شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 118- من قوله: (لاَ تَمُدَّنَّ يَدَكَ إِلَى الأَخْذِ مِنَ الْخَلاَئِقِ إِلاَّ أَنْ تَرَى أَنَّ الْمُعْطِىَ فِيهِمْ مَوْلاَكَ ..)

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله با راس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم، عصر يوم الأحد: 8 محرم 1446هـ، من قوله: 

(لاَ تَمُدَّنَّ يَدَكَ إِلَى الأَخْذِ مِنَ الْخَلاَئِقِ إِلاَّ أَنْ تَرَى أَنَّ الْمُعْطِىَ فِيهِمْ مَوْلاَكَ ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَخُذْ مَا وَافَقَكَ الْعِلْمُ)

 

نص الدرس المكتوب:

 "فالسالك -كما علمت-: هو الذي تجرَّدَ عن الأكوان جملةً لطلب المقصد، وله أحكام في سلوكه: إما أن يكون متجردًا في الظاهر والباطن، وإما أن يكون متجردًا بالباطن دون الظاهر، وإما أن يكون متجردًا بالظاهر دون الباطن، وإما أن يكون مختبلًا بالظاهر والباطن، وذلك أمره ظاهرٌ لا يحتاج إلى بيان، ولا يرفع به في طريق القوم شأن، بل يترك وشأنه الذي أُقيم فيه، ولا يُتعرض له إلا من جهة النصح لعموم الخلق، وبقيَ الثلاثة الأقسام؛ فبيان الصادق منهم.. ما ترجم عنه المصنّف حيث قال: 

190: "لَا تَمُدَّنَّ يَدَكَ إِلَى الأْخْذِ مِنَ الْخَلْقِ.. إِلَّا أَنْ تَرَى الْمُعْطِيَ فِيهِمّ مَوْلَاكَ؛ فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ.. فَخُذْ مَا وَافَقَ الْعِلْمَ".

هذا معناه ظاهر في بيان الحق من التلبيس بما يتعاطاه الجهَّال المفاليس، الذين صحبوا الدعوىٰ واتبعوا الأهوا، وظنوا أن ذلك توحيد، وليس كما ظنوا؛ فالتوحيد لا ينافي ثبوت السنة، بل يؤيدها؛ فلذلك بيَّنَ حال الصادقين عن المُدَّعين بقوله: "لا تمُدَّن يدك إلى الأخذ من الخلق" إن كنت صادقًا؛ لأن ذلك يُنافِي الصدق في التوحيد، ويُناقِضُ الثُّبوتَ على التجريد، إنك تطلُبُ المُراد وتفتقرُ إلى المُريد، وتطلُبُ التوحيد وتُثبِتُ التعديد!! 

فلا تمُدَّنَّ يدك بسؤالٍ إلى غير الكبير المُتعال، فعنده تقفُ المطالِبُ والآمال، وإليه يرغبُ العبادُ في السُّؤال، فإن كنت متجرِّدًا ظاهرًا دون الباطن.. فعلامتُه الافتقارُ إلى الخلق، والتذلُّلُ لهم، وابتِذالُ المُروءة من أجلهم، والتعبدُ لهم، وانتظارُ ما يصدُرُ منهم وعنهم، فيمدحُهم لما يجريه الله له على أيديهم، ويذُمُّهم إذا لم يُقدِّر له عندهم، وينالُ أعراضُهم بالغِيبة والتنقيص والشتم إذا وصلَه أذىً على أيديهم، وذلك دليلٌ على إظلامِ سريرتِه، وانطِماسِ بصيرتِه، ولا يخفَى رداءَة همَّة من هذا وصفُه. 

وبقيَ قسمان: فسالِكٌ متسبِّبٌ ظاهرًا ومتجرِّدٌ باطنًا؛ وذلك لصحةِ توحيدِه، لم يختَر على الله، بل اختارَ ما اختارَ الله له في أي حالةٍ أقامَه فيها، ولم يذُمَّها عليه لسانُ الشرع، فالذي يطلُبُ التجرُّدَ من غير أن يُرادَ له.. مُستعجِلٌ للراحة، ولا يحصُلُ له المطلوبُ منه؛ لأنه قامَ فيه بنفسِه، وكلُّ ما قامَ فيه بها.. لا يتِم. 

ولا فرقَ عند أرباب الفهم في الفضل بين القائم في الشيء بالله والخارج عنه بالله، ولا في قلِّ أدبِ الخارجِ عن الشيء بنفسِه والقائم فيه بنفسِه؛ وذلك إذا علِمتَ أن الله سبحانه قدَّر في سابق علمِه أن يُقيمَ خلقًا في دارٍ، ويلازِمَهم فيها الاحتياج إلى أرزاقٍ قدَّرها لهم وحكمَ عليهم بها، وبها يظهرُ سرُّ قهرِه وغلبة أمرِه فيهم، وهذه الأرزاقُ منها: ما يأتي بتسبُّب وسعي في طلبِها، ومنها: ما يأتي من غير تسبُّبٍ ولا سعي".

 يقول -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-: علِمتَ من السالِك؟ قال: "السالِكُ" أي: السائر إلى الله تعالى "هو الذي تجرّد عن الأكوان جملةً لطلب المقصد"، والمقصِد المكوِّن، والمقصِد الله، فالذي قصد الله ومن أجله تجرَّدَ عن الأكوان؛ هو السالِك. 

ومن كان مأسورًا بشيءٍ من العلائق والكائنات، ومأخوذاً بها فكيف يسير هذا؟ يقولك واحد مربط بسارية ويسير هل ممكن؟! كيف يسير؟ يسير! إلى أين يسير؟ حِله عند السارية ويذهب إلى أين؟ إذا افتك الرباط ممكن يسير، فهكذا علائق الكون رباطات تقطع عن السير.

فلابد من إخلاص القصد وإفراده، للحي الواحد المقصود الإله المعبود؛ فتفهم من لا إله إلا الله بعد معنى لا معبود إلا الله، تفهم معنى لا مقصود إلا الله.

وبعد أن تفهم وتعلم وتدرك؛ تذوق وتجد أن لا مقصود إلا الله.

وبعد أن تذوق وتجد تتحقّق أن لا مقصود إلا الله؛ وحينئذ يَصِحُّ منك السير إلى الله، (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ..)، تفرّ من ماذا؟ من نفسك وهواك والشواغل والعلائق القاطعة عن الله، من الغفلات من الذنوب من المعاصي تفرّ، (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الذاريات:50]، قال الحق تعالى: سواء من رجاه ومن خافه يمشي، يفرّ إليه، إن رجوته رجاء صدق تفرّ إليه، وإن خفتهُ خَوفَ صدق تفرّ إليه، وأما غيره، قال بعضهم: سبحانك من خاف أحدًا من خلقك هرب منه، ومن خافك هرب إليك، إذا واحد خاف أحد من الناس يهرب منه، لكن أنت ماذا يعمل؟ يهرب أين؟ ما شي إلا يجي لعندك، ينطرح عليك ويرجع إليك، من خاف أحدًا من خلقك هرب منه ومن خافك هرب إليك -لا إله إلا الله- ما أعظمه وما أكرمه.

إذًا فالسّالك يقول: "الذي تجرّد عن الأكوان جملة لطلب المقصد، وله أحكام في سلوكه؛ إما أن يكون:

  •  متجردًا في الظاهر والباطن"، يعني: ليس له انشغالٌ ظاهر بمعاناة الأسباب والكسب في هذه الحياة الدنيا، ولا بشيء من هذه الكائنات، وباطنه لا يلتفت إلى غير الله -جلَّ جلاله-؛ فهذا متجرّد الظاهر والباطن، ما توجه عليه مسؤولية لأجل يكسب لأهل ولا لأولاد ولا من تلزم نفقته، ولا توجه إليه أيضًا واجبٌ بما يُسِّر له من أسباب يسد فيها مسدًا للمسلمين، أو يدفع عنهم شيئًا من الأضرار، أو ينقذهم من شيء من الآفات؛ فهذا متجرّد في الظاهر وفي الباطن.

  • "وإما أن يكون متجردًا بالباطن" -فقط- "دون الظاهر"، الظاهر: مزاول لأنواع من الأسباب، تجارة، صناعة، زراعة حراثة، حرفة، أي شيء من الأسباب مزاول لها ويشتغل بها؛ ولكن باطنه متجرّد، لا تلهيه ولا تقطعه عن مسنونات شرع باريه، فضلًا عن الفرائض، ولا تُوقِعُه في مكروهات منهج إلهه فضلًا عن الشبهات والمحرمات هذه الأسباب، ولا يعتمد عليها ولا يستند إليها، فهو متجرّدٌ بالباطن دون الظاهر، في الظاهر يزاول ويطلع يزرع ويحرث، أو يبني، أو يهندس، أو يقود سيارات أو طائرات، أو إلى غير ذلك؛ ولكن باطنه متجرد، كل الذي يزاوله ما يلهيه عن ذكر الله، ولا يقطعه عن الأدب مع الله، ولا يعتمد عليه دون الله ولا يرى له استقلال في تقريب شيء (..إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ..) [التكوير:29]، ولا يقع بسببه في مكروه فضلًا عن شبهة أو حرام،  ولا يُقصّر بسببه في سنة فضلًا عن فرضٍ وواجب، هذا متجردٌ الباطن دون الظاهر.

  • "وإما أن يكون متجردًا بالظاهر دون الباطن"، -لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- ظَاهِرُهُ متجرّد بما يقوم بشيء من الأسباب، وباطنه مشغول بالخلق والالتفات إليهم. 

  • "وإما أن يكون مختبلًا بالظاهر والباطن، وذلك أمره ظاهرٌ لا يحتاج إلى بيان -ساقط هابط- ولا يرفع به في طريق القوم شأن، بل يترك وشأنه الذي أُقيم فيه، حتى يخلِّصه الله، أو يهلكه -والعِياذُ بالله تعالى- ولا يُتعرض له إلا من جهة النصح لعموم الخلق" فقط.

لأننا بإيماننا بالله ورسوله حملنا أمانة أن ندعوا أنفسنا ومن حوالينا والأمة، إلى منهج الله وإلى طريق الله، وإلى ما يحبه الله منهم ونحذرهم مما يكرهه -سبحانه وتعالى- في معاملاتهم وأقوالهم وأفعالهم، فكل من قدرنا نبلغه بأي وسيلة بلَّغناه؛ لأن نبينا أُرسل إلى الكل، ثم قال لنا: "بلغوا عني ولو آية"، حتى فَقِهَ الصحابة من هذه الأمانة، ما جعل أحدهم يخرج من بلد إلى بلد في الجهاد في سبيل الله، ويقف على بحر يقول: "لو أعلم أن وراء هذا البحر أحد يُبَلَّغ هذه الدعوة لركبت البحر حتى أبلّغه".

 

انظر؛ منهم وقت وفاته ﷺ حوالي مائة ألف وستين ألف من الصحابة، ما أحد قُبر منهم حواليه في مكة والمدينة -لا المدينة ولا في مكة- إلا حوالي عشرين ألف من مئة وستين ألف، أين مائة وأربعين؟ وأين مائة ألف وأربعين ألف؟ تفرّقوا في الأمصار، ما تجي بلاد العرب ولا بلاد العجم إلا وآثارهم هناك، واحد قبره هنا واحد قبره هنا، واحد في آسيا، واحد في أفريقيا، واحد منهم في نواحي روسيا وخراسان؛ قبورهم هناك موزعة في العالم، حملوا الأمانة، راحوا يبلغون، الأماكن التي قُبروا فيها ليست بلدانهم، ليست أوطانهم، ما فيها أهلهم ولا أولادهم؛ لكن خرجوا من أجل الله، وبلّغوا دين الله -تبارك وتعالى-. 

واليوم المسلمون ما عندهم رحلات! إلا رحلات كثيرة؛ لكن لا لله ولا لنصرة دين الله، ولا لحمل الأمانة وأدائها، ولا لبلاغ شرع الله؛ جاءوا لأجل حمل الشهادات؛ لأجل تحصيل الوظائف، ولأجل كسب المال، ولأجل السياحات ولو بوساخات، ولأجل المباهاة، جاؤوا شيء من أمثال هذا، كثروا، كم يسافرون من المسلمين كل يوم؟ شرق وغرب، طائرات مليانة، والسفن مليانة، والسيارات مليانة بِالبر والجو والبحر، كم نسبة الذين لأجل الله يخرجون؟ هم مسلمين، شهدوا أن لا إله إلا الله، ولكن الذين يخرجون من أجل الله كم منهم؟ ولا عُشُر، ولا عُشُر العُشُر، البقية كله لأغراض مثل الكافر بيتّجر، بِيكتسب شهادات، بيتفسح ويِتنزه، مثل الكافر تمامًا، هو مسلم هل في قصد لوجه الله؟! عند القليل، لهذا لمّا كان المسلمون حتى إذا احتاجوا إلى سفر ولو لكسب معيشة يجعلونه لله، صار المسلمون ما يأتون بلد من البلدان إلا تأثر الناس بهم، ودخل فيها الإسلام، وانتفع بهم أكثر الناس.

ولكن عند التقدم حقنا هذا في القرون الأخيرة؛ يسير المسلمون يذهبون إلى البلدان المختلفة فيتأثرون هم، ما يُأثرون على غيرهم، هم يتأثرون بالكفر والكفار.

 هذا الذي ذكروه لكم في الدانمارك، وهو في عدة دول من دول الكفار في شرق أوروبا، نسبة المسلمين من عموم السكان ثلاثة في المائة، في بعضها سبعة في المائة، ولكن نسبة المسلمين في السجون أربعين بالمائة، خمسين بالمائة، ستين في المائة، هم كثرة وسط السجون المسلمين أكثر، نسبتهم تكثر وسط السجن؛ لأنهم على نقيض الإسلام، لأنهم على مخدرات، ولأنهم على مسكرات، ولأنهم على ظلم، ولأنهم على جرائم -نعوذ بالله-، كيف بغوا الناس يتأثرون بهم؟ هم تأثروا بدلًا عنهم. 

ولكن كان المسلمون ما يسافرون حتى ولو لطلب المعيشة، إلا والبلدان التي سافروا إليها تأثرت بهم؛ لأنهم يذهبون ومعهم نور الإسلام وحقيقته وعظمته، والعمل به وتطبيقه، فيتأثر الناس بهم، لكن هؤلاء  أين ذهبوا؟ أين تخرجوا؟ وماذا لديهم من حقائق نور الإسلام؟ ولا  ذهبوا  إلا لمقصد الدنيا، وبعضهم يفسد مقصده إلى أبعد الحدود، يجيء يصير من أصحاب الجرائم في تلك البلدان؛ يا لطيف، الله يتدارك المسلمين ويغيثهم.

 يقول: هذا الصنف الذي اختبل في الظاهر وفي الباطن، ولم ينقطع إلى ربّه قط، وانقطع عن ربّه بكل شيء، ما بيننا وبينه إلا نصح، عموم النصح لعموم الخلق، نؤدي حق النصيحة، وحق البيان، والهادي هو الله، لكن الثلاثة الأقسام هؤلاء قال بيتكلم عنهم:

فالأول: المتجرّد ظاهرًا وباطنًا، هذا الصادق، يعني: "ما ترجم عنه المصنّف حيث قال: لا تَمدّن يدّك إلى الأخذ من الخلق"، فهذا ذُلُّك، وهذا استعبادك لغير الحق، استعبدك الخلق وهذا مهانتك؛ ولذا لما سئل نبينا ﷺ، قال له صحابي:" "دُلَّني على عملٍ إذا أنا عمِلتُه أحبَّني اللَّهُ وأحبَّني النَّاسُ، قال: ازهد في الدُّنيا يحبُّكَ اللَّهُ وازهد فيما في أيدي النَّاسِ يحبُّكَ النَّاسُ".

"لَا تَمُدَّنَّ يَدَكَ إِلَى الأْخْذِ مِنَ الْخَلْقِ.. إِلَّا أَنْ تَرَى الْمُعْطِيَ فِيهِمّ مَوْلَاكَ؛ فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ.. فَخُذْ مَا وَافَقَ الْعِلْمَ"، لا تأخذ الشبهة، ولا تأخذ الحرام، ولا تأخذ للتَّكَثُر، ولا تأخذ لتُستدرج إلى السوء، لا تأخذ ليُستضر بذلك غيرك، أو لتُتخذ جسرًا يعبر عليك إلى سوء، بل بالعلم خذ! خذ بالعلم ما وافق العلم معتقدًا أن المعطي هو الله، من اعتقد أن المعطي هو الله ما يقول لك فلان قَصَّرعليّ،  فلان زَيَّد عليّ، أعطانا فلان، منعنا فلان، أنت قاعد عندهم ولا تشهده هو؟ من أولهم لآخرهم، إذا ما عطف قلب أحد عليك ما حد بيعطف عليك، وإذا سخّر قلب أحد مُكره بيسلم لك على رغم أنفه، مِن عنده هو الذي  يعطي وهو الذي يمنع -جلّ جلاله-.

ولكن قولك: أعطاني .. منعني .. زَيَّد عليّ .. قصّر في كذا .. تسبّب في كذا .. حرمنا من كذا، هذا دليل أنك مع الخلق ما مع الخالق؛ أنت تأخذ من الخلق ونسيت الفَعَّال الذي يحركهم، وظنيتهم مثل آلهة قدامك هم يتصرفون في الكون ويحكمون فيه، وما هم إلا آلة تحت الجلالة، إن كنت كذلك ترى المعطي فيهم مولاك لا هم، لا تسب أحد، ولا تشتم أحد، لا تظل تبالغ في مدح أحد من شأن أنه أعطاك، لا تمدح إلا من يحبّ الله مدحه بما يحبّه الله، هكذا ولا تذم إلا ما يحبّ الله ذمّه، ليس لأجل هذا أعطانا، هذا أحسن إنسان، هذا خَيِّر، أعطانا كذا أعطانا كذا، هو بعدين أحسن واحد في العالم، وهو حتى بلا صلاة ما يِصَلي، حتى قاطع الرحم، حتى عاق الوالدين، طيب هذا الإنسان، طيب ماذا؟! أعطانا كذا، هل هذا مقدار الطيبة عندك؟ 

وإذا سُئل عن فلان ثاني يقول هذا شيطان من الشياطين، ماذا فعل؟ ما أعطانا شيء! وردّ عليّ كذا، وإن كان صالح تقي خَيِّر، شيطان بقصد، ما دام ماشي جاءني قصدي منه خلاص، ما ميزانك هذا؟! أنت عبدت الخلق الآن، واعتقدت أنهم المانعين المعطيين، والمانع والمعطي واحد، اسمه الله -جل جلاله- "لا مَانِعَ لِما أعْطَيْتَ، ولَا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ، ولَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ".

قال: "هذا معناه ظاهر في بيان الحق من التلبيس بما يتعاطاه الجهَّال المفاليس، الذين صحبوا الدعوىٰ واتبعوا الأهواء، وظنوا أن ذلك توحيد، وليس كما ظنوا؛ فالتوحيد لا ينافي ثبوت السنة، بل يؤيدها؛ فلذلك بيَّنَ حال الصادقين عن المُدَّعين بقوله: "لا تمُدَّن يدك إلى الأخذ من النخلق" إن كنت صادقًا؛ لأن ذلك يُنافِي الصدق في التوحيد، ويُناقِضُ الثُّبوتَ على التجريد،"، ما دام تشهد أنهم هم المعطين، وإن اعتقدت أنهم مجرد أسباب أجرى فيهم المسبب ما أراد؛ حينئذ تقوم الأشياء على ما أحبّ منك؛ "لأنك تطلُبُ المُراد وتفتقرُ إلى المُريد" كيف هذا؟ تطلب المراد، ثم تفتقر إلى الخلق المريدين تطلب التوحيد، تثبت التعديد ذا ينفع، وذا ينفع، وذا ينفع، وذا ينفع، وذا يضر، وذا يضر، وذا يضر، ما هو واحد نافع ضار؟ من جهة الخلق والإيجاد هؤلاء مجرد أسباب تحت أمره هو من فوق، "واعلم أن الأمّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك.." من فوق، ماشي من فوق ما أحد يقدر يأتي به، "..ولو اجتَمعوا على أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ رُفِعتِ الأقلامُ، وجفَّتِ الصُّحُفُ"، اسم كل واحد و ما  يحصل له، وما يكون له، وما يحصل، وما يجيء له، ومن يعطيه، كله مكتوب مقدَّر من فوق، ولا عاد يزيد ولا ينقص.

فاحذر تدعي أنك تطلب المراد، وتروح وتفتقر للمريد، تدعي التوحيد، وتقوم بالتعديد، وأنه خمسة ستة عشرة، نافعين وضارين، مقدمين ومؤخرين، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت -جل جلاله- الله يرزقنا حقيقة التوحيد. 

قال: "وتطلُبُ التوحيد وتُثبِتُ التعديد، فلا تمُدَّن يدك بسؤالٍ إلى غير الكبير المُتعال"

لاَ تَسْأَلَنَّ بُنَـيَّ آدَمَ حَاجَــةً *** وَسَلِ الَّذِي أَبوَابُه لاَ تُحْجَبُ

اللهُ يَغْضَبُ إِن تَرَكْتَ سُؤَالَهُ *** وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْـــأَلُ يَغْضَبُ

ابن آدم حين يُسأل، إن كان كريم أول مرة .. ثاني مرة .. رابع مرة يقول: انت ما معاك شغل؟ قاعد دايم هنا، كل يوم تجي عندنا، لكن ربك يحب المُلِحِين في الدعاء، يعطي ولا يبالي، ويفرح منك لما تطلبه وتدعوه، ما أكرمه من إله. 

قال: "فعنده تقفُ المطالِبُ والآمال، وإليه يرغبُ العبادُ في السُّؤال، فإن كنت متجرِّدًا ظاهرًا دون الباطن.. فعلامتُه الافتقارُ إلى الخلق"، تدعي أنك متجرّد، وأنك معتمد عليه، وتقوم تفتقر إلى خلقه، وتتذلل لخلقه، وتبذل مروءتك من أجل الخلق -لا حول ولا قوة إلا بالله- "والتعبّدُ لهم، وانتظارُ ما يصدُرُ منهم وعنهم، فيمدحُهم لما يجريه الله له على أيديهم"، ما يحمد الله، بل يقول: أعطونا هؤلاء، "ويذُمُّهم إذا لم يُقدِّر له عندهم"، لم يُقدّر الله له عندهم ذلك يذمهم، "وينالُ أعراضُهم بالغِيبة والتنقيص والشتم إذا وصلَه أذىً على أيديهم، -لا إله إلا الله- "وذلك دليلٌ على إظلامِ سريرتِه، وانطِماسِ بصيرتِه"، الله يلحقنا بالصادقين.

قال: "وبقيَ قسمان: فسالِكٌ متسبِّبٌ ظاهرًا ومتجرِّدٌ باطنًا هذا لصحة توحيده لم يختر على الله، ولكن اختار ما أختاره الله له، في أي حالة أقامه فيها، ولم يذمه عليه لسان الشرع"، قال: أنا حيث يقيمني الله، راح يشتغل في الربا،  يشتغل في جمرك وفي أخذ الضرائب على الناس، ما لك؟ قال: أقامنا الله، الله أقامه؟ شيء حرّمه عليك ونهاك عنه، وتقول هو أقامك؛ قليل أدب .. قليل حياء، أَقامتك نفسك وشيطانك، أنت نفسك وشيطانك أَقاموك في هذا، ما هو ربك، ربك يقيمك في ما يحب، ومع من يحب -لا إله إلا الله-.

 قال: "فالذي يطلُبُ التجرُّدَ من غير أن يُرادَ له، مُستعجِلٌ للراحة، ولا يحصُلُ له المطلوبُ منه؛ لأنه قامَ فيه بنفسِه، وكلُّ ما قامَ فيه بها -أي: بنفسهُ- تعب لا يتِم"، لا يتم مطلب أنت طالبه بنفسك، ولا تأخر مطلب أنت طالبه بربك.

قال: وأرباب الفهم عندهم قال: لا يوجد فرق، فالفضل بين الذي يقوم في الشيء بالله أو يخرج عنه بالله كلهم على فضل، لا فرق بينهم. وكذلك قلة الأدب يخرج عن الشيء بنفسه، أو يدخل فيه بنفسه كله سواء، كلهم مذمومين، لأنهم غفلوا عن رب العالمين، لأنهم اتبعوا أهواءهم وشهواتهم، وأقاموا وأرادوا  أن يقيموا أنفسهم -لا إله إلا الله-.

قال: "إذا علِمتَ أن الله سبحانه قدَّر في سابق علمِه أن يُقيمَ خلقًا في دارٍ، ويلازِمَهم فيها الاحتياج إلى أرزاقٍ قدَّرها لهم وحكمَ عليهم بها، وبها يظهرُ سرُّ قهرِه وغلبة أمرِه فيهم، وهذه الأرزاقُ منها: ما يأتي بتسبُّب وسعي في طلبِها، ومنها: ما يأتي من غير تسبُّبٍ ولا سعي.

وقال رضي الله عنه وعنكم:

"فالأول: يقام فيه المتسبِّبون، وهو حالهم، فيحتاجون فيه إلى العلم بما يأخذون وما يَذرون، ما يحلُّ أخذه ويجب تركه؛ فكل من أراد أن يتسبَّب بسببٍ.. فلابدَّ له فيه من علمٍ يكون فيه محسنًا، وفيه متأدِّبًا، وإلا وقع في ورطات الحرام، ومهالك الجهل، وعلامته: حصول النتائج من أعمال البرّ، وإيصال ما أمر الله به أن يوصل. 

وأما ما يأتي بلا سببٍ ولا سعي، فهو رزق المتجردِّين، ولهم أحكام وآداب، فمن حكم المتجرّد الصادق: ألَّا تتعدَّىٰ همّته مولاه الكريم، ولا تستشرف نفسه إلى المخلوقين؛ فذلك قدح في توحيده، وشرك في تفريده؛ فقد يأتيه عدُّوه و يَحضُّه عَلى التعلّق بالمخلوقين، وطلب الرزق من المسترزقين، فَيحتاج قوةَ يقينٍ يدفع بها تسويلاته، ويحتجُّ بها عليه بحججٍ قاطعةٍ له عن مُناوأته، وليس ذلك إلا بصدق التوكل، وقوة اليقين، ونفوذ العزيمة، وعلوّ الهمة إلى جناب مَنْ بيده ملكوت كل شيء، وعنده خزائن السماوات والأرض، ويرىٰ عجز الخلق عن أن ينفعوا نفوسهم، فضلًا عن غيرهم، فيعتمد -لا محالة- على عميم فضله، ويستند إلىٰ منيع جَنابه، وينتظر رفع ما نزل به من الفاقة، ودفع ما ألمَّ به من البلاء من سيّده، لا يتعدَّى إلى غيره.

 ومن علامة ذلك: ترك الشكوىٰ إلى الخلق، والرّضا عن المولىٰ فيما قضىٰ، والاكتفاء بنظره في جميع الأحوال، فإذا كمُل توحيده، ورسخ في المقام اليقين تجريده، فلا بد من أن يأتيه ماقدر له من الرزق المقسوم".

 

  • يقول: فمنه رزق يأتي بتسبّب وسعي في الطلب، وهذا قال: "يقام فيه المتسبِّبون، وهو حالهم، فيحتاجون فيه إلى العلم بما يأخذون وما يَذرون"، قال سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "من لم يتفقّه في ديننا فلا يبع في سوقنا"، يتعلم نظام الشريعة في البيع والشراء، في الوكالة، في الإيجار، في المزارعة، في المخالعة، وكل ما يزاوله من عمل يعلم حكم الشرع فيه، وما يحلّ أخذه وما يجب تركه؛ فإذا أراد أن يتسبّب لابد له من العلم يكون فيه محسنًا وفيه متأدبًا.

ولهذا يقول: فمن اتّجر قبل أن يتفقّه فقد ارتطم في الربا، ثم ارتطم ثم ارتطم، ويقع في المعاملات الفاسدة.

قال: "وعلامته: حصول النتائج من أعمال البر، وإيصال ما أمر الله به أن يوصل"، يصل رحِمه، يؤدي زكاته، يتفقّد جيرانه، يساهم في النّوائب والنوازل للمسلمين طيبّة بذلك نفسه، هذا علامة أنه صادق في سعيه وفي كسبه، ويمشي على العلم، وأن ما يكسبه حلال معين له على الطاعة، ما يكسب ويبخل، أخته تحتاج ما يعطيها شيء، وابن أخته يفتقر ما يعطيه شيء، يفتقر من أرحامه وأقاربه ولا يسأل عليهم، جِيرانه يبيتون طَاوين بلا عشاء ولا يعطيهم، "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يدري به"، ما عنده من الإيمان شيء، وهكذا..

(وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ..) -والعياذُ بالله تعالى- (..بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة:75-77].

 وهكذا قال: "وعلامته: حصول النتائج من أعمال البر، وإيصال ما أمر الله به أن يوصل".

  • أما الثاني "وأما ما يأتي بلا سبب ولا سعي.. وهو رزق المتجرّدين، ولهم أحكام وآداب، فمن حكم المتجرّد الصادق: أن لا تتعدى همته مولاه الكريم، ولا تستشرف نفسه إلى المخلوقين" ويراهم مجرد أسباب يحركهم المسبّب الوهاب -جل جلاله وتعالى في علاه-، وإذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله.

 قال: "فذلك قدحٌ في توحيده" اِستشرافه إلى المخلوقين، وأن تتجاوز همّته الحق إلى الخلق، "وشركٌ في تفريده؛ فقد يأتيه عدوه و يَحضُّه عَلى التعلّق بالمخلوقين، وطلب الرزق من المسترزقين، فَيحتاج قوة يقين يدفع بها تسويلاته" -تسويلات إبليس- " و يحتج بها بحجج قاطعة له عن مُناواته، وليس ذلك إلا بصدق التوكل وقوة اليقين، ونفوذ العزيمة، وعلو الهمة إلى جناب" -مولاه- "من بيده ملكوت كل شيء، وعنده خزائن السموات والأرض"

 (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون:7]. 

قال: "ويرىٰ عجز الخلق عن أن ينفعوا نفوسهم، فضلًا عن غيرهم، فيعتمد -لا محالة- على عميم فضله -فضل الله-، ويستند إلىٰ منيع جَنابه -جناب ربه تعالى في علاه-، ومن علامة ذلك: ترك الشكوى إلى الخلق والرّضا عن المولى فيما قضى، والاكتفاء بنظره في جميع الأحوال".

 إذًا "فلابد من أن يأتيه ماقدّر له من الرزق المقسوم"، ثم "في تناوله آداب ظاهرة، وآداب باطنة".

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

 ورضي الله عنه وعنكم إلى أن قال:

 "وله في تناوله آداب ظاهرة، وآداب باطنة:

 فمن الآداب الظاهرة: أن يراعي ما حظره العلم عليه من التناول من الأيدي، وإلا وقع في الحرام والشبهة؛ فمنها: ما يكون التناول حرامًا، ومنها: مايكون شبهةً قويةً، وشبهةً قليلةً.

 فمن الحرام: التناول مِن يد مَن ليس له كسبٌ إلا من محرَّم؛ كمعامل الخمر، وعامل الرّبا الذي ليس بيده غيره، أو ما بأيدي أهل الرّبا الذين ليس لهم حرفة يستندون إليها، وأهل الغصب من العمال السلطانية دون مولينهم؛ فإن أموالهم شبهة قوية، لما قد يدخل أيديهم من الأموال الضائعة والفيء، وغير ذلك مما لا يبعد وجود الحِلِّ في أموالهم، وأما عمّالهم فهم الذين لم يوجد في أيديهم إلا سحت الحرام، فليحذر منهم أشدَّ مِن الملوك نفوسهم. 

وممن تقوى الشبهة فيما بأيديهم الجندُ الذين لم ينتظم لهم بيت مال، بل يأخذون ما بأيديهم بالشوكة والتغلّب؛ كما هو الموجود في هذه الأعصار في سائر الأمصار. 

ويلحق بهم المخالطون لهم، والمتشبهون بهم في الزي والهيئة، وأرباب الصناعات المكروهة كَالصياغة، ومن يباشر حرف الظَلمة كائنة ما كانت. 

ويلحق بهم أغمار الأعراب، ومن لا يكترث بالسُّنَّة، ولم يعامل بالعلم، وأرباب الأوقاف المتهوّرين فيها، الذين اتخذوها دُولَة، ويحسبونها من جملة أموالهم، ويصرفونها بحسب أهوائهم على غير ما شرطها الواقفون وسائر أهل الولايات الدنياوية؛ كالحكّام، وقضاة الأمصار، والعراف، وأهل الاحتساب. 

ومَن يأكل بدينه ويظهر غير ماهو عليه من التصوف؛ ليُعطَىٰ ممَّا هو موقوف على الصوفية، أو يظهر العلم وليس كذلك؛ ليُعطىٰ مما هو موقوفٌ عليهم، أو ليعطىٰ من غير وقفٍ لذلك. 

والمتجرِّدُ متعرَّضٌ لذلك كله، والسبب مع السلامة من هذه المهالك أولىٰ به، فهذا بعض الآداب الظاهرة، وإن أردت استقصاءها على الكمال فعليك بمطالعة كتاب (الحلال والحرام) من "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي" -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-. 

 

قال: وهؤلاء المُتجردون لهم آداب فيما يأتيهم من الرزق من غير تسبب منهم ولا سعي ولا كسب:

فأول ما يراعون ما حظره ومنعه عليهم العلم الشرع، من تناول من الأيدي فيراعون ذلك حتى لا يقعون في الحرام ولا الشبهة، فمنها ما يكون التناول منه حرامًا، ومنها ما يكون له شبهة قوية، من الحرام: تناول من يد من ليس له كسب إلا من محرم، واحد معروف شغله في المخدرات ولا له كسب غيرها، ولا معه مزرعة ولا معه تجارة ولا معه حرفة، تاجر مخدرات يأتي يعطيه ويقْبَلُه منه، تقبله كيف؟ ما تعلم أن هذا ما له كسب ولا دخل إلا الحرام! فلا يجوز أخذه، يقول: أنا متجرد! متجرد عن ماذا؟ متجرد ولا مُتهرد؛ بل يجب أن تردّ الحرام بكلّه، ويعرف واحد شغله الربا ولا له دخل إلا من الربا، ما يجوز يأخذ منه شيء -لا إله إلا الله-.

وأهل الغصب كذلك.

وبعد ذلك شبه تأتي قويّة لما يدخل على أصحاب السلطة من الأموال الضَائعة والفيء وغير ذلك.

وقال: "عمّالهم فهم الذين لم يوجد في أيديهم إلا سحت الحرام، فليحذر منهم" أشدّ الحذر.

"وممن تقوى الشبهة فيما بأيديهم الجندُ الذين لم ينتظم لهم بيت مال، بل يأخذون ما بأيديهم بالشوكة والتغلّب؛ كما هو الموجود" -أو يفرضون الضرائب ونحوها-، قال: "ويلحق بهم المخالطون لهم، والمتشبهون بهم"، في أزيائهم، "ويلحق بهم أغمار الأعراب، ومن لا يكترث بالسُّنَّة، ولم يعامل بالعلم"، ولهذا يقول: إذا صمت فانظر على ماذا تفطر؟ وعند من تفطر؟

 وكذلك "ومَن يأكل بدينه ويظهر غير ماهو عليه من التصوّف؛ ليُعطَىٰ ممَّا هو موقوف على الصوفية، أو يظهر العلم وليس بذلك -بعالم-؛ ليُعطىٰ مما هو موقوفٌ" -على أهل العلم مصيبة-.

كذلك قال: "والمتجرّد متعرض لذلك كله"، وكذلك أرباب الأوقاف المتهورين، يظنون أنه لما نناظر على الوقف أن له الحق يأخذ ما شاء، أو يَصرّفها حيث شاء، حيث اشترط الواقف وليس حيث تشاء، حيث مصلحة الموقوف عليه فقط.

 قال: "إذا أردت استقصاء هذه المعاني على الكمال.." خذ لك كتاب "الحلال والحرام من كتب إحياء علوم الدين"، فإنه نفيس في بابه يكاد أن يكون معجزة، ومن همّه أمر الدين اهتم بالحلال والحرام، ومن لم يبال من أي باب دخل عليه الرزق لم يبال الله به في أي وادٍ من أودية جهنم أهلكه -والعياذُ بالله-، نظر الله إلينا، وثبّتنا على من يحب ويرضى منّا.

بسم الله الرحمن الرحيم

 رضي الله عنا وعنكم، إلى أن قال: 

"ومن الآداب الباطنة: عدم التطلّع والاستشراف إلى الخلق، والطمع فيما أيديهم، وتعلّق الباطن بإقبالهم وإدبارهم، واتباع إشارة القلب الأولى في ترك ماتجد نفرته منه في أول وهلة، وردَّ النفس فيما تدعو إليه، ويجتنب إرفاق الأحداث، والنسوان الذين لم تحتنكهم الآداب ما أمكن؛ فإن قبول إرفاقهم أدعى لهم بالقرب والمودة والمخالطة - ومخالطتهم منهي عنها كما علمت من قواعد أهل الطريق- وأوقع في قلب المريد؛ لسريان أخلاقهم إليه؛ الذي هو مطالب باجتنابها والخروج منها. 

وليس الإنسان على الاستشراف على الرزق من حالته ملومًا؛ لانه ضعيف محتاج، بل فيه إظهار لما هو المطلوب منه؛ من الذلّة، وقلّة الحيلة بين يدي ذي القوة المتين، فإذا قام بحيلة الاضطرار فلا حرج في السؤال لما يسكن به داعية الطبع؛ فمن مات جوعا وهو يقدر على أن يسأل ما يرد به رمقه مات قاتل نفسه؛ كما ورد في معنى ذلك الحديث، هذا إذا لم يؤيده الله بقوة في حاله تغنيه عن ذلك. 

وأما أهل الصدق الذين باشر قلوبهم روح اليقين، فلا يحتاجون إلى السؤال، بل همته لاتخطَّي سجدته إن كان جالس، ولا تخطَّي خطواته إن كان سائرًا، يسير على مهل، لا يستفزه الحرص على إدراك ماهو غائب عنه، ولا الاستعجال لما هو حاضر لديه؛ لعلمه أنه إن كان له قسم لم يفته وإن تأنى، وإن لم يكن لم يدركه وإن تعنّى، كمثل ذلك اطمأنت القلوب إلى جناب المحبوب، وسكنت عن اضطرابها، وسلمتْ من وباء الشك، ووقفتْ عند حسن الإختيار، وصحّ لها مقام الإنتظار، وطابت لها، الأوقات بالأذكار وصفت بها الأفكار، آناء الليل والنهار".

يقول: "من الآداب الباطنة" -ألا يتطلّع بباطنه- "والاستشراف إلى الخلق" -أصلًا-، "واتباع إشارة القلب، فـالأولى في ترك ما تجد نفرته منه في أول وهلة"، وهكذا ما يأتيه الأحداث والنساء الأجنبيات يتجنّبهم ما أمكن؛ حتى لا يقع في الاختلاط أو الشطط. 

ومع الإنسان ضعف؛ ولكن لا يجوز له السؤال للخلق إلا عند الضرورة، وعند شدّة الحاجة، حتى أن الذي يموت من الجوع وهو قادر على السؤال يعدّ كأنه قتل نفسًا؛ لكن أرباب الصدق لا يحتاجون إلى هذه المسائل، ولكن بمجرد أن يتوجّهوا إلى المعطّي الحق، يفتح لهم الباب من هنا أو من هناك، وقد يختبرهم في وقفةٍ، أو في حالةٍ، أو في وقت من الأوقات، ثم يفتح لهم من أبواب رِفقه -سبحانه وتعالى- ما يجلّ عن الوصف -لا إله إلا هو-، (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: ٥٨]، يا فتاح يا رزاق يا كافي يا مغني افتح علينا، وارزقنا، واكفنا، واغننا بك عمّن سواك.

بلغ الله المصطفى عنّا شريف التحيّات، في جميع الآن والأوقات، في جميع اللحظات والساعات، وجعلنا -سبحانه- من أسعد أمّته به ﷺ في جميع الشؤون، وفي الظهور والبطون، ورقّانا بمراقي من يهدون بالحق وبه يعدلون، ورفعنا مراتب الصدق معه والإخلاص لوجهه الكريم -سبحانه وتعالى- في جميع شؤوننا، ولا يجعل لنا مقصودًا سواه، في جميع ما نقول ونفعل، ونأتي ونترك، لا يجعل لنا مقصودًا سواه، لا يجعل لنا مقصودًا سواه، ويرفعنا مراتب من شهدوا أن لا موجود إلا هو، وأن لا مشهود إلا هو، وأن يحقّقنا بحقائق لا إله إلا الله، ويرعانا بعناية حيثما كنّا، وأينما كنّا، ويختم لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنّا، ويبارك لنا وللأمة في هذا العام، ويجعله من أبرك الأعوام، على جميع أهل الإسلام، في كل خاص وعام، ويبلغنا المرام وفوق المرام، ويرزقنا كمال حسن الختام في عافية. 

 

بسرّ الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

09 مُحرَّم 1446

تاريخ النشر الميلادي

15 يوليو 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام