شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 120- من قوله: (إذَا الْتَبَسَ عَلَيْكَ أَمْرَانِ، فَانْظُرْ إِلَى أَثْقَلِهِمَا عَلَى النَّفْسَ فَاتَّبِعْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَثْقُلُ عَلَيْهَا إِلَّا مَا كَانَ حَقاً )
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله با راس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم، عصر يوم الأحد: 15 محرم 1446هـ، من قوله:
(إذَا الْتَبَسَ عَلَيْكَ أَمْرَانِ، فَانْظُرْ إِلَى أَثْقَلِهِمَا عَلَى النَّفْسَ فَاتَّبِعْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَثْقُلُ عَلَيْهَا إِلَّا مَا كَانَ حَقاً )
نص الدرس المكتوب:
"وتعلّق المقربين بالله دون الخلق جملة، لا يرمقون مرادًا دونه، ولا يؤثرون حالًا ولا مقاما عليه، بل هم وقف على التعلُّق بمليكهم، قطعوا أطماعهم من إيصال انتفاعهم أو دفع مضارِّهم إلا منه وبه، فهم كما قلت:
علقت قلوب الأولياء بربّهم *** لا يؤثرون عليه من الوجود مرادا
فهم الرجال القائمون فكن بهم *** في سُبْلهم وسلوكهم مرتادا
إن الوجود بأسره في قربهم *** كسراب يشهد من بقوع بعادا
فلربّما استحيوا لغلبة شربهم *** أن يرفعوا الحاجات ثم اعتادا
هذا فكيف تكون نازلة بهم *** في غيره الآمـــال لا تعتـــــادا
حيّا الإله أحبتي في حزبهم *** كم من مسلسل ثابت الإسنادا
يرويه خاصية الجنان بحبّهم *** عمن له التصويـر والإيجادا
فلأهل البصائر معايير لطيفة، يميّزون بها بين حقائق الأعمال ولطائف الأحوال، لا يعرفها غيرهم، والقائمون على الرّسوم الظاهرة تلتبس عليهم الأعمال، فليس ثَمَّ غير أن يعرضوها على أنفسهم؛ فكل ما استثقلته فهو الأرجح والأحرىٰ"، كما قال المؤلف -رضي الله عنه-:
192: إذا التبس عليك أَمْرَانِ.. فانْظُرْ أَثْقَلَهُمَا عَلَى النَّفْسِ فاتَّبِعْهُ؛ فإِنَّهُ لَا يَثْقُلَ عَليْهَا إِلَّا مَا كَانَ حَقَّا.
هذا ميزانٌ لأرباب النفوس المحجوبة المجبولة على اتباع الهوى وإيثار الشهوة، وأما النّفوس الزّكية المطمئنة فلا يُنصب لها هذا الميزان؛ فقد تستثقل الباطل، وتستخف الحق؛ لاتصافها بصفة القلب، وهذا الالتباس في الأمور الدينية: إما واجبات أو مندوبات، وأما ما نصّ على حظره أو كراهته الشرعُ، أو على وجوبه أو ندبه فلا التباس فيه.
يقول: لمّا صدقوا فارقوا السِّوى، "تعلّق المقرّبين بالله دون الخلق جملة، لا يرمقون مرادًا دونه"، يريدون وجهه ما يريدون غيره أبدا، ما يرمقون ولا يلتفتون، ولا يشرئبون لأي مراد غيره، "لا يرمقون مرادًا دونه ولا يؤثرون حالًا ولا مقامًا عليه" -تبارك وتعالى- فهو مرادهم وهو مقصودهم -جل جلاله-. قال: "بل هم وقف على التعلّق بمليكهم"، قال الشيخ ابن الفارض:
"وقفٌ عليه محبتي" فقط، وحده محبتي موقوفة عليه فقط.
وَقْفاً عَلَيْهِ مَحَبّتي ولِمِحنَتي *** بأقَلّ مِنْ تَلَفي بِهِ، لا أشْتَفي
وإن اكتفى غَيْري بِطيفِ خَيالِهِ *** فأنا الَّذي بوصالهِ لا أكْتَفي
لا يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنّة، إلى أن يقول لهم أحلُ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا، ثم يزيدهم.
قال: "بل هم وقف على التعلّق بمليكهم قطعوا أطماعهم من إيصال انتفاعهم، أو دفع مضارهم إلا منه وبه"، علقت قلوب هؤلاء بربهم، كما قال قائل:
قومٌ همومهم بالله قد علقت *** فما لهم هِمَمٌ تسمو إلى أحد
فمطلب القوم مولاهم وسيّدهـم *** يا حسن مطلبهم للواحدِ الصمدِ
-جل جلاله-، ما ينازعهم شيء؛ لأنه ما يؤثرون شيء عليه، هو المقصود دون غيره، هو المراد دون غيره؛ هذا سر لا إله إلا الله.
قال:
علقت قلوب الأوليـــاء بربّهـــم *** لا يؤثرون عليه من الوجود مرادا
فهم الرجال القائمون فكن بهم *** في سُبْلهــم وسلوكهـــم مرتــــادا
إن الوجود بأسره في قربهم *** كسراب يشهد من بقـوع بعـــادا
فلربّما استحيوا لغلبة شربهم *** أن يرفعوا الحاجـــات ثم اعتــــادا
هذا فكيف تكون نازلة بهم *** في غيره الآمـــال لا تعتـــــادا
حيّا الإله أحبتي في حزبهم *** كم من مسلسل ثابت الإسنـادا
يرويه خاصية الجنان بحبّهم *** عمّــن لـــه التصويـر والإيجـــادا
"فلأهل البصائر معايير لطيفة يميّزون بها بين حقائق الأعمال ولطائف الأحوال"، ففي البداية ما ثقل على النفس هو الموصل إلى حظيرة القدس؛ هذا للمبتدئين حتى ترتاض نفوسهم، ثم تصير نافرة من السوء والشر بأصنافه، تأنف عن المعاصي والذنوب ولا ترتاح إلا بالخير وحده ولا تطمئن لغيره؛ فتصير النفس مثل القلب، والقلب مثل الروح -ويكون في عالم ثاني- ما عاد يخطر بباله السوى ولا الالتفات إلى الغير.
يقول: ففي البداية إذا التبس عليك أَمْرَانِ.. فانْظُرْ أَثْقَلَهُمَا عَلَى النَّفْسِ فاتَّبِعْهُ؛ فإِنَّهُ لَا يَثْقُلَ عَليْهَا فإنه لا يثقل عليها ما دامت أمّارة ولوّامة إِلَّا مَا كَانَ حَقَّا.
كثير ثقيل عليها، فإذا ارتضات و ارتفعت إلى المطمئنة، ثم ارتفعت إلى الراضية المرضية.
هذا خلاص يصير: استفتِ قلبك؛ لأن النّفس خلاص هي مثل القلب، فالنفس مغناطيس أمر الإلهام، والروح مغناطيس كون الأجسام، يصير الجسم كأنه روح والنفس كأنها قلب، وذاك من بعد التوجّه التام بكل باطن وبكل ظاهر. "فَلَيْسَ إِلا الصَّدْقُ ثَمَّ نَافِـــقُ".
يقول: "هذا ميزان لأرباب النفوس المحجوبة المجبولة على اتباع الهوى، ما ثقل عليها فيه هو الخير، ويكون أثقل في الميزان عند الله، "وأمّا النفوس الزكية المطمئنة الراضية الزاكية المرضية تستثقل الباطل وتستحلي الحق لاتصافها بصفة القلب".
وقال رضي الله عنه وعنكم:
"وإنما يكون الإلتباس في المأمورات والمباحات؛ وذلك أن النفس الحيوانية من طبعها وجِبلتها وإيثار ما هو الأصل، وأصل النفس من حيث امتزاجها بأركان العالم السفلي: النار والتراب والماء والهواء؛ فهي أبدا تطلب هذه الأصول.
فالنار بما فيها من الدواعي الشيطانية، والتراب بما فيه من الذلّة والجبانة الحيوانية، والثقل عن المنازل العلوية والمشاهد الروحانية، -وقد علمت أن هذه الصفات عدمية باطلة ظلمانية-، وبما فيه من لطافة الهواء وليونة الماء التي هي من صفات القلب والروح، تكون الدواعي القلبية وطلب الأفضلية، فيحصل -لا محالة- الالتباس، فيحتاج العرض على هذه النفس، فإنها تسارع الى حظها، وتطلب ما فيه نيل غرضها، بحسب ما فيها من العجلة والقوة النارية؛ فهي تسارع ما تقتضي الجِبلَّة، فَالحق ثقيلٌ عليها؛ لمخالفته لعالمها الظلماني الجبلي الحيواني.
كما علمت أن ما فيها من نور القلب اللطيف والسرّ الروحي العالي يطلبان أصلهما، وهما نازحان عنه، غريبان عن وطنهما، والغريب لا يكون له من الحكم ما للأهل، فكان مطلبهما صعبًا ما دامت القوة الشيطانية النارية، والشهوة الأرضية متحكّمتين على المحل، فلا يتأتىٰ مطلب القلب والروح إلى بعد مزيد مجاهدة وشدة عناء، فإذا غلب الحق وزهق الباطل (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81]؛ لأن النار -وإن كانت قوية- فإذا سلط الماء عليها قهرها، وأذهب سلطانها، واحتبس شيطانها، فتحقق أن الباطل لا يقاوم الحق إلا إذا تحكم على المحل، وكان باطلًا صرفًا.
وأما حيث تقاوما وتصادما، فقليلُ حقٍّ يُذهب ما ظهر في صورةِ كثيرٍ من الباطل.
والقلب والروح حق، والنفس والشيطان باطل، وللنفس والشيطان مخادع وغوائل وحبائل في الأعمال، يصاد بها الحمقى والجهال، ويميّزها الأبطال من فحول العلماء ونجباء السالكين، حتى يترقَّوا إلى شهود عين اليقين، فيغنوا بنور اليقين عن نصب الموازين.
والنفس عند الطائفة لها إطلاقات كثيرة: فنفسٌ أمارة أرضية حيوانية، ونفسٌ لوامة لدونها من الأنوار القلبية، ونفسٌ مطمئنة روحانية.
وهل المراد بالنفس المذمومة: الفعل المذموم أو محله؟ فقائل يقول: نفس الفعل، وقائل يقول: محله، ولا فائدة في ترجيح أحد القولين على الآخر.
ومن الموازين المحقِّقة للباطل من الحق: عرض الحالة الرّاهنة على الموت؛ فكل أمرٍ لو أتاك الموت وأنت عليه لم تطلب الانتقال إلى غيره فهو حق، وكل أمرٍ يكون على غير ذلك فهو باطل".
يقول: يكون "الالتباس في المأمورات والمباحات"؛
أما توضح على لسان الشرع ما نص على حرمته وكراهته، ولا وجه للالتباس فيه، أو نص الشارع على وجوبه أو ندبه لا التباس فيه، فنص الشارع مقدّم على كل فكر وعلى كل عقل؛ ولكن يكون في بعض المأمورات والمباحات، فتؤثر النفس ما لها حق فيه؛ فلذا تحتاج إلى مخالفتها حتى ترتاض، وعن الدنايا بالعلويات تعتاض،
يقول: "ما فيها من نور القلب اللطيف والسرّ الروحي العالي يطلبان أصلهما، وهما نازحان عنه، غريبان عن وطنهما"، بما اختبرنا الله تعالى في هذه الدنيا، من كثافة هذا الجسد ووجود الشهوات المختلفة والأهواء، والغريب لا يكون له من الحكم ما للأهل، "فكان مطلبهما صعبًا ما دامت القوة الشيطانية النارية، -عند الإنسان موجودة ومتحكمة عليه، فما يسهل عليه- مطلب القلب والروح إلى بعد مزيد مجاهدة وشدة عناء: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69]، فإذا غلب الحق زهق الباطل (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81]؛ يتحوّل حال الإنسان (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) [الإسراء:81]، فيصير الغلبة للروح والقلب والعقل، لا للنفس ولا للهوى ولا للشهوة؛ وينقهر عندها الشيطان ويُنادى عليه: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر:42].
يقول: "لأن النار وإن كانت قوية"، إذا سلط الماء عليها طفاها تنطفي، والظلمة مهما كانت كثيرة، ولو شمعة جاءت قليلة تغطيها، تبعد آثار الظلمة، ظلمة مليانة - قليل شمعة كما ذي- انكشفت الأشياء؛ فالحق يغلب الباطل، إذا فسح المجال له الإنسان فالحق هو يغلب.
"حيث تقاوما وتصادما، فقليلُ حقٍّ يُذهب ما ظهر في صورةِ كثيرٍ من الباطل"، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
"والقلب والروح حق، والنفس والشيطان باطل، وللنفس وللشيطان مخادع وغوائل وحبائل في الأعمال، يُصاد بها الحمقى الجهال، ويميّزها الأبطال -وينتبهون- من فحول العلماء ونجباء السالكين، حتى يترقَّوا إلى شهود عين اليقين، فيغنوا بنور اليقين عن نصب الموازين.؛ والأمر أمامهم واضح: (إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا) [الأنفال 29] لا إله إلا الله.
ومن الموازين المحقّقة للباطل من الحق؛ تميز بينها بين الحق والباطل، أي حالة أي وصف نزعتك نفسك عليه، انظر إن كان هذا عند الموت تحبّ أن يكون معك؟ إذا نزل بك الموت تستشعر تحب أن تكون؟ إن كان تحبه وترضى به؛ هذا حق، إن كان لا عند الموت ما بغيته؛ هذا باطل، من الآن الحالة والوصف التي ما تحب يجيك الموت عليها فهي باطل، أبعدها من الآن، وما كان تحب أن يأتيك الموت وأنت عليها هذا حق، لا إله إلا الله.
وقال رضي الله عنه وعنكم:
"وفي ذلك:
إذا التبسْ من أمور الدين أحسنها *** على المريد سلوك الصدق في الطلب
فليعرضنَّ على النفس الجموح فما*** تختار إلا الذي هو يعقب العطب
فالنفس في كثرة الأطوار عدتُها *** مع توحُّدها في حضرة القرب
فمن جملة علامة اقتران الهوىٰ بالعمل، ودخول آفة الجهل فيه ما ذكره المؤلف -رضي الله عنه- حيث قال:
192: مِنْ عَلاَمَةِ اتِّبَاعِ الْهَوَى المُسَارَعَةُ إلى نَوَاِفل ِالخَيْرَاتِ، والتَّكَاسُلُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ
هذه علامةٌ ظاهرة لأهل البصائر الناظرة، والعقول الباهرة، يتميّز بها ما كان لله مما كان لغيره، ويعرف العمل المشوب بالهوى المعمول على حسب مقتضى النفس.
وأبغضُ إلهٍ عُبد في الأرض الهوىٰ، فالعامل بالهوى لا يأتي منه إلا ما يُنتجه الهوى؛ من التبذّخ بالدعوى، والإدلال على المولى، وقبائح الإعجاب، وفضائح الرّياء، وطلب عاجل حظوظ الدنيا، ودلالته على من قام به: أنه يسارع إلى نوافل الخيرات؛ من التصدُّق والتكرُّم بالمال مع أنه لم يؤدِّ ما هو متعين عليه من الزكوات!! أو يطلب ويأخذ في نوافل الصّلوات ولم يقضي ما فرَّط فيه من الواجبات!! ويهجر الخلق ولم يهجر قبائح الخطايا ورذائل الهفوات!! ويخرج الجوائز والصلات، وهو يتناول المغصوبات والشبهات!!
ومن أمعن النظر في ذلك رأى معظم أحواله وجملة أعماله تفريط وتخليط، يجب عليه التوبة منه، وهو يظنّه من قسم الطاعات والقربات؛ لذلك قال بعض الشارحين: "إنما حُرموا الوصول؛ لتضييع الأصول".
هكذا يقول:
إذا التبس من أمور الدين أحسنها *** على المريد سلوك الصدق في الطلب
فليعرضنّ على النفس الجموح *** فما تختار إلا الذي يعقب للعطب
فالنفس في كثرة الأطوار عدتها *** مع توحدها في حضرة القرب"
فهذه "علامة اقتران الهوى بالعمل"؛ ميل النفس إليه، وبعد ذلك مِنْ عَلاَمَةِ اتِّبَاعِ الْهَوَى المُسَارَعَةُ إلى نَوَاِفل ِالخَيْرَاتِ، والتَّكَاسُلُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبَاتِ، فأشياء مفروضة واجبة مهمة مقدّمة تستثقلها النفس، وأشياء إمّا مباحة وإمّا مسنونة؛ ولكن تسارع إليها، لأن لها غرض؛ لأن لها مقصد، ولها هوى، فتكون منطلقة فيه، سمعت؟!
فهذا يثقل عليه بر أبيه وبر أمه وهو فرض، ويسهل عليه مسامرة الشباب، يقول: نأخذ بخاطرهم، نقعد معهم، هو ذا فرض ولا سنّة؟! هذا هو الواجب افعل الواجب الأول، ومن ثم يأتي للسنن، إذا تريد السنن، تريد الخير..وهكذا. فتحصل العلامات في آخر الزمان: أن يعقّ الرجل أباه، ويبرّ صديقه، ويخالف أمه، ويطيع زوجته، تنعكس الأمور عليهم بسبب مداخل الهوى؛ إلّا إذا صدقوا فيُقدَّم ما قدّمه الشارع الفرض أولًا والسنن ما هو أهم ثمّ ما هو أهم.
هكذا قال: "علامة ظاهرة لأهل البصائر الناظرة والعقول الباهرة؛ يتميّز بها ما كان لله مما كان لغيره".
قال: "وأبغض إله عُبد في الأرض الهوى"؛ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23]، "فالعامِل بالهوى لا يأتي منه إلا ما يُنتجه الهوى من التبذّخ بالدعوى، والإذلال على المولى، وقبائح الإعجاب،-بالنفس- وفضائح الرياء، وطلب عاجل حظوظ الدنيا"؛ هذا ما يأتي من الهوى.
أما الثاني دخل في العبادة بصدق بلا هوى يأتي منه: التواضع ويأتي منه الإخلاص، ويأتي منه التذلّل، ويأتي منه حسن الخلق.
وذلك يأتي منه دعوى وإذلال على الرّب، وكأنه بيده الأمر، ويُعجب بنفسه، وتأتي له قبائح الإعجاب، وفضائح الرياء، وهو شامخ بنفسه -لا حول ولا قوة إلا بالله-.
قال: "ودلالته على من قام بهذ الهوى، أنه يسارع إلى نوافل الخيرات، من التصدق، والتكاثر بالمال مع أنه لم يودِّ ما هو متعيّن عليه من الزكوات، أو يطلب ويأخذ في نوافل الصلوات، ولم يقضِ ما فرَّط فيه من الواجبات، ويهجر الخلق، ولم يهجر قبائح الخطايا ورذائل إلى الهفوات".
يقول أنا معتزل للناس حتى يتغيّروا، ووقت ثاني يعني على الكبر عجب، لا هذا اعتزال، ولا هذا خير، هذا إلا دعوى وباطل، قالوا لبعض الصالحين الذي اعتزل: مالك؟ قال: عندي كلب عقور خفت على الناس منه، وهي نفسي الأمارة فحبستها حتى لا تؤذي الناس، انظر الفرق بين ذا وذا -لا إله إلا الله-.
قال: "ومن أمعن النظر في ذلك رأى معظم أحواله وجملة أعماله تفريط وتخليط يجب عليه توبة منه؛ إنما حرموا الوصول لتضييع الأصول".
الله يثبت أقدامنا، ويرزقنا حسن السير إليه، وصدق الإقبال عليه، ويكرمنا بالقبول لديه، اللهم آمين.
دَعْ كُلَّ شَاغِل وأربَح السَّلَامَةَ *** وَاغْنَمْ صَفَا وَقْتَكَ بِلَا مَلَامَةً
وَاصْدُقُ لِتَلْقَى العِزَّ وَالكَرَامَةَ *** فَلَيْسَ إِلا الصَّدْقُ ثَمَّ نَافِـــقُ
مَنْ كَانَ صَادِقُ تَمَّ لَهُ مُرَادُهُ *** وَثَمَّ يَهْنَى بِالرِّضَا فُــــؤَادُهُ
وَتُسْعِفُـــه بِالْمُلْتَقَـــــى سُعَــــادُه *** فَاصْدُقْ فَمَا يَرْقَى الْعُلَا مُنَافِقُ
اللهم ارزقنا الصدق وألحقنا بالصادقين.
فالله ينظر إلينا ويقرّبنا إليه زلفى، وأذاقنا هذه المعاني، وشيّد لنا بِالمراقي العزّ الأكبر المباني، وتَوَلَانَا بما تولى به مَحبوبيه من أهل التداني، وسقانا -سبحانه وتعالى- كؤوس الوصل، وانظمنا في أهل الفضل، وأعطانا بها من عطاه الجزل، وعاملنا بما هو له أهل، وحنّن علينا روح خاتم الرسل، وأصلح لنا به كل نية وقصد وفعل، ورفعنا به إلى أعلى مراتب الصدق معه في جميع الشؤون في الظهور وفي البطون، وجعلنا ممّن تمسك بحبل الصدق، وصدق مع مولاه في كل قصد، وفي كل نية، وفي كل مراد، وفي كل قول، وفي كل فعل، وفي كل عبادة، وفي كُل عادة، وفي كل حركة، وفي كل سكون، أثبتنا في ديوان الأمين المأمون، وجعلنا فيه ممّن (..يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ..) [الأعراف:181].
بسر الفاتحة
وإلى حضرة النبي محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم
الفاتحة
08 صفَر 1446