تفسير سورة طه - 7 - من قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) إلى الآية 76

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه  

{ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)   وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) }

مساء الإثنين 4 شعبان 1446هـ

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مولانا مُنزِل القرآن على قلب عبده المصطفى سيد الأكوان، سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه في كل حين وآن، وعلى آله وأهل بيته المطهرينَ عن الأدران، وأصحابه الغُرِّ الكرام الأعيان، وعلى من والاهم في الله واتّبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مَن رفَع لهم القدْر والمكانة والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين الإله الرحمن.

وبعد،،

فإنَّنا في نعمة تأمُّلنا لكَلام ربنا -جلَّ جلاله- وتدبّرنا لآياته وتعليماته وتوجيهاته، مررْنا على الآيات الكريمة في قوله -جلَّ جلالهُ وتعالى في علاه-: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54))، قال تعالى: (مِنْهَا) هذه الأرض (خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55))، فلا تستقِر حياةٌ لبني آدم إلا على ظهر هذه الأرض، في خلال العمر الذي قدَّره الله تعالى قبل الانتقال إلى عالم البرزخ.

(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) بالنفخ في الصُّور، وطيران كل روح إلى جسدها الذي كُوِّن ما بين النفختين، وكانت قد عاشت فيه في عالم الدنيا، فتنطلق مباشرةً كل روحٍ إلى جسدها، لا يُخطئ روح مكان جسده الذي كان عاش فيه؛ بقُدرة العليم الحكيم -سبحانه وتعالى-.

قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) [الزمر:68-70].

قال: (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ) فرعون (آيَاتِنَا كُلَّهَا (56)) التي جاء بها سيدنا موسى عليه السلام: من أمْر اليدِ والشعاع عليها، وتخرج بيضاء من جيبه من غير سُوء ويرُدها فتعود كما كانت، ومن وضع العصا فتنقلبُ إلى حية وما تعلَّق بذلك وارتبط به من الآيات؛ وهي كافية لأنْ يُوقن أن موسى جاء من عند الإله الذي كوَّن الكائنات، وأنَّه ليس بساحر ولكن (فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ (56)).

(قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ (59))

  • هو اليوم الذي يتزينون فيه، يومٌ من العام معروفٌ بينهم،

  • أو أراد المكان الذي يجتمعون فيه في يوم زينتهم،

(وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ) أن يُجمع الناس (ضُحًى (59))؛ وقت الضحى، وقت ظهور الشمس، لأنَّه ليس في عمل مُوسى شيء يُكاتمه الناس ولا يفعله في السر ولا الظُلمة، بل في وَضح النهار.

(وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ (60)) من كل ما استطاع من كيدٍ من جمْعِ السحرة، وجيء بكل سحَّار عليم كما جاء في الآيات، وتزلَّفوا إليه ووعدهم أن يُقرِّبهم وأن يؤتيهم أجورًا كبيرة إلى غير ذلك، وتجمَّعوا، وكان يحُثهم على أن يعدُّوا عُدتهم ليغلبوا موسى، وقالوا: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء:41-42]، فكان هذا الشأن حتى خُذِلوا، وتبيَّن لهم الحق مع موسى عليه السلام.

قال: (فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ (60)) وهذا بيانٌ لكل مُبطلٍ تأتيه أحوال، وعند اقتراب إهلاكه أو انتقام الله منه يحصل له حماس ويحاول جمع كل ما في طاقته من كل جانب، ولكن (جَمَعَ كَيْدَهُ) من كل مكان، (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) [غافر:37]، (جَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ (60))، جاء إلى الموعد الذي وُعِد، وموسى حضر.

(قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ) قال لهؤلاء السحرة المُتزلِّفين إلى فرعون (وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (61))، (لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) بادعاء الألوهية لغيره، والتكذيب بما جئتُ به من الرسالة، وتُوهمون النَّاس بأعمالكم، أنَّ هذا كذب، وأنَّ عندكم الحق، (لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم) يستأصِلكم تمامًا (بِعَذَابٍ) فإنَّ هذه سُنَّته، (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ (61)) الكذب على الله تبارك وتعالى، (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل:116-117].

(وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ) السحرة كانوا يكلِّم كل منهم الآخر، انظروا إلى موسى هذا وما جاء به، (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَىٰ (62)) المخاطبة بينهُمُ البين، وانتَهوا، يقول قائل منهم: لعلَّه نبي صادق فنتعَرّض لهلاك كما أخبر، ويقول آخر: أما ترون ما وعدكم فرعون وما يأتيكم، لا تتركون الفرصة على أنفسكم وقوموا وتجمَّعوا لتَغلِبوه حتى تحصِّلوا المكانة عند فرعون ويُقربكم ويعطيكم أجور كثيرة؛ فأجمعوا بعد ذلك على هذا.

(قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ) وفي قراءٍة: (إِنَّ هَٰذَينِ لَسَاحِرَانِ)، (إن هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ (63)) التي أنتم عليها، وهكذا كُلٌّ ينظر إلى طريقته أنها مُثلى، والميزان هو ميزان الذي خلق! (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [البقرة:113]، الحق والباطل والصحة والفساد في ميزان الله تعالى لا في ميزان الخلائق؛ بأفكارهم ولا بخَيالاتهم، كما قال فرعون -على سيدنا موسى عليه السلام-: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26] موسى جاء بالفساد؟! أنت الذي تُقتّل الناس، وتستعبدهم وتدَّعي أنَّك إله! ألست أنت مفسد! أين فساده؟ قال: أخاف أن يظهر الفساد، انظر الى هذا الميزان الأعوج! فما كان إلا هو رأس المفسدين، وأهلكه الله بعد ذلك ولا قتل موسى، قال: (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) مستهزئًا بالإله الحق -جلَّ جلاله-.

قال: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) واجعلوا كلمتكم واحدة (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا (64)) واحدًا؛ لأنه تُستجلب القُوة باتّحاد الصفوف واتّحاد الكلمات والآراء والوجهة، تُكتسب بها القوة في عالم الحس، وقرّر الله ذلك حتى قال للمؤمنين: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال:46]،

وقال عن الذين نصر بهم الدِّين ورسوله، قال: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) [الأنفال:62-63]، وذكر نعمة التّأليف بين القلوب، الله يُكرمنا بأُلفة القلوب له ومن أجله خالصة لوجهه، هذه يُعطاها أصفياء يصطفيهم الله في كل زمان، يتوادّون في الله، ويتحابّون في الله يُنادى عليهم يوم القيامة: "أين المتحابُّونَ فيَّ، أين المُتجالسون فيَّ، أين المتباذلون فيَّ، اليومَ أُظِلُّهم في ظلِّ عرشي، يومَ لا ظِلَّ إلا ظلِّي"، "المتحابُّونَ في اللَّهِ على منابرَ من نورٍ يومَ القيامةِ"،

وهكذا يختصّ الله في كل وقت من يشاء أن يكونوا بهذه المثابة، وإذا أراد بالعباد خيرًا نشر الألفة أكثر بين المؤمنين، وترابطوا أكثر وتوادُّوا في الله أقوى؛ فيكون ذلك سببا لظهور الحق، ونصرَ المؤمنين بالألفة، في هذه النعمة الكبيرة قال الله لنبيه: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال:63] فالله يُؤلف بين قلوب المؤمنين، فيكون من وجهاتنا في كل ما نقوم من عبادات وطاعات، وِجْهة إلى الله أن يُؤلّف بين قلوب المؤمنين، ويجمع شمل المسلمين.

قال: وهم قالوا هؤلاء (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ (64)) من ظهر بالعُلو وعَلَا على الثاني وغلب الآخر فهو صاحِبُ الفوز والفلاح وكلها بموازينِهم المُختلَّة، ولا الفوز إلا بمن (زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185] فمن فاز برضوان الله فهو الفائز، وأمَّا هؤلاء فما هو الفوز في كل هذا؟

(وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ (64) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ (65))، فظهروا بمظهر أدب وتنازل عن الغطرسة ولم يأتوا ويتبجَّحوا أمامه؛ قالوا هذا مُمهِّد لهداية الحق لهم ودعوتهم ورجوعهم إلى الخير، ولو قابلوا موسى بشدّة ربّما لم يهدهم الى الحق -جلَّ جلاله-، لكن هؤلاء؛ إيمان قوي في لحظات تحوَّلت بالإيمان نظرتهم إلى فرعون، وإلى مُلكه، وإلى الدنيا كلها وما فيها، وراحوا أمام اليقينيات الكبرى في تعظيم الله، من سَحرة يتزلَّفون إلى فرعون، إلى أقوِياء مؤمنين يتّصلون برب الكون -جلَّ جلاله- ولا يخافون إلا هو، شيء غريب -سبحان الله-.

(قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا) وكان ذلك ما أحبه؛ وهو لثقته بأمر الله، فبدأوا (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) الكثيرة التي جمَّعوها أحمال وأكوام، (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) للناظرين الآخرين (مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ (66))، تتحرك، يخيّل للنظر لكن ما تتحرك، محلَّها، (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ (67)؛ خِيفَةَ أنْ يختبر الله العباد فيُصَدّوا عن الإيمان، ويظهر هؤلاء القوم فيفوتُهم الجنة والفوز، فخاف أن يكون امتحان من الله -تبارك وتعالى- فيَهلك الناس.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ) أوحى الله إليه مباشرة (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ (68))؛ باتصالك بالعلي -جلَّ جلاله-، اتصالك بالقوي -سبحانه وتعالى- (إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ)، وفي هذا أيضًا إطلاق أمثال هذا اللفظ على من رفع الله قدره، مع أنَّه الأعلى من أسمائه ومن أوصافه تعالى، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى:1]، وسمَّى موسى: (إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ) ما فيه إشكال!

كان واحد في الهند يسمونه أبو الأعلى، وجاء الناس قالوا له: هذا لا يصح! لا يجوز!، بدِّل اسمك هذا، قال: الله يقول لعباده: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران:139] وأنا واحد من المؤمنين (أنتم الأعلون) ولدي واحد منهم وأنا أبوه، أنا أبو الأعلى، ما الذي في المسألة؟ فهذا غريب من الحساسيات التّي أوقعتها الثقافات المتأثّرة بالسياسة، الثقافات المتأثرة بالسياسة التي تقوم عليها دول معينة، ووراءها ما وراءها من الخيوط إلى هناك وهناك، فتَشعشع في أفكار الناس أنّه شرك هذا لا يجوز، شرك، إذا كان شيء شرك فأولنا وآخرنا ضدّه ومحاربٌ له وداحر له، ونحن لا نعتقد أنَّ في الوجود أفحش من الشرك بالله تبارك وتعالى، لكن ألفاظ صحيحة جاء بها القرآن كيف تتحوّل شرك؟ مصيبة كبيرة! فالمشكلة في التصور وفي هذه الحساسية التي اكتسبوها من الفهم الخاطئ.

(إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ)  والحق تعالى أيضًا يقول للمؤمنين:

  • (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]،

  • يقول في الآية الأخرى كذلك في سورة سيدنا محمد: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:35].

يقول: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) ألْقِ العصا (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) تقضي عليهم مُباشرة، تلْتهِمه حتى لا يبقى مِنه شيء، (تَلْقَّفْ مَا صَنَعُوا) فألقى العصا، فأكلت جميع الحيَّات، وحِبالهم وعِصيهم، مئات آلوف الحِبال والعِصي، أين ذهبت؟! ولا سمُنت ولا زادت، ثم اختفت، أين اختفت هذه الحِبال والعِصي؟ فأيقنوا أنّها آية من آيات الله، لا يقْدِروا عليها بِسِّحْرِهم، ولا أحد مِمن يعْرِفون السِّحْر، لا أحد يقْدِر على هذا، هذا مُرسَل مِن عند الله (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ (69)).

ولذا المُتعلِّقين بالسِّحْر والشعوذة يتعبون في حياتهم الدنيا، ومهما جلبوا من أموال وغيرها، يعيشون حياة تعيسة والعذاب أمامهم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، يأذون ويضرون الناس ولكن هم يتعبون أيضًا حتى في الدنيا قبل الآخرة، والعذاب عليهم شديد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، فمِن الكبائر في دين الله اسْتِعْمال السِّحْر، وعمل السِّحْر، قال: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ).

فلمَّا رأوا الآية أيقنوا، فنازل الإيمان قُلوبِهم بقوّة؛ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ (70)) الربُّ ربّهم، ليس هو ذاك الذي يضحك علينا، ونحن نتبعه مثل البقر والنعام عِندنا، قالوا: هذه آية مِن فوق، هذه أمور لا يُقدر عليها ولا يُطاق، هذا جاء من عند الإله الحق.

(قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) وهل يحتاج الإيمان إلى إذن مِن أحد؟! والإيمان هو: إدْراك الشيء واعْتِقاده على ما هو عليه، كيف يحتاج إذن مِنك؟ إذا أنا سأُصدِق أن هذا كأس، هل أحتاج إذن مِنك؟! رُخْصة أقول هذا كأس أو لا أقول؟ أمامي كأس؛ كيف سأحتاج إذن لهذا؟! لا تقُل كأس إلا بإذن منّي؟ قالوا: أنت بسيطرتك تقْدِر على الرِقاب وعلى الكلِمات الظاهِرة، أمَّا الإيمان ليس لك دخل فيه، هذا لا يُكْتسب بالسيوف ولا بالقوّة، ولهذا قال: تقْدِر تكره أحد؟! تقول له: اسْجُد لي؟ أو تقول له: أحبّني؟! لا يمكن، حتى لو قال لك: نعم أحببتك، لا تجيء المحبّة إذا لم تكن مُعتَقد من أصْله ومن قلبه، ما يتأتى الإكراه عليها، كذلِك الإيمان.

(قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) قالوا؛ هذه خدعة؛ هو الذي أتى بهم، وهو الذي دبّرهم، حوَّلها إلى أنهم عملوا خُطّة مع موسى، من أجل أن لا يتَّبعوه الناس، من أجل ألا يؤمنوا، قام بسرعة يفتري الكذب؛ كبيركم الذي علَّمكم، أنتم وإياه اتّفقتم معه ضدِّنا، وتعملون ثورة مُضادة علينا وتعْملون مشاكِل في البلاد (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) والآن سنسْتعْمِل القُوّة معكم.

ولا يزال الفراعِنة في كلّ وقت يقولون كذا، هذا نفس منطقهم، في أي وقت هم يتصرَّفون هكذا، ماذا سنعمل؟ (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ) يد يُمنى رجل يُسرى، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (71)) فما الذي حصل؟ لا قطَّع يد أحد ولا صلَّب أحد وهو وقع في العذاب وغرِق وانتهى -لا إله إلا الله-، فالقول قول الله ليس قول فلان ولا فلتان، إذا أراد الله (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف:23-24].

قال: (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ) انظر المنْطق اخْتلف، الفكر اخْتلف، المُقابلة اخْتلفت؛

  • في البداية: (إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) [الأعراف:113] 

  • ثُمَّ (لَن نُّؤْثِرَكَ) لا نُريدك، ما الذي غيّركم؟ ما الذي حوّلكم؟ (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) أمور واضحة دلالات تدُل على أن ربّنا الله، الذي خلقنا وخلق كلّ شيء ومرْجعنا إليه، ليس إليك أنت، وهو يحكم الدنيا والآخرة وأنت ماذا تحكم؟ قطعة من الأرض في الدنيا وتنتهي، ما أنت بإله؟ -الله أكبر-

 (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا) خلقنا وأنشأنا مِن العدم، أنت لا كوّنتنا ولا وجدْتنا، تريد نفسك إله علينا؟! ونحن عرفنا الذي كوّننا وخلقنا، (وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ) لا نهاب قراراتك ولا حُكومتك ولا ما عِنْدك! ما الحال هذا؟ كانوا في البداية خائفين وراجين فِرْعون، الآن راجين الله وخائفين من الله، انتهى أمامهم فِرْعون وغير فرعون -الله-، (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ)، اسْمع سنخبرك (إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)) أنت معك فقط بُقعة في الأرض تحْكُم فيها وستنتهي، لكن حاكُم السماء والأرض وحاكُم الدنيا والآخرة هذا الذي آمنّا به.

(إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) تقول لنا: اغْلبوا موسى وسأعْطيكم واعْملوا وصلّحوا وهاتوا جُهْدكم كلّه، قالوا: تُبْنا، (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (73)) رأيت الإيمان هذا، وَاللَّهُ أَحْسَن لَنَا مِنْكَ.

