شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 113- من قوله: (مَن أُذِنَ له في التَّعْبيرِ فُهِمَتْ في مَسامِعِ الخَلْقِ عِبارَتُهُ..)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم، عصر يوم الأربعاء: 4 محرم 1446هـ، في شعب النبي هود عليه السلام، من قوله:
(مَن أُذِنَ له في التَّعْبيرِ فُهِمَتْ في مَسامِعِ الخَلْقِ عِبارَتُهُ، وَجُلِّيَتْ إلَيْهِمْ إشارَتُهُ)
نص الدرس المكتوب :
"والإذن من الله لعبده في الكلام أصل النفع، والإذن لا يُعرف إلا بدليل يدلُّ على أنه مأذون له في الكلام، مرضي له في القول، وكلام غير المأذون لا جدوى له؛ وإن تنمَّق وتزخرف؛ لذلك قال المؤلف -رضي الله عنه- منبهاً على دلالة الإذن :
184: مَنْ أُذِنَ لَهُ فِي التَّعْبِيرِ .. فُهِمَتْ فِي مَسَامِعِ الْخَلْقِ عِبَارَتُهُ، وَجُلِّيَتْ إِلَيْهِمْ إِشَارَتُهُ.
مَنْ أُذن له من الواصلين، والعلماء المحقّقين، والسادات المقرّبين في التعبير عما يجده من كشف العلوم، وإيضاح الحقائق، وبيان طرائق الهدى بعد تمكّنه منها، وتحققه فيها على المحجة البيضاء، والحنيفية السمحاء، الذي لا يدخل فيها ارتياب، ولم تُغط بكثيف حجاب؛ بإيصال النفع، والدعاء إلى الجمع .. فلذلك دليل وعلامة .
فعند صاحبه: بأن يجد في سرّه من الله أمراً لا يمكنه خلافه بأخذه عن الكشف واليقين ، فيتكلم بالله لا بنفسه ، ولله لا لهوى ولا لطلب حظ ، ومن الله أدبًا واستنطاقًا واستئذانًا، وإلى الله التجاء ولياذًا واعتمادًا.
ودليل ذلك للمتلقي أمور ظاهرة وأمور باطنة؛ فمن الظاهر: حسن الاستقامة، واتباع السنة، والورع والزهد والإنابة، وغير ذلك من شعائر الدين.
والدليل باطناً: بأن يجد لكلامه إساغة وقبولًا، وفهمًا وتعشقًا، وللإشارة فهمًا وفتوحًا.
فإذا فهمت العبارة، وتجلَّتْ لك الإشارة .. فاقبل ولا تنكر، فتكون من حيِّز أهل الغرة بالله؛ لقوله ﷺ: "إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعرفه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به .. لا ينكره عليهم إلا أهل الغِرَّة بالله".
ولي في ذلك:
علامة الإذن في إظهار معرفة *** للسامعين أمور تحتوي فيها
وجود فهم لما عبّر مطابقة *** ويَجتلي من علوم الكشف خافيها
إذا أذِنَ لك -سبحانه وتعالى- بالكلام فيخرج الكلام على اتزان، وعلى إحسان وعلى زينة؛ ويفهمه من يخاطب ويتأثر به.
-
وهناك عندنا إذن عام في الكلام بظواهر الشريعة المطهرة، وواجب أوامرها ونواهيها؛ بما لا إشكال فيه؛ فهذا أمر أَذن الله لنا تعالى أن نتكلم فيه، فعلينا أن نتكلم في هذا.
-
أما ما يلي ذلك، أو ما يكون وراءه من تبيين خصائص المعاني، ومستودعات الأسرار في الكلام؛ فهذا لمن أُذِنَ له، ومن اطلع عليه ولم يؤذن له فيه فتكلَّمَ به يخرج مكسوفاً وما يجد الإفادة والاستفادة كما سيأتي في الحكمة التي بعدها.
فيقول: مَنْ أُذِنَ لَهُ فِي التَّعْبِيرِ .. فُهِمَتْ فِي مَسَامِعِ الْخَلْقِ عِبَارَتُهُ، وَجُلِّيَتْ إِلَيْهِمْ إِشَارَتُهُ.
ويقول الحبيب علي بن حسن: وقوله للعرب يفتِهم، يشير إلى من أمَدَّهُ الله بالقدرة، ومن أمدّه الله بالإذن؛ فيُأثِِّر ويُقبل كلامه ويُفهم، ويُفهم للعرب ويأثر فيهم.
مَنْ أُذِنَ لَهُ فِي التَّعْبِيرِ .. فُهِمَتْ فِي مَسَامِعِ الْخَلْقِ عِبَارَتُهُ، وَجُلِّيَتْ إِلَيْهِمْ إِشَارَتُهُ.
قال: فهذا "وتحققه فيها على المحجّة البيضاء، والحنيفية السمحاء، الذي لا يدخل فيها ارتياب، ولم تُغط بكثيف حجاب"، فالدليل والعلامة يجد في سرِّه من الله أمراً لا يمكنه خلافه بأخذه عن الكشف واليقين.
"فيتكلم بالله لا بنفسه ، ولله لا لهوى ولا لطلب حظ ، ومن الله أدبًا واستنطاقًا واستئذانًا ، وإلى الله التجاءًا ولياذًا واعتمادًا".
فالذي يتكلم بهذا الحال فالعلامة قائمة في أنه بالله يتكلم، "ودليل ذلك للمتلقي أمور ظاهرة وأمور باطنة؛ فمن الظاهر: حسن الاستقامة، واتباع السنة، والورع والزهد والإنابة، وغير ذلك من شعائر الدين".
دليل ذلك للمتلقي أمور ظاهرة وباطنة:
-
من الظاهر حسن الاستقامة، واتباع السنة والورع والزهد والإنابة، والقيام شعائر الدين.
-
دليل باطن يجد لكلامه إساغة وقبول وفهم وتعشق، والإشارة فهم وفتوح.
قال: "فإذا فهمت العبارة، وتجلَّتْ لك الإشارة .. فاقبل ولا تنكر، فتكون من حيِّز أهل الغِرّة بالله"؛ الذين ينكرون على أهل الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-، فإن الله إذا أراد أن يطرد عبداً من قربه يسلطه على انتقاص أحد من أهل حضرته، فيطرده الجبّار بسبب ذلك - والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ كما لمّا أراد يطرد إبليس من حضرة قربه، سلّط عليه إباء السجود اآدم، والتكبّر على آدم، وقال: أنا خير منه، فطُرد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
وهكذا من يتعامل مع أحد من أهل حضرة الله فينتقصه، أو يتكبر عليه، أو يبغضه، يُطرد كما طُرد إبليس -نعوذ بالله من غضب الله-.
وقال رضي الله عنه وعنكم:
فإذا لم يكن هناك إذن للمتكلم.. فلا يسوغ لسامع ولا يروق لديه، بل يخرج وعليه سماجة الهوى، وظلمة الدعوى؛ كما قال المؤلف -رضي الله عنه-:
185: رُبَّمَا بَرَزَتِ الْحَقَائِقُ مَكْسُوفَةَ الْأَنْوَارِ، إِذَا لَمْ يُؤْذَنُ لَكَ فِيهَا بِالْإِظْهَارِ.
ربما- وقليل بروزها مع وجود الهوى، إلا نادراً مستعارة من كلام غيرها؛ كلابس ثوب لم يُنسج عليه، وجالب تحفة لم تُهد إليه- برزت صورة حقيقة مقبولة من حيث الحكم، ولكنها مكسفة الأنوار، كما يظلم الكسوف بضوء النهار.
وذلك أن شمس السّر الكائنة في برج الروح الدائر في سماء القلب لم تكس من نور الكشف، ما يظهر به استنارته في آفاقه، فلا يتبين بوجوده، ولم يظهر بشهوده أسرار الملكوت، ولم تترآى فيه حقائق الجبروت، فيكون مُكْسفاً لا محالة، فلا تُعرف نفاسة الحقائق هنا؛ لما غشِيها من ظلمة أخلاق النفس الأرضية الحيوانية، وغطى جمالها من غبار الكثائف الغيرية، فلو برزت هذه الحقائق النفيسة في أرض مشرقة بنور ربها.. لحصل لها القبول، وحصلت على كلية المأمول.
فربما تخرج الحقيقة الواحدة على اثنين، فتُقبل من واحد؛ لما عليه من نور جمال الوصال، وتُرَدّ على الآخر؛ لما عليه من ظلمة الطبع وكثائف الهوى، وذلك مشاهد بالذوق لمن له قلب حي يجده لديه عتيداً.
فإذا لم يستكمل أوصاف العرّاف، ولم يحظ بورود الألطاف، ولم تتيسر له العبارة، ولم ينكشف له سر الإشارة.. فذلك دليل على عدم الإذن، وأنه لم يُؤْذَن له أن يكشف الحقائق، ويوضح مشكلات الطرائق، فيلزم الأدب حتى يأتي له الإذن في ذلك، وعلامته: ما أوضحناه آنفاً، ومنه تيسير العبارة له في كل ما توجّه إليه، مع السلامة من الآفات القادحة في الإخلاص، فإذا حصل له ذلك.. كان كالإذن في إبرازها، وهو دليل الرّضا من الله، فلو لم يرد لذلك.. لم يتيسر له صعابها، ولم یکشف له نقابها.
وعند نزولها حينئذ لا يمتري فيه إلا ذو حسد وعناد، لم يحظ بصفو الوداد، فيقوم معارضًا فيحرق دودة نفسه كمدًا، ولم يجد لباطله من الحق مسعدًا، فيرجع خائبًا، ويصير جده بنار الحق ذائبًا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولي في ذلك:
وربما تبرز الأسرار مكسَفة *** لما عليها من الآثار والغِير
وذاك فيها دليل أرباب معرفةٍ *** على استتار وجود الحق بالبشر
هكذا يقول: "رُبَّمَا بَرَزَتِ الْحَقَائِقُ مَكْسُوفَةَ الْأَنْوَارِ، -هي كلام حقيقة- إِذَا لَمْ يُؤْذَنُ لَكَ فِيهَا بِالْإِظْهَارِ. حتى تخرج الحقيقة الواحدة على اثنين"، هذا يتكلم بهذا، وهذا يتكلم بهذا، قال: "فتُقبل من واحد؛ لما عليه من نور جمال الوصال"، وترد على الثاني، ماذا تقول؟ كلام كذاب واحد ولا يقبل منه! هو كلام واحد؛ ذا جابه؛ وذا جابه، لكن من هذا مقبول لأنه مأذون له، ومن ذاك الثاني بدون إذن ما قُبلت منه -لا إله إلا الله-، وهكذا.
قال: "فإذا لم يستكمل أوصاف العرّاف، ولم يحظ بورود الألطاف، ولم تتيسر له العبارة، ولم ينكشف له سر الإشارة.. فذلك دليل على عدم الإذن،… فيلزم الأدب حتى يأتي لهُ الإذن".
هكذا فإذا جاءت العلامة والإذن فيكون كلامه والأناء في الكلام بواضح المسائل، والحثّ على الفضائل، واجتناب الرذائل بظاهر الشرع المصون غُنية، ومساحة واسعة، وكفاية، ما يبقى بعد ذلك إلا شهوة القيل والقال، هي التي تدفع الإنسان، ويشعر بالإفادة للغير، لها مطلب نفسي ولذة تسلطن وتسلّط، فإذا كانت هكذا موجودة عند الإنسان فهي من الرعونات النفسية، التي تمنع الوصول والقبول عند الله -تبارك وتعالى-، لا إله إلا الله.
ولهذا قالوا: من علامة فتنة العالم أن يكون الكلام أحبّ إليه من الاستماع، هذا دليل أنه عالم مفتون -لا إله إلا الله-. وهكذا لما حضر بعض العلماء الصالحين الدعاء في مجلس البعض، شيباننا الأخيار كان في جاوة، ورأى عدد من الشيّاب، وجمع كبير، قال: وددت أنني أتكلم فيهم وأذكرهم بمسائل وأمور، فنظرت إلى فلان وفلان موجودين، فسكت أدبًا معهم، فلمّا انفض المجلس وجينا نصافح، جيت عند الشايب أصافحه، قال: الكلام اللي في قلبك وصّلناه إلى قلوبهم خلاص، والثواب لك، حصل لك الثواب، قال: خلاص الكلام الذي كنت ستتكلم به وصّلنا أثره لقلوبهم، والثواب حصل وأنت ساكت، خلاص روح لك.
لا إله إلا الله، يالله بالتوفيق.
الفاتحة إلى روح سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا رسول الله محمد عبد الله، ثم إلى روح نبينا هذا هود، صاحب الحضرة والمقاومة حبيب الشيخ بكر بن محمد بن سالم بن حبيب، والشيخ أبي بكر وعلي بن مشهور بن سالم بن حفيظ بن الشيخ أبو بكر، وجميع ساداتنا أشياخ أبي بكر، وإلى روح ساداتنا آل با علوي أجمعين، وإلى جميع الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، وأمواتنا خاصة، وأموات المسلمين عامة، بحقهم وسرهم، ربي يقبل الزيارة، ويعجّل بالبشارة، ويجعلها زيارة مقبولة، ويصلح الأمور الظاهرة والباطنة، ويفرّج علينا وعلى جميع المسلمين، لا يردنا خائبين، ربي يقبل الزيارة، ويصلح الأمور الظاهرة والباطنة، يا أكرم الأكرمين، نحن ضيوفك وضيوف نبيّك، وأنبياءك كلهم، ويعطي كل سائل منكم سؤله، على ما يرضي الله ورسوله، ويفرّج علينا وعلى جميع إخواننا المسلمين، يا أرحم الراحمين، في جميع بلاد المسلمين، ويدمّر الكفرة والمشركين، ويدمّر أعداءنا أعداء الدين، ويطول أعمارنا على طاعته ورضاه، ويعطي كل سائل منكم سؤله على ما يرضي الله ورسوله، ويختم بالصالحات أعمالنا وآجالنا، على هذه النية وعلى ما نواه أسلافنا الصالحين.
وإلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
04 مُحرَّم 1446