقصود فأرادت بذلك المجاز. وما يُروى كذلك -وقد لا يصحّ عنه- أنه يقول له: أهلًا بمَن عاتبني فيه ربي، فإن ذلك مُنزَّل منزل كمال عبوديته؛ أي: أرسل إليّ التعليق على ما كان منّي نحوه في ذلك اليوم، فكان كالتّطييب لخاطره، والأمر في ضمن الآيات تقريرٌ من الحقّ لفعل حبيبه صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
كما أورد لنا: "عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلاً، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ" رسول الله ﷺ إما لاشتغاله بوحي أو مُناجاة في تلك السَّاعة، "ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ" ثالث مرة "فَلَمْ يُجِبْهُ. قَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ عُمَرُ" يُخاطب نفسه؛ يعني: خاف على نفسه من إعراض النَّبي ﷺ عنه، "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ عُمَرُ، نَزَرْتَ"؛ أي: قلّلت الكلام وسألته فيما لم يُحب أن يجيب فيه "نَزَرْتَ رَسُولَ الله ﷺ؛ يعني: ألححت عليه "ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُجِيبُكَ"، فخاف سيِّدنا عُمَر على نفسه، "قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي"؛ مضيت "حَتَّى إِذَا كُنْتُ أَمَامَ"؛ يعني: قدام "النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يُنْزَلَ فِي قُرْآنٌ"؛ يعني: تجرأت على النَّبي ﷺ ورددت عليه الكلام وألححت عليه، فخشيت أن ينزل فيّ عتاب من الحقّ جلَّ جلالُه "قال: فَمَا نَشِبْتُ"؛ يعني: ما لبثت "أَنْ سَمِعْتُ صَارِخاً يَصْرُخُ بِي"؛ يعني: يُناديني باسمي، "فَقُلْتُ" يعني: في نفسي "لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِي قُرْآنٌ"، أرى أنه ﷺ أرسل إلىّ عُمَر كأنه يؤنسه لمَّا كان مشغولًا بوحي ينزل عليه أو بمُناجاة له للرحمن، فترك إجابة سيِّدنا عُمَر، فكأنه خاف أن يقع ذلك في نفسه. وسيِّدنا عُمَر أخذ يُعاتب نفسه، خاف أنه تجرأ وأقل الأدب، وخاف أن ينزل فيه قُرآن يُعاتبه ويفضحه، وهكذا تزكية الصَّحابة ومكانتهم في التَّربية. فأراد ﷺ أن يؤنسه ويُذهب وحشته، "قَالَ فَجِئْتُ رَسُولَ الله ﷺ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ"، وكأنه جاء وكان يُكلِّمه والسّورة تنزل عليه، "أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ"؛ يعني: الدُّنيا وما فيها، "ثُمَّ قَرَأَ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)".
وهذا يدُّل على أنه عند رجوعهم من صُلح الحُديبية، وكان عدم ردّ النَّبي عليه أورثه هذا الخوف والقلق لما كان ما حصل منه من قوله: ألست رسول الله حقًا؟ ألسنا على حقّ وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنَّة وقتلاهم في النَّار؟ علام نعطي الدُّنية في ديننا؟ أولست كنت تحدثنا أنّا نأتي البيت فنطوّف به؟ قال ﷺ: بلى، أحدثتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوّف به.
فلمّا كان منه هذا الموقف، ثم جاء في اللَّيل وقرب من النَّبي ﷺ، من راحلة النَّبي، والنَّبي يمشي على راحلته، فكلّمه ولم يُجِبه، فكلمه ثاني مرة فلم يُجِبه، فقال: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ عُمَرُ"، ما أدري إيش نزل عليّ.. أقللت الأدب وتجرأت على حبيب الرَّحمن.. أمس تقول له كذا، والآن حبيب الرَّحمن ما تكلم معك! شرد سيِّدنا عُمَر.. حرّك راحلته وتقدَّم للأمام في الجيش، وخشي أن ينزل فيه وحي.
ونزلت عليه ﷺ أوائل سورة الفتح، قال: ادعُ عُمَر.. هاتوه، فلمّا جاءوه قالوا له: رسول الله يدعوك، قال: الظاهر قد وقعت الفضيحة أنه شيء نزل عليه!!.. فلما أقبل، قال له: أُنزلت عليّ سورة.. فزع أكثر، وإذا بها: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ..) [الفتح:1-2]، فاستذكر سيِّدنا عُمَر ورجع إلى رُشده وصوابه، قال: "أوَفتحٌ هو يا رسول الله؟" هذا الموقف الذي وقفته ورجوعنا من تحت مكة.. فتحٌ لنا؟ قال: بلى هو فتحٌ! فبقي في الصُّلح سنتين، أسلم أكثر ممّن أسلم من بداية الدعوة، ثمانية عشر سنة كان يدعو، فالذين أسلموا في السنتين أكثر من الذين أسلموا في الثمانية عشر سنة الماضية كُلها، وترتّب عليه أنهم رجعوا ثاني سنة إلى مكة، وسيِّدنا عُمَر معهم، وقضى العُمرة ثم رجع السَّنة التي بعدها في الفتح وفتحوا مكة؛ فصار الصُّلح فتحًا. ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)؛ يعني: بسبب صُلح الحُديبية كتبنا لك الفتح وتُفتح على ضوء ذلك مكة المُكرَّمة لك، فتحكمها، فكان ما كان.
صلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد، ورزقنا حُسن مُتابعته ظاهرًا وباطنًا إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين، وشَرَح صُدورنا، ويسّر أمورنا، وكشف ضُرنا، وتولّى سِرّنا وجهرنا، ولا وكَلَنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خلقه طرفة عين. بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
02 جمادى الأول 1442