(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الاستسقاء، باب العمل في الاستسقاء، وباب ما جاء في الاستسقاء، و باب الاستمطار بالنجوم.
فجر الثلاثاء 23 ربيع الثاني 1442هـ.
باب الْعَمَلِ فِي الاِسْتِسْقَاء
513 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الْمَازِنِيَّ يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.
514 - قَالَ يَحْيَى : وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ كَمْ هِيَ؟ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ، وَلَكِنْ يَبْدَأُ الإِمَامُ بِالصَّلاَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَخْطُبُ قَائِماً وَيَدْعُو، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيُحَوِّلُ رِدَاءَهُ حِينَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَجْهَرُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِالْقِرَاءَةِ، وَإِذَا حَوَّلَ رِدَاءَهُ، جَعَلَ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، وَالَّذِي عَلَى شِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ، وَيُحَوِّلُ النَّاسُ أَرْدِيَتَهُمْ إِذَا حَوَّلَ الإِمَامُ رِدَاءَهُ، وَيَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ وَهُمْ قُعُودٌ.
باب مَا جَاءَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ
515 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ: "اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وَبَهِيمَتَكَ، وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ، وَأَحْي بَلَدَكَ الْمَيِّتَ".
516 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُل، فَادْعُ اللَّهَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ. قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اللَّهُمَّ ظُهُورَ الْجِبَالِ وَالآكَامِ، وَبُطُونَ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتَ الشَّجَرِ". قَالَ: فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ.
517 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ فَاتَتْهُ صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ، وَأَدْرَكَ الْخُطْبَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي بَيْتِهِ إِذَا رَجَعَ، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِنْ ذَلِكَ فِي سَعَةٍ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ أَوْ تَرَكَ.
باب الاِسْتِمْطَارِ بِالنُّجُومِ
518 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".
519 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: "إِذَا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ".
520 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ وَقَدْ مُطِرَ النَّاسُ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْفَتْحِ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر:2].
الحمد لله مُكْرِمِنَا بشريعته العظيمة، وبيان أحكامها القويمة على لسان عبده المصطفى محمّد الهادي إلى الطرق المستقيمة. اللهم أدِم صلواتك على المجتبى المختار سيدنا محمد، وآله وأصحابه وأتباعه بالصدق إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك ياأرحم الراحمين.
وبعدُ،
يذكر الإمام مالك بن أنس -رضي الله تعالى عنه، إمام دار الهجرة- في الموطأ، ذكر الأحاديث المتعلقة بالاستسقاء وصلاة الاستسقاء، والاستسقاء بالدعاء والتضرع إلى المولى جل جلاله وتعالى في علاه،
وجاء أنها شُرعت صلاة الاستسقاء في رمضان سنة ست من الهجرة.
فهذه الكيفيات للاستسقاء؛ فأما الأول والثاني بالدعاء مطلقًا أو خلف الصلوات، أو في القنوت أو في خطبة الجمعة، فَمُجْمَع عليهما هذان القسمان، و بالكيفية الثالثة: وهي أن تصلي صلاة خاصة وقتها مثل وقت صلاة العيد، من بعد طلوع الشمس إلى الزوال؛ وهذا أفضل أوقاتها،
فالراجح عند الشافعية أنه لا وقت لها وتُصلّى في أي وقتٍ كان. وجاء استسقاءه في الخطبة فهو بعد الزوال في الجمعة؛ ولكن ليست تلك صلاة مخصوصة، إنما الصلاة المعهودة هي التي تكلموا عن وقتها، ولكن الأفضل فيها عند الكل أن يكون وقت الخروج إلى صلاة العيد.
يقول المالكية أن صلاة الاستسقاء تكون على مراتب:
وذكر لنا الحديث الشريف "سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الْمَازِنِيَّ يَقُولُ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُصَلَّى"؛ فهذا يكون مثل العيد الخروج فيه إلى المصلى، بخلاف الخسوف والكسوف فإنما تُصلى بالمسجد ولا يخرج للمصلى، أما صلاة الاستسقاء فيخرج إلى المصلى، كما يخرج إلى العيد. قال: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُصَلَّى": وذلك في شهر رمضان سنة ستٍ من الهجرة، كما جاء في رواية ابن حبان، وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، هذا التاريخ لصلاة الاستسقاء؛ فلهذا قلنا إنها شُرعت في السنة السادسة في رمضان، وهو الذي خرج فيه ﷺ فصلى بالناس.
"خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى"، جاء في رواية البخاري: "وصَلَّى رَكْعَتَيْنِ".
"فَاسْتَسْقَى" قلنا في رواية البخاري: "وصَلَّى رَكْعَتَيْنِ". والكيفيات الثلاثٌ التي ذكرناها موجودة في الأحاديث، فمنها الخروج إلى المصلى الكبير هذا، ومنها الاستسقاء في الدعاء في خطبة الجمعة ونحوها، وفي الحديث الصحيح أنه جاءه رجلًا وهو يخطب و قال: استسقِ لنا يا رسول الله انقطع السبيل… وذكر الأزمة والشدة التي نزلت، وهلكت المواشي فَادعُ لنا يارسول الله فدعا ﷺ، ورفع يديه ولم يكن هناك سحاب فإذا قزعة اقبلت؛ قطعة من السحاب فانتشرت فسكبت المياه وهم في الجمعة حتى خرجوا وأودية المدينة تسيل، وخرج ﷺ ووجد الصحابة على أبواب المسجد ينظرون السيل، فقال: "لو رأى هذا أبو طالب" قال أبو بكر كأنك تعني قوله:
وأبيَضَ يُسْتسقَى الغَمامُ بوَجهِه *** ثِمالُ اليَتامى عِصْمةٌ للأرامِلِ
يصف النبي ﷺ . وكان من أيام طفولته يستسقي به أهل مكة؛ فيسقيهم الله تبارك وتعالى. كما استسقى به بنو سعد؛ حليمة وقومها أيام رِضَاعَهُ، فسقاهم الله تبارك وتعالى.
قال: فاستمرت المطر إلى الجمعة الثانية، فقام الأعرابي نفسه أو غيره: يارسول الله، هلكت المواشي وتقطعت السبل بكثرة المطر، فتبسّم ﷺ ثم رفع يديه يقول: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا ولا علينا"، فجعل لا يشير إلى ناحية إلا تفرّق السحاب عنها، فتفرّقت السحاب فأشرقت الشمس على المدينة كأنها جوبة، وكانت الأمطار حوليها في الجبال، والمدينة ارتفع عنها المطر بدعائه ﷺ.
وهكذا الحديث الذي أشار إليه الإمام مالك جاء في الصحيحين وغيرهما، قال: "وَسُئِلَ مَالِكٌ" وقوله: "حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ"؛ ففيه أنه تتميز الدعاء في الاستسقاء: أنه يستقبل الإمام الخطيب القبلة في وقت الدعاء في الثانية، يستدبر الناس ويدعون ويحوّل فيها رداءه، لذلك قال: "حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ"، "وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيُحَوِّلُ رِدَاءَهُ حِينَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ".
وجاء في بعض الروايات عن رداءه عليه الصلاة والسلام: أنه كان طوله ستة أذرع في عرض ثلاثة أذرع. وجاء في رواية: أن طوله أربعة أذرع ونصف، في عرض ذراعين. وفيه وصفٌ لأرديته، فاعتنى الصحابة بتَبَيّن حاله وشأنه بدقة لم تُعهد عن أحد، ولم يُعرف عن أحد ضبط شأنه وحاله بهذا الضبط، كما كان من الصحابة للنبي ﷺ، وحتى امتدّوا إلى ذرع أكسيته وردائه، وما كان يستعمله، فضبطوا كم كان طولها وكم كان عَرضها، من شغف قلوبهم بمتابعته والاقتداء به ﷺ.
"وَيُحَوِّلُ رِدَاءَهُ"، وجاء عن طول إزاره أنه أربعة أذرع و شبرين، في ذراعين وشبر. وأنه كان يلبس بعض الأُزُرِ والأردية للجمعة وَللعيدين. وفي هذا إثبات سنيّة تحويل الأردية تفاؤلًا أن يحول الله الحال إلى أحسن حال فَيحوّل رداءه الذي كان على اليمين يردّه على اليسار، والذي على اليسار يرده إلى اليمين، والذي كان في الأمام يردّه خلف، والذي خلف يردّه أمام؛ يحول الرداء تفاؤلاً بتحويل الحال، أن يحول الله الحال من القحط إلى السقيا، وإلى الخِصِب فكان ذلك تفاؤلًا. وكان يعجبه الفأل الحسن.
"حِينَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ" أي: في دعائه في الخطبة الثانية ﷺ. وجاء عند البخاري عن عبدالله بن زيد: "رَأَيْتُ النبيَّ ﷺ يَومَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، قالَ: فَحَوَّلَ إلى النَّاسِ ظَهْرَهُ، واسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ يَدْعُو، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ" ﷺ. "وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ كَمْ هِيَ؟ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ" وهكذا كل الأئمة الثلاثة القائلين بصلاة الاستسقاء قالوا أنها ركعتان، قال: "وَلَكِنْ يَبْدَأُ الإِمَامُ بِالصَّلاَةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ". وهكذا أكثر الأئمة على ذلك.
وبذلك قال المالكية والشافعية أنه يصلي أولاً ثم يخطب.
قال: "فَيُصَلِّي" بهم الإمام "رَكْعَتَيْنِ".
"ثُمَّ يَخْطُبُ قَائِماً"؛ يخطب خطبتين، وقيل خطبة واحدة والمعتمد: أنها خطبتين، "وَيَدْعُو" :قائمًا كونه في خشوع وإنابة، والقيام شعار الاعتناء والاهتمام، والدعاء أهم أعمال الاستسقاء قال: "وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ"؛ أي: أثناء الخطبة في الدعاء، "وَيُحَوِّلُ رِدَاءَهُ حِينَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَجْهَرُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِالْقِرَاءَةِ" كلهم الذين قالوا بالصلاة من الأئمة الثلاثة قالوا يجهر؛ فَصلاة الاستسقاء عندهم جهرية. وجاء في حديث سيدنا عبد الله بن زيد من دون بيان صفة الصلاة، ولا ماذا يقرأ فيها. ولكن في الدارقطني عن ابنِ عباسٍ: "أنه يكبرُ فيهما أي ركعتي صلاةِ الاستسقاءِ سبعًا وخمسًا كالعيدِ ، وأنه يقرأُ فيهما بسبحِ وهل أتاك" وجاء في كتب السنن الأربعة: "ثمَّ صلَّى رَكْعتينِ كما يصلِّي في العَيدِ".
قال: "وَإِذَا حَوَّلَ" يعني: الإمام "رِدَاءَهُ، جَعَلَ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، وَالَّذِي عَلَى شِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ، وَيُحَوِّلُ النَّاسُ أَرْدِيَتَهُمْ إِذَا حَوَّلَ الإِمَامُ رِدَاءَهُ".
قال:"وَيَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ وَهُمْ قُعُودٌ" يعني: المأمومون والإمام قائم والناس يدعون جلوس.
ثم ذكر لنا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ:" أي: في دعائه، "اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وَبَهِيمَتَكَ" كل ذات أربع من الدواب يقال له: بهيمة، كل حيوان لا يميّز من الحشرات وغيرها. في رواية عند ابن ماجة: "لولَا البهائمُ لمْ يُمْطَرُوا" ولكن يرحمهم الحق -تبارك وتعالى-. ولهذا قال: يستحب أن يخرجوا معهم بحيواناتهم حوالي المصلى؛ حيث يصلون استرحامًا ويخرجوا بالأطفال والنساء، ويضجوا إلى الله -تبارك وتعالى- و ليرحمهم الله بهم. "وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ": أي: ابسط رحمتك أي المطر ومنافعه (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ…) [الشورى:28] على عبادك، "وَأَحْي بَلَدَكَ الْمَيِّتَ" (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ) [ق:11].
وجاء أيضًا عن أنس بن مالك "أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ" وهذا كيفية الاستسقاء بالدعاء في خطبة الجمعة "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُل"، في رواية الصحيحين: أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله ﷺ قائم يخطب فاستقبله… وفي رواية عند أحمد يقول: "إذ قال بعضُ أهلِ المسجِدِ: يا رسولَ اللهِ، هلَكَتِ المَواشي"؛ لعدم وجود ما يتعيشوا به الأقوات، بسبب انقطاع المطر عنهم "وتقطعت السبل": أي الطرق لضعف الإبل عن السفر لقلة القوت ولا تجد في طريقها الكلأ. وفي رواية: "قَحَطَ المَطَرُ، وَاحْمَرَّ الشَّجَرُ.."، "وأمحلَت الأرض…" وجاء في الدلائل للإمام البيهقي عن أنس قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ قال: "يا رسولَ اللهِ، أتيناك وما لنا بعيرٌ يئِطُّ ولا صبيٌّ يصطبِحُ ، وأنشده:
أتيناك والعذراءُ يَدمي لَبانُها *** وقد شُغِلت أمُّ الصَّبيِّ عن الطِّفلِ
وألقَى بكفَّيْه الفتَى استكانةً *** من الجوعِ ضعفًا ما يمُرُّ ولا يُحلي
فلا شيءَ ممَّا يأكلُ النَّاسُ عندنا *** سوَى الحنظلِ العامي والعلقَمِ الفَشْلِ
وليس لنا إلَّا إليك فرارُنا *** وأين فرارُ النَّاسِ إلَّا إلى الرُّسْلِ
فدعا رسول الله ﷺ وسقاهم الله الغيث. هكذا رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة عن سيدنا أنس أن هذا الأعرابي جاء يستسقي رسول الله ﷺ لبلده؛ وذكر له حالة الأطفال والصبيان والناس، والشدة التي هم فيها، فرقّ ﷺ، ورفع يديه يدعو لهم فسقاهم الله تعالى.
يقول:
أتيناك والعذراءُ يَدمي لَبانُها *** وقد شُغِلت أمُّ الصَّبيِّ عن الطِّفلِ
لشدّة القحط.
وألقَى بكفَّيْه الفتَى استكانةً *** من الجوعِ ضعفًا ما يمُرُّ ولا يُحلي
فلا شيءَ ممَّا يأكلُ النَّاسُ عندنا *** سوَى الحنظلِ العامي والعلهز الفسلِ
وليس لنا إلَّا إليك فرارُنا *** وأين فرارُ النَّاسِ إلَّا إلى الرُّسْلِ
قال: "فَادْعُ اللَّهَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ"، هذا في الحديث الذي رواه مالك عن الداخل إليه وهو في الخطبة "فَادْعُ اللَّهَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ". جاء في رواية "فَرَفَعَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ، ثُمَّ قالَ: "اللَّهُمَّ أغِثْنَا، اللَّهُمَّ أغِثْنَا، اللَّهُمَّ أغِثْنَا"، ورفع الناس أيديهم، قال: "فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ" قال سيدنا أنس: "ما نَرَى في السَّمَاءِ مِن سَحَابٍ، ولَا قَزَعَةً وما بيْنَنَا وبيْنَ سَلْعٍ مِن بَيْتٍ ولَا دَارٍ، قالَ: فَطَلَعَتْ مِن ورَائِهِ" من وراء جبل سلع "سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أمْطَرَتْ، فلا واللَّهِ، ما رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا" ستة أيام ما رأينا الشمس. قال: "حتى أهم الشاب القريب الدار الرجوع إلى أهله" من كثرة الأمطار،
قال في رواية البخاري ثم دخل رجل من الباب في الجمعة المقبلة أو من ذلك الباب الذي دخل منه الأعرابي أو القائل الأول السائل الأول، "فَقَال:َ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، وَهَلَكَتِ الْمَوَاشِي" قال ﷺ "اللَّهُمَّ ظُهُورَ الْجِبَالِ" يعني: أنزل المطر على ظهور الجبال، "وَالآكَامِ": جمع أكمَة التراب المجتمع يُقال له أكمة، أكبر من الكدية، "وَبُطُونَ الأَوْدِيَةِ" جمع وادي ما يجتمع فيه الماء "وَمَنَابِتَ الشَّجَر" جمع منبت، قَالَ: فَانْجَابَتْ عَنِ الْمَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ" يعني: خرجت عنها كما يخرج الثوب عن لابسه.
جاء في رواية الإمام مسلم يقول: "فرأيتُ السَّحابَ يَتَمَزَّقُ كأنه المُلاءُ حين تُطْوَى" الملاء: جمع ملاءة يعني ثوب معروف، "كأنه المُلاءُ حين تُطْوَى" فما هو إلا أن تكلم ﷺ تمزق السحاب حتى ما نرى منه شيئًا في المدينة. جاء في رواية البخاري يقول: "فلقد رَأيتُ السَّحابَ يتقَطَّعُ يمينًا وشَمالًا ويُمطَرون" أهل النواحي "ولا يُمطَرُ أهلُ المدينةِ".
"قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ فَاتَتْهُ صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ، وَأَدْرَكَ الْخُطْبَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي بَيْتِهِ إِذَا رَجَعَ، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ مِنْ ذَلِكَ فِي سَعَةٍ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ أَوْ تَرَكَ"؛ فهي من النوافل وشأن النوافل هكذا. والاستمطار بالنجوم ممنوع، ليس للنجوم أثر في إنزال المطر، ولا في دفعه؛ وإنما قد جعل الله في البلدان المختلفة أحيانًا مواسم للأَمطار، تأتي في وقتٍ مخصوص وأنجمٍ مخصوص، من دون أن يكون في ذلك تأثيرٌ للنجوم ولا لغيرها، ولكن الحق تعالى يُمْطِرَهُمْ في وقت حاجتهم إلى المطر، وقد تؤخر عقوبة للناس وقد يُجمع ما تأخر لمدة فيُرسل دفعة وحدة، فيكون عقوبة والعياذ بالله -تبارك وتعالى- الله يسقينا الغيث مع اللطف والعافية والرحمة.
وأورد لنا الحديث: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ" يعني: على إثر مطر "كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ" ويسمون المطر سماء؛ "عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ" يعني: مطر، "فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ" بوجهه "فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ" في رواية النسائي: "ألَم تَسمَعوا ماذا قالَ ربُّكمُ اللَّيلةَ؟"، "قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ" حسن الأدب من الصحابة قال النبي ﷺ قال ربكم عز وجل: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ" يعني:نَجْمِ أو كوكب، النوء هو النجم أو الكوكب، "بنوء كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ"، والحديث في الصحيحين وغيرهما، فلا مطر إلا من الله، ولا ينقطع المطر إلا بأمر الله جلّ جلاله وتعالى في علاه، وآمنّا بالله وكفرنا بالكواكب.
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر له أنه مطرهم بنوء كذا فذلك كفر؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيء، ومن قال بنوء كذا مُطِرْنَا على معنى مُطِرْنَا في وقت كذا فلا يكون كفرًا، وغيره من الكلام أحب إليه". حسمًا للمادة، لا ينزل الغيث إلا الله.
وذكر لنا مالك: أنه "ﷺ كَانَ يَقُولُ: إِذَا أَنْشَأَتْ" يعني: ظهرت سحابة بحرية من ناحية البحر؛ يعني: غربي المدينة، "ثُمَّ تَشَاءَمَتْ" ذهبت إلى الشمال، "ثُمَّ تَشَاءَمَتْ" ذهبت إلى جهة الشام، "فَتِلْكَ" أي: السحابة، "عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ" ويُروى: "غديقة"؛ يعني: ذات غدق؛ قال تعالى: (..لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) [الجن:16] أي: كثيرًا، معنى غديقة أو غُديقة: كثيرة الماء.
وهكذا ذكر لهم سُنّة من سُنن الله -تبارك وتعالى- فيما أراده أنه إذا طلعت السحابة من هذه الناحية البحرية، واستدارت إلى ناحية الشام؛ فيكون منه مطر غزير وهكذا، لا أثر للاتجاه ولا للمنطقة، ولكن الله يُنشئه كل ذلك ويُدبّره، كما هو عندنا إذا نشأت من جهة الشرق أو من جهة نجد كذلك أقبلت و أمطرت، وإن كانت نشأت من جهة القبلية، الغربية عندنا أو جهة الجنوبية تذهب ولا يصيب المطر أهل المناطق هذه البلدان، وهذا من باب تدبير الله لكونه وحكمته فقط، ليس للجهات ولا لغيرها تأثير في المطر، ويكون ذلك في الغالب، وقد يتخلّف.
"عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ وَقَدْ مُطِرَ النَّاسُ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْفَتْحِ" يعني: فتح الله وجوده وكرمه، خلو حقكم ذي الكواكب ليس لها أثر، يعني: بفضل الله وبرحمته كما أخبرﷺ، فتح ربنا "ويتلو (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ..) [فاطر:2]"، والله أعلم.
اكتبنا في ديوان الصادقين الموفقين، الهُداة المهتدين، ويسقي قلوبنا ويسقي جدوبنا، ويرفع القحط عنا ويرعانا في الحسّ والمعنى، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
25 ربيع الثاني 1442