تفسير سورة النحل، من قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا..}، الآية: 111

تفسير سورة النحل
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل، من قوله تعالى:

{يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ (111) وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ (112) وَلَقَدۡ جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ (113) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ (115) وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ (116) مَتَٰعٞ قَلِيلٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (117) وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا مَا قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُۖ وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٌ (119) }

ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية

نص الدرس مكتوب:

الحمدلله مُكْرمُنا بأنوار الوحي والتنزيل والبيان على لسان رسولهِ الجليل، خيرِ هادٍ ومعلِّمٍ ودليل صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في دربه إلى يومِ الوقوفِ بين يدي مولانا السميع البصير العظيم الجليل،  وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين،  وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعد،،  فإننا في نعمةِ تدبرُّنا لكلام ربنا وتأُّملنا لمعاني وحي إلهنا -جلَّ جلاله-، كنا إنتهينا في سورة النحل في أواخرها إلى قولهِ -جل جلاله- :  (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، يبين الحق جلَّ جلاله لنا شؤون معاملتهِ للعباد من بعد ما فتُنِوا؛ وأصحاب الهجرة: منهم الذين أُمتحنوا واُختبروا بمكة ثم هاجروا والحكم يشمل كل من نازلته هذه الأحوال فمنهم أكابر نازلهم الإبتلاء والإختبار بالمدينة؛ ثم هاجروا  وتخلصوا من الأذى في مكة؛ نازلهم الاختبار في مكة والأذى فتخلصوا بعد ذلك وهاجروا إلى المدينة المنورة.

قرأ جمهور القرَّاء (مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا) ، أمتحنوا واختبروا، وفتَنَهم الكافرون؛ ومنهم الذين استخرجوا منهم كلمات سبٍّ لرسول الله أو ذِكْر أصنامِهم بخير، وقد تقدَّم معنا أن ممن أوذي الأذى الشديد: سيدنا عمار بن ياسر عليه رحمة الله وأنهم لم يكفُّوا عنه الأذى حتى ذكر آلهتهم بخير. وجاء إلى النبي ﷺ يخاف حاله؛ فسأله فأخبر النبي بما جرى منه قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان يا رسول الله؛ قال: فإن عادوا فعُد، إن عادوا إليك بالأذى والتعذيب؛ فعُد إلى مقالتك ليكفُّوا عنك وقلبك مطمئن ونزل فيه ما تقدم معنا من الآية: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ (106)) ، وقرأ ابن عامر: (من بعد ما فَتَنوا) فإمّا نفس المعنى: وفتنوا أنفسهم بالقول الذي كفُّوا به الأذى عنهم، أو فتَنَوا غيرهم من أولي الكافرين كمثل: من أجبر مملوكه على أن يرتد ويكفر؛ ثم عاد فأسلم وهاجر هو ومملوكه وحسن إسلامهم. (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا) ثم صدقوا في هجرتهم وقاموا بالجهاد وصبروا واستمروا وداموا على الإقبال على الله؛ (إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ): عظيم المغفرة رحيم واسع الرحمة بهم، له الحمد وله المنة. اغفر لنا يا غفور يا رحيم؛ وتب علينا وخلصنا من جميع ذنوبنا وآثامنا ومعاصينا ما ظهر منها وما بطن. 

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) أي: اذكر وذكرهم (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) هو: يوم القيامة؛ فلا تبقى نفس إلا أُحضرت؛ فأنفُس المكلفين من أجل الجزاء؛ وبقية الأنفس ما كان من الحيوانات فالقصاص وبينهم وبين المكلفين؛ ثم يعودون ترابًا، ولكن أنفس المكلفين تبقى تستمر وتخلد إما في الجنّة وإما في النّار، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ)، قال تعالى: (...فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:47]، وهكذا كما أنَّ كل نفس أُوجدت وخُلقت من قِبَل الحق الخالق - جل جلاله- البارئ الفاطر، بلا اختيار منها ولا ترتيب معها ولا بأمر منها ولا بشيء راجع إلى إرادتها، فكذلك تُبعث وكذلك تعود إليه -جل جلاله-، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا)  أي: لا تجد مَن يجادل عنها مِن أب ولا أخ ولا ابن ولا زوج ولا صغير ولا كبير، وكل نفس من الهول الذي فيه تبالغ في المجادلة عن نفسها، أي: تبالغ في السعي لتخليص نفسها من الأهوال والعذاب الذي تشاهده في ذلك اليوم، قال -سبحانه وتعالى-: (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ…) [الزمر:70]، وقال-جل جلاله وتعالى في علاه-: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:37] تجادل كل نفس تجادل عن نفسها.

(وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ): يستوفى لها عملها؛ مِن خير ومِن شر، مِن حسنات ومِن سيئات توفَّى؛ -الله أكبر- فترى عملها (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) [الزلزلة:6]، ثم ترى النتيجة لهذا العمل: ما كان من الحسنات وثوابها؛ وما كان من ذنب غُفر أو بُدِّل إلى حسنة؛ وما كان من ذنوب لم يتوبوا عنها ولم تُغفر لهم؛ ونتائج كل ذلك: (تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ) فالحساب موفر حاضر قائم لك بين يديك توفاه؛ (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ) [النجم:39-41]، الأوفى: الأكمل الذي لا تبقى فيه مثقال حبة من خردل إلا أُتي بها؛ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة 7-8]، فليفقه المؤمن عظمة هذا التكليف وخطر عاقبته ونتيجته؛ إمّا بنعيم لا يُتصور ولا يُبلَغ مداه؛ وإما بعذاب شديد أيضًا لا يخطر على بال الإنسان في هذه الحياة؛ - اللهم أجرنا من عذابك-، فيا أيها المكلَّف قم بحق التكليف واعلم أن لأحْوالك وأفعالك ونياتك وحركَاتك وسكناتِك نتائج؛ فاضبط!  اضبط نظرك، اضبط سمعك، اضبط نياتك، اضبط وجهاتك، اضبط لسانك، اضبط تعاملك مع الصغير والكبير، فإن النتيجة ستُوفّاها كاملة؛ ولن يفُلت عنك كلمة ولا نية ولا نظرة ولا شيئًا قصدت، سماعا ولا حركةً ولا سكونًا لك؛ إلا وُفيتها وعُرضت عليك وجاءتك نتيجتها، و(تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]، (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر:17]، :يعطي كل أحد ما يجزى فـ (لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ) [فاطر:18].

  يقول-جل جلاله-: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، وضرب الله مثلًا في واقع حياة الناس على ظهر هذه الأرض: كم من قُرى جَرى عليها هذا المَثل المضروب! ؛ ضربهُ الله تعالى لأهل مكة؛ ضَربهُ مثًلا لكل عاقل؛ كم قد حصل من أحوال البلدان؟! وأحوال الأماكن على ظهر الأرض؟!. (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً)؛ أي: آمنٌ أهلها وأصحابها وسكانها؛ لا يقلقهم ولا يروعهم شيء؛ في استقرار: في وضعهم ونفوسهم ومشاعرهم؛ لا يروعهم زلزال ولا أصوات مزعجة ولا قتال ولا أذايًا؛ (كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً): في غاية الاستقرار؛ (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا): هنيئًا موفرًا؛ (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ): جميع حاجاتها تتوفر لها؛ (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ)؛ الذي خلقها ورزقها -جل جلاله- فكذبت برسله وخالفت أمره وفعلت ما نهى؛ أي: أصحاب تلك القرية صاروا بهذه المثابة؛ فتحولت أحوالهم وتغيرت (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ): أذاقها الله تعالى مساس الجوع؛ عبّر باللباس؛ أنه لما يغمرهم ويحيط بهم؛ كالثوب يحيط بالجسد؛ كذلك يحيط بهم الجوع والخوف من أنواع الحروب والمشاكل والآفات والغارة عليهم والعدوان إلى غير ذلك؛ مما يُنازلهم ضربهُ مثلْ لأهل مكة. 

يقول: انظروا إلى قُرى ومدن كانت قبلكم فقُرى قوم عاد وثمود وقوم نوح وقوم فرعون، وإلى غير ذلك وكم وكم كان من ذلك!.. (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا) [الطلاق:8]، ونحن في أعمارنا القصيرة عرفنا دولة ودولتين وثلاثًا وأربعًا وخمسًا، وأكثر من ذلك، كانت في فترة من الفترات مُوفر فيها الأمن وموفر فيها أنواع الأرزاق؛ وحصلت المخالفات لأمر الله والتجاهر بالخمور وبِالزنا وظلم بعضهم لبعض؛ فهذه البلدان والدول التي كانت تُقصد لجلب الأرزاق وللرَفاهية؛ تحول حالها ونازلها لباس الجوع والخوف، وصار فيها الفقر وصار فيها ما بين حروب أهلية؛ وما بين اعتداء بعضهم على بعض؛ وما بين اعتداءات خارجية تأتي إليهم من هنا ومن هناك؛ وحده اثنين ثلاثة أربع؛ دول معروفة في عصرنا وحده؛ في أيام إدراكنا وحده نعرفها كانت بهكذا فتحولت؛ ولما جاء بعض الدول في أيام صغرنا وكانت تُقصد للرفاهية  وتقصد لكسب الأموال؛ ونَازلتها حروب وآفات؛ فكان يستشهد الحبيب: عبداللاه بن حسن بلفقيه عليه -رحمة الله-  بالآية ويقول: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، وأهل مكة أنفسهم قد كانوا في حال قال الله عنه: (فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ * ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ) [قريش:3-4].

قد رتب الله استقرار أحوال الناس في الحياة الدنيا على الأمن والتغذية؛ فإذا حصل الأمان وتوفرت التغذية فالحال كما قال ﷺ "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا"، وإنما تأتي الإشكالات وتأتي أيضًا الأتعاب بفقد الخوف وفقد التغذية؛ وبذلك رأيت ما شرع الله للعباد من تأمين الأنفس والأعراض والأموال حُرمتها، وجعلت شرائع الله -جل جلاله- المجال مضبوطًا وضيقًا؛ لا تُستحل فيه حرمة نفس؛ لا لمسلم بغير حق، ولا لذمي ولا معاهد؛ و" من قَتَلَ مُعاهَدًا -أو ذميًا- لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ"؛ يقول ﷺ كما رواه البخاري في صحيحه وغيره؛ "من قتل معاهدًا أو ذمي"؛ فكيف من قتل مسلمًا؟! ألا " فإنَّ دِماءَكم، وأمْوالَكم، وأعْراضَكم عليكم حَرامٌ كحُرْمةِ يَومِكم هذا، في بَلدِكم هذا، في شَهرِكم هذا" ألا هل بلغت؟ قالوا: بلغت يا رسول الله؛ قال: اللهم فاشهد؛ ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، جعل الله -تبارك وتعالى- وجه هذا التأمين على ظهر الأرض؛ حتى يقول للمؤمنين المكلفين بحمل النور والهداية للعالمين. 

يقول -سبحانه وتعالى-: لمن لم يخبرهم عن مَن لم يؤمن ولم يتبعهم في الدين ولكنه لم يعارضهم ولم يمنع قيام دعوتهم ولم يقاتلهم: (....فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) [النساء:70]، (فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا)، ثم يشرع بينهم وبين من لم يقاتل ولم يحارب من غير المسلمين على ظهر الأرض أن يكون بينهم البر والقسط: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8]، في نظام يضمن الأمن لعباد الله على ظهر الأرض مسلمهم وكافرهم؛ من كل من لم يعتدي ولم يصد عن سبيل الله من المؤمنين ومن غير المؤمنين؛ ومن اعتدى وظلم من المؤمنين أو الكفار(فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوٓاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَٰنًا مُّبِينًا) [النساء:91]؛ ولا يحل دم امرءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس؛ والثيب الزاني؛ والتارك -لنفسه- لدينه المفارق للجماعة؛ كلها بشروط وبقيود وبأحوال؛ فيها دقة في عظمة الشريعة المطهرة، لا يصلح لأهل الشرق والغرب إلا هي؛ لا يصلح للمسلمين وغيرهم في تقويم معاشهم إلا هي؛ والمعاد لمن آمن والمعاد لمن أسلم والمعاد أيضًا لمن أيقن واتبع واهتدى مضمونٌ ومأمونٌ؛ بمغفرة الله وعفوه بل بإنعامه ورضوانه سبحانه وتعالى فهكذا، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم:  في الآخرة. وهكذا بُعث الأنبياء لصلاح المعاش والمعاد وإكماله وتمامه، وكل ما يجري على ظهر الأرض من آفات ومصائب أساسها: مخالفة أمر الله والخروج عن هدي أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه. 

يقول -جل جلاله وتعالى في علاه-: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)؛  أي: أن ما يصيب الناس وينازلهم من هذه المصائب والآفات سببه الرئيسي؛ والسبب الأقوى في حصوله: ما يصنعون من مخالفة الله ورسله ما يصنعون ويكسبون بأنفسهم؛ من الخروج عن منهج الله تعالى وشريعته الله (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)؛ (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم:41]؛ وبالنسبة لخصوص أهل مكة: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ)؛ وأهل مكة كانوا على نصيب من هذا الخير وتيسير الأرزاق والأمن حتى كانوا يمرون بقوافلهم إلى الشام وإلى اليمن؛ ما يتعرض لهم أحد يقولون هؤلاء أهل حرم الله وهؤلاء أهل الله فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم كذبوا وخالفوا؛ تغيرت الأحوال عليهم ونازلتهم مجاعات وصاروا في خوف يحاربون رسول الله ويحاربون من آمن معه وتعطلت عليهم الأمور؛ فكان ضُرب لهم المثل وعندهم من المثل الذي ضُرب منه نموذج؛ في نفس تلك القرية يقول - تبارك وتعالى-: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ)؛ يعرفون صدقه وأمانته ويعرفون خلقه وعفافه ويعرفون أدبه ومسلكه الطاهر الطيب (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ) بما نازلهم من جوع وبما نازلهم من خوف وبما نازلهم من قتل كثيرٍ من رجالهم على الكفر -والعياذ بالله تعالى- إلى النار (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ): لأنفسهم بهذا العناد وبهذا التكبر وبهذا العتو وبهذا النفور؛ الذي يقع فيه كل من لم يستسلم لأمر خالقه ويعظم رسله صلوات الله وسلامه عليهم، (...وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا…) [المائدة:12]، وقال عن خاتمهم: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157]، اللهم اجعلنا منهم. 

(وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)؛ يقول -جل جلاله وتعالى في علاه-: فما الذي يحملكم على هذا التكذيب؟! وعلى هذا العناد؟! حتى تنازلكم هذه البلايا في الدنيا وترجعون إلى سوء المصير! وعذاب الآخرة! والأمر ميسر ومسهل لكم! ؛ لكل الأمم عامة ولآخر الأمم أمة النبي محمد خاصة، (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا…)، ماذا تريدون بالربا؟ ماذا تريدون بالسرقة؟ ماذا تريدون بالإعتداء؟ ماذا تريدون بمد الأيدي على حق الغير؟ (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) جعلت لكم أرزاق تكفيكم حلال طيبًا اشكروا نعمة الله أما تأكلون رزقة وتكذبون رسوله! تأكلون رزقهُ وتخالفون أمره! كلوا واشكروا (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)، إن علمتم سرَّ خلقكم وإيجادكم وأنه الإله الذي لا بد لكم منه؛ ومصيركم إليه فإن كنتم إياه تعبدون فقوموا بأخذ ما بسط لكم من نعمهِ وما تحتاجون إليه من طيباته. (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ...)، بطاعته وحمده واتباع أمره والإقتداء برسله (إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)؛ إنما حرم عليكم ما يضركم وما يفسدكم وما لا حاجة لكم به وما فيه الشر لكم؛ إنما حرم عليكم الميتة بأصنافه الدم؛ ولحم الخنزير ذَكرهُ على وجه الخصوص لأنه استفحل في محبته بعض النصارى وعدّوه من الدين لهم إلى غير ذلك؛ يقول: (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ..) [المائدة:3]؛ يعني: ذُبح تعبُدًا لغير الله وتقرُّبًا إلى غير الله تعالى بإسم غير الله تقربًا إليه بالذبح؛ فهذا هو الذي ذُبح لغير الله والذي لا يجوز للمسلم أن يأكل منه شيء يعني ذُبح تعبدًا لغير الله، تقربًا لغير الله بإسم غير الله؛ كأنه المُبيح له هذا الحيوان أو المتقرب إليه بذبح هذا الحيوان أو الذي يذبح الحيوان بإسمه كأنه الذي رزقه ذلك الحيوان؛ فحينئذ يصير هذا ميتة أُهلِّ به لغير الله -جل جلاله وتعالى في علاه- محرَّم (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ) [الأنعام:121]، وهذا هو معنى ما نُهينا عنه من الذبح لغير الله -جل جلاله- ولذا لا تجد في المسلمين من يذبح إلا بإسم الله سبحانه وتعالى، أما كونه يُكْرم به جار أو يكرم به ضيفًا أو يقدمه لأحد من جماعة من المسلمين أو يتصدق بثواب على أحد من المسلمين؛ فذلك لا مساس له في الذبح لله -جل جلاله- من قريبين ولا من بعيد وجاءنا في حياة سادتنا الصحابة رضي الله عنه قول: فذبح لنا ونزل بنا فلان فذبحنا له يعني نُكرمه بهذا الذبح مو معناه ذبحنا بأن نتقرب إليه بالذبح ونعبده بالذبح ونسمي بإسمه عند الذبح؛ ليس في هذا شيء مما نهانا الله تعالى ورسوله عنه صلى الله عليه وعلى آله وَصحبه وسلم. 

(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ..)؛ أي: تقرّب به عبادة لغير الله؛ ذلك الحرام علينا أن نطعَمَه أو نأكل منه شيء وما أهل لغير الله به ومع ذلك فالميتات وهذه المحرمات من اضطر إليها بأن خاف الموت؛ (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) [البقرة:173]، فأما الذي يسافر بغيا بخروجه عن الإمام أو عادٍ معتدٍ؛ ويخرج لأجل أن يفعل المحرمات؛ أو يقتل الناس بغير حق؛ فهذا ما تباح له هذه الميتات؛ والرخص لا تناط المعاصي، (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) ، والعادِ: المتجاوز حده، فـ (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) يتناول مقدار ما يسد رمَقه حتى ييسر الله له طعامًا حلالْا، يقول الحق - جل جلاله-: هذه القضية المهمة الخطيرة مسار الناس في هذه الحياة ليس عبثًا ولا لعبًا؛ فإن الخالق لم يخلق الكون لعب ولم يخلقه هزو ولا عبث؛ وأن الحق فيه للأمر والنهي للخالق الذي خلق -جل جلاله- وحق العقلاء المكلفين من الإنس والجن أن ينتهوا إلى أمر الإله الذي خلقهم، وهذا هو معنى الإسلام ومعنى الدين وما بعث به الرسل؛ فالحق في الأمر والنهي والتحليل والتحريم للخالق المنشئ الذي أوجد -جل جلاله وتعالى في علاه-. 

ثم بعد ذلك فيما شرع لنا -جل جلاله- جعل نظرنا في شؤون المباحات وتوقِّينا لشيءٍ من الأضرار الجسدانية الأضرار في الجسد الأضرار في الصحة إلى غير ذلك؛ ومرجعنا فيها إلى أهل الحل والعقد فينا؛ في دائرة أن لا يحرِّموا ما أحل الله ولا يحلِّوا ما حرم الله؛ يقيموا نظامهم في المباحات على مثل ذلك، ولا حق لأحد في غير ذلك صغُر أو كبُر كائنًا من كان (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ) والمتجرِّئون على شرائع الله -جل جلاله- ومنهم من يعظم شرائع الفساق وشرائع الكفار وأنظمتهم، وما أقل عقله! وما أقل وعيه! ومنهم من يوحى إليه أن المسألة كلها إلا لعب في لعب؛ وإن الأنظمة إلا بحكم الغلبة تغلبنا إنا نحن أحرار ولا إله ولا حكومة ولا إلى ذلك؛ هذا هو الإلحاد بعينه ويُزين لكثير من الناس حتى يُقال لهم: إيش معنى أخلاقك؟ كل طائفة وكل جماعة وكل أهل بلدة لهم أعراف؛ ماشي هناك أمر ثابت في الأخلاق! إن كان ماشي خلّاق ماشي ثابت؛ إن كان تؤمن بالخلّاق، في أمر ثابت؛ أمر ثابت في الأخلاق، أمر ثابت في الحلال، أمر ثابت في الحرام؛ تؤمن بالخلّاق؟ أو تنكر؟ يلعبون عليهم ويجيبون الموقع يقولوا أنا مسلم ومؤمن ولكن مشوش! لكثرة ما ينشرون من هذا الكلام الفارغ؛ المتناقض مع الأسس مع الأصول مع الفطرة! ومع الفطرة! ووجدوا في الناس خواء في بواطنهم عن حقائق الإيمان وحقائق الإسلام فلعبوا عليهم؛ حتى صار أحدهم يكفر من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- يا مخلوق خالقك عظيم؛ لم يجعل الأخلاق ولا القيم ولا الحلال والحرام لعبة لصغير ولا لكبير؛ وتولى بيانها واصطفى لها رسلًا يبلغونها؛ ولا بد من الرجوع إلى ذلك وهذا هو الحق الصريح؛ وليس سوى ذلك إلا الباطل والزندقة والإلحاد، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- والكفر الصريح. 

(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ)، كيف تصف ألسنتكم الكذب؟! كأن الكذب لاوجود له إلا بوصف ألسنتكم له عُرِف الكذب وظهر، يعني مبالغة خلقتم الكذب خلقًا من عندكم؛ بتجرؤكم على تحليل ما حرم الرب؛ إحلال ماحرم أو تحريم ما أحل - جل جلاله- هذا غاية الكذب لأنه: كذب على الله؛ ولهذا قال: (لَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ)؛ لا تقولوا الكذب الذي لا يكاد يُعرف إلا بألسنتكم من خلال ما جرى على ألسنتكم القبيحة عُرِف الكذب، (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) وما هذا الكذب الذي بهذا الحال في القُبح؛ في غاية القبح في وصف الكذب؟! ؛ قال: (هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ) هذه الشرائع! وهذا هو الحق لي! أنا الذي خلقتكم وأُحل وأُحرِّم عليكم؛ لا سواي! والأغرب بعد ذلك من عُبيَّتْ أيضًا ا عقولهم وأفكارهم بالتجرؤ فقط على الأديان! وعلى دين الحق! وأن فيه تقييد وكبت للحرية!، أما ما يضعه الدول والمؤسسات فهذا نظام يجب الإلتزام به! من؟! ارفض ربك! وألِّه عليك مخلوق مثلك! ايش العقل هذا؟! غرابة! ناس كثير في دوائر أهل الإسلام وهم بهذه الأفكار الغريبة البعيدة؛ لِخُلُوِّ القلوب عن حقائق لا إله إلا الله؛ عن حقائق الإيمان بالله؛ فالله يتدارك هذه الأمة ويغيثها وينور قلوبها بأنوار لا إله إلا الله محمد رسول الله.  

قال تعالى: (لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ)  اجتراءًا منكم على الله؛ لأن حق التحليل والتحريم له ويُبيِّنه لكم أنبياؤه ورسله، لذا قال سيدنا الإمام مالك: درَجنا وأهل الفتوى يقولون أكره هذا؛ لا أرى هذا؛ ولا أفعل هذا؛ فيما لم يرد فيه نص؛ قال: ما وجدناهم يقولون حلال ولا حرام؛ ها؟ إذا رأى أنه في النهي وفي المحرَّم قال: أكرهه؛ حتى كان هو في كثيرٍ من كلامهِ يقول هكذا؛ سيدنا الإمام مالك ومن بعده الإمام الشافعي وغيرهم، وهم أهل الاستنباط وأهل المعرفة بأحكام الله؛ من خلال نظرهم في وحي الله وما بلغهم عن رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وهكذا، فانظرْ، أوْجدَوا بيننا معاشر المسلمين من يجعل رأيه الضيِّق في أدق المسائل؛ الدين كله والقرآن والسنة كلها في فهمه هذا الضيق، القرون الأولى تدافعوا الفُتيا، كان يقول بعضهم: لم أزل أهاب الفُتيا وأخافها من يوم قرأت الآية: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)، قال: إلى اليوم أنا أهابُ الفتوى، -لا إله إلا الله-، فيجب معرفة هذه الحقائق بين المسلمين ليتخلصوا من هذه الشوائب وبين عقول الخلائق على ظهر الأرض، حتى لا يضحك عليهم عدوهم ويجردهم من حقائق إنسانيتهم وحقائق قِيَمهم وشريف فطرتهم؛ لأن يكونوا (كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الفرقان:44] -والعياذ بالله تبارك وتعالى- (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ)  ومن يتصور إن عدم فلاحهم أنهم لا يأكلون ولا يشربون! قال لك: لا!؛ يأكلون ويشربون ونعطيهم بلك ونعطيهم أموال ونعطيهم أرصدة في البنوك ونعطيهم كل هذا لكنه؛ كله قليل أي: زائل منتهي منقطع!  قليل! (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) (...قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ..) [النساء:77]، متاع الدنيا كل ما فيها قليل؛ ما يزول ما ينتهي ما ينقضي ما يبيد ما يهلك هو قليل! فلا ينالون من المتاع الباقي شيء؛ ولا من الرزق الدائم شيء؛ - والعياذ بالله- لكفرهم لا يفلحون متاعٌ قليل (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ): شديدُ الإيلام بما كفروا وهكذا.

يقول الله لنبيه: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ۖ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)؛ هَادُوا: اليهود، (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ..) [النساء:160]؛  تأديبًا وتتويبًا وفتحًا لباب الرجوع إلى الله تبارك وتعالى؛ ليغفر لهم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)؛ ايش معنى بجهالة؟! يعني: بالتجاوز للحد بالتغطرس بالتكبر؛ ما يعملوا السوء إلا بالجهالة هذه؛ يتجاوزون حدودهم ولا كيف يعملون السوء؟! تغطرسوا ماعملوا شئ  ( ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)؛ فهل رأيتم مثل هذا الرب؟! يبسط بساط توبته ومغفرته لمن أعرض! ولمن تولى! ولمن كفر! يقول: ارجعوا إلي وأنا أغفر لكم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا)، ويقول: ايه؟ فنجهل فوق جهل الجاهلينا ولا تجهلوا علينا؛ يعني: لا تتجاوزوا الحد وتتغطرسوا وتتكبروا؛ (عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ)؛ وأصلحوا استقاموا على التوبة وصدقوا؛ (إِنَّ رَبَّكَ)؛ أيها المُرْسَل بالرحمة (مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ)؛ يتجاوز عن الذنوب والمعاصي؛ ويبدل ما شاء منها إلى حسنات؛ رحيم بعبادهِ يقبلهم ويُنعم عليهم؛ بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. 

اللهم يا غفور يا رحيم اغفر لنا وارحمنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر وثبتنا على امتثال الأوامر واجتناب النواهي والزواجر واتباع سيد الأوائل والأواخر في كل باطن وظاهر واجعلنا من رفقائه في الدنيا والبرزخ وفي اليوم الآخر ودار الكرامة ومستقر الرحمة وأنت راضٍ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين. 

بسر الفاتحة إلى حضرة النبي.  

تاريخ النشر الهجري

18 شوّال 1444

تاريخ النشر الميلادي

08 مايو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام