شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 124- من قوله: (مَنِ اسْتَغْرَبَ أَنْ يُنْقِذَهُ اللهُ مِنْ شَهْوَتِهِ ، وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ وُجُودِ غَفْلَتِهِ فَقَدْ اسْتَعْجَزَ القُدْرَةَ الإِلَهِيَّةَ)

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله با راس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم، عصر يوم الأحد: 22 محرم 1446هـ، من قوله: 
(مَنِ اسْتَغْرَبَ أَنْ يُنْقِذَهُ اللهُ مِنْ شَهْوَتِهِ ، وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ وُجُودِ غَفْلَتِهِ فَقَدْ اسْتَعْجَزَ القُدْرَةَ الإِلَهِيَّةَ ( وَكان اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ).

 

نص الدرس المكتوب:

"فلا يقطعنّك عن فضله يأسك، ولا تردن عن بابه رأسك، فعند إدمان الطلب.. تدرك الأرب، فعطاؤه لا يحجبه السبب، ولا يجلبه النسب والحسب، فالعبد ما لم يغرغر ولم تطلع الشمس من مغربها.. معرض للتوبة ومتسبب للأَوبة، فيَرحم الله البوصيري حيث قال:

يَا نَفْسُ لَا تَقْنَطِي مِنْ زَلَّةٍ عَظُمَتْ *** إِنَّ الْكَبَائِرَ فِي الْغُفْرَانِ كَاللَّمَمِ. 

فمن استغرب ذلك.. فقد نسب القدرة الإلهية إلى العجز المستحيل عليه كسائر النقائص، واستشهاده بالآية الجامعة لعموم القدرة لسائر الأشياء من أبلغ الدلائل، وأوضح العلامات وأنجح الوسائل، فلا يختص بها شيء دون شيء، بل الأشياء كلها داخلة تحتها، ولم تخرج أنت ولا شهوتك عن الأشياء فتكون مستغربًا، وما وصف به نفسه من قوله: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) [الكهف:45].؛ فقوله: (وَكَانَ ٱللَّهُ)؛ فهذا وصفه، والأشياء لم تكن بعد لكنها له معلومة، وجميع تفاصيل أحوالها، ومعانيها، فالكان وصفه، والكون فعله، وهو قوله ﷺ: "كان الله ولا شيء" ولم يفارقه هذا الوصف دائمًا سرمدًا. وقوله: (مُقْتَدِرًا)؛ أي: فاعلاً ومخترعًا، ومبدعًا، فكيف تستغرب منه فعل ما هو موصوف باختراعه، ومستبد بإبداعه؟! ولي في ذلك:

فكيف يستغرب أن الله ينقـِذه  *** من شهوٍة  طالما  قد كان  يأتيها 

إن الكبائر لا  تعظم  فتحْبسه *** عن نيل فضل وإن طالت مبانيها

 إن واجهتك صفات الفضل منه *** فلا شيٌء من الذنب والأعمال يثنيها

 هذا لمن قصدته المعاصي من غير تعمد  معاندة لله، وانتهاكا من غير مبالاة، ورجع إلى مواطن التوبة.

أما من كان مجاهراً مصراً مرتكباً لكبَائر المعاصي، ولم يرجع إلى التوبة.. فليس هو المعنى هنا.. وما هذا أي: -حسن الظن والمبالغة في الرجاء- إلا عند إقبال العبد إلى مولاه  ورجوعه إلى بابه، فينبغي أن يرغب في ذلك، ويلاطف بمثل هذه الروايات؛ فإن الله إذا رجع عبده إليه قبله على ما كان من العمل؛  كما وردت به الأحاديث والآيات، وأما المصرّون.. فليسوا من ذلك في شيء".

 

يقول: لا يجوز أن تستغرب إنقاذ الله لمن أراد أن ينقذه، كافرًا، أو فاجر، أو عاصي، ما دام ما بلغت الروح الحلقوم ولا طلعت الشمس من مغربها في لحظه ممكن.. فلا تستغرب ذلك. فيا فوز المقبلين على الله، والتائبين والراجعين إليه. 

إنما الخطر على المصريين المعاندين، واليائسين من رحمته، أو الذين يعاندون عظمته وجلاله ويقصدون المعاصي ويصرون عليها؛ فويل لهم، هم جنوا على أنفسهم؛ وإلا هو ما يُستغرَب أن ينقذ من شاء وأن يحول الحال. 

