(228)
(536)
(574)
(311)
العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى ، ضمن فعاليات الدورة التعليمية التاسعة والعشرون بدار المصطفى بتريم ، الأربعاء: 17 ذو الحجة 1444هـ ، من قوله:
(لَوْ أَشْرَقَ نُورُ اليَقِينِ) من أفق الفتح المبين، والشروق: هو العلم الكشفي الذي لا يُداخله لبس ولا يبقى معه داعي شيطان ولا نفس، وهو بمنزلة الإضاءة من الشمس الحاصِلة بإزاء ما بسط عليه الشّعاع فيبين لصاحبه الكائن فيه – لا محالة – الحق من الباطل، ويتضح لديك العالي عن السَّافل، والثابت والآفل، فتختار الثابت كما قال الخليل صلى الله عليه وسلم عند شروق كوكب العلم في قلبه: (لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ) .
وهذا العلم اليقين أول مبادئ الكشف، وعلامته وبيان حاله من قام به: العُزوف عن الدنيا، لفنائها واضمحلالها، وزوال نِعمتها، وذبول رونقها، وسرعة تقلُّبها، فعندما ينكشف عن قلبه هذا الغِطاء، وينبسط في صدره أنوار هذا الضياء .. ينفسح ويتسع منه الأرجاء لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ النُّور إذا دَخَلَ الصَّدرَ .. أنشـرحَ له وأنفسح )) قيل: يا رسول الله هل لذلك من علامة؟، قال: (( نعم .. التَّجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله )) ، وذلك بالحرص على وظائف الطَّاعات في ممرِّ الأوقات خشية الفوات، والتَّباعد عن الهفوات، ومجانبة الغفلات، ومبادرة السَّاعات بأربح البِضاعات، وأغبط التِّجارات عند عالِم الخفيَّات .
فحكايات أهل هذا المشهد أكثرُ من أن تُحصر، وأبينُ من أن تُشهر، ومن اختيار النُّقلة إلى الأخرى على البقاء في الحياة الدنيا، وتقذر الدنيا واستقالها في أعينهم، ومجانبة المتلطِّخين بقاذوراتها والمتشبِّكين في حبائلها .
فمن إذا قيل له: ماذا تريد نشتريه لك إذا سافرنا؟ فيقول الموت إن وجدتموه لي، ومن المُستعدين من لم يأكل الخبز اليابس بل يسف السويق ويقول: بين ذلك ومضغ الخبز سبعين تسبيحة.
وبين من يطلبه ويشتاق إليه اشتياق الغريب الكئيب إلى وطنه، كما في رواية حارثة الأنصاري وغيره من أجلَّاء الصحابة، كأنس بن النضر في يوم أُحد، كان مُقبلاً لمَّا أدبر الناس وهو يقول: ( يا سعد الجنَّة تنفح دون أُحد ) ويقول: (اللهم إنِّي أبرأ إليك مما صنع هؤلاء) يعني الكفار (واعتذر إليك مما صنع هؤلاء) يعني المسلمين فدخل العدو ولم يردَّه ما رآه من شِدَّة بأسهم، حتى وُجد قتيلاً، أُصيب ببضع وثمانين بين طعنة برمح أو نكته سهم، وذلك أنَّهُ لم يحضـر بدراً فقال: ( أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحضـرها لئن أشهدني الله غزوة بعدها .. ليرى الله صِدقي ).
قالوا: وكانوا يرون أنَّ هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ).
فهذا ثمر شروق نور اليقين في صدور المتَّقين، والذين صابروا الأعداء وناجزوا النُّفوس، وعمروا معاني التَّقوى وتجنبوا دواعي الأهواء، فأثمر لهم ذلك العلم اليقيني، ونازلهم الصدق في سائر الأحوال والأقوال والأفعال .
وهذا العلم لا للكسب فيه مدخل، بل يقذفه الله في قلوب أهل الصدق، فيرون بواطن الأمور إذا رأى المحجوبون ظواهرها، وينفذون ببصائرهم إلى حقائقها إذا وقف المغرورون على صورها، ويزهدون فيما رغب فيه البطَّالون، ويعرفون ما جهله الأغبياء الغافلون، فهم يعجبون لغيرهم كيف اغترَّ بهذا السَّراب؟ والخلق يرونهم مجانين من سُكر هذا الشراب، فالجُهَّال إذا مرُّوا بهم .. يضحكون، وهم عليهم من حسرة الموت مُشفقون، فأعجب لذلك المشهد المصون وأعظِّمْ بذلك السِّر المكنون .
وبعد ذلك تنفتح لهم خزائن الأسرار، وتلوح لهم لوائح الأنوار من سناء صِفات الواحد القهَّار، فيرجعون بالاعتذار، ويبيحون للخلق الأعذار، فتخترق لهم العوالِم، وتبين لهم المعالِم، فلا يختارون غير ما يختار، والكُون في ذلك العلم هو شراب الأبرار، الممزوج من عقار تسنيم عين المقربين الأحرار، ومن رِقِّ الأغيار ولي في ذلك:
نور اليقين يريك أسرار ما كمنت * من الحقائق في مستودع الصورِ
يريك أنَّ زهرة الدنيا في فناءٍ * وغائب في ستور الكون محتضـر
من طهر الله عنِ الأغيار فطرته * يشهد بلا لبس ما في الأفق من عِبرِ
17 ذو الحِجّة 1444