(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) هو الذي سيبقى، ليس أنت، (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) لماذا؟ متى تثقفوا وتعلموا هؤلاء، ما هي إلا سجْدة أمام موسى، وقد علِموا هذه المعْلومات كلّها وهذا اليقين كلّه، شرِبوا هذا الكلام.

قالوا: (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (74)) عذاب، لا هي حياة مُستقرة آمنة ولا موت، عذاب مُستمر.

(وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ (75)) الرفيعة في دار الكرامة، وللمؤمنين درجات، وللعُلماء فوق المؤمنين سبعمائة درجة؛ ما بين كلّ درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11].

(فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ) في المُلك الكبير قال: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20].

(جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا (76)) (جَنَّاتُ عَدْنٍ) الخُلد واستقرار، (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) من تحت بساتين الجِنان تجْري الأنهار وتمْشي بأمْرِهم إلى أي مكان أرادوا، وذكر الله لنا مِن أنواع الأنهار أربعة:

  1. (فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ)،

  2. (وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ)،

  3. (وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ)،

  4. (وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى)

(وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) [محمد:15] وعجيب هذه الأنهار أربعة تجْري لا يخْتلط هذا بهذا، عِندنا في الدنيا ماء مالح وماء عذب لا يخْتلط هذا بهذا -سبحان الله-!، تجي تعمل بيدك كذا كذا لا يخْتلط، (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) [النمل:61].

ويقول صلى الله عليه وسلم في دعاء الفجر: "كما تُجِيرُ بين البحورِ أن تُجِيرَني من عذابِ السعيرِ"، بحر بجانب بحر ولكن لا يمكن أن يخْتلِط -الله أكبر-، وبعض البحرين ثلاثة؛ واحد وسط، وهذا مالح وهذا عذب)

  • لا الوسط يدخل في المالح ولا في العذب،

  • ولا العذب يدخل في الوسط،

  • ولا المالح يدخل في الوسط،

-الله الله- (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا) [الفرقان: 53] محجورًا:

  • الحيوانات التي تعيش في الوسط، إن دخلت المالح تموت، وإن دخلت إلى العذب تموت،

  • والحيوانات التي تعيش في العذب، إن دخلت إلى الوسط تموت، وإن دخلت المالح تموت  

فقط كل واحد محلُّه، (وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا) فقط كلّ في حُدوده، ويمشي على الحُدود -لا إله إلا الله-، وإذا تعدّوا الحُدود يموتون، فهم أحسن مِن كثير من بني آدم الذين لا يضْبِطون حُدودهم، الحيوانات تضبط حدودها، بني آدم لا يضْبِطون حُدودهم، يتجاوز الحد ويطغى على هذا وهذا، ويتصارعون بينهم البين ويعملون مصائب.

قال: (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) فإذا وقف على الأنهار -سبحان الله- دار الضيافة كل شيء فيها مُسخّر بأمر الله، ما تشْتهيه الأنْفُس، كيف ما تشْتهي الأنْفُس؟ أنت تعرف أزرار الكمبيوترات والالكترونيات؟ فأزرار كلّ مُراد في الجنّة؛ خاطِرُك، تنظر أمامك نهر الماء فتشْرب، أنت فقط يخْطُر على بالك، أنك تُريد نهر العسل يتحوّل إلى هُناك، فنهر العسل يمشي إلى عندك مباشرة، تُريد لبن؛ بسرعة ذاك يذهب ويأتي لبن، في لحظات يمشي معك -لا إله إلا الله-.

وهناك عين وسط الجنّة بالنُسّبة للمُقرّبين (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) [الانسان:6] يعني تمْشي معهم حيث أرادوا، يقول: تعالي عند السرير هذا، أنْزِلي كذا، أطلعي كذا تمشي وراءه، كأنها تتحرك "بالريموت".

هذا ما تشْتهي الأنْفُس وتلذُّ الأعْيُن، كل ما يشْتهون؛ أحدهم في الجنّة يرى الطائر السمين -طائر في الهواء- يُعْجِبه يود أنّه يأكله مشويًا؛ يقع في الصحِن عِنْده الذي مِن الذهب مشويًا، في نفس الوقت، خاطِر فقط، فيأكل، إذا انتهى مِن الأكل يرجع مرة أخرى يطير هُنا، مِن أجل أن لا يكون نقص عليه واحد؛ لا نقص في الجنّة -لا إله إلا الله-، وهكذا مُخلّدين فيها (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ (76)) لا يخْرُجون مِنها.