فاصدق في التوبة إليه دائمًا، وتعلم أن الأصفياء والأوفياء توابين إلى الله، وهم بعيدين عن الذنوب لما عرفوا من عظمة الله -تبارك وتعالى- ورأوا تقصيرهم في جنب الله -جل جلاله- كلٌ في المقام الذي هو فيه ليرتقي إلى ما هو فوقه ويتوبون، حتى سيدهم وأطهرهم يقول: "إني أتوب إلى الله في اليوم والليلة سبعين مرة" وفي رواية "مائة مرة" اللهم صلي عليه وعلى آله.

يكون يرتقي في اليوم الواحد إلى سبعين مقام، إلى مئة المقام، ويعتلي كل ما ارتقى مقام استغفر من الذي قبله، وهكذا الصالحون من بعده يستغفرون و يتوبون إلى الله؛ فنحن أحوج إلى التوبة.

فيجب أن لا نقنط ولا نتثبّط عن التوبة بوسوسة إبليس، فإن قدرة القادر تحول السيئات إلى حسنات: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) [الفرقان:70]. 

"فلا يقطعنّك عن فضله يأسك، ولا تردن عن بابه رأسك". بل اصدق واقبل، وقال:

 واعكِفْ عَلَى بَابِهْ فَأَنْتَ مَقْبُولْ *** فَجُوْدُ  رَبِّكَ   فَائِضٌ   وَمَبْذُولْ

فَسَوْفَ تَبْلُغْ مَا تُرِيدْ مِنْ سُول *** دَعْ كُلَّ صُورَه وَاشْهَدِ الْحَقَائِقْ

يقول: "فالعبد ما لم يغرغر ولم تطلع الشمس من مغربها.. معرض للتوبة ومتسبب للأَوبة"

 فيَرحم الله البوصيري حيث قال:

يَا نَفْسُ لَا تَقْنَطِي مِنْ زَلَّةٍ عَظُمَتْ *** إِنَّ الْكَبَائِرَ فِي الْغُفْرَانِ كَاللَّمَمِ. 

كالصَّغائر إذا جاء الغفران، صغير وكبير عند الله سواء إذا أراد يغفر، ما في فرق عنده كبير صغير كله سواء، قليل كثير كله سواء عنده إذا أراد أن يغفر؛ يغفر-جل جلاله-.

إنّ  الكبائرَ  في الغفران  كاللــممِ

 لَعَلَّ رَحْمَةَ رَبِّي حِينَ يَقْسِمُهَا *** تَأْتِي عَلَى حَسَبِ الْعِصْيَانِ فِي الْقِسَمِ

 

"فمن استغرب ذلك.. فقد نسب القدرة الإلهية إلى العجز"، وحاشا الله أن يعجز -جل جلاله-.

(وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) [الكهف:45].

  • (وَكَانَ ٱللَّهُ)؛ فهذا وصفه، "فالكان وصفه،

  • (والكون فعله) فعلُ الله -تبارك وتعالى-.

(وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)؛ "كان الله ولا شيء" في لفظ "ولا شيء معه"، "ولم يكن معه غيره" كما جاء في صحيح البخاري في روايات عن سيدنا عمر عن النبي ﷺ.

 فالوجود الحق للإِله الحق وحده، هو الموجود بذاته، جميع ما سوى الله كلها عوارض مستحدثات يصرفها كما يشاء، وهي فعله ليست بشيء، لكن الوجود الحق له وحده هو -سبحانه وتعالى- هو الموجود بذاته، وأوجد ما شاء. 

قال: وهكذا يجب أن يكون الحال خصوصًا لمن تقصده المعاصي، وهو بعيد عن المعاندة لله -تبارك  وتعالى- والانتهاك من غير مبالاة، ومع ذلك كله، فإذا أراد الله تاب على من شاء من عباده، فلا سبيل إلى اليأس من جود رب الناس الكافي لشر الوسواس الخناس، والذي يحول الأحوال كما شاء من غير حدٍّ ولا حصرٍ ولا قياس.

 

ورضي الله عنه وعنكم إلى أن قال:

"والمؤمن ربما يرد عليه ما صورته معصية وذنب، فيتكدّر لذلك صفاؤه، وتظلم أرجاؤه، فيعرف مقدار منة الله عليه، وإدامة فضله إليه، فيزداد تعظيماً لنعمة الله، ويزداد فراراً وإبعاداً لما ذاقه من مرارة ورود الظَّلم؛ لذلك قال المؤلف -رضي الله عنه-: 

198: رُبَّمَا وَرَدَتِ الظُّلَمُ عَلَيْكَ؛ لِيُعَرِفَكَ قَدْرَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْكَ. 

ربما وردت ظُلَمُ ليل البعد على نهار القرب والكشف؛ لتعرف قدر المنة عليك فيما منّ به: من كشف ظلم الأغيار ومُدلهم ليل الآثار، بتجلي الأنوار، وشهود الأسرار، المعبر عنه بالنهار؛ لتعرفها بأضدادها، (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [القصص: 73]، وكل ذلك لطفاً بعباده؛ لئلا يجهَلوا ورود الظلم فلا يعرفون قدر النعم، فيَقفون دون شكرها، فيُحرمون المزيد، فأورد ضدها ليكون ذلك سبباً لشكرها، وهو سبب مَزيدها لديهم، ودوامها عليهم، ولو لم ترد عليهم هذه الأضداد.. فلربما جهلوا ورود الإمداد، و لوقفوا دون شكرها، فكان ورود الظلم بهذا الاعتبار في حقهم من جملة النعم، هذا نادر لبعض أفراد الخلق.

أما أصالة ورود الظلم.. فلا يكون إلا عقوبةً عن ذنب أو سوء أدب،  فإن لم ينزع عما هو مقارفه.. خيف أن يتسع في القلب أثرها، فتصدر منه أعظم، فتتَراكم كذلك حتى يعلو عليه الران، نعوذ بالله من ذلك".

 

يقول: ومما يربي الله به عباده  وينبههم أنه يوردهم أحيانا صورة الذنب، أو المعصية فيفقدون من النورانية ويفقدون من الطمأنينة ما كانوا يعهدون؛ فيعلمون منّة الله تعالى عليهم فيرجعون ويحسنون الرجوع إليه، ولئلا يقعوا في ذنب كبير ما يشعرون به ولا يحسون؛ وهو  العجب.

ولذا لما سُئل ابن المبارك عن الذنب الذي لا يتوب عنه صاحبه منه فقال: العُجب؛ ذنب ومعصية كبيرة؛ ولكن ما يتوب عنه صاحبه، ويشوف نفسه -والعياذ بالله تعالى-؛ فلهذا يبتليهم بشيء من الذنوب من أجل يخلصهم من الذنب الأكبر من العجب، ويرجعون بالانكسار والذلة يحيزون خيرات ما يحصلونها لو كانت آثار العجب باقية عندهم موجودة، فيربّيهم بهذه الأشياء ويخْتبرهم بها.

وكما جاء في الحديث: يأمر الله جبريل يأخذ عن المؤمن حالة حسنة يجدها مع الله، وينظر هل يتحسر عليها؟ هل يرجع أو لا يبالي؟  فإن أَعْرَضَ أُعْرِضَ عنه، وإن اهتم ورجع، وأقبل على الله ردها إليه بأحسن مما كانت وهكذا..

"رُبَّمَا وَرَدَتِ الظُّلَمُ عَلَيْكَ؛ لِيُعَرِفَكَ قَدْرَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْكَ". 

ربما وردت ظُلَمُ ليل البعد على نهار القرب والكشف؛ لتعرف قدر المنة عليك فيما منَّ به -سبحانه- عليك من كشف ظلم الأغيار وُمدْلهم ليل الآثار -كشف ذلك- بتجلي الأنوار".

فالأشْياء تعرف بأضدادها (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [الفرقان :62] لو كان الليل دائم يقول  ما معنى النهار؟  لو كان النهار دائم يقول: ما معنى الليل؟ ولكن تعرف الأشياء بأضدادها.

"وكل ذلك لطفاً بعباده؛ لئلا يجهَلوا ورود الظلم فلا يعرفون قدر النعم" ولأجل أن يعرفوا أنه المنعم، وأن العامل الذي عندهم ليس باسْتحقاقهم، وهو المتفضل به إليهم، وإذا شاء ينزعه،  وإذا شاء يعطيهم.

 فلهذا يتحققون بالعبودية، ويتأدّبون مع الرب -جل جلاله وتعالى في علاه- لا إله إلا الله  فلا يغفلون عن شكر النعم، والقيام بحق العبودية، ومن شكر أعطي المزيد (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُم) [ إبراهيم:7] -لا إله إلا الله- "فلربما جهلوا ورود الإمداد"، لو لم ترد عليهم هذه الأضداد ولو وقفوا دون شكرها.

أما أصالة ورود الظلم لا يكون إلا عقوبة عن ذنبه، أو سوء أدب، فإن لم ينزع عما هو مخالف، وخيف أن يتسع في القلب أثرها وتتراكم عليك (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14]. اللهم أجرنا من ران الذنوب.

ورضي الله عنه وعنكم إلى أن قال:

قال: "ولي في ذلك: 

فربّما وردت شؤم الذنوب لكي *** يعرف العبد ما قد كان يجهله

 ويستَزيد كذا شكرًا على [ كل ] ما *** قد كان في سابق الأزل أهّله

 وفي الحديث: "لو لم يكن الذنب خيراً للمؤمن من العُجب.. ما قُدِّرَ عليه" أو كما قال".

في مسند الديلمي هذا لو كنت أعلم أن الذنب خير لعبدي من العُجب لما سقته  لذنب، وما سلطته عليه لكن خلصته من الذنب الأكبر لأجل أن يخلصه من ذنبه الأكبر.

"فإذا عرفت أن ورود الظلم منه؛ للشكر على وجود الأنوار، وحاثاً على التحفظ من اقتراف الأوزار، وما مِنَّةٌ أعظم على العبد من الإيمان والعمل بمقتضاه.. فليحافظ عليه، وليجتهد كل الجهد في الإقبال إليه والاهتمام به؛ وذلك أن كل فائتٍ عنه خلف إلا الإيمان، فليجتهد العبد في الشكر وهو في حال تلبسه به، والعاقل: يشكر النعم بوجدانها. والجاهل: لا يعرفها إلا بفقدانها؛ كما قال المؤلف رضي الله عنه:

199: مَنْ لَمْ يَعْرِفِ النَّعَمَ بوجدَانِهَا.. عَرَفَهَا بِوُجُود فِقْدَانِهَا. 

فأكثر الخلق حالهم الجهل بالنعم، والغفلة عن مقتضى الشكر عليها، فيقبلون بفقدها مع عدم الصبر عنها، والمعرفة تكون بالقلب وهي شكر القلب، وبالجوارح وهي العمل بمقتضى النعمة، وهـو شكرها، قال الله سبحانه: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا) [سبأ:13]"، وفي أخبار داود: "إلهي؛ كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي؟ قال: إذا عرفت هذا فقد شكرتني". 

فعرفت أن المعرفة كلية الشكر، وعنها تصدر أسبابه، والنِعمة: هي كل أمر تحمد عاقبته في المآل وإن كان مؤلماً، وما لا.. فليس بنِعمة وإن كان ملائماً، ومن هنا يقال: ليس لله نِعمة على كافر، وإنما ملاذُّهُ استدراج.

وإذا عرفت النِعمة في حال وجودها كما هو حالة الأكياس.. فقد تعرض لفتح باب المزيد الذي يلهمه كل موفق رشيد، ويفهمه كل ذي رأي سديد، بشاهد قوله عز من  قائل: ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، فانظر كيف قرن الشدة بتعذيب من كفر النعم؛ فمن ضيع النِعم بعدم الشكر لله عليها.. فقد تعرض للنقم، ومعرفة النِعمة بفقدانها لا يكون شكرًا، وإنما هي تحسر وتأسف لا يفيد صاحبه إلا  حسرة إلى حسرٍة تتوالى، والله أعلم أن توالي الحسرات هي الشدة التي أومأت إليها الآية في قوله سبحانه: (إنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، ولي في ذلك: 

من ليس يشكر رب العالمين على *** ما أسداه من فائض الأنعام والمنن 

لا شك يحسر عند الفقد منه ولا *** تغني حسرته في السر والعلن"

-لا إله إلا الله- "مَنْ لَمْ يَعْرِفِ النَّعَمَ بوجدَانِهَا.. عَرَفَهَا بِوُجُود فِقْدَانِهَا"، فالقَاصر ما يحس بالنِعمة إلا لما يفقدها؛ ويرجع بعدين يتحسر عليها ولكن العاقل يحس بنِعم الله وفائضاته وهي موجودة، ويشكر حتى يزداد من الله -تعالى- فضله.

قال: "فأكثر الخلق حالهم الجهل بالنعم، والغفلة عن مقتضى الشكر عليها،فيقبلون بفقدها مع عدم الصبر عنها"، فيكون فقدها عليهم نِعمة، "والمعرفة تكون بالقلب وهي شكر القلب، وبالجوارح وهي العمل بمقتضى النعمة، (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13]"، صرف النعم فيما خلقت لأجله شكر، هذا شكر العمل، واستشعار المنة لله والفضل، واعتقاد الجود الرّحماني من دون استحقاق هذا شكر القلب، هذا شكر القلب وهذا شكر الجوارح؛ أن تستعمل النعم فيما خلقها من أجله، وفيما اقتضت حكمته أن تستعمل فيها هذه النعم من الخيرات.

 قال سيدنا النبي داوود: "يا رب كيف أشكرك؟ وشكري لك نعمة" لما أشكرك توفيق منك وفضل ووفقتنا للشكر؛ لأن هذا الشكر نفسه نِعمة. فأنا كيف أريد أن أشكرك؟ وإذا الشكر نعمة جديدة وتحتاج إلى شكر كيف أشكرك؟ "كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي؟"!  فأوحى الله يقول: إذا عرفت هذا فقط سأكتفي من عبادي هذا، ودعهم يعرفون فقط، أنا المنعم والمتفضل، خلاص يكفي هذا. وماذا يقدرون يعملون لربهم؟ ما يقدرون، كله من فضله عليهم -جل جلاله- دعهم يُدركون ويشعرون، قال: "إذا عرفت هذا فقد شكرتني". خلاص دُم على هذا أشكر أشكر أشكر.. كلها منَن فوق منَن فوق منن وأنا أزيدك.. لا إله إلا الله.

"المعرفة كلية الشكر، وعنها تصدر أسبابه، والنِّعمة: هي كل أمر تحمد عاقبته في المآل" نِعمة، وإن كان أمر مستحسن في ذاته أو حالي في ظاهره، ولكن عاقبته غير محمودة يقال له نَعمة، ولا يقال له نِعمة ليس بنِعمة، نَعمة مجرد غرور، وزور، وحلاوة مقدرة مقتّرة زائلة فما هو نِعمة.

 النِعمة: كل لذة تحمد عاقبتها، ما يحمد عاقبته هذه هي النٍّعمة، سمعت!  لهذا  قال الله في قوم فرعون: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) [الشعراء:57-58]. (وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) [الدخان:26-27]، ونَعمة، ولا قال نِعمة  -ما في نِعمة- ونَعمة حقّهم المُتع، والملك كله نَعمة مجرد اختبار مؤقت ويزول، عاقبته غير محمودة، فليس بنِعمة إنما نَعمة لذائذ، لذائذها مؤقتة وخلاص، وعواقبها سيّئة ووخيمة -لا إله إلا الله-، فحقائق النعمة مع المؤمنين النِّعمة عواقبها الثواب، والقرب والخير الكبير.

قال: "النِعمة: هي كل أمر تحمد عاقبته في المآل وإن كان مؤلماً، في الظاهر؛ وما كان مآله تعب وشدة "فليس بنِعمة، وإن كان ملائما.. استدراج" ونَعمة (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 182].

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون: 55-56].

(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:85].

يقول: وإذا عرفت النِعمة في حال وجودها كما هو حالة الأكياس.. فقد تعرض لفتح باب المزيد .،..والشدة لمن لا يشكر النعمة. 

(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [ إبراهيم:7].

أن يتوالى الحسرة عليه فيشتد العذاب -والعياذ بالله تعالى- بعده.

رزقنا الله الاستقامة، وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 ثَبِتْنَا على الاستقامة، واتْحِفنا بما أكرَمت به عوائد أهل حضرته المخصوصين منه بعظيم نظرته وعجائب رضوانه، وواسع امتنانه، وقديم إحسانه، وأن الله يدخلنا في ذاكم الحال، ويسمعنا طيب  الألحان، ويرزقنا الصدق والإيقان مرتقين أعلى مراتب  علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، مع استقامة واتحاف بأنواع الكرامة وصلاح أحوالنا، وأحوال المسلمين في المشارق و المغارب. وادفع جميع المصائب والنوائب، وحسن خاتمة لهذا الشهر الكريم وبقية أيامه ولياليه، ويجعلنا من خواص أهله، ويصلح الشأن لنا، ولأهل لا إله إلا الله، وَيُحَوِلْ أحوالنا إلى أحسن الأحوال، ويختم لنا بالحسنى، وهو راض عنا في لطف وعافية.

 وإلى حضرة النبي اللهم صل وسلم  وبارك عليه وعلى آله وصحبه. 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

08 صفَر 1446

تاريخ النشر الميلادي

13 أغسطس 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام