تفسير سورة طه - 4 - من قوله تعالى: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36)) إلى الآية 50
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة طه
إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) )
مساء الإثنين 13 رجب الأصب 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمدلله مُكرِمنا بالوحي والتنزيل، وإرسال عبده المصطفى الجليل سيدنا محمد الهادي إلى سواء السبيل، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكَرِّم على عبدك المُختار المُجتبى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في درْبه، من أهل وَلائه وحُبِّه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الفائزين بأعلى مراتِب رضوان الله وقُربِه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
فإننا في تأمُّلِ كلام ربنا ونِعمة تدبُّرنا لخطابه ووَحْيه وتعليمه، انتهينا في سورة طه إلى قول الله -تبارك وتعالى- في سيدنا موسى عليه السلام: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ (36)) وذلك أنه سأل:
-
شرحَ الصدر
-
وتيسير الأمر،
-
وأن يُحِلَّ عُقدةً من لسانه،
-
وأن يجعل له وزيرًا من أهله وهو أخاه هارون عليه السلام،
فأجابَه الله إلى كلِّ ذلك وقال: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ) ما سألتَ وما طلبتَ وما أمَّلت، (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ) وفتح له -سبحانه وتعالى- باب التذكير بالمِنَن التي مَنّ بها عليه، والنِّعَم التي أنعم بها عليه، وما عاملهُ به من كريم الفضل والإحسان فيما مرَّ به من العُمر والزمان.
قال: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37)) أنعمنا عليك الآن بتكليمِنا ومُخاطبتِنا إياك، وإرسالِنا إياك، واختيارِنا إيّاك لهذه الرسالة، (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ):
-
نحن نرعاك من بداية أمرِك وشأنك،
-
وفرعون الذي أرسلناك إليه قد نجَّيناك منه، وكنتَ تحت سُلطانه وحُكمه،
-
وَوُلِدتَ في السنة التي يقتُل فيها الأبناء؛ فما قُتِلت.
-
وربَّيناكَ في قصرِه، فاذهب الآن إليه.
-
فكما حمَيناك وحفِظناك صغيرًا نحميك ونحرسك الآن كبيرًا وقد صِرت رسولًا نبيًا.
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38)) وجعلَ الوحي إلى أُمه من المِنَّة عليه، فإن الله تعالى اختارها أُمًا لموسى وأكرمَها، ومنهُ ما أوحى إليها: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ): بالإلهام، وما يحصُل من رؤيا المنام الصادقة.
(إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ) وعَلِمنا أن الوحي أقسام -وهو إعلامٌ في خَفاء-:
-
فمِنْهُ ما يكون وحيَ نُبوّة ورسالة، وهذا مخصوصٌ بالأنبياء والمرسلين،
-
ومنهُ دون ذلك فيكون لغيرهم،
-
إما على سبيل الإكرام كالوَحي إلى أم موسى،
-
وإما على وجهٍ عام كوَحْيِه تعالى حتى إلى النحل، ووَحيهِ إلى الأرض أن تُخبِر بما كان عُمِل عليها، قال: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا) [الزلزلة:4-5] -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-.
-
كذلك كل هذا الإعلام في خفاء يُقالُ له وَحي، والوَحي بالنبوة والرسالة انقطعَ بانتقال سيدنا محمد إلى الرفيق الأعلى، فلا نبيّ بعده ولا رسول ولا يُوحَى لأحدٍ بنُبوّة ولا رسالة بعد نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-، وقُلنا إنما يُوحي الله تعالى إلى عيسى بن مريم إذا نزل إلى الأرض، فليس بنُبوّةٍ جديدة ولا بشرعٍ جديد ولكن على مسلك نُبوّة محمد ﷺ، وهَديِهِ يمضي عليه سيدنا عيسى وعلى العمل بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)، (اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)؛ اجعلي له تابوتًا مُحكَمًا مُتقنًا لا يتخلَّله الماء، من الخشب الذي لا يَغوصُ في الماء، والتَّابُوتِ أيضا يُعبَّر عن الوعاء الذي يكون فيه مُكرَّما ومُحتَرمًا يُقال له تابوت، أو شيء يُعز، شيء عزيز يوضع فيه، يُقال له تابوت، (اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) فصنعت التابوتَ، وبالتعبير (ان اقْذِفِيهِ) أي سارِعي، (اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ..(39))، وقال في الآية الأخرى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7] فأنبَأها هذه الأنباء كلها -سبحانه وتعالى- بما ألهمَها وأوحى إليها في صدرها.
قال: (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) فإنني سآمُر اليمَّ -أي البحر- هذا الذي تضعين فيه هذا المولود؛ أن يمشي به إلى الساحل، والمُراد الجِهة التي فيها نهر قصر فرعون على وجه الخُصوص فيأتي إليه، (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ..(39))
-
عدوٌّ لله بادِّعاء الرُبوبية والكذبِ على الله تعالى،
-
وعدوٌّ لسيدنا موسى فإنه يُطلبُ قَتله؛ لأنه وُلِدَ في السنة التي يُقتِّل فيها أبناءَ بني إسرائيل.
وذلك أنه كان يقتُل عامًا الأبناء، ويستحيي النساء، ويترك الكُلَّ في عام.
قال: (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ) وهو فرعون؛
-
(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي) ما يراك أحد إلا أحبك.
-
(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي) جعلتُ فيك من البَهجة ما يأخذُ الألباب والعقول، فلا يراك أحد إلا أحبك.
-
(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي) فأحبَّتكَ امرأة فرعون -آسية بنت مُزاحم- كما تُحبُّ المرأة ولدَها وأكثر،
-
وكل ما حواليك كان في قلوبهم محبّة لك،
(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)) تُرَبَّى وتُصاغ وتُطَوَّر في مراحل (عَلَىٰ عَيْنِي)؛ برعايتي وعِنايتي وحمايتي وانتباهي منك، وإرادَتي الخير والفضل لك، (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) فلا تنتقل من مرحلة إلى مرحلة، ولا من حال إلى حال إلا وأنا أرعاك في تلك المرحلة وفي تلك الحال، أجلُبُ إليك المَسارّ وأُبعِد عنك المَضارّ وأتولّاك في السر والإجهار، (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي).
(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ..(40)) وذلك أنه بعد أن وصل التابوت إلى النهر الذي يتّصلُ ويختصُّ به قصر فرعون، عجبوا منه! وقد كانت عندها مخاوف؛ تضعه في تابوت! ترميه في البحر! فإنّهُ يمكن أن ينصِدم هذا بشيء، ويمكن أن تتناوله المياه إلى أن تصل به إلى البحر المالح، ويمكن أن يصطدم بشيء فينشقّ ويدخُله الماء، إلى غير ذلك،
ولكن قال: (وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)) فمشتْ به المياه إلى قصر فرعون واحتملوا التابوتَ وفتحوه وإذا بالغُلام، (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ) جاءوا بالذَبّاحين، يريدون أن يذبحوه، فقالت: إذا كان من بني إسرائيل فلن يزيد فيهم هذا شيء، ولن ينفعهم، وأنا وأنت بلا ولد -ما عنده أولاد فرعون- فهذا ولدنا (قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [القصص:9] ولكنه تدبير مَن يقولُ للشيء كُن فيكون، ومَن يعلم ما يُخفون وما يُعلنون.
قال فأحَبُّوه وأرادوا أن يُربُّوه، فكُلما قدَّموا له ثَديًا امتنع من الرضاع، لم يرضع، فاجتهدوا لإيجاد مُرضِع، كلما جاءوا بمُرضع لم يرضع، فأعلنوا أن فرعون يطلب مُرضع لوليد وجدوه في البحر، وأنه سيُكافِئ من تُرضعه إذا قَبِل ثدْيها (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ)، فجاءت أخته: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ)، (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) [القصص:12]؛
-
قال: (فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ) جاءتهم بأُمِّها، فقبِل ثديَها، ففَرِحوا وأكرموها ويُعطونها الأُجرة، وأرَادوا أنَ تبقى معهم في قصر فرعون، فقالت: لا، أنا عندي هناك أولاد وعندي بيت ولا أستطيع، قالوا: خُذيه إذًا عندك ونُعطيك الأجرة، هناك ربّيه إلى أن يُكمل الرضاعة،
(فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ) كما وعدناها من قبل (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) [القصص:7].
(فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) -بلقائِك وإرضاعِك- (وَلَا تَحْزَنَ ..(40)) أن يُصيبَك شيء ولا أن ينالك مكروه، ذكَّره بهذه النعم من بداية نَشأته، يقول الله في هذه المناجاة العظيمة: أنا معك بعنايتي ورعايتي، وحُسن تدبيري من نشأتك ومن صغرك، والآن أُهيّئُك للذهاب إلى فرعون بهذه الرسالة الكبيرة، أكبر طاغية في الأرض تذهب تُبلِّغه رسالة الله تبارك وتعالى؛ يعطيك كم من الجنود؟ لا توجد جنود، يعطيك كم من الأسلحة؟ لا توجد أسلحة! ولا كم ولا كيف! يذهب وحده هو وأخوه.
قال: (وَقَتَلْتَ نَفْسًا ..(40)) لما كبرتَ بينهم، لمّا كمُلَت الرضاعة أرجعَتك أمك إلى قصر فرعون، واحتفلوا بك واحتفَوا وأكرمُوا أمك، وخلَعوا عليك، وتتربّى عندهم، ويُغدِقون عليك، ولطمْتَ فرعون ومسكْتَ لِحيَته، وخلَّصناك منه ومن الشِّدة، ثم كبرت ووجدت اثنين؛ واحد من القبط يعدو على واحد من جماعتك -بني إسرائيل- فاستغاثك، صاحبك من بني إسرائيل، فجئتَ إلى هذا الصائل لكي تردُّه، فلطمته لطمة قضَت عليه فمات (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ)؛
-
(هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ) من بني إسرائيل.
-
(وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ) من جماعة فرعون من الأقباط وكان مُعتدي صائلًا على هذا الإسرائيلي.
فوقف سيدنا موسى يردُّ الصائل، فرآه مُصِرّا على هذا، فلَطَمهُ فمات، قال: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ) [القصص:15] لطمة قضت عليه بحالها، واللطمة لا تُميت الإنسان لكن انتهى (فَقَضَىٰ عَلَيْهِ)، فجاءوا يبحثون: من قتلَ صاحبنا هذا! ووجد صاحبه نفسه هذا يعمل مشاكل مع شخص ثاني في اليوم الثاني (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) تعال يا موسى، فقال موسى: أنت نفسك صاحب مشكلة الأمس، قُمت تعمل مُشكلة اليوم، (قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ) [القصص:18] أنت لشديد، شيطان، تُضارِب الناس وتعمل مشاكل معهم، فرفع يده، فزِع لمّا قال: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ) -خاف أن يفعل به كما فعل بالأمس فيُعطيه لطمة ويموت- !
(يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)، وفرّ الرجل، وسمع رجل يقول: سمعتم موسى قتل صاحبكم، فبدأوا يبحثون عن موسى (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [القصص:19-20]، قال له: خلّصناك من هذه الشدة وأخرجناك، وما قدروا عليك حتى وصلتَ إلى مدين، قال له: (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) واحدة بعد الثانية نختبِرُك ونُخلِّصك ونُوافيك بألطافنا وإسعافِنا، (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) اختبرناك اختبارا، وخلّصناك من شدة بعد شدة، ومِحنة بعد مِحنة.
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) -بلد النبي الصالح سيدنا شُعيب- (ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ) في الوقت الذي قدّرتُه، والأجل الذي أبْرَمتُه في الأزل لأُخاطبك وأُكلِّمك وأُرسِلَك، (ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)) الله أكبر، أحطتُك بعنايتي ورِعايتي من كل جانب؛
-
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) لتكون الذاكِر لي، الدّاعي إلي، القائم بأمري، المُبلِّغ لشريعتي وديني، المُكلَّم من قِبلي،
-
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) فأنت عبدٌ خالص، أخلصتُك لي دون سواي، ولم أجعل فيك بقيةً لشيء غيري،
-
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) كليم الرحمن، عليه صلوات الله وتسليماته مع نبينا المصطفى محمد.
قال: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوك)؛ هذه الرسالة، أنت وأخوك هارون: (بِآيَاتِي) ما أوحيتُ إليك وما جعلتُ لك من العلامات والدلالات؛ من أن تُقلَب العصا حيّة وتحْمِلها فتعود كما كانت، وتُدخِل يدك في جيبك تخرج بيضاء مُشِعّة بالنور من غير سوء، وترُدَّها فتعود كما كانت، (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا) لا تعجَزا ولا تضعُفا في ذكري، ما طلبته؛ لتذكُرني كثيرا، وتُسبِّحني كثيرا؛ هذا زادكم، وبه إمدادُكم، لا تقصِّروا فيه، فُنوا على الذكر، (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)) لا تغفَلا عن ذِكري ولا تَضعُفا وتُقصِّرا في ذكري.
(وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43))
(إِنَّهُ طَغَىٰ) جاوزَ الحد، وخالف الفِطرَة والطبيعة، وادّعى الأُلوهية والرُبوبية وقال في البداية: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24]، ثم قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، قال: (إِنَّهُ طَغَىٰ) ومادام طغى، هل قال لهم اقتلوه أو كسروه؟! أو افعلوا به كذا؟! (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا ..(44))؛ لأن هذه مُهمة الأنبياء وأتباعهم يبحثون:
-
عن هداية الناس إلى ربهم،
-
عن إنقاذ الناس من النار إلى الجنة،
كان نبيُّنا -إذا بعث سرِيَّة من السرايا إلى المحاربين من الكفار- يقول: "ادعوهم إلى الإسلام، فوالله لأن تأتوني بإسلامهم أحب إلي من أن تأتوني بأموالهم وسباياهم"، أفضل تأتون لي بخبر إسلامهم وإنقاذهم فهذا هو وَصْفُ الأنبياء.
(اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا)، لذلك لمّا دخل بعض الوُعّاظ على بعض الأُمراء فأغلظ القول، قال: يا هذا، إن الله أرسلَ من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌ مني، أرسل موسى وهارون إلى فرعون وقال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا)، ألِن القَول، لا أنت خير من موسى وهارون، ولا أنا شر من فرعون، هاتِ كلام قليل وخفِّف، قال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا) لماذا؟ قال: ابذُلوا الوُسعَ بما آتيتكم من أسباب ناوينَ هدايته؛ لأن هذه عبادتُكم لي، وأنا أهدي من أشاء، لكن هذه عبادتكم لي؛ أن تنوُوا هداية الخلق.
(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)) وربنا يعلم أنه لن يرجِع ولكن هذا واجبُ العبيد وهذا واجب الرُسُل، (لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44) قَالَا) -في هذه المهمة الصعبة- (رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا) انه جبّار قتّال سفّاح سفّاك للدماء، (إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ (45)) ويتجاوزَ حدَّهُ معنا في إيذائِنا وضُرِّنا وقَتلِنا، (قَالَ لَا تَخَافَا) ما قال خذوا معكم سلاح، وإلّا أعدّوا عُدة، وإلّا أحضروا جيش، ولكن قال لهم؛ اذهبوا أنتم الاثنين فقط، (قَالَ لَا تَخَافَا)، أين سرّ القوة؟
-
(إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)) سمعي مُحيطٌ بكل شيء حتى بالخواطر ووُقوعِها في البال، وأرى كُل شيء، لا فرق عندي بين ظُلمة ولا ضوء، ولا قليل ولا كثير، ولا صغير ولا كبير، ولا أرض ولا سماء كله؛ وسط البحر وخارج البحر، في النهار وفي الليل، كله سواء، يرى كل شيء جلّ جلاله.
-
(إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ) يقول عُلماء التوحيد: فلو فرضنا أنه جِيء بنملة -ذرَّة سوداء- فوُضِعت في صخرةٍ صمّاء فرُمِيَت في أعماق البحر، وجاءت ظُلمة الليل، فكان الرحمن الخالق يراها ويسمع دبيبَها ويرى عظامها، والمُخَّ في عظامها سبحانه.
(إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) اثنين، جِئنا من عند ربك الذي خلقك من العدم وربَّاك،
-
(إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) ليعبدوه فلا تصحُّ العبادة إلا له، ولا معبودَ بحقٍ إلا هو،
-
(إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ) بما تضع عليهم من إلزامِهم بهذه الخدمات المُضنِيَة وإهانتهم وتقتيل أبناءهم،
(فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ) هذه العلامات أننا جئنا من عند الله. (وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47))؛ فسلامُنا على من اتّبع الحق والصواب؛ هُدى الله -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه- كذلك سلامُ الأنبياء والمرسلين وهم يحمِلون الولاء لأهل الله ولأهل الهُدى،
-
وكان النبي يكتب في رسائله إلى الملوك: "سلام على من اتبع الهدى"،
-
وأمرَنا ربنا أن نُسلِّم على المُصطَفَين فقال سبحانه وتعالى:
-
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ) [النمل:59]،
-
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) سادة أهل الاصطفاء، سادة من اصطفاهم الله (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:180-182]،
-
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ)؛ فسلامُ الله على سيد الأصفياء، عبدُه محمد، وعلى جميع الأنبياء والمُرسلين وآلهم وأصحابهم أجمعين، والملائكة المُقرّبين وعلى جميع من اصطفى ربنا ربُّ العرش العظيم -جلّ جلاله- عليهم سلامُ الله، عدد ما خَلَق ومِلء ما خَلَق وعدد ما في الأرض والسماء ومِلء ما في الأرض والسماء، وعدد ما أحصى كتابه ومِلء ما أحصى كتابه، وعدد كل شيء وملء كل شيء في كل لحظةٍ أبدا، عدد خلق الله ورِضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
(وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا) أُنبِئنا من قِبَل هذا الإله الذي قد خَلَقنا وأرسَلَنا إليك: (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (48)) فمن كذَّب بآيات الله بعد أن جاءته، وتولَّى عن أمرِ الله اتِّباعًا لشَهوتِه وهواهُ ونفسِه فإن عليه العذاب، (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ).
وبدأ يريد أن يبحث معهم نِقاشًا يصرِفُهم عن المُهِمّة، فعادوا إلى مُهمَّتهم؛ (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50)) فكان آية من الآيات في إِيضاح الحُجَّة وتوضيح المَحَجَّة على لِسان سيدنا الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
كما يأتي معنا بيان ذلك -إن شاء الله تبارك وتعالى- فيما يأتي من الدروس، زكّى الله لنا النفوس، وربَطَنا بحبيبه محمد ﷺ حتى يجمعنا به في الحِمى المَأنوس، ثبَّتنا على دربه وسقانا من شُربِه، ورزَقنا كمالَ الإيمان واليقين والصدق والمحبة، وولاءِ أولياء الله وعِداء أعداء الله، نُحِبُّ بِحُبِّه الناس ونُعادي بعداوَته من خالَفَه من خَلقِه، ونتمنى هداية الجميع، ونبذُل في ذلك وُسعَنا عبوديةً لله، وسؤالًا منه أن يُثبِّتنا حتى نلقاه على الرضى وهو راضٍ عنا، ويحشُرنا في زمرة حبيبه المصطفى، ويرُدَّ عنا كيدَ الكُفَّار والفُجّار والأشرار، أعداء الله وأعداء رسوله المُصطفى المُختار، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وهؤلاء الذين خذَلَهم وصاروا يقومون بِدَور فرعون مع مَن كان مِن أجدادِهم، وما كان منهم إلا مُخالفةَ المنهج لموسى وقومِه ولِمن قبله من النبيين ومن بعده، ولسيدنا إسرائيل -يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- خرجوا عن مناهجهم وامتلأوا بُغضًا وحِقدا وتكبُّرًا على عباد الله -تبارك وتعالى- وواصلوا سَفك الدماء وقتلوا من الناس أكثر ممّا قتل فرعون منهم، فالله يدفَع شرَّهم عنا وعن المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ويرُدُّ كَيدَهم في نُحورِهم، ولا يبلِّغهُم مُرادًا فينا ولا في أحدٍ من أهل الإسلام، وكشَفَ الله الشدائد وحوَّل الأحوال إلى أحسنِها.
يا حي يا قيوم، أرِنا في أمة نبيك محمد ما يسُرُّ قلب نبيك محمد، وما يسُرُّ قلوب ورثته وخُلفائِه وما يسُرُّ قلوب المؤمنين، ورُدَّ عنا كيدَ الكائدين وطُغيان الطاغين وأذى كل مؤذي وشرَّ كل ذِي شر من الإنس والجن والخلائق أجمعين، واجمع شملَ الأمة بعد الشّتات، وثبِّتنا أكمَل الثبات، وبارك لنا في ما بقي من ليالي رجب وشعبان، وبلِّغنا جميعا رمضان، واجعلنا من خواصِّه عندك في لطفٍ وعافية يا أرحم الراحمين.
وبسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
الفاتحة
24 رَجب 1446