(231)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، متابعة باب العمل في الوضوء.
فجر الثلاثاء 9 ذي القعدة 1441هـ.
باب الْعَمَلِ فِي الْوُضُوءِ
35-وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلهِ وَصَحْبِهِ وَسلّمَ قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِينْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ".
36-وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلهِ وَصَحْبِهِ وَسلّمَ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ".
37-قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً رحمه الله يَقُولُ في الرَّجُلِ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْثِرُ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بذلك.
38-وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، قَدْ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلهِ وَصَحْبِهِ وَسلّمَ يَوْمَ مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ".
39-وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَحْلاَءَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَاهُ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ، سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ لِمَا تَحْتَ إِزَارِهِ.
40-قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ رضي الله عنه، عَنْ رَجُلٍ تَوَضَّأَ فَنَسِيَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ أَوْغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ وَجْهَهُ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي غَسَلَ وَجْهَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ فَلْيُمَضْمِضْ وَلاَ يُعِدْ غَسْلَ وَجْهِهِ، وَأَمَّا الَّذِي غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ فَلْيَغْسِلْ وَجْهَهُ ثُمَّ لِيُعِدْ غَسْلَ ذِرَاعَيْهِ، حَتَّى يَكُونَ غَسْلُهُمَا بَعْدَ وَجْهِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَكَانِهِ، أَوْ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ.
41- قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ رحمه الله عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْثِرَ حَتَّى صَلَّى، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ صَلاَتَهُ وَلْيُمَضْمِضْ وَيَسْتَنْثِرْ مَا يَسْتَقْبِلُ إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ.
الحمد لله مُكرمنا ببيان الأحكام على لسان خير الأنام، سيدنا المصطفى محمّد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه افضل صلاةٍ وسلام، وعلى آله وصحبه الكرام، وعلى من والاهم في الله تبارك وتعالى وعلى منهاجهم استقام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والرسل أهل المراتب العظام، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين .
يواصل الشيخ -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلّقة بالعمل في الوضوء، من كتاب الطهارة فيقول: وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلهِ وَصَحْبِهِ وَسلّمَ قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً.." وهذا هو الاستنشاق، "ثم لينثِر" بإخراج الماء من أنفهِ، وهذا الذي اشترط فيه المالكية أن يرفع الماء في الأنف بالنفَس، ويُخرجُه بنَفَسه، وأن يضع إصبعيه على أنفه من اليد اليسرى؛ السبابة والإبهام، فإن لم يخرج الماء بنَفَسه، وتركه يخرج من نفسه أو لم يضع إصبعيه لم يكمل استنثاره عندهم ولا يُعدّ استنثارًا. فهذا الاستنثار قد سبق معنا من أهل العلم من أوجبه دون المضمضة.
يقول: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ.." ففيه التأكيد على الاستنشاق والاستنثار في الوضوء، وفيه بيان "فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِينْثِرْ" الاستنثار، فجعل الماء في الأنف هو الاستنشاق، وإخراجه منه هو الاستنثار "وَمَنِ اسْتَجْمَرَ" استجمر: أخذ الحجار الصغار، المراد: استنجى "وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ" لأن الاستنجاء يكون بصغار الأحجار؛ سمّوه استجمارًا أخذا للجمار وهو صغير الحجر، والمقصود:
وكما يتوفر الآن للناس هذه المناديل، فينبغي أن يستعملها قبل استعمال الماء فيجمع -للفضيلة- بين الحجر والماء.
"وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ" فإذا حصل الانقاء بأربع مسحاتٍ فينبغي أن يزيد الخامسة لأجل الوتر، ومن حصل الانقاء عنده بثلاثٍ اقتصر عليها أو بخمسٍ اقتصر عليها أو بست مسحات فيُسنّ أن يزيد واحدة من أجل الوتر أو بسبع يقتصر عليها هكذا.. ومن استجمر فليوتر، فالانقاء واجب، والإيتار مستحب.
ويذكر لنا حديث: "أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ" وفي السابق قال: فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِينْثِرْ" وفي هذا قال: "فَلْيَسْتَنْثِرْ" ومن ضرورته أن يكون قد وضع الماء في أنفه، حتى يستنثر وكيف يستنثر لا شيء؟ يستنثر الهواء؟! وإنما يستنثر يُخرج الماء من أنفه بعد وضعه فيه ورفعه بواسطة النَّفَس. "..وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ" كما تقدم في الحديث الماضي.
قال أيضًا: "قالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكاً رحمه الله يَقُولُ في الرَّجُلِ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْثِرُ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بذلك" وذلك لاختلافهم في كيفية المضمضة والاستنشاق، وكما اختلفوا في حكمهما. فعلمنا ما قال المالكية والشافعية والحنابلة: أنه يُستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمناه، وهذه الرواية عن الإمام أحمد كما علمنا عنه روايتين. يتمضمض ويستنشق باليد اليمنى، والاستنثار باليد اليسرى، كما جاء في حديث سيدنا عثمان: أفرَغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض، واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات… ثم قال: قال رسول الله ﷺ: "من توضأ نحو وُضوئي هذا ثم صلّى ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه غُفر له ما تقدّم من ذنبه".
وجاء أيضًا في حديث سيدنا علي: "..أدخل يده اليمنى في الإناء فملأ فمه فتمضمض واستنشق واستنثر بيده اليسرى، ففعل ذلك ثلاثًا"
والكل واسع حتى ترتّب على ذلك الكيفيات للمضمضة والاستنشاق.
يروون في ذلك عن سيدنا الحسن أنّه استنثر مرة باليمنى، فقال له بعضهم: أتركت السُنّة؟ قال كيف أجهل السنة خرجت من بيوتنا عن النبي ﷺ قال: "اليمين للوجه واليسار للمقعد" فجعل ما يتعلق بالوجه كله باليمين، فهذا وجهٌ ولكن سمعت ماقرّر الأئمة من أن:
وهكذا يقول الحنفية والمالكية: أن الفصل بين المضمضة والاستنشاق أفضل. بينما يقول الشافعية والحنابلة: الجمع بين المضمضة والاستنشاق بالغرفة الواحدة أفضل، وهو الوصل؛ وذلك بأن يأخذ غرفةً بيده اليمنى فيتمضمض ببعضها ويستنشق بالباقي ويستنثر باليسرى يفعل ذلك ثلاث مرات. كما أنه في الوصل أيضًا يمكن أن يأخذ غرفةً بكفّيه معًا فيتمضمض ويستنشق، ويتمضمض ويستنشق، ويتمضمض ويستنشق كلّه من غرفة واحدة، ولكن هذا في الاستنشاق الأول والثاني لا يستطيع أن يستعمل أصابعه من أجل الاستنثار إلا في الثالثة، فيكتفي باستعمال إصبعين للأنف في الثالثة.
كذلك أن يأخذ الغرفة باليدين أيضًا معًا فيتمضمض ثلاثًا ثم يستنشق ثلاثًا
هذه كيفيات الفصل الذي فضّلهُ الحنفية والمالكية قالوا: أنه الأفضل، وقال الشافعية و الحنابلة: الوصل أفضل، وقد جاءت الروايات بأنه أخذ بكفّه اليمين غَرفة فتمضمض منها واستنشق بالباقي يفعل ذلك ثلاث مرات.
إنّما لاحظ الحنفية والمالكية أنهما عضوان، فجعلوهما كل عضو مستقل كبقية الأعضاء. كما نصّ الشافعية على أنه لا يمسح أذنيه من بقايا مسح الرأس؛ فلا يُعد ذلك أداءً لسُنّة مسح الأذنين، بل يأخذ غَرْفَة أخرى وماءً آخر لمَسح أذنيه غير الماء الذي مسح به رأسه، ولهذا قالوا: أن يمسح أذنيه بماءٍ جديد، لأنهما عضوان؛ عضو يختلف ليس من الرأس.
وعلمت ما جاء في ذلك من الرواية كما ما سئل الإمام أحمد بن حنبل وفضّل الوصل وذكر حديث سيدنا عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما. ويروى في حديث طلحة بن مصرّف عن أبيه عن جده: أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق، وقالوا: لأن الفصل أبلغُ في النظافة.
ويذكر لنا: "أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ قَدْ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ" أخته، أمّ المؤمنين "زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ" أي: طلب ماءً ليتوضأ "فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ" أتمّه، أكمَله أحسِنه، فإِسباغ الشيء إتمامه وإكماله والإتيان به على الوجه الأكمل الأفضل. "أَسْبِغِ الْوُضُوءَ" وقد عدّ ﷺ إسباغ الوضوء مما يرفع الله به الدرجات، ويكفّر به الخطايا، "إسباغ الوضوء على المكاره"، المكاره؛ وقت المشقة، وقت أن يكون عنده مرض، يكون عنده ضعف ويسبغ، وقت أن يكون برد والماء بارد فيسبغ، وقت أن يكون فيه أثر جراحة ويسبغ. "على المكاره": على المشقات، وقت ما يشق؛ فإسباغ الوضوء على المكاره مما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، وسماه النبي من الرباط؛ أي: المرابطة في سبيل الله تبارك وتعالى. "ألا أدلُّكُم على ما يَمحو اللَّهُ بهِ الذُّنوبَ ويرفعُ الدَّرجاتِ قالوا بلى يا رسولَ اللَّهِ قال إِسباغُ الوضوءِ على المَكارِه وَكثرةُ الخُطا إلى المسجِدِ وانتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ فذلِكَم الرِّباطُ فذلِكَم الرِّباطُ فذلِكَم الرِّباطُ" ﷺ.
"أَسْبِغِ الْوُضُوءَ" يعني: أبلغه مواضعه واستوفِ حقّه، أعطِ كل عضو حقه، تقول السيدة عائشة، وفي هذا الاهتمام بالآداب والأخلاق، ونشر العلم، والتذكير بالسنن في الأحوال، لمّا دعى أخوها بماء، قالت: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ" والأعقاب: مؤخرة الرجل يغفل عنها الماء، فإذا لم يصل إليها ماء الوضوء في الدنيا وبقيت بلا غسل تعلّقت بها النار يوم القيامة، فيكون عدم وصول ماء الوضوء إلى هذا المكان جاذبية بينه وبين النار، يلصق بالنار بسبب أنه ما أجريَ عليه ماء الوضوء في الدنيا.
وقد قال ذلك -كما جاء في البخاري- وهم في سفرٍ ولكن السيدة عائشة إما كانت معهم في ذلك السفر أو سمعته يكرر هذا أو يقوله في الحضر. ففي السفر رأى بعض أصحابه بعد ما توضؤوا أعقابهم بيضاء تلوح لم يصلها الماء، نادى بأعلى صوته: "ويل للأعْقَابِ من النار". ولهذا قالت سيدتنا عائشة: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ" فنبّهته على الإكمال والاستيعاب، وهكذا التواصي بين الناس. فالمراد بمؤخر الرجل: الأعقاب التي لا يصل إليها ماء الوضوء.
ومن المعلوم أن غسل الرجلين من فروض الوضوء وهذا واضح، ولم يعتبروا قول الشاذّين والمخالفين بأن الواجب في الرجلين المسح، فكيف يقول: "ويلٌ للأعقاب من النار"؟ بل الواجب استيعابها بالغسل كالوجه واليدين. وجاءت القراءات عنه ﷺ: (وأرجلَكُم..) (وأرجُلِكُم إِلَى الْكَعْبَيْنِ..) وإن كان جاءت: ( .. وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ..) [المائدة:6] فإن هذا يُستعمل في لغة العرب استعمال ما جاور من الحركات في الكلمات وليس المراد به العطف عليه في المسح لما بيّنت السُنّة ذلك. "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ".. وقال للذي رأى على قدمه مثل الظفر لم يمسّه الماء: "ارجع فاحسِن وضوءك" فواجبٌ أن يستوعب جميع ما بين أصابع الرجلين إلى الكعبين بسيلان الماء عليه.
وعلى هذا يتأكد تفقّد العقب من كل متوضئ فإنه محل قد يغفل عنه الماء ويتجافى عنه ويخرج يمنى ويسرى ولا يصل إلى العقب، فيُدلك العضو كله ويبالغ في العقب خصوصًا وقت الشتاء. ثم ذكر الاستنجاء بالماء في حديث سيدنا عمر يقول: "أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَتَوَضَّأُ.." يعني: ينبغي أن يتوضأ المتوضئ المراد بها: المستنجي "بِالْمَاءِ لِمَا تَحْتَ إِزَارِهِ"، أي: وهو الاستنجاء، فاستعمال الماء فيه أفضل ولم يكن ذلك مشتهرًا بين العرب، وكانوا يكتفون باستعمال الأحجار. وكان بعض يهود من خلال ما وَرثوا ممّن قبلهم يستعملون الماء، فتعلم ذلك آل قباء منهم، فكان جماعة من آل قباء يستنجون بالماء، وكان عامة العرب يجعلون ذلك استنجاء النساء، ما يستعملونه الرجال. فلما جاء الإسلام جاء ﷺ بالشريعة ندب لهم أن يستعملوا الماء، فأوجب عليهم الإنقاء بالإستنجاء بأي جامد، قالع للنجاسة، غير محترم. وسنّ لهم أن يستعملوا الماء مع الحجر، وذلك هو الأفضل. فيه حديث سيدنا عمر قال: "يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ" يعنى: يستنجي بالماء، فينبغي ويُسنّ أن يقدّم الحجر ثم يُتبعه بالاستنجاء بالماء فإنه يزيل العين والأثر.
وذكّرنا بحديث توضأ فنسيَ فغسل وجهه.. "سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَوَضَّأَ، فَنَسِيَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ، أَوْ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ" يعني: يديه "قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ وَجْهَهُ، فَقَالَ -سيدنا مالك-: أَمَّا الَّذِي غَسَلَ وَجْهَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ، فَلْيُمَضْمِضْ.." فكأنه عنده لا يضر الترتيب بين المضمضة وغسل الوجه "وَلاَ يُعِدْ غَسْلَ وَجْهِهِ، وَأَمَّا الَّذِي غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ،.." هنا غسل اليدين قبل الوجه فهذا يختلف ليس كمثل ذاك؛ فهذه فروض يجب الترتيب بينها عند الإمام مالك، قال: "وَأَمَّا الَّذِي غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ، فَلْيَغْسِلْ وَجْهَهُ" ثاني مرّة "ثُمَّ لِيُعِدْ غَسْلَ ذِرَاعَيْهِ" لا يُعتد بغسل اليدين قبل غسل الوجه.
قال: "حَتَّى يَكُونَ غَسْلُهُمَا بَعْدَ وَجْهِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَكَانِهِ أَوْ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ" ما دام لا يزال في المحل الذي توضأ فيه وإلا فاتت الموالاة، وعنده لابد من الموالاة، فيعيد الوضوء كله من أصله.
"قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْثِرَ، حَتَّى صَلَّى قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ صَلاَتَهُ" فقد تقدّم معنا أن المالكية والشافعية يقولون: أن المضمضة والاستنشاق سُنّة. فكان هذا الحكم من سيدنا مالك فالترتيب عنده لايُراعى في المسنون مع الفرض، ولكن يراعى في المفروض من الوضوء. واغتفر للناس ما سمعت الكلام عنه من ترك المضمضة والاستنشاق، كما اغتفر أيضًا للناس إذا قد صلى، لكن مادام في مكانه أو بحضرة ذلك فعليه أن يعيد. أما إذا قد ذهب وصلّى فاغتُفر له ذلك. فإذًا:
لكن متأخرو المالكية قالوا: أن ترتيب الوضوء عند مالك سُنّة، وأن الذي توضأ بغير ترتيب لا يبطل وضوءه. وسمعت تفصيل بين أن يكون في محلّه، وبين أن يكون قد ذهب وصلّى؛ فكان ذلك أصل مذهب مالك. واختار المتأخرون من المالكية أن الترتيب سُنّة.
وكون الاستنجاء بالماء مستحب عند الأئمة كلهم وهو أفضل عند جميع الأئمة. ولذا جاء عنه ﷺ.. يقول سيدنا أنس: "انَ رَسولُ اللهِ ﷺ يَدْخُلُ الخَلاءَ فأحْمِلُ أنا، وغُلامٌ نَحْوِي، إداوَةً مِن ماءٍ وعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بالماءِ" كما جاء في الصحيحين. وحديث: "ويلٌ لِلأعْقَابِ من النار"، جاء بالروايات كلّها متعلّق بالوضوء، لا شأن له في شأن إسبال الثوب، وإسبال الثوب جاءت فيه أحاديث أُخر متعلّقة به لا علاقة لها بهذا الحديث. فالحديث جاء في رواياته كلها متعلقًا بالوضوء، "أَسْبِغِ الْوُضُوءَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". "وَسُئِلَ مَالِكٌ رحمه الله عَنْ رَجُلٍ نَسِيَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْثِرَ حَتَّى صَلَّى، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ صَلاَتَهُ وَلْيُمَضْمِضْ وَيَسْتَنْثِرْ مَا يَسْتَقْبِلُ إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ"، والله أعلم.
نظر الله إلينا وثبّتنا وأعاننا، وأخذ بأيدينا وألهمنا رشدنا، وفقّهنا في دينه، وجعلنا من أهل الصدق معه والإنابة إليه والتوفيق إلى مرضاته، بِسرٍّ الفاتحة إِلى حَضرَة اَلنبِي ﷺ.
11 ذو القِعدة 1441