شرح الحِكَم العطائيَّة لباراس - 111- من قوله: (من عبَّر من بساط إحسانه.. أصمتته الإساءةُ مع ربه..)

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب شرح الحِكم العطائية للشيخ علي بن عبدالله باراس رحمه الله تعالى، ضمن فعاليات الدورة التعليمية الثلاثين بدار المصطفى بتريم، عصر يوم الإثنين: 2 محرم 1446هـ، من قوله: 

( من عبَّر من بساط إحسانه.. أصمتته الإساءةُ مع ربه، ومن عبَّر مِن بساط إحسانِ اللهِ إليه لم يصمتْ إذا أساء )

نص الدرس المكتوب:

 "فمن كان بشهود ما من الله، ليس كمن كان بشهود ما منه إلى الله؛ وهذه علامة على صحة توحيد السالك، وبيان ما هو سالكه من الطرق والمسالك.

لذلك قال المؤلف رضي الله عنه:

181: مَنَ عَبَّرَ مِنْ بِسَاطِ إِحْسَانِهِ.. أَصْمَتَتهُ الإِسَاءَةُ مع ربه، وَمَنْ عَبَّرَ مِنْ بِسَاطِ إِحْسَانِ اللهِ إِلَيْهِ.. لَمْ يَصْمُتْ إِذَا أَسَاءَ.

هذا بيان لحالتي الواصلين والمجذوبين المحبوبين المرادين، ويعبَّر عنهم بأهل التعريف؛ لأن الله ابتدأهم منه بتعريفه وتعرُّفه. 

وأهل التكليف المريدين المحبين السالكين، الراحلين إليه من شهود الأغيار وظلمات الآثار، الحاملين أعباء مَشقات مقاساة مجاهدة النفوس، ومباينة النحوس، يتسللون عن مضائق الشهوات وضنك الرموس، يتحرَّون ما هو الأولى في نظرهم، وماهو الأجدى في فكرهم، يزنون بموازين العقول والنقول ما يأخذون ويذرون، ويرون أن أفعالهم له مملوكة، وأحوالهم له ممسوكة، وذلك عند العارفين الفانين عن وجودهم، الغائبين عن حجاب شهودهم، المُقبلين بكلية بواطنهم وظَواهرهم على ما منه إليهم. 

فالأول حال الزهاد والعباد، وتُلازمهم الأحزان، فإن وعظوا أو نصحوا نظروا إلى ما منهم إلى المخالفة من الله وقلة الحياء، فَيصمتون لا محالة، ويرجعون إلى نفوسهم بِالذم والملامة. 

والعارفون ناظرون إلى ما من الله إليهم فلا يرون لهم في إيجاد الأفعال وتقويم الأحوال دخلا، فتنطلق ألسنتهم كيف كانوا لفَنائهم عنهم.

قال أبو طالب المكي رضي الله تعالى عنه: حُدِثت عن بعض هذه الطائفة قال: (كان قد بقي في نفسي شئ من القدر وكنت أَستكشفه من العلماء فلا ينكشف حتى قُيض لي بعض الأبدال فاستكشفته إياه، فقال: ويحك ما تصنع بالاحتجاج، نحن نكشف سر الملكوت فننظر إلى الطاعات تنزل صورًا من السماء حتى تقع على جوارح قوم فَتتحرك الجوارح بها، وننظر إلى المعاصي صور مصورة تنزل بمشاهدة القدر. 

وقال أيضا: كنت قبل أن ينكشف لي مشاهدة علم اليقين، فرأيت في النوم كأن قائلًا يقول: القدر من القدرة، والقدرة صفة القادر، فيقع القدر على الحركة فلا تتبين؛ فتظهر الأفعال من الجوارح، أو قال: فَتتحرك الجوارح بالأفعال ولا تبين).

فهذا مشاهدة أهل التعريف وما شاكله من مشاهدة الأفعال على الكشف من الله صادرة، والعباد فيها كالآلات المسخرة، فكيف يصمته شيء ليس إليه ولا منه، وإن نسب فبحكم العدل ومنع الفضل؛ لا أنه له في إيجاد الأفعال قدرة، والمَحجوبون عن شهود ذلك في عماء يَطولون بألسنتهم عندما تظهر لهم الموافقات، ويخجلون ويصمتون إذا برزت على أيديهم المخالفات؛ وذلك لأنهم شاهدون لأفعالهم، ومُثبتون لوجودهم. فهم وإن خرجوا عن ظاهر الشرك لا ينفكون عن باطنه، ووراء ذلك قوم احترقت ذواتهم تحت سطوات ظهور الأحدية، فلم يبق لهم عينيةٌ ولا أينية، يرون ما منه إليه غائبين عن الوجود، مُتلاشين في الشهود، لا أخبار لهم عن أنفسهم حتى يرون منها أو إليها، فهؤلاء أهل التوحيد الخالص عن شوب رؤية الأغيار، ومزج ظلمة الآثار، لا يتعثرون في أذيال الأفكار، ولم يقفوا عند جنة أو نار، بل انهتكت عن بصائرهم الأستار، وتجلى عليهم جمال سيدهم، وتوالت عليهم منحه وعطاياه، وتنزل عليهم الألطاف (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم) [السجدة:17]، ما يكلُّ عن وصفه الوُصاف، عاينوا صرف الحق كفاحًا، وأشرق من أفق الشهود صباحًا، ولي في ذلك شعرا: 

فمن يعبر عن بَســــط الشهود فما *** تصمت وإن كان في حال الجَفا أسرا

 ومن يعبر عما منه ذاك كما *** يناله حجلة الحاني عليه ترا".

 نعم، بل انْهَتَكَت وليس انتَهكت هذا غلطة في الطبعة بل؛ "اِنهتكت عن بصائرهم الأستار".

الحمد لله بارئ الوجود فهو الحق الموجود؛ ولا استقلال لوجود شيء سِوَاهُ فلا وجود لسواه إلا بِإيجاده، له الحمد وله المنة وله الفضل في كل حال، فما لذي خُلُقٍ محمود ولا وصف حسن ولا عمل صالح شَيءٌ إلا بإيجاد ذلك كله وتوفيقه له، وإعطائه إياه فهو المحمود على كل حال والفضل له -سبحانه وتعالى- أرسل إلينا عبده المختار مصدقًا لجميع النبيين والمرسلين وخاتمًا لهم، وجعله سيدهم وإمامهم جامعًا لِأسرارهم ومعدنًا لأَنوارهم.

 اللهم أدم صلواتك على الرحمة المهداة والنعمة المسداة زين الوجود محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه الأرشد، وعلى آدم وشيث بن آدم، وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، وأيوب ولوط وإبراهيم وشعيب وموسى وهارون وسليمان وداود وزكريا ويحيى وعيسى، ومن بينهم من النبيين والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وبعد،،

 فيبين لنا الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- مشاهد العبد مع ربه في حقائق الإيمان الذي هو النعمة الكبرى من المنعم المنان، على كل مكلفٍ من إنس أو جان، نعمة الإيمان بالله -جل جلاله- وخصائصها وميزتها؛ التي بها نُحْفَظُ ونحَصَّن ونسلم ونُحمى من تسلطات الأهوية والطواغيت بأصنافها من الشهوات والأهواء وشياطين الإنس والجن وتَلبيساتهم وتَدليساتهم، نخرج من كل ذلك ونُحمى بالإيمان، على قدر الإيمان وعلى قدر قوة الإيمان وعلى قدر صحة الإيمان. 

إن من أعظم مقاصد هذه الاجتماعات واللقاءات والدروس والزيارات؛ أن يزداد الإيمان واليقين وأن نوهَب نور علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين و (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ) [الجمعة:4]، وهو أعلى ما يوهب من حضرة الوهاب في هذا العالم، ولا شيء أعز ولا أجل منه وما نزل من السماء إلى الأرض أشرف من اليقين.

 وتجدون مجالس زيادة منه في هذه المجالس:

  •  لمن كان يجالس بالأدب.

  •  ولمن يجالس بالحضور.

  • ولمن يجالس بحسن التدبر والتأمل والإقبال.

فَبذلك تأتيه بشارة الكبير المتعال (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:17-18]، اللهم اجعلنا منهم يا كريم يا وهاب. 

بهذا الإيمان واليقين تشهد أعمالك وتعلم أن الحجة البالغة لله -تبارك وتعالى- وأنه لا عذر لأحدٍ في أن يترك واجبًا أو أن يفعل محرمًا ويحتجَّ بقضاء الله تعالى وقدره، كما أنه لا سبيل لنفي القضاء والقدر، ولا سبيل لِإثبات خالقٍ غير الله، لا سبيل لإثبات خالق غير الله (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96]، فنحن وأعمالنا خَلْقُه -جلَّ جلاله- قل: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ) [فاطر:٣]، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى.

فالخلق بمعناه الحقيقي ليس إلا لله يخلق ما يشاء، يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد، وللعبادِ والمكلفين كسب وعمل (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ) [البقرة:286]، ثم إنهم في خلال ذلك كما تشاهد ذلك أن الحيوانات المخلوقة لله -تبارك وتعالى- منها ما يَأكل ومنها ما يشرب ومنها ما يرمح ومنها ما يفترس الآخر؛ والكل بقضاء الله وقدره، والكل لم يخلقوا من عندهم شيء، لم يَستبِدُّوا بالخلق أصلا. 

فالخالق هو الله -جل جلاله وتعالى في علاه-؛ لذا قال الرسول ﷺ لِابن أبي لهب: "سلط عليه كلبًا من كلابك"، وجاء الأسد وهم نايمون في مكانهم، وقد كانوا وهم مشركون كفار، سمعوا النبي قال هذه الدعوة، أيقنوا أنه لابد بايجي. فَكانوا وهم في السفر يقولون: "كيف محمد قد قال يأكله كلب" ويأكد أبوه لا تُنِيمُوه إلا بينكم ولا تتركوه وحده في مكان، حتى إذا ناموا جعلوه في الوسط، وداروا حوله في منامه، وليله وهم نايمين وأقبل الأسد، ويعدي عليهم كلهم شمَّهُم ويتركهم جاء له أخذه وشَلَّهُ وراح -لا إله إلا الله- وسلط كلبًا من كلابه لا قدر أحد منهم يعمل شيء، إلا بغى الأسد يأكله كما سواه؛ ما قدروا يعملون شيء؛ فكلُّه من الله يسلط ويسخر-جل جلاله-؛ فالخلق خاص لله تعالى.

ومن هنا كان الشرك شركان: شرك جلي  وشرك خفي:

  • الشرك الجلي: يخرج من الملة والعياذُ بالله تعالى؛ وهو أن تعتقد أن مع الله إله غيره، فهذا الشرك جلي والعياذُ بالله يخرج من الملة.

  • الشرك خفي: يندرج في أنواع الرياء وشهود تأثيرات للكائنات كأنها مستقلة؛ هذا شرك خفي، يَتنزه عنه الأكابر، يَتنزه عنه الصالحون يَتنزه عنه الأولياء، يَتنزه عنه العارفون، ما يشهدون فعال إلا الله، الفعال لما يريد، ويعلمون أن أعمال العباد منسوبة إليهم على وجه الاكتساب كما رتب الخلَّاق، و(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ) [البقرة:286].

 فلا سبيل لنفي التكليف ولا نفي المسؤولية، فالخالق خلقها -جل جلاله- فهي كما خلقها لا سبيل لإنهائها، ولا سبيل للاحتجاج بها، فإن الخالق -سبحانه وتعالى- لم يجعل فيها حجة لأحد والحجة له -جل جلاله وتعالى في علاه-، (..قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَـٰلِغَةُ..) [الأنعام:149]، وما من عاقل على ظهر الأرض إلا وهو يشاهد بعين بصره فضلًا عن بصيرته، الفرق بين من يتحرك لمرضٍ وعلة من دون اختيار، ومن يمد يده باختياره، ولا .. لا يوجد فرق .. لا يوجد فرق ما عندك علم! فيه فرق كبير. الله خلقك كذلك ثم جعل التكليفَ مناطًا لا بالأول، شخص ارتعش ما يقول لماذا حركت يدك؟! ما يسألك عن هذا؛ لأنه من دون اختيارك، لكن امتدادك بالاختيار هو الذي فيه التكليف، وهو الذي فيه الأمر والنهي، هكذا رتب الحكيم الخبير -جل جلاله وتعالى في علاه-.

فمن عرف هذه الحقيقة خرج من أوهام الخليقة، وألاعيب الصادين عن الطريقة واستمسك بالعروة الوثيقة.

عَلِمْ أنه عبدـ:

  • مُسَيَر مُدَبَر من فوق. 

  • وعنده سمع وبصر وعقل، وخُوطب ورتب وأمر ونهي. 

  • وعليه القيام بامتثال الأمر واجتناب النهي.

  • والفوز له إن قام بالأمر واستقام. 

  • وويل له إن خالف وخرج عن النظام.

يقولُ: فالمؤمنون على قوة إيمانهم يشاهدون "ما مِنَ الله إليهم"؛ وهذا ينفي عنهم أصعب الأخلاق السيئة، وأتعبها وأبعدها عن الاسْتِئصَال وهو: العُجب، وهو أخفى من الرياء، والرياء أخفى من دبيب النمل،  والرياء أخفى من الكبر، وأخفى من الحسد.

 ويكون عند الإنسان: 

  • كبر خفي ما يدري به. 

  • وحسد يكون أخفى منه ما يدري به.

  • وأخفى من الحسد ومن الكبر: الرياء، وإنه أخفى من دبيب النمل وما يدري به. 

  • وأخفى من الرياء العجب فقد يكون بصدقه واجتهاده، هذا منزَّه عن الكبر والحسد والرياء والعجب عنده وما يشعر به؛ خفي. 

لكن أهل الشهود هذا يَنمحي العجب عنهم من أصله، فمن باب أولى بقية الصفات الذميمة تضمحل عنهم، فلا يبقى شيء منهم، وإنما يبقون طُهْرٌ في طُهْر، وصفاء في صفاء، ونقاء في نقاء، وتُقى في تُقى، ما بين فناء وبقاء، هل تسمع أرباب الجامعات في العالم؟ ما يقدروا يقررون لكم هذا الكلام، ولا يستطيعون بيانه هذا في جامعة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ، بِائتمان رب العرش ائتمنه، وبلغنا هذه الحقائق. 

الله يزيدنا إيمان ويقين ويجعل من إيماننا ويقيننا أن لا نشهد فعالًا غيره، وأن نتأدب بالعبودية له أدبًا تتلاشى فيه عبوديتنا في شهود ربوبيته، آمين. ونقوم بحق العَبدية قيامًا تامًا نصلُ به إلى مستوى تلاشى عَبديتنا في عنديته. 

  • (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر:54-55]، وإذا كنتم عند المليك المقتدر؛ فما قيمة الجنات والنهر وما فيها عند مليك هناك من هناك؟ فما كانت حلاوتهم ولا لذَاذَتَهُم بجنات ونهر إلا من سرِّ العندية لكونهم عنده، لا لكونها جنة ولا لكونها أنهار لكونهم عنده: (عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ).

  • قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ) -هو محمد- (وَصَدَّقَ بِهِ..)؛ وهم جميع لأَنبياء وجميع الأتباع الصادقين للأنبياء، وعلى رؤوسهم السَابقون الأولين من المهاجرين والأنصار، (وَٱلَّذِی جَاۤءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦۤ..) ومن رؤوسهم أبو بكر الصديق، (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ..) [الزمر:33-34]، حَياهم الله وحيا عِنديتهم. 

قال: "فمن كان بشهود ما من الله -إليه-.. ليس كمن كان بشهود ما منه إلى الله"، فالذي يشهد ما منه إلى الله يرى أنه عمل وقام وصلّح وتصرف وقدم وأخّر؛ والذي قال: "مَنَ عَبَّرَ مِنْ بِسَاطِ إِحْسَانِهِ.. أَصْمَتَتهُ الإِسَاءَةُ مع ربه لأنه يرى نفسه محسن في كذا وكذا، وإذا جاءت الإساءة هيا تكلم، ماذا يقول؟ قال: "وَمَنْ عَبَّرَ مِنْ بِسَاطِ إِحْسَانِ اللهِ إِلَيْهِ"  لم يصمت لإنه ما يتحدث عن شيء منه، فإذا كان كذلك! إنما يتحدث عن شيء من الله يسير هو بالله، ويدخل دوائر ما قال الرحمن في الحديث القدسي فَبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق. ويترقى في هذا مراقي، حتى يقال في الله تعالى حتى يأتي فيه التعبير الآخر في الحديث: كنت سمعه.. وكنت بصره.. كنت يده.. وكنت..؛  وكل هذه المعاني بعيدة عن الحلول والاتحاد، فالرحمن الأجل الأكبر الأعظم لا يحل فيه شيء ولا يحل فيه شيء فهو أكبر من ذلك وأجل. ولكن يُتَحدث عن تجلياته، وسمو وعلو وشرف في تجلياته للخواص، يجعل هذه الخواص عنده ويجعلهم معه، ويجعلهم منه ويجعلهم فيه وله

سمعت! حتى يعبر بهذا التعبير عنه، كنت سمعه وكنت بصره -يا مرحبا بالحبيب أهلا وسهلا ومرحبا-، يعبر بهذا ويقول -سبحانَه وتعالى- في القيامة كما صح في الحديث لبعض الناس كان في بلده بعض أهل هذا الصنف -من المحبوبين للرب المقربين عنده- ما حملوا به رأس ولا قدروه تقدير حتى يمرض ولا يعودوه؛ وهو في بلده في زمنه، وهذا الإنسان من المقربين عند الحق؛ فيقول: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ يَوْمَ القيَامَة -في عتاب هذا العبد-: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرضْتُ فَلَم تَعُدْني، قال: يا ربِّ، كَيْفَ أعُودُكَ وأنْتَ رَبُّ العَالَمين؟! -ما تمرض؟- قَالَ: أمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدي فُلانًا مَرِضَ  -مرض عبدي فلان هذا المحبوب عندي- فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّك لَوْ عُدْتَه لَوَجَدْتَني عِنْدَهُ؟"، بتحصل رضواني هناك، بتحصل قربي هناك، بتحصل فضلي هناك، ما الذي حرمك؟  ما الذي قطعك؟ فتحت لك الباب وفسحت لك المجال، ما الذي أخرك؟ فيا خيبة المعرضين عن حسن الظن،  يقول لكم في القصيدة بيجي معكم: 

وَالْزَمْ لِحُسْنِ الظَّنَّ لَا تُفَارِقُ 

وَالْزَمْ لِحُسْنِ الظَّنَّ لَا تُفَارِقُ 

يَا قَلْبُ وَحِّدْ وَاتْرُكِ الخَلَائِقُ *** وَكُنْ بِمَوْلَاكَ الكَرِيمِ وَاثِقُ

وَعَنْ سِوَى الله فَاقْطَعِ الْعَلَائِقُ *** وَالْزَمْ لِحُسْنِ الظَّنَّ لَا تُفَارِقُ 

يقول الرحمن -جل جلاله- في الحديث القدسي: "أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي"، فعلى قدر ما يستولي ذكره عليك فمعيته معك، وهو عندك وهو جليسك -سبحانه وتعالى-، "أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي"، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 يقول: "هذا بيان لحالتي الواصلين والمجذوبين المحبوبين المرادين، ويعبَّر عنهم بأهل التعريف؛ لأن الله ابتدأهم منه بتعريفه وتعرُّفه. وأهل التكليف المريدين المحبين السالكين.."، هذاك صنف وهذا صنف.

  •  هذا أول: الواصلين .. والمجذوبين .. والمحبوبين .. المرادين

  •  الثاني: "المريدين المحبين السالكين الراحلين إليه من شهود الأغيار وظلمات الآثار، الحاملين أعباء مشقات مقاسات مجاهدة النفوس".

 

مستبشرين بوعد الصدق: (وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69]. "ومباينة النحوس، يتسللون عن مضائق الشهوات وضنك الرموس، يتحرَّون ما هو الأولى في نظرهم، وماهو الأجدى في فكرهم، يزنون بموازين العقول والنقول ما يأخذون ويذرون"، -يتركون مايقبلون، ويرفضون ما يستلمون ويردون-، "ويرون أن أفعالهم لهم مملوكة، وأحوالهم لهم ممسوكة، وذلك عند العارفين الفانين عن وجودهم، الغائبين عن حجاب شرودهم، المُقبلين بكلية بواطنهم وظَواهرهم على ما منه إليهم.

فالأول حال الزهاد والعباد، وتُلازمهم الأحزان، فإن وعظوا أو نصحوا نظروا إلى ما منهم إلى المخالفة من الله وقلة الحياء، فَيصمتون لا محالة، ويرجعون إلى نفوسهم بِالذم والملامة. 

والعارفون ناظرون إلى ما من الله إليهم فلا يرون لهم في إيجاد الأفعال وتقويم الأحوال دخلا، فتنطلق ألسنتهم كيف كانوا لفَنائهم عنهم". 

لأنهم فنووا عن أنفسهم، وهكذا تحدث عن بعضه أسرار القضاء والقدر.

ويقول عن بعض العارفين: أنه ما زال يستكشفه "من العلماء فلا ينكشف حتى قُيض لي بعض الأبدال فاستكشفته إياه، فقال: ويحك ما تصنع بالاحتجاج، نحن نكشف سر الملكوت فننظر إلى الطاعات تنزل صورًا من السماء حتى تقع على جوارح قوم فَتتحرك الجوارح بها، وننظر إلى المعاصي صور مصورة تنزل بمشاهدة القدر".

ويقول أيضا هذا الصالح: "كنت قبل أن ينكشف لي مشاهدة علم اليقين، فرأيت في النوم كأن قائلًا يقول: القدر من القدرة، والقدرة صفة القادر"، -جل جلاله-؛ لهذا أسراره وحقائقه فوق مستوى العقول. وأكابر الناس من الملائكة والنبيين وخواص الصديقين يعلمون منها شيئا ويُطلعون منها على شيء؛ ولذا لما سأل بعضهم سيدنا علي يقول عن القدر، يقول: "بحر عميق فلا تَلِجْهُ" بحر عميق؛ طريق مظلم فلا تسلكه إلى غير ذلك مما ضرب له الأمثال. فالله يكرمنا وإياكم بالصدق معه والأدب معه وشهود ما منه إلينا وتحقيق العبودية له ويتولانا بربوبيته.

"فيقع القدر على الحركة فلا تتبين؛ فتظهر الأفعال من الجوارح، أو قال: فَتتحرك الجوارح بالأفعال ولا تبين". فلا استقلال لشيء من الكائنات في إيجاد الأفعال -قدرته- 

قال: "والمَحجوبون عن شهود ذلك في عما يَطولون بألسنتهم عندما تظهر لهم الموافقات، ويخجلون ويصمتون إذا برزت على أيديهم المخالفات؛ وذلك لأنهم شاهدون لأفعالهم"، قال: وهؤلاء في مراتبهم، الرتبة الأقل والرتبة الأعلى الأجل، فوقهم أيضا رتبة "قوم احترقت ذواتهم تحت سطوات ظهور الأحدية، فلم يبق لهم عينيةٌ ولا أينية، يرون ما منه إليه" -جلَّ جلاله- كيف؟ شهود الفعَّال رفعهم عن الوقوف مع الأفعال، وما سوى الله فعله، ولكن هم شهدوا الفعَّال -جلَّ جلاله وتعالى  في علاه-، وتأدبوا معه وأقبلوا بالكلية عليه ورغبوا فيه سبحانه وتعالى -لا إله إلا الله.ة-  فلا وجود لأنفسهم عندهم أصلا "غائبين عن الوجود" وعن الأنفس كلها وعن أنفسهم، قال سيدنا الإمام الحداد: 

لِلَهِ بارِقَةٌ لِلقَلبِ قَد لَمَعَت *** مِن عالَمِ الأَمرِ لا مِن عالَمِ الصُوَرِ

 جميع الخلق الذي يدخل في دائرة المرئيات بالبصر والمسموعات بالأذان والمشمومات والمحسوسات بالأيادي هذا خلق وراءه أمر (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف:54]؛ لا صورة ولا أي شيء؛ سبحانه وتعالى برأها وأنشأها. يقول: 

مِن عالَمِ الأَمرِ لا مِن عالَمِ الصُوَرِ

ولما برقت هذه اللمعة، ماذا حصل؟

أَنسَتكَ إِيّاكَ وَالأَكوانُ أَجمَعُها ***............

هل سمعت؟! 

أَنسَتكَ إِيّاكَ وَالأَكوانُ أَجمَعُهـــا *** وَأَوقَفَتكَ عَلى المَطلوبِ وَالوَطَرِ

هَذا الحَديثُ وَما يَخفى عَلى فَطِنِ *** إِنّي أَرَدتُ بِــــهِ التَنبيـــهِ فَاعتبَـــرِ

ثم خاطب الروح: 

يا أَيُّها الجَوهَرُ المَحصورُ في صَدَفٍ ***........

هل تعرف الجوهر؟ حقك الروح جوهر محبوس في صدف الجسم ذا حقك؛ الجثمان ذا الذي يتكون من النطفة، أصله من التراب، ثم بعد ذلك جاء من النطفة وعلقه، الجثمان هذا الكثيف المخلوق من تراب ومن نطفة وعلقه ومضغة، الروح الشريف الجوهر محوس وسطها، هو كبير ومطلق ويحب الملأ الأعلى والعالم الأعلى، ولكنه حبس وسط قفص الجسد ما دمت في الدنيا، عند الموت خلاص تفتك الحبس؛ يرجع الروح إلى عالمه الفسيح لمن لم يعصِ الله في الدنيا أيام الدنيا ولم يكفر بالله في أيام الدنيا، وإلا عند خروج الروح بعدين يحبس عن الملأ الأعلى ولا تفتح له أبواب السماء، ويحبس عن الرحمة، ويحبس عن الرضوان -والعياذ بالله- ويروح في سجين -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

يا أَيُّها الجَوهَرُ المَحصورُ في صَدَفٍ *** مَخلوقٍ غَرَضِ التَغييرِ وَالكَدَرِ 

هذا وصف الجسد الذي معك 

مُثَبَّطٍ في حَضيضِ الحَظِّ هِمَّتُهُ ***… 

في الحظوظ القصيرة الفانية الزائلة.

مُثَبَّطٍ في حَضيضِ الحَظِّ هِمَّتُهُ *** في لَذَّةِ البَطنِ وَالمَنكوحِ وَالنَظَـرِ

تَقودُهُ شَهَواتٌ فيهِ جامِحَـــةٌ *** حَتّى تَزُجُّ بِهِ في لُجَّةِ الخطرِ

  إذا استجاب لدعوات هذه الشهوات وفعل المكروهات والمحرمات زُجَّ به في لجة الخطر، يا أيها الروح عيب عليك! أين كنت؟ ليش ترضى بهذا التلبيس والتدليس عليك في عالم الدنيا بهذه الشهوات التي يستخدمها إبليس يستخدمها النفس ويستخدمها شياطين الإنس والجن؛ ليصدوك عن الله، ليمنعوك عن السعادة؛

يا أَيُّها الروحُ هَل تَرضى مُجاوَرَةً *** عَلى الدَوامِ لِهَذا المُظلِمِ الكَدِرِ

فَأَينَ كُنتَ وَلا جِسمٍ تُساكِنُهُ *** 

أَلَستَ في حَضَراتِ القُدسِ فَادَّكِرِ

قل لي: قبل الجسم هذا أين كنت؟ قبل الجسم هذا وتكوينه أين كنت يا روح؟ الروح في العالم الأعلى، الروح مع الملائكة والروح في السماء، حتى هذه الأرواح التي بعدها ما كُوِّنت، النبيﷺ لما صعد الإسراء والمعراج حصلها سواد عن يمينه وعن يساره؛ يعني قبل التلطخ بالمعصية والكفر الأرواح كانت في العالم الأعلى مشرفة كلها كرمت، لكن هذه  خانت الأمانة ورجعت إلى النار، تخرج من السماء عندما يتكون جسد كل واحد في بطن أمه تخرج روحه من السماء تحبس في الجسد هذا مدة الحياة، بعدين ترجع الروح بعد ذلك. فوجدها النبيﷺ عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة؛ إذا نظر اليمين استبشر وتبسم، إذا نظر اليسار حزن وبكى. قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: نسم بني أهل الجنة على يمينه وأهل النار على يساره. 

  • فإذا نظر إلى من يدخل الجنة من ذريته ضحك واستبشر. 

  • وإذا نظر إلى من يدخل النار من ذريته  حزن وبكى عليهم.

ثم بعد ذلك؛ تكون الجسد في بطن أمك، خرجت الروح من هناك، والله ما جابها لك حزب ولا حكومة ولا أمم متحدة؛ ما جاءت من العالم؛ جاءت بأمر الله ونفخت في الجسد حقك وهي محبوسة فيه إلى وقت الغرغرة. تخرج بعد ذلك: 

  • إن كانت طيبة وما خالفت الرب وماتت على حال جميل ترجع إلى الملأ  الأعلى تفتح لها أبواب السماء وتشاهد الجنة وبشائر من الرحمن -جل جلاله- يقول: "اخرُجي إلى رَوحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ"، يقول لها الملك. 

  • وإن كانوا من أهل الكفر ومن أهل الفسوق والعصيان ، ومات على حالة سيئة -والعياذ بالله تعالى-.

  • ويقال للنفس المطمئنة: (یَـٰۤأَیَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَىِٕنَّةُ ارۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيةً مَّرۡضِیَّةً  فٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی) [الفجر 27- 30]، الله يجعل أرواحنا من هذه الأرواح. 

يقول:

يا أَيُّها الروحُ هَل تَرضى مُجـــاوَرَةً *** عَلى الدَوامِ لِهَذا المُظْلِمِ الكَــدِرِ

وَأَينَ كُنتَ وَلا جِسمٍ تُساكِنُهُ  *** أَلَستَ في حَضَراتِ القُدسِ فَادَّكِــرِ

تَأوي مَعَ المَلَأِ الأَعلى وَتَكــــرَعُ مِن *** حِياضِ أُنسٍ كَما تَجني مِنَ الثَمَرِ

تَأتي عَلَيكَ نَسيمُ القُربِ مُهدِيَةً  *** عَرْفَ الجَمــالِ كَعَرفِ المَنــدَلِ العَطِــرِ

حَتّى جُعِلَت بِأَمـــرِ اللهِ في قَفَـــصٍ *** لَيَبتَليكَ فَكُن مِن مِن خَيرِ مُختَبَرِ

فَحينَ أَبصَرْت هَذا الجِسمَ قَد بَرَزَت *** بِهِ العَجائِبُ مِن بـــادٍ ومُســـــتَتَرِ

أَنسَتكَ بَهجَتُهُ ما كُنتَ تَشهَــــدُهُ  *** مِن قُدسِ رَبِّكَ فَاعرِف ضَيعَةَ العُمُرِ

رَضِيتَ بِالفِكرِ عَــن كَشفِ وَأَينِكَ مِن ***  جَلِيَّةِ الحَقِّ إِنْ أَخلَدْتَ لِلفِكرِ

لا تَقنَعَـــــنَّ بِدونِ العَينِ مَنزِلَــــةً *** فَالخَبُّ مَن يَكتَفي بِالظِلِّ وَالأَثَرِ

وَعُدْ هُديتَ فَقَد نوَديتَ -ناداك الله على لسان رسوله- مُطَّرِحًا 

وَعُدْ هُديتَ فَقَد نوَدِيتَ مُطَّرِحًا *** هَذا الوُجودَ وَما فيهِ مِنَ الغِيَرِ

وَاسْلُك سَبيلاً إِلى الرَحمَنِ قيِّمَةً *** بِها أَتاكَ إمام البَدوِ وَالحَضَـــرِ

يا رب صلي عليه

 

مَشروحَةً في كِتابِ اللَهِ واضِحَةً *** فَسِر عَلَيها وَكُن بِالصِدقِ مُتَّزِرِ

وَبِالرِّياضَةِ مِن صَمْتٍ وَمَخمَصَةٍ *** مَعَ التَخَلّي عَنِ الأَضدادِ وَالسَّهَرِ

وَدُم عَلى الذِكرِ لا تَسأَمْهُ مُعتَقِداً *** أَنَّ التَوَجُّهَ روحُ القَصدِ في السَّفرِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لَا تُفْضِي إِلَى غَرَضٍ *** بِدُونِ أَنْ تَقْتَفِيَ فِي الْوِرْدِ وَالصَّدَرِ 

خَيرَ النَبِيّينَ هادينا وَمُرشِدَنا *** بِما أَتانا مِنَ الآياتِ وَالسُوَرِ

صَلّى عَلَيهِ إِلَهي كُلَّما سَجَعَت *** حَمامَةٌ فَوقَ مَيَّاسٍ من الشجر 

وقال رضي الله عنه وعنكم: 

 "وكل من كان بالله حقيق أن تطول لسانه، ولا يصمتها عروض سبب، أو يصدها حصول أرب، ومن كان يرى نفسه وأفعالها، وسوء اجتراحها وجرأتها، وتعديها على حدود سيدها، واقتحام شهواتها ، واتباع هواها من غير مبالاة منها … صمت من سوء ما يراه من اجترائه على مولاه، فهو إن برزت عنه طاعة .. تكلم وانبسط، وإن حصلت منه هفوة صمت وانقبض، وهذا حال السالك قبل عثوره على كنز المعرفة بالله التي لا تتعلَّل بالعلل، فحري ألا يقبل عنه عند سامعه موعظة، ولا تصل الى قلبه نور حكمة، لِما عليها من بقية رؤية النفس.

والعارف ليس كذلك، يكون بالله غائباً عن نفسه وصفاتها، ونسبة أفعالها، فيتكلم بالله، فيقبل منه -لا محالةـ قوله، وتصل إلى قلوب السامعين موعظته، فينتفعون بذلك أتم انتفاع".

 

جاء التعبير إلا بعد ما حصل التنوير حتى  كان لما يقوم لأجل التذكير الحبيب علي الحبشي- ينتصب قائم- يبدأ الناس يخشعون، يبكون وعاده ما تكلم -ما نطق بشيء-، ينتصب فتخشع القلوب -لا إله إلا الله- يسبق التنوير قبل التعبير، ويصير التعبير بعد التنوير.

وهكذا يقول: "من كان بالله حقيقٌ أن تطول لسانه ولا يصمتها عروض سبب أو يصدها"، الله؛ ولهذا لما تكلم في بعض الحقائق الإمام عمر المحضار بن شيخ أبو بكر بن سالم، ثم قال: "إنْ قلت أنَّ هذا القول مني اخطأت في قولك" وهو الخسران "فليس لي سمع يكون مني كلا ولا بصر ولا لسان"، بي يسمع .. بي يبصر .. بي ينطق -لا إله إلا الله-. 

يقول: "ومن كان يرى نفسه وأفعالها، وسوء اجتراحها وجرأتها، وتعديها على حدود سيدها، واقتحام شهواتها ، واتباع هواها من غير مبالاة منها … صمت من سوء ما يراه من اجترائه على مولاه، فهو إن برزت عنه طاعة .. تكلم وانبسط، وإن حصلت منه هفوة صمت وانقبض، وهذا حال السالك قبل عثوره على كنز المعرفة بالله التي لا تتعلَّل بالعلل، لى كنز المعرفة بالله -تعالى- التي لا تعلل بالعلل"، فلهذا يكثر أنه ما يقبل منهم كثير من كلامهم، ولا يحصل التأثير عندما ينطقون؛ خصوصًا إذا نطقوا بأنفسهم غير متصلين بأهل الحضرة، ما تصل إلى القلب نور الحكمة على أيديهم؛ لأنه باقي عليها رؤية النفس؛ لهذا النبي ﷺ أراد يتجاوز الدعاء إلى الله هذه الحجب قال: "بلِّغوا عني ولو آية"، قال: "بلِّغوا عني ولو آية" ما هو بأنفسكم -أنتم- "عني"، يستقي نورانية النبوة؛ وهي لتسريبها الفائدة والنفع، "بلِّغوا عني"، ما هو بلغوا أنتم بأنفسكم، "عني": نيابة عني، فقط المرتبطين بي، اللهم صلي عليه وعلى آله. 

قال: "والعارف ليس كذلك يكون بالله غائبًا عن نفسه وصفاتها، فحينئذ يتكلم بالله فيقبل -الكلام- منه -يقبل قوله- وتصل إلى قلوب السامعين موعظته؛ فينتفعون بذلك أتم انتفاع"، الله .. الله يكرمنا وإياكم وينورنا. 

 

أكرمنا الله وإياكم بالقرب والقبول، من فضل الله علينا وعليكم حضور منصب مقام الحبيب أحمد بن محمد المحضار ابن أحمد بن حسن بن حامد بن مصطفى بن أحمد المحضار، والله يجعل في هذه اللقاءات والاجتماعات انفتاح لأبوابِ العنايات والرعايات الربانيات وتنوير للقلوب وتطهيرها لينظر إلينا وإليكم ويتوجه إلى الله بالدعاء لنا ولكم. 

يسر الله أمورنا واشرح صدورنا واختم بالصالحات أعمالنا، ويفرح قلوبنا ويقضي المطلوب ومتعنا بأبصارنا وأسماعنا وعقولنا والعيادة في سعادة وفي زيادة السنة بالخيرات والأمن، وانصر الإسلام والمسلمين وعلى هذا النية وكل نية صالحة وما نويتوه وما نويناه في خير ولطف وعافية والشفاء من كل داء، والنصر على الأعداء وصلاح الأحوال في الداريين. 

وخيرات كبيرة ومنن وفيرة وسير في خير سيرة وتنوير لكل بصيرة، وتصفية لكل سريرة، وانقطار بخير قطيرة، والدخول في دوائر المحبوبين وأهل النفوس المطمئنة الراضية المرضية الكاملة مع تحقيق العبودية وتولي الربوبية للعبودية، وتنشر العبدية في العندية، وارتقاء المراتب العالية في خير ولطف وعافية وعلى هذا النية وكل نية صالحة. 

وإلى حضرة النبي 

اللهم صلِّ وسلِّ وبارك عليه وعلى آله وأصحابه 

الفاتحة 

تاريخ النشر الهجري

02 مُحرَّم 1446

تاريخ النشر الميلادي

08 يوليو 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام