(228)
(536)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة مريم:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
مساء الإثنين 18 ربيع الثاني 1446هـ
الحمد لله المُنعم علينا بالقرآن وتَنزيله، على عبده وحبيبه ورسوله، سيدنا محمد صلى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه وجِيله، وأهل مُتابعتِه في فِعله وقِيله، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أمَّا بعد،
فإنّ في نِعمة تأمُّلِنا لكلام الله، وتدبُّرِنا لمعانيه، ولِتَنزُّلات الحق -تبارك وتعالى- بالتفهِيم والتعليم والتوضيح، وما كان مِن سيدنا رسول الله ﷺ من حُسنِ البلاغ والتَبيين، مَرَرنا على آياتٍ في سورة مريم، ومَررنا على قوله تبارك وتعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ (51))، تمجيدًا وتعظيمًا ومحبّةً وإشاعةً لقوّة المودّة للمُصطَفين عند الله -تبارك وتعالى- بذِكرهم في الكتاب وذِكر خصائصهم، وذِكر مَزاياهم وذكر أوصافهم الكريمة؛ للاقتداء وللاهتداء ولزيادة الإيمان، ومعاني يَعلمها الله الرحمن مُنزِل القرآن جلّ جلاله.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (51))، وفي بعض القِراءات السبع، (إنَّهُ كانَ مُخْلِصًا)، فهو المُخلَص أي؛ المُصطفى المُجتَبى من قِبَل الله استخلَصه الله -تبارك وتعالى- وخلّصه عن جميع الشوائب، واستخلَصَهُ لنفسه، كما قال الملِك في سيدنا يوسف عليه السلام: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) [يوسف:54]، (إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا):
(كَانَ مُخْلِصًا) كان لا يقصِد غير وجهِ الله ولا يُريد إلا الله.
(كَانَ مُخْلِصًا) في وُجهَته ونيّته وأقواله وأفعاله -عليه سلام الله تبارك وتعالى-.
يُبيّن الحقُّ -تبارك وتعالى- بذلك رُتبَة الإخلاص؛ حتى قال عن عُموم الدين لجميع الأمم (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة:5]، مُخلِصين له العبادة.
وقال عن سرِّ هذا الإخلاص -جلّ جلاله-: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110]، كما جاءنا في أقاويل حُكماء الأمة وخِيارها من العارفين: "من أخلَصَ لله -تبارك وتعالى- أربعين يومًا تَفجّرت ينابيع الحكمة من قلبهِ على لسانه" وقال تعالى: (أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:3]. جعلنا الله وإياكم من المُخلِصين المُخلَصين، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا)، (إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)
حامِل الرسالة للإبلاغ
وحامل الإنباء عن الله -تبارك وتعالى-.
(وَنَٰدَيۡنَٰهُ) يقول الله -تبارك وتعالى-: (مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَٰهُ نَجِيّٗا (52))، فجَمَع بين النِّداء والمُناجاة، وذلك أنَّه سبحانه وتعالى في العُلوِّ والرِّفعَة أعظم وأبعد ما يكون، وهو سبحانه وتعالى بالفضل والمِنّة أقربُ إلى العبد من حبل الوريد.
(وَنَٰدَيۡنَٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ)؛ هذا الجبل الذي توجَّه إليه وأراد الحقُّ -تبارك وتعالى- أن يُناجيَه فيه، وكان في وقت بردٍ يحتاجُ إلى شيءٍ من الاستِدفَاء، فتَبدّى لِعَينه على هذا الجبل نارًا (فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) [طه:10]، فتوَجّهَ فجاءَه النداء (وَنَٰدَيۡنَٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ وَقَرَّبۡنَٰهُ)، وَقَرَّبۡنَٰهُ؛ قُربًا عظيمًا معنويّا؛ فهو أفضل الخلق بعد سيدنا محمد وسيدنا إبراهيم عليه السلام، سيدنا موسى الكليم؛ كليم الرحمن جلّ جلاله.
(وَقَرَّبۡنَٰهُ نَجِيّٗا (52)) مُناجِيًا لنا ومُخاطَبًا من قِبَلنا، (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) [النساء:164]،
كما قال -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- (وَنَٰدَيۡنَٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنِ):
وقيل أنَّ المراد بالأيمن: أنّه المكان الأبرك الصالح المُنوَّر؛ فهو محل اليُمنِ؛ جانب الطور الأيمن للجبل الأيمن؛ جبل الطور،
قيل أنَّ المُراد بالأيمن: الجانب الذي هو أيمَن سيدنا موسى عليه السلام، عندما استقبله من الجانب اليمين، آتاه النداء وسمع نداء الملك الأعلى: (يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ) [النمل:9] وآتاه الرسالة.
ثم ذكر الله تعالى فيما وهَب لسيدنا موسى، (وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا (53))، وذلك أن سيدنا موسى سألَ الحق، وقال: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه:29-32] في النُبوّة والرسالة، فنبّأه الله تبارك وتعالى إكرامًا؛ ليُعاضد ويساند سيدنا موسى عليه السلام، ويقوم معَه (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا) -عضدًا وسندًا- (يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ) [القصص:34].
قال: (وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا (53))، إشارةٍ إلى أنَّ النُبوة مُجرد رحمةٍ وتفضُّل من الله -تبارك وتعالى- لا يمكن لأحد اكتسابَها، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج:75].
ثم قال جلّ جلاله: (وَوَهَبۡنَا لَهُۥ مِن رَّحۡمَتِنَآ أَخَاهُ هَٰرُونَ نَبِيّٗا)، فقاما بأمرِ الله -تبارك وتعالى- وقابلا أعتى القُوى الموجودة في الأرض للكفر والزَّيغ والضَلال، وجاء موسى وهارون إلى فرعون، وقالا كما أمرهم الحق تبارك وتعالى: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) [طه:47]، فكان أن بلّغوا الرسالة، ومَضت لهم بعد ذلك مدة، وبينهم مواقف، وكان لهم في كل ذلك صبرٌ وثباتٌ وسعيٌ، حتى أمَرَهُم الله أن ينحازوا بمن آمن معهم (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)؛ مَقصَدا للمُحتاج، والفقير، والمُستَهدي، والمُتعرِّف، والمُتعلِّم (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:87].
وحتى جاء الأمرُ من الله -تبارك وتعالى- بعد تجديد التهديد والوَعيد من فرعون أن يُقتِّل أبناءهم ويستحيي نساءهم، (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ) [الشعراء:52]، فسرَى موسى وهارون بالقوم المؤمنين معهم إلى أمام البحر، لم يجدوا سفينة، فانتظروا وفي الصباح وصَلَهم فرعون بجنودِه وجيشِه الكبير، فَنجَّى الله موسى ومن معه وأغرَق فرعون وقومَه، فسبحان القوي القادر الحكيم جلّ جلاله.
قال: (وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَ (54)) وهو ابن الذبيح إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وفي الحديث أيضًا -في مسلم- أنه قال ﷺ:" إنَّ اللَّهَ اصطفى مِن إبراهيمَ إسماعيلَ" فإسماعيل أفضل أولادِ سيدنا الخليل إبراهيم وهما إثنان: إسماعيل وإسحاق، (وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ) [الصافات:113].
يقول جلّ جلاله: (وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَ)، اجعل من الذين تُشهرهم تمجيدًا وتعظيمًا ومحبةً وإكبارًا؛ عبدنا إسماعيل ابن إبراهيم
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ (54)) وكل الأنبياء صادقو الوعد نَعم؛ ولكن سيدنا إسماعيل عانى في القِيام بصِدق الوَعد، وكان أيضًا شأنه في صِدق الوَعد أمر مُتعلِّق بأمر خطير؛ حياة وموت، (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، هل يوجد وعد مثل هذا؟! أي وعد مثل هذا الوعد الكبير؟! موت، ذبح! (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، ولا خَطَر له خاطر أن يُخلِف الوَعد، ولا أن يفِرّ، ولا أن يَجزَع؛ صابر مُحتَسِب، موفي بالعهد، حتى ما أذِن الله للسكين أن يؤثر في رقبته، وأمسكَ يد إبراهيم سيدنا جبريل، وجاءه بالذِّبح العظيم من الجنة، وقال هذا فداء لإسماعيل! وانتهت المسألة (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) [الصافات:102-104]، فنِعم الوَفي إبراهيم، ونِعم الصادق الوعد إسماعيل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
ومع ذلك أيضًا كان لا يعِدُ أحدًا بوعدٍ قليل ولا كثير، صغير ولا كبير إلا وفَى به، وكان مع ذلك لا يتلقّى أمرًا ولا نهيًا إلا وأحسن القيام بامتثال الأمر واجتناب النهي، ولم يعِد الرحمن سبحانه وتعالى بشيء أن يفعله إلا أحسن فِعلَه، وأيضًا جاءه رجلٌ ووعده أن يرجِع إليه، وأن يبقى له في هذا المكان، فذهب الرجل ونسي، وجاء في اليوم الثاني، وقيل بعد ثلاثة أيام، وقيل بعد اثنان وعشرين يوم، وقيل بعد سنة، وهو قاعد في نفس المكان إلى أن يرجع لأنه وعده أن يبقى إلى أن يعود، حتى جاءه بعد ذلك، قال: مالَك؟ قال: في مكاني وعدُتك أن لا أذهب فبقيت! قال: أنا نسيت!، قال له: أنا ما قدرت؛ فكان وفيّا بالوعد وصادق الوعد.
ومثل هذا جاءنا في السيرة، قد روى أبو داود في سننه وغيره، أنَّ عبد الله بن أبي، يقول أني بايعت النبي ﷺ؛ يعني بضاعة قبل أن يُبعَث -قبل البعثة- قال: فبقي له شيء علي؛ بقي ثمن من قيمة البضاعة، فقلت له: انتظرني في هذا المكان حتى آتيك بها، قال: نعم فذهب، قال: فنسيت إلى اليوم الثاني، وذكرتُ في اليوم الثالث، قال: وجئت إليه بعدها فوجدته في نفس المكان، فقال لي: لقد شققت علي، أنا منتظرك منذ ثلاث، من أجل الوعد.
وهذا يبين لك أنَّ هذا وصف عظيم، ويجب على المؤمنين يعرفوا مكانته، ومنزلته عند الله، وفي الشريعة المطهرة، فإن التساهل به علامة النفاق، علامة المنافق:
إذا حَدَّث كذب،
وإذا وَعد أخلف،
وإذا ائتمن خان.
فالحذر من الإخلاف في الوعد، وأًشده ما يكون من تساهل بعض الناس، من حين ما يعِده وهو ناوي أنَّه بالوعد هذا؛ إمَّا مجرد جبر خاطر، وإمَّا يتخلص من واحد وهو ناوي أن لا يفعل، هذا نفاق -والعياذ بالله-، ثلث كامل في النفاق، والعياذ بالله -تبارك وتعالى- فما يجوز هذا، هذا فعل محرم.
ولكن من وعدَ ثم طرأ له نسيان، وطرأ له عجز، وعدم قدرة، فالمسألة بعذرها، ولكن أن ينوي أن لا يفي بالوعد فهذا خطير.
لذلك كان بعض أخيار الأمة إذا وعدَ أحد وعْد؛ لا يأكل ولا يشرب ولا ينام حتى يفي بالوعد، يكمل الوعد وبعد ذلك يذهب؛ اهتمامًا بشأن الوعد.
وكان بعض أخيار الأمة لما ينوي يشتري شيء من التحف والألعاب لأطفاله، ما يقول للطفل سأشتري لك، ولا سأحضر لك، يقول: كيف لو احضرت كذا، كيف لو اشتريت لك كذا، هكذا يقول له؛ خوفًا من أنَّه ما يتمكّن، أو ينسى، ويكون وعدَ وأخلف، حتى مع الطفل الصغير، لا يَعد طفل صغير وعد إلا ويقوم به.
ولما سمع بعضهم امرأة تقول للصبي: تعال، تعال أعطيك، قال: ماذا تعطينه؟ قالت: كسرة -كان عندها- قال: أمَّا أنك لو لم تعطيه كانت عليك كذبة؛ هذا كذبة! قصدكِ فقط يجي؛ تعال، تعال سأعطيك وبعد ذلك ما تعطيه شي! فلهذا لابد من إنزال الوعد وإنجازه في محله؛ ونبتعد عن أوصاف النفاق؛ إذا وعد أخلف.
ثم بعد ذلك أيضًا، في دقائق المعاملة مع الله، والسير لله تعالى؛ أن لا يعد الله بوعد، فيُخلفه، كيف؟
ينوي أن يقوم من قراءة القرآن بكذا،
أن يقوم من الصلوات بكذا،
أن يعطي رحم بكذا،
وبعد ذلك ينقص ينقص ويُخلِف؛ إذا وعَدت ربك وعد، فَأوفِ بالوعد وكُن صادقًا معه، فإن ذلك الإخلاف فيه والتأخير مما يقطع السائرون في سيرهم إلى الله تعالى كثيرًا، فإذًا لا تُبرم ولا تقطع بوعدِ إلا وعندك القُدرة التّامة على الوَفاء به، والطمأنينة إلى القيام بالوفاء.
واجعل معروفك ابتداءً بلا وعد؛ إذا ستعطي، إذا ستكرم، إذا ستهب، دعْهُ من دون وعد، هاته مباشرة، ولا تقول سأجيء لك بكذا، أعطِ بدون أن تتكلم؛ اترك الوعد، حتى لا تقع في شيء من إخلاف الوعد.
(إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) سيدنا إسماعيل عليه السلام (وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54)) رسولًا إلى "جُرهُم" وأقوام من اليمن والعماليق أرسله الله إليهم، وكان قد تزوج من جُرهم فبُعِثَ إليهم سيدنا إسماعيل بن إبراهيم (رَسُولٗا نَّبِيّٗا) ونبّأَ من قِبَل الحق -جلَّ جلاله- (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا).
(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ (55)) أهلَه الخاصّة وأهلَه العامّة؛ أهله الخاصة أسرته وقرابته كان يُؤكد عليهم بشأن الصلوات فرضًا ونفلًا ويحثُّهم عليها.
(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) وبالزّكاة كذلك وهي ما فُرِض ونُدِب اليه من الصّدقة
كان مُعتَنِيًا بغَرس هذا الأمر في أسرته: أهله الخاصة
وأهله العامة: كل من أُرسِل إليه، جميع أُمّته كُلهم أهله، وكُلهم أهل اسماعيل من جهة أنَّه أُرسِل إليهم
فكان يأمُرهم بالصلاة والزكاة، والصلاة والزكاة رُكنان في دين الله تعالى مع كل نبي؛ من آدم إلى سيدنا محمد ﷺ، قال الله تعالى في أنبياء مضَوا من قبل؛ أولاد سيدنا ابراهيم؛ اسماعيل وسيدنا إسحاق ويعقوب (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ) [الأنبياء:72-73].
إذًا فما أعظم الصلاة وفَرضَها ومَنزِلتها عند الله تعالى؛ وهي الصِّلَة بين العبد وبين ربه، فمن الخطر الكبير التساهل في الصلاة:
بتأخيرها عن أوقاتِها،
وأدائِها على غير وَجهها،
أو تركها بالكُليّة -والعياذ بالله تعالى-،
وفيها التهديد الشديد (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4-5].
(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) وهذا مما يعتني به المؤمن في إقامته مع أسرته وأهله، وأمر ﷺ أن يُلاحِظ ذلك من حين ما يبلُغ الولد عنده -ابن او بنت- السابعة " مُروا أولادَكم بالصلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنينَ واضربوهُم عليها وهمْ أبناءُ عشرٍ" اعتناءً بشأن الصلاة.
(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) قال الحق تعالى لسيد الأنبياء: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ) في إشارة الى أنَّ مُقيمي الصلاة يُيسِّر الله لهم من الحَلال ومن الرِّزق ما يكفيهم (نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) [طه:132].
(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) إخراج المال في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، وجاء أيضًا في الحديث أنَّه يقول ﷺ: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلّيا أو صلّى ركعتين جميعاً كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات".
(يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ) وجاء أيضًا في الحديث الدعاء بالرحمة لرجلٍ قام يُصلي بالليل: "رحِم الله رجلاً قام من الليل فصلّى، ثم أيقظ امرأته فصلّت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورَحِم الله امرأة قامت من الليل فصلّت، ثم أيقظت زوجها، فإن أبى نَضَحت في وجهه الماء" أي لِيَذهب عنه النوم، وهذا يكون حالة الأسرة التي أقامت شأنها على التعاون على مرضاة الله وعلى التطبيق لشرعِ الله في الفرائض والسُّنن، فكان بين الزوج والزوجة تفاهُم على التعاون على المَندُوبات والمُستحبّات، ومن خيرها: قيامُ الليل؛ يقول إذا ما قُمت رُشِّي وجهي بالماء حتى أستيقظ، وهكذا يكون.
فأمَّا من لم يتِم بينهم هذه العزائِم بدافع الإيمان والصدق فلا ينفع مُجرد رشّ الماء وحديث رشِّ الماء؛ فتحصل مشكلة بينه وبين أهله، وهي تقول سمعت الحديث وترش الماء، تعمل مشكلة وزوجها! ما هذا المُراد بالحديث! المراد بالحديث:
أنَّ الزوجين مُتعاونين على طاعة الله مُتفاهمين،
قرَّرا أن يأخذ كل منهما بِيد الاخر ليُقيما وسَطَ المنازِل والديار أنوار الفرائِض والسُّنن،
وعبادةُ الحقِّ في السِرِّ والعَلن،
ومنه أن يَترُك النومَ من أجله،
وكما جاء ايضًا في الخبر: أن الله تعالى يباهي ملائكته برجلٍ قام من فِراشهِ وأهلهِ وصلَّى، يقول: انظروا إلى عبدي ترك نومه وأهله وقام يناجيني، فيَرفعُ له ذكرًا في الملأ الأعلى ويُباهي به ملائكته؛ فهذا عمل من الأعمال الصالحات الذي كان مُنتشِرًا بين المسلمين وفي بيوتِهم وأُسَرِهم ومنازلهم، حتى مرَّت أوقات بل سنوات بل قرون على كثير من بلدان المسلمين لا تكاد تَجِد فيها مَن لا يستيقظ في الليل، من لا يستغفِر في السحر، الكل صغار كبار رجال نساء؛ حتى جاءت البَرمجة للأوقات من أيادي خائنات وغير ناصحات وصار الأمر ثاني وتحوَّلت الأحوال، ويا مُحوِّل الأحوال حَوِّل حالنا والمسلمين الى أحسن حال.
(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) والنتائِج لهذه الأعمال، وهذا الصدق في الوَعد، وهذه الصفات الصالحات:
(وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)) قال: أنا راضٍ عنه يقول الرحمن، الله! ربُ العرش عنه راض، هنيئًا لسيدنا اسماعيل (وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) في أقوالِه وأفعالِه وأحواله وصفاته؛ رضي الرحمن تعالى عنه برضاه الخاص، قال: (وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا).
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ (56)) الذي سُمِّي إدريس؛ لكثرة دراسته، وكثرة ما يدرس ويقرأ فيما أنزل الله تعالى من الوحي؛ فسُمِّي ادريس، وكان أصلُ اسمه (اخنوخ) وهو جدُّ سيدنا نوح -عليه السلام- جد أبيه، من أجداد سيدنا نوح -عليه السلام- وهو بين شيث ونوح.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا (56)) قويَّ الصدق في ذاتِه، وأفعالِه، وأوصافِه، وأقوالِه.
(إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56)) آتيناه النبوة والوَحي وأرسلناه إلى قومه.
(إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ) أعليناه وشرّفناه بالرِّفعة (مَكَانًا عَلِيًّا (57)) مَنزِلة معنوِية في مكانته عند الله -تبارك وتعالى-، وكذلك:
(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) بما آتاه من النُبوّة والرِّسالة.
(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) بما جعل له من درجاتٍ في الجنة.
(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) بما رُفِعَ بجَسدِه الى السماء الرابعة، فأدرَكهُ الموتُ وهو في السماء الرابعة فبَقِي مَحلَّه، فما له في الأرض قبر ولكنّه في السماء، جاء وقت أخذ روحه وهو في السماء.
وفي الحديث في الصحيحين عندنا أنه ﷺ لما مرَّ ليلة الإسراء والمعراج دخل السماء الرابعة، وجد النبي إدريس -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-.
(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) حتى جاءَ أنّ سيدنا عزرائيل -عليه السلام- نزلَ إليه الأمرُ في الصُّحف أن يقبِض روحَ إدريس في السماء الرابعة، وبقي يتعجّب سيدنا عزرائيل، كيف هو في الأرض وأنا أقبض روحه في السماء الرابعة! ولم يَدرِ ما هيَّأ الله له، ونشَر الملَك جناحهُ فرفَعَهُ واعتلى به، فلمّا في السماء الرابعة جاء الوقت الذي أراد الله فيه قَبْضَ روحه قابَل سيدنا عزرائيل المَلَك قال له: أين إدريس؟ قال: هو هنا معي، قال: عجِبت أنّ الله أمرني أقبِضَ رُوحَه في السماء الرابعة، قلتُ كيف أقبِضه، قال: هو هنا في السماء فقبَض روحه في السماء الرابعة، (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) رفيعًا شريفًا.
(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ) قصَّ الله علينا خبرهم، ومَن معهم من بقية النبيين (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم (58)) بالنعيم العظيم -سبحان المُنعِم- لك الحمد، اللهم كما أنعمت عليهم فألحِقنا بهم، وارزُقنا كمال الإيمان بهم والتّصديق لهم والاقتداء بهم والحَشر في زُمرتِهم.
(أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ (58)) كلهم مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ -عليه السلام- فالله جعله أبو البشر كلهم، (وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) بعضهم ممن ركبوا سفينة نوح، وهذا يخرج عنه سيدنا إدريس، إدريس قبل نوح وما ركب في سفينة نوح فهو من أجداده، فهو من ذريّة آدم، لكن في آخرين من ذريّة آدم (وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ (58)) في السفينة يعني مِمّن كانوا، فهم الذين جاءوا من بعد سيدنا نوح -عليه السلام- من مثل سيدنا إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- مِمّن حمله الله مع نوح.
(وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ (58)) إبراهيم ممن حمل مع نوح (وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبۡرَٰهِيمَ) إسماعيل وإسحاق ويعقوب هؤلاء كلهم ذرية سيدنا إبراهيم.
(وَإِسْرَائِيلَ) هو يعقوب نفسه، من ذُرية إبراهيم ومن ذُريّة إسرائيل؛ لأن الله أكثر الأنبياء في نسل سيدنا يعقوب وذرية سيدنا يعقوب عليه السلام (وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ) إسرائيل: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ فالأنبياء كلهم يرجعون إلى هؤلاء، فمن ذرية إسرائيل ممن ذكروا في هذه السورة؛ سيدنا زكريا وسيدنا يحيى وسيدنا عيسى؛ من ذرية إسرائيل كلهم من ذرية سيدنا يعقوب عليه السلام.
(إِسْرَائِيلَ) أي عبد الله، عبد الله هذا اسم سيدنا يعقوب، وبنو إسرائيل يعني ذرية يعقوب، بنو إسرائيل، والجماعة من شِرار كُفّار زماننا أخذوا الاسم، وإن كان فيهم أفراد ممن ينتمي إلى الأسرة، ولكنهم بعيدون عن سيدنا يعقوب وعن الأنبياء كلهم، وخانوا الأمانة والعهد وكانوا من شِرار خلق الله على ظَهر هذه الأرض.
يقول: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا (58)) يعني بقية الأنبياء والمُرسلين؛ هَداهُم الهُدى المَخصُوص الرفيع الشريف الكامل التام.
(وَاجْتَبَيْنَا) اصطَفينا، انتَخَبنا وانتَقَينا ونِعمَ الانتخاب من ربِّ العرش والانتقاء من ربِّ الكُون -جلَّ جلاله-، انتقى هؤلاء الانبياء والمُرسلين -صلوات الله وسلامُه عليهم-، ووصَفَهُم بأنهم إذا سمِعوا آياته والوحي الذي نزل من عنده يَبكُون ويَسجُدون؛ لذا لمّا قرأ سيدنا عمر الآية سَجَد وقال: هذا السجود أين البُكِيّ؟
(سُجَّدًا وَبُكِيًّا۩ (58)) فالآية فيها السُجود والبُكاء، يقول بعضُ العارفين قرأتُ في المنام القرآن على رسول الله ﷺ فالتفت إلي وقال لي: هذه التلاوة فأين البُكِيّ؟ أين البُكاء، الله الله الله!
يقول هذا وصفهم يخرّون سُجَّدًا لله عند سماعِ الآيات ويبكون؛ وهذه الآية من آيات السجدة، يقول الله: أولئك الذين ذكرهم من: زكريا، ويحيى، وعيسى، وإبراهيم، وموسى، وسيدنا هارون، وإسماعيل، وإدريس (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩)
(وَبُكِيًّا) جَمع باكٍ؛ فهُم أهل البُكاء من خشية الله، ولذا كان يقول بعض العارفين مع استحباب البُكاء عند تلاوة القرآن، قال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [المائدة:83] وقال: خصوصًا عند سجدتين؛
عند سجدة في سورة بني إسرائيل في سورة "سبحان" آخرها (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) [الإسراء:107] يبكون،
وفي هذه الآية أيضًا في سورة مريم.
لأن الله ذكر فيها البُكاء لهؤلاء الأخيار، فكيف لا نبكيه! نحن أحقُّ بالبُكاء منهم، من حيث تقصيرنا وذنوبنا وزلّاتنا نحن أحقُّ بالبكاء منهم، وإن كانوا هم أولى وأحق بالبكاء من حيث مَعرِفتهم بجَلال الله وعَظمَتِه وشِدّة قُربِهم منه مما لا نَبلغُه، ولكن نحن من حيث الحاجة ومن حيث كثرةِ الذُنوب نحن أولى بالبُكاء؛ فينبغي أن يكون لنا نصيب من هذا، خُصوصًا في الخلوة،
فإنَّ قطرة دمع من عين مثل رأس الذبابة تخرج من خشية الله تُطفِئُ جِبالًا من النار،
وإنَّها خير من جبل ذهب يُتَصدَّق به؛ أن تخرج الدمعة من خشية الله أو من مَعرِفة الله ومن مَحبة الله -جل جلاله-، خصوصًا في الخلوة "ورجلٌ ذَكرَ اللَّهَ خاليًا ففاضت عيناهُ" يقول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
قال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)) -والعياذ بالله- (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ) هؤلاء الأنبياء، كلما تمادى الوقت والزمان وطغت على الناس سُلطة الأهواء والشهوات انحرفوا عن مسالك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
خَلْفٌ؛ فيُقالُ فيمن يكون من أهل السوء: خَلْف،
وفيمن يكون من أهل الهدى: خَلَفْ.
هؤلاء خَلَف صالح، وهؤلاء خَلْف سوء -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ) هذه مشكلة كبيرة إضاعة الصلاة وإهمالها، والذي هو مُنتشِر بين كثير من أهل هذه المِلَّة:
لغفلتهم،
ولجهالتهم،
ولتقصير المُصلِّين في تذكير غير المصلين وتَنبيههم.
فصار مُنتشِر بين كثير من الرجال والنساء في كثير من الأقطار إهمال الصلاة، وإضاعة الصلاة، وتأخير الصلاة، ولو جِئت إلى أماكن وسائل النقل؛ من طائرات إلى بواخر إلى سيارات إلى غيرها؛ وجدت ركب بعد ركب لا يذكر الصلاة فيهم إلا القليل، وهؤلاء يدخل وقت الصلاة ويخرج ولا كأن هناك أمر، ولا كأن هناك نَهي، ولا كأن هناك تَوقيت من قِبَل المولى -جلَّ جلاله-، وبعض الشركات تجعل وقت إقلاعها وقت الفجر فيُفَوِّتوا الصلاة ووقت الجمعة وإلى غير ذلك، تساهُلًا بفرائض الرحمن -جلَّ جلاله- (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) وهذه أسلحةُ إبليس للإغواء -والعياذ بالله-.
(فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) شرًّا وخيبةً وخسرانًا
و (غَيًّا) وادٍ عميق في النار -والعياذ بالله- يسكنون فيه
(فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) باتّباع هذه الشهوات؛ ولم يزَل هذا شُغلُ إبليس وجنده في إذلال الناس وقَطعِهم عن ربِّهم، وتفويتهم حُسنُ العاقبة والمَصير إلى الجنة بواسطة الشهوات؛ وخصوصًا شهوة الفَرج والبَطن، وما يتعلّق بالمُسكرات والمُخَدِّرات والزِّنا واللِّواط أكبر أسلحة عدوّ الله إبليس يقطع بها الخَلق عن الله وعن باب الله، ويشتَغل بِنَشر وسائِلها وأسبابها خُصوصًا بين رُبوع المسلمين، كثير من هؤلاء الفُسّاق المُجنَّدين لإبليس من شياطين الإنس والجن؛ فبِذلك يُوقِعون المُسلمين في دواهي وفي بلايا؛ ما تكون الشُّرور هذه القائِمة في الحِس من حيث الأسلحة والقَتل إلا نتيجة لما يَحصل في الأمة من إضاعة الصلاة، ومن انتشار الفاحشة، ومن انتشار المُخدَّرات والمُسْكِرات بينهم ويأتي هذا نتيجة لهذا -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فهو من أشدّ القَواطِع عن الله -جلّ جلاله- اتِّباعُ هذه الشهوات؛
فيجب الحذَر الشديد منها،
ويجب على من وَقَع فيها من رجل وامرأة صغير أو كبير أن يتوب توبة نصوحا
ويُقلع عنها ويَبعُد عنها
ويَجتنِبها؛ بذلك يسلَم دينه، بل وتصلُح دنياه وتصلُح له آخرته.
فالله يَقِينا الأسواء والبلايا والآفات، ويرزُقنا مُتابعة خيرِ البريّات، وينفَعُنا باستماع الآيات وما جاء فيها، فيا ربِّ ثبِّتنا على الحق والهُدى، ويا ربِّ اقبِضنا على خيرِ مِلَّةِ، واجعلنا ممّن يَخلُف النبيّين طاعةً وبِرًا وإيمانًا وتقوىً وإخلاصًا وصِدقًا يا حي يا قيوم، ورَقِّنا بذلك أعلى مُرتقى، وأعِذنا من كل مُوجِب حسرة وندامة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
19 ربيع الثاني 1446