(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القبلة، باب النهي عن استقبال القِبلة والإنسان في حاجتِه، وباب الرخصة في استقبال القِبلة لبولٍ أو غائط، وباب النهي عن البُصاق في القِبلة.
فجر الأربعاء 24 ربيع الثاني 1442هـ.
باب النَّهْي عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالإِنْسَانُ عَلَى حَاجَتِهِ
522- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ إِسْحَاقَ مَوْلًى لآلِ الشِّفَاءِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مَوْلَى أبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ الله ﷺ وَهُوَ بِمِصْرَ يَقُولُ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذِهِ الْكَرَايِيسِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: "إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ أَوِ الْبَوْلَ، فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا بِفَرْجِهِ".
522 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله ﷺ يَنْهَى أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةُ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ.
باب الرُّخْصَةِ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ
523 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ: إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلاَ تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَلاَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ عَبْدُ الله: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ عَلَى لَبِنَتَيْنِ، مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ. قَالَ: قُلْتُ: لاَ أَدْرِي وَالله.
قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي الَّذِي يَسْجُدُ وَلاَ يَرْتَفِعُ عَنْ الأَرْضِ، يَسْجُدُ وَهُوَ لاَصِقٌ بِالأَرْضِ.
باب النَّهْي عَنِ الْبُصَاقِ فِي الْقِبْلَةِ
524 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلاَ يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَإِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى".
525 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ رَأَى فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ بُصَاقاً أَوْ مُخَاطاً أَوْ نُخَامَةً فَحَكَّهُ.
الحمدُ للهِ مُكرِمِنا بِبيانِ الأحكام، على لسانِ عبدهِ المصطفى خيرِ الأنام، اللهم أدم منك عَنّا عليهِ الصَّلاة والسَّلام، بِأَجَلِ صلاةٍ وسلام في كلِ لحظةٍ على الدَّوامِ، وعلى آلهِ وصحبهِ الكرام، وعلى مَن والاهم فيك وعلى مَنهَجِهم إستقام، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِن الأنبياء والمُرسلين، أهلُ المراتب العظام، وعلى آلِهم وأصحابِهم وتابعيهم على الدَّوامِ، وعلى ملائِكتِك المُقربين، وجميع عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين، يا حيّ يا قيوم يا سلام.
أما بعدُ،
فَيُواصل الإمام مالِكْ عليهِ رضوان الله تعالى، ذِكر الأحاديث المُتَعلقة بالقِبلةِ واستقبال القِبلة واستدبارها. وذلك أنَّ الله شَرَّفَ الكعبةَ المُشرفة، وَشَرَّفَ بيتَ المَقدس، وجعلَهُما القبلة للأنبياء والمُرسلين وأتباعهم. فكانَ جماعاتٌ مِنَ الأنبياءِ من آدم عليه السلام، ومن بعده قِبلتُهُم إلى الكعبةِ المُشرفةِ، ثُمَّ كان جماعةٌ منهم أمرهُم الله باستقبال بيتِ المقدس، وَمضى على ذٰلك الحال بعدَ بناية بيتَ المقدس قُرونًا على أيدي نَبِيين؛ ومنهم موسى وعيسى عليهما السَّلام، فكان اسْتقبالهم في الصَّلاة لبيتِ المقدس، ثُمَّ بُعِثَ الحبيب ﷺ والأمر على ذلك، وكانَ قدْ حَبَّبَ الله إليهِ في فطرتهِ الكعبةِ المُشرفةِ وتعظيمها. وكانَ يُصَلي في مكةِ المُكرمة مُستقبلاً الكعبةَ وبيتَ المقدس، فيأتي الصَّلاة مِن ناحيةِ مابينَ الرُّكنَين، فَيستقبل الكعبة المُشرفة، ويَستقبل بيتَ المقدس في آنٍ واحد. والجهة تِلك مِن مكةَ يُستقبل بِها المَساجد الثَّلاثة، فَهيَ موازية تمامًا للمسجد النَّبوي الشَّريف، والى بيتِ المقدس، حيث لو مُدَّ خيطٌ لَمرَ على المسجدِ النَّبوي والى بيتِ المقدس. فكانت قِبلته ﷺ في المدينةِ، لمَّا عَلِم الله محبته للكعبةِ شَرَعَ للعبادِ أن تتَحول القبلة إلى الكعبةِ المُشرفةِ، بعدَ هجرتهِ ﷺ بِحوالي سِتةَ عشر شهرًا.
فكانَ يُروى أنَّهُ سَأل جبريل أن يَسأل الله له أن يُحَول القبلة الى الكعبةِ؛ فقالَ له سيدنا جبريل أنتَ أكرم على الله منّي، فَاسأله. وكانَ مِن أدبهِ وحيائهِ لمْ يتجاسر على السّؤالِ إلا أنَّه وقعَ في قلبهِ أنَّ الله سَيُحَوّله، فكانَ يترقّب الأمر، فَيُقلب وَجهَه في السَّماءِ مُنتظرًا الوحي، فأنزلَ الله (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ..) [ البقرة:144] فَتحوّلتْ القِبلة إلى الكعبةِ المُشرفةِ إلى يومِ القيامة.
فكانَت قِبلة المُؤمنين إلى أن تقومُ السَّاعة، ومنهم سيدنا عيسى بن مريم عندَ خروجهِ إلى الأرضِ، فَيُصَلي إلى الكعبةِ المُشرفةِ ويَستقبِلها، بعد أن كانَ في حياتهِ الأولى على ظهرِ الأرض يَستقبل بيتِ المقدس؛ ولكنَّه عندَ نُزولهِ الى الأرضِ يستنُّ بِسنَّةِ حبيبِ القُدوس وبشريعتهِ التي نَسخت جميع الشَّرائع؛ فَيستقبل الكعبة المُشرفةِ، ويَقتدي بحبيبِ للهِ الَّذي عَظَّمه وشَرَّفه ﷺ.
وقال: "كتاب القِبلة: باب النَّهْىِ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالإِنْسَانُ عَلَى حَاجَتِهِ" على حاجة الإنسان. وجاءَتْ في هذهِ روايات أشارَ إليها بعقد بابٍ آخر في جواز الاستقبال، فَتبَينَ من ذلك أنَّ هناك حالات يجوز فيها الاستقبال والاستدبار، وحالاتٌ لا يجوز فيها. وتَرتبَ على ذلك مذاهب عندَ الفُقهاء في الأمة:
وقدْ جَعلَ الشافعية قُيودًا للحرمةِ والجواز، فيما عدا ذلك:
فهكذا تفرّعت المذاهب على هذهِ الأحاديث التي وردت؛ فأشهرها: ماكانَ من المنعِ مطلقًا، ومن الإباحة مطلقًا، ومن التفريق بين الصَّحارى والبُنيان.
ويُحكى عن أبي إبراهيم عن ابن سيرين وهو مِن أغرب الأقوال: أنَّ التَّحريم مُختص في أهل المدينة، ومَن سامَتَهم مِمّن قِبلتهم إلى الجنوبِِ، وأمَّا ماعدا ذلك مِمّن قِبلتهم إلى الشَّرق أو إلى الغرب -فقد قالَ: ".. ولكن شَرِّقوا أو غَرِّبوا"- فلا يَضر في غيرِ هذا المَسامتة استقبالٌ ولا استدبار، وهذا ضعيف مِن غيرِ شَك كما ترى؛ لأنَّه لا دَليل على التَّخصيصِ مِن أهلِ المدينة، وإنَّما قالَ لهم: "..ولكن شَرِّقوا أو غَرِّبوا" باعتبار واقعهم، فإنَّ قِبلتهم إلى الجنوبِ، وكل مَن كانَ قِبلته إلى الجنوبِ أو الشِّمال فليُشَرِّق أو يُغَرِّب، فكلُ مَن كانَ قِبلتهُ إلى المَشرقِ أو إلى المَغربِ فليَستقبل الجنوب أو الشِّمال.
و هذا هُو مذهب الشافعية، ويكفي إرخاء ذَيلِه والاستتار بدابّةٍ وجدار وجبل.
وبِهذا يتبين لنا أنَّه ينبغي للمسلمينَ مِن حينَ بِناية بيوتهم ألا يَجعلوا الجلوس لقضاءِ الحاجةِ في استقبال القِبلةِ ولا في استدبارها وهذا هوالأولى والأليق ولأفضل.
ويُذكر عن الحنفية أنَّه لايجوز أن يستقبلوا القِبلة بفروجِهم وَلَو كانَ في موضعٍِ مُعِدٌ لِذلك وَلو كانَ في البنيانِ، فَينبغي أن تُحتَرم وَتُعَظَّم القِبلة. وكما جاءَت في روايةِ الأخرى عن أبي حنيفة: أنَّ النَّهي للتنزيهِ إلى غيرِ ذلك، مِمَّا سَمِعتَ الكلام فيهِ. فَمن الأئمة:
فجاءَتْ هذهِ المذاهب.
وذَكَرَ لَنا مَنها حديث: "مَوْلَى أبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ الله ﷺ وَهُوَ بِمِصْرَ" هذا الذي نزل ﷺ في بيته، سيدنا أبي أيوب الأنصاري "يَقُولُ: وَالله مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذِهِ الْكَرَايِيسِ"؛ يعني: الكُنُف، جَمع كِرباس أو كِرياسٍ، كَراييس أو كرابيس، ويعني الّذي يكونَ مُشرِفًا على السطح بقناة إلى الأرضِ، فإن كانَ أسفل فليسَ بكرباسٍ. ويُروى فيهِ: كرناس، وكِرياس، وكِرباس. فالكرابيسِ يُطلق على هذهِ المراحيضِ التي تكون وسَط البيوت. ويُقال لها: الكُنُف والتي في الغرفِ، يُقالُ لَها الكِرباس. يَقولُ: يعني أنَّها موضوعة على استقبالِ القِبلةِ أو استدبارها. "وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ أَوِ الْبَوْلَ، فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا بِفَرْجِهِ". والحديث في الصَّحيحين وغِيرُهما.
"فَلاَ يَسْتَقْبِلِ" للنهي "الْقِبْلَةَ" أي: الكعبة المُشرفة "وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا" سواءً كانَ ببولِ أو بغائطٍ. وذكر لنا حديث: "عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله ﷺ يَنْهَى أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةُ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ". والاستدبار كذلك مثله عند جمهور أهل العلم، وذَكرَ الرّخصة في ذلك، فكأنَّهُ أشارَ إلى قولهِ بالتفريقِ بينَ البُنيان والصَّحاري.
وهذا الجمع بينَ الرِّوايات. وعَلِمتَ ماذَكروا أنَّه:
حتى قالوا مَن أرادَ أن يقضي الحاجة في الصَّحراءِ؛ وَجِبَ عليهِ أن يَجتهد أينَ القِبلة. والأولَى: أن يأتي إلى شيءٍ يَستُرهُ حتى يَخرجَ مِن ظنِّ استقبال القِبلة، فإنه إن لم يكن بينه وبينَ القِبلة ساتر، حَرُمَ ذلك عنِد كثير مِن أهل العلم. وكان النَّهي للتحريمِ فأَثِمَ بذلك. فَيجب عليه أن يَجتهد لجهةِ القِبلة لقضاءِ الحاجة، كما يَجتهد لأداءِ الصَّلاةِ، فيرى أين القِبلة، ثُمَّ يَنحرف عنها، وإذا جمعَ بينَ ذلك وبينَ أن يكون معه ساتر مهما كان ذلك أولَى وأفضل.
وهٰكذا نَستشعر أدب الشَّريعة معنا في الأحوال كلها، واتساع المنهج الرَّباني لإقامتنا على الخيرِ والسُّنة في مختلف أطوارنا، وتقلّباتنا، حتى في قضاءِ حاجة الإنسان يكون على اتصالِ بالأدبِ، والسُّنةِ، والهدى، والصّلة بالحقِ ورسولِهِ ﷺ، لا ينقطع عن ذلك في حالٍ مِنَ الأحوال.
وأوردَ لنا حديث: "ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ أُنَاساً يَقُولُونَ: إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلاَ تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَلاَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ" وفي هذا قول من الأقوالِ الثَّمانيةِ المذكورة في المسألة. "قَالَ عَبْدُ الله: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ" أي: صَعدتُ "عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا". وفي رِواية: "على ظَهرِ بيتنا"، وفي روايةٍ: "على ظَهرِ بيتَ حفصةَ"، فأضافَ البيت إليهِ على سبيلِ المجاز لِكونَها أختُه، وأضافه لحفصةِ لِكونها البيت الّذي أسكَنها فيهِ النَّبي ﷺ. فإذا أضافه الى نفسهِ باعتبار ما آلَ إليهِ؛ لأنَّه استقرّت فيهِ حفصة بَعدَه ﷺ، وكانَ ابن عمر شقيق حفصة. "قال: فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ عَلَى لَبِنَتَيْنِ"؛ أي: لأجلِ الجلوسِ لقضاءِ الحاجة، ما يُصنع من الطّينِ لِأجل البناء؛ لَبِنَة. "مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِس" أي: مُستَدبِرًا الكعبةِ المُشرفة. "ثُمَّ قال:" للسائلِ "لَعَلَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ" جَمعُ وَرِك. فَوضعُ الوَرِك على الرّجلِ اليُمنى، وَوضع إليتيه أو إحداهما على الأرضِ، وهذا مَنهِيٌ عنه. يعني أنَّك تَسأل سُؤال الجاهل الذي ما يَعرف كيفَ يُصَلّي، وكذلك تَسأل عن هذهِ المسألة! وهي واضحة عند ابن عمر مِن عَدم الحُرمَة في الاستقبال والاستدبار، "قَالَ: قُلْتُ: لاَ أَدْرِي وَالله ". "قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي الَّذِي يَسْجُدُ وَلاَ يَرْتَفِعُ عَنْ الأَرْضِ" يعني: لا يَرفَع وُركَيهِ في السّجودِ يسجدُ مُكبًّا هكذا مِن دون أن يرفع وُركِه، "يَسْجُدُ وَهُوَ لاَصِقٌ بِالأَرْضِ". هذهِ صلاة جاهل ما يعرف!
وجاءَ في روايةِ مسلم قالَ: "كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر مسند ظهره إلى القبلة، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه من شقّي، فقال عبد الله: يقول ناسٌ" على هؤلاء الّذين تَقدَّمَ معنا في الحديث، "يقول ناس أنَّ إستقبال القِبلةِ أو إستدبارها حرامٌ، وإنّي رأيتُ رسول الله ﷺ… فكأنَ ابن عمر يقول رأى منهِ في حالِ سجودهِ شيء لم يتحققه عِندَه، فَسأله "قال: لَعَلَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ". فَفي الحديث أيضًا حُجّة لمن فرّق بينَ الاستقبال والاستدبار. ودَلَّ حديث ابن عمر على جوازِ الاستدبار وليسَ فيهِ الاستقبال.
ثُمَّ ذكرَ الأدب مع القِبلةِ من جهةِ البُصاق أنَّ ابن عمر روى: "أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ رَأَى بُصَاقاً فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ" فَتغَير وجهه ﷺ لِهذا التَّصرف الذي فيهِ إساءة أدب معَ القِبلةِ ومعَ المسجدِ، فَلمَّا رأى في جدارِ القِبلة البُصاق حكّه بِيدهِ الشَّريفة، يعني: كانَ معه عودٌ، وكانَ كثيرًا ما يَحمل بِيدهِ الشَّريفةِ مَثمِرًا مِن النَّخلِ أو شيئًا من العودِ، أو العَصا، "فَحَكَّهُ" ﷺ بِيدهِ الشَّريفةِ، وفيهِ: مُسارعة الى إزالةِ القَذر من المسجدِ، والى القُرُبات والخَيرات بالنَّفسِ، ولَم يَستدعِ أحد، ولَم يأمر أحد أن يَحك هذهِ النُّخامة، ولا يُبعدها؛ ولكن بالعودِ الّذي في يَدهِ حَكَّها ونَظَّفَ المكان، بيدهِ صَلّى الله عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم.
وجاءَ في روايةِ أبي داود: بينما رسول الله ﷺ يَخطبُ يومًا رأى النُّخامة فتأَثر فَخرجَ فَحكَّها بِيدهِ ﷺ؛ تَولَّى ذلك بنفسهِ وحَكَّها، كانَ بيدهِ عُرجون مِن عراجين النَّخل، وكانَ كثيرًا مايَمسك بيدهِ عُرجون النَّخل أو عصا وهو يمشي، صَلواتُ الله وسلامهِ عليهِ وعلى آله. وجاءَ في روايةِ النِّسائي: "رأى رسول الله ﷺ نُخامة في قِبلةِ المسجد، فَغضبَ حتى احَمرَّ وجهه، فقامَتْ إمراةٌ مِن الأنصار فَحَكَّتها، وجعلتْ مكانَها خلوقًا"؛ يعني: طِيبًا. وفي روايةِ: أنَّهُ لمَّا دخلَ مسجد غيرَ مَسجده ﷺ، فرأى النُّخامة في المِحراب، فقال: من إمام هذا المسجد؟ قالوا: فُلان، قالَ عَزَلْتُه. فقالت إمرأة لِمَ عَزلَ ﷺ زوجي عن الإمامةِ؟ فقالَ: رأى نُخامة في المسجدِ، فَعَمَدتْ الى خلوق طيب فَخلّقتْ بهِ المِحراب. فجاءَ ﷺ إلى المسجد قالَ: من فعلَ هذا؟ قالوا: إمراةُ الإمام، قالَ: قدْ وَهَبتُ ذَنبَه لامرأتِهِ ورَدَدتُه إلى الإمامةِ. يعني: يَنتبه بعدَها ولا يبصق في قِبلةِ المسجدِ، ولا إلى جهةِ القِبلة.
وجاءَ عندَ الإمام البُخاري: "أنَّ رسول الله ﷺ رأى نُخامةً في جدارِ المسجدِ فتناولَ حصاة فَحَكَّها" بيدهِ. والرِّوايات تدل على تعدّدِ الواقعة. وفي روايةِ أبي داود: أتَينا جابرًا وهو في المسجدِ؛ فقالَ: "أتانا رسولُ الله ﷺ في مسجدِنا هذا وفي يدهِ عُرجون ابن طاب" من نخلٍ يُسمَّى نخل ابن طاب فَنظَرَ فرأى في قِبلةِ المسجدِ نُخامة فأقبلَ عليها فَحَتّها بالعُرجون، ثُمَّ قالَ أروني عبيرًا، فقامَ فتى من الحي يشتدّ لأهله، فجاء بخلوقٍ في راحَتِهِ فأخذه ﷺ فَجعلَه على رأسِ العُرجون، ثُمَّ لَطَّخَ بهِ على أثرِ النُّخامة. وفيهِ اعتِناؤه ﷺ بهذهِ النَّظافة، والتَّكريم للقِبلةِ المُشرفة وللمساجدِ، واعتِناؤهِ بذلك ﷺ.
"ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلاَ يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ"؛ يعني: إلى جهةِ القِبلةِ حال الصَّلاة. وَخَصَّها بالذَكرِ حالَ الصَّلاةِ لأنَّه حينَئذٍ يكون مستقبل القِبلةِ في أحوالهُ كُلَّها في الصَلاةِ. "فَإِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى" أي: تَوجّهُه الى القِبلةِ مُفضٍ لهُ بالقصدِ منه الى امتثالِ أمر الله ِفيكون لهُ عنايةٌ مِن الله في امتثال هذا الأمر.
وجاءَ أيضًا حديث السَّيدة "عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ رَأَى فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ بُصَاقاً أَوْ مُخَاطاً أَوْ نُخَامَةً فَحَكَّهُ" وهكذا جاءَنا في الصحيحين عنهُ صَلَّى الله عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلم.
الله يُكرِمنا بحُسنِ الأدب، ويرفَعُنا إلى عَلِيِّ الرُتب، ويجعلنا ممّن استقام على السُّنة، ولكلِ مُحرّم ومَنهِيّ عنه ومكروه اجتنب، ويَعيذنا من الآفاتِ والعاهاتِ وموجبات العطب في الدّنيا والاخرةِ، وأصلح شؤونَنا الباطنة والظاهرة، بِما أصلَحَ بهِ شؤون الصَّالحين، بسِرِّ الفاتحة الى حضرةِ النَّبي ﷺ.
25 ربيع الثاني 1442