أحد المُلوك لمّا ابْتنى البيت والقصر المشيد وأحْكم بِناءه، جعل الناس يثنون عليه يمْدحونه، يوم اسْتزار بعض الصُالِحين جاء يزوره، قال له: كيف رأيت القصر؟ هل فيه عيب؟ قال: فيه عيب واحد، قال: المُخْتصّين والمُهنْدِسين لم يُظْهِروا أي عيب، قال: أرى عيبه أن صاحِبه يموت، هذا القصر جميل لو كان صاحِبه لا يموت، فهو ممتاز، لكن صاحِبه يموت، لو كان صاحِبه لا يموت مُمتاز، يقول: (خَالِدِينَ فِيهَا) لا يخرجون مِن الجنّة، اللهم اجعلنا مِن أهل الجنّة.

أول ما يدخل أحد الجنّة يُنادى عليه، قال: "إن لكم أن تنعَموا فيها فلا تبْأسوا أبدًا، وأن تَصِحُّوا فلا تمْرضوا أبدًا، وأن تشِبُّوا فلا تهرَموا أبدًا، وأن تحْيوا فلا تموتوا أبداً"، وهذا الذي لا يوجد في الدنيا، اللهم اجعلنا من أهل جنَّتك.

إخوانكم في قناة الإرث قالوا جمّعوا أعداد الاستغفار، وكانت نيّة إطلاق الحملة لإحياء سُنة الإكثار مِن الاستغفار؛ طمعًا في استمطار الرحمات و استدفاع الفتن ونيل الثواب من الله تعالى، ولم تُخصَّص لفئة معينة أو عمر معين، ومن استغفر بأي صيغة يُضيف العدد عن طريق الموقع المُخصص للحملة، تم ربط العدد الموجود، تم بتوفيق الله خلال الحملة من أول ليلة من شهر رجب إلى آخر ليلة جمع أكثر من اثنين مليون وثلاثمائة وثمانية عشر ألف ومائتين وخمسة وسبعين استغفار الله يقبل منهم، وغيرهم من الذين استغفروا الله، الله يقبل مِنّا ومنهم جميع الاستغفارات.

و "من لزِم الاسْتِغفار جعل الله له مِن كلِّ همِّ فرجًا، ومِن كُلّ ضيق مخْرجًا"، "طوبى لِمن وُجِد في صحيفته اسْتغفارًا كثيرًا"، فلندُم على الاستغفار والصلاة على النبي المُختار، وبالمُناسبة كان نُزول آية الصلاة على النبي في شهر شعبان، ولذا اسْتحب كثير مِن أرباب المعْرِفة والعِلْم أن يكْثُر المؤمِن مِن الصلاة على النّبي في شعبان؛ نزل فيه قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا في كلِّ لمْحة ونفس عدد خلْق الله ورِضا نفْسِه وزِنة عرْشِه ومِداد كلِماته.

نسأل الله أن يتقبّل مِنهم ويكشِف الغُمّة عن الأمُّة، ويجعلنا مِن المُسْتغفرين آناء الليل وأطراف النهار وبالأسحار، ويجعلنا مِمن بالأسحار هم يسْتغْفِرون، ومن المُسْتغْفِرين بالأسحار، ويقْبل مِنّا الاسْتِغْفار، ويُعيد علينا عوائد اسْتِغْفار نبِيُّنا المُختار الذي كان يقول: "إنّي أتوب إلى الله في اليوم والليلة سبْعين مرّة".

اللهم تُب علينا توبة نصوحًا، واغفر لنا وأقبل مِن جميع هؤلاء الذين سجّلوا اسْتِغفاراتهم ومِن غيرهم مِن المؤمنين، وأعِنّا على ذِكْرك وشُكْرك وحُسْن عِبادتك وكثْرة الاسْتِغفار لك المقْبول عِندك بِقُلوب مُنكسِرة مُنطرِحة، خائفة خاشِعة خاضِعة، راجية فيك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

بسرِ الفاتحة

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

 

تاريخ النشر الهجري

27 شَعبان 1446

تاريخ النشر الميلادي

25 فبراير 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام