(536)
(228)
(574)
(311)
تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة النحل، من قوله تعالى:
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}
ضمن جلسات الإثنين الأسبوعية
الحمد لله مُكرمنا بالوحي، والتنزيل وبيانه على لسان خير هادٍ،ومعلم، ودليل سيدنا محمد الدَّال على أقوام سبيل صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه بالغدو والأصيل وعلى آله وأصحابه وأهل متابعته في القصد والنية، والفعل، والقيل وعلى آبائه، وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل التكريم، والتفضيل، والتبجيل وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،، فإننا في تدبرنا لكلام ربنا، وتأملنا لمعاني وحيه، وتنزيله انتهينا في سورة النحل إلى قوله تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ (٨٠))، يوالي ربُّ العالمين ذِكرُ الآياتِ البيناتِ على عظمته ووحدانيته وتكفُّله بخلقه وتيسيره لهم الأسباب، وإقامة هذه الأرض على الوجه الذي يجمع لهم حاجاتهم وشؤون معايشهم من كل جانب وبكل معنى؛ فذكر لنا سبحانه وتعالى ما جعل من الأزواج والبنين والحَفدَة، وما يُخرجنَ من بطون الأمهات لا نعلم شيئا، وعموم خَلقِنا ووفاتنا؛ وذكر لنا الأنعام، وثمرات النخيل والأعناب والنحل وما إلى ذلك؛ وقبل ذلك كثيرًا من الآيات العظيمة.
ثم يذكر لنا في هذه الآيات السكن والبيوت والجبال والأصواف والأوبار والأشعار؛ فقال: ( جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)؛ سكنًا: مكانًا تَسكنون فيه، جعل لكم سكنا تسكنون إليه؛ ما تسكنون فيه وما تسكنونه سكن، وما تسكنون إليه سكن، والله جعل لكم من بيوتكم الغرف التي تبنونها من الأحجار، ومن الطين، وغيرها من هذه المواد جعل لكم فيها سكنا جل جلال وتعالى في عُلاه. يحتوي على مقاصد، وعلى فوائد، وعلى مُرادات تتم فيه أعمال مختلفات؛ كما يتم في البناء نيات مُختلفات وهذه البيوت التي جعلها الله سبحانه وتعالى محل السكن، وإقامة الأُسر، وتَنشئتها، ومحل التوالد، وتنفيذ حُكمه وإقامة شريعته جلّ جلاله، ولإحياء سُنة نبيه والعمل بها وسط الديار والبيوت والمنازل.
المؤمنون يمتازون في نياتهم في البيوت، ويمتازون في أعمالهم؛ يبنون هذه البيوت ويسكنون فيها، وكل الذين سكنوا في بيوت في الدنيا من أيام أبينا آدم عليه السلام إلى أيامنا هذه سكنوا فيه. في البرازخ والقبور أطول وأكثر وأضعاف أضعاف أضعاف أضعاف المدة التي سكنوها في البيوت في الدنيا، ثم أين يسكنون يوم القيامة؟ ولا مساكن إلا: ظل العرش لمن شاء الله، ومواطن مُكرّمة، كمثل لواء الحمد وما تحته من ألوية الأنبياء، والأحواض التي يرد عليها المؤمنون؛ أحواض الأنبياء يرد عليها أتباعهم، وما عدا ذلك، فما هو السكن؟ وذاك اليوم وحده مقداره خمسين ألف سنة، ثم على يقين أن سكن الجميع في الجنة أو النار مؤبد دائم، فكم مدة سكنهم في البيوت على ظهر الأرض؟ وكم مدة ذاك السكن؟ فخاب من حمل الهم ببناء سكن بيت في الدنيا، وضَيع سكن الجنة الدائم الأبدي؛ والذي كل بيت من بيوته قصر لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وملاطها؛ الخلطة حقها الاسمنت أوالطين؛ اللي يمسك بين هذا وهذا؛ المسك الأذفر، ما أعجبها من مساكن! لكن الأعجب أنه لا موت فيها، وأنه لا هرم فيها ماهناك هرم على مثل ما أرانا الله في الدنيا سن الثلاث وثلاثين سنة، والكل في الجنة أبناء ثلاث وثلاثين سنة، إلى الأبد أبناء ثلاث وثلاثين سنة، تركيبة أبدانهم وتقويمها عندما يمر عليهم ألف سنة وألفين ومليون سنة ومليار من السنين، تركيبة البدن وتقويمه أبن ثلاث وثلاثين سنة؛ لا هرم عجيب! ما في موت ولا هرم! وأعجب! هل يوجد هذا في مساكن الأرض؟ مستحيل! ولا يوجد فيها مرض لا يوجد وجع سن، ولا وجع عين، ولا وجع أُذن، ولا وجع بطن، ولا وجع رجل، ولا وجع يد، ولا سكري، ولا ضغط ،ولا مرض قلب، ولا كلية؛ لا يوجد مرض، صحة تامة في كل أجزاء الجسد ماهذه البيوت؟!! وأنت تتسبب في بنائها بإيمانك، وتقواك، وعملك الصالحات، "مَن صلَّى كل يوم اثنتَي عشرةَ ركعةً من غير الفريضة؛ بنى الله له قصرا في الجنة". من هذه القصور لبنة من فضة لبنة من ذهب ملاطها المسك الأذفر؛ لا موت فيها، لا هرم فيها، لا مرض فيها، وأعجب من ذلك لا هم ولا غم، لايوجد هم ولا غم يطرأ على بال صاحبها أصلاً -الله-.
الأعجب من ذلك، ولا قذر ولا وسخ ولايحتاجون بلدية ولا قمامات، ولا تنظيف شوارع في الجنة ما في وسخ أصلا حتى البُصاق ما يبصقون ما يمتخطون، فلماذا المناديل؟ مناديل لِمَا ترشح فيهم من العرق أطيب من المسك الأذفر؛ يمسحون، والمناديل من أي نوع تعرف؟ من أي نوع؟ اسمع كلام الصادق ﷺ، جاءته مرة كساء لين، في الغاية غريب، أرسله بعض الملوك وصل إلى المدينة. تعجبوا الناس من لينه، قال ﷺ: " أَتَعْجَبُونَ مِن لِينِ هذِه؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّةِ، خَيْرٌ منها وَأَلْيَنُ)؛ هذا مناديل حق سعد ليمسح بها وجهه، لمناديل؛ لَمَنَدِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّةِ خير من الدنيا وما فيها- الله أكبر-، اللهم اجعلنا من أهل جنتك.
وفي الدنيا (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) ثابتاً راسخاً تنتقلون إليه ما يتحرك ما يتبدل ما ينتقل معكم إلى مكان، (وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ) الأنعام:الإبل والبقر والغنم، بيوت: غرف تصلحونها تستخفونها (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ). وقرأ أكثرهم (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ)، وقرأ أبو عمر وابن كتير (يَوْمَ ظَعَنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ).
الظعن: يعني السفر؛ يعني تأخذونها معكم تسافرون بها وتبنونها؛ كما يفعل بالخيام هؤلاء الساكنون في البوادي يتتبعون مواضع الخصب والماء، وينتقلون من بلد إلى بلد محل إلى محل، يأخذون حقهم الخيام وينقلونها هناك (وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) تتنقل معكم تنتقل من مكان إلى مكان، فعندنا بيوت ثابتة أنتم تتنقلون إليها، وبيوت متنقلة تنقلونها من محل إلى محل، وأنتم بما سخر الله لكم وأقدركم عليه تتطورون فيها، وفي كيفية بنائها؛ وهكذا تراهم أيضاً اليوم ابتكروا كثيرًا من هذه البيوت التي يمكن نقلها من مكان إلى مكان كما يُتخذ من جلود الأنعام. (وَمِنْ أَصْوَافِهَا): يعني الأنعام (أَصْوَافِهَا): الضان، (وَأَوْبَارِهَا)؛ الإبل، هذا الشعر الذي يخرج ( وَأَشْعَارِهَا) الماعز؛ فالذي يخرج من الماعز يقال له: شعرٌوشعر، والذي يخرج من الإبل يقال له: وبر جمع أوبار، والذي يخرج من الضان الصوف جمع أصواف. (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا) أثاثاً ؛ ما تؤثثونه بمعنى؛ إما مال، وإما أواني، وإما فرش، وإما أغطية وألبسة يدخل كل هذا في الأثاث؛ من أصوافها، وبر وشعر، أثاثاً، فمنها ما تبيعونها وتكسبون المال، ومنها تحولونها إلى ملابس، ومنها تحولونها إلى فرش ،ومنها تحولونها إلى أوعية. (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) كلكم تتمتعون به؛ لكن هذه المتع، وهذه الدُور ليس فيها ما يدوم؛ إنما كل شيء مُقدر بحين مُعين (وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ)-الله الله الله- ما يدوم فيها؛ هكذا رتب الرحمن للعباد هذا السكن على ظهر الأرض وبهذه الأدوات والأسباب، والكل تحت هذا الترتيب لا يمكن أن يغيروه ولا أن يبدلوه، فمن الذي رتبه لهم؟ فكلهم خاضعون لهذا الترتيب، ومع ذلك يعاندون ويكابرون؛ وأنتم خاضعون مخلوقون مصنوعون؛ مصنوع لكم ما حواليكم بما أراد الصانع لا بما تريدون أنتم.
تابع آيات عظمة ربك ووجود آياديه وفضله عليك في كل شيء سكنك وبيوتك والأصواف والأوبار والأشعار والأثاث والمتاع إلى حين. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالً .. (٨١))؛ تستظلون بجدران وبجبال وبمظلات تصنعونها من هذه المواد التي خلقها الله جل جلاله -وتعالى في عُلاه-، ويُتحدى آل الشرق، والغرب في كل حين. إصنعوا شيئاً من دون أن تأخذوا من مواد الخلاق شيئاً، ماذا يصنعون؟ أصلاً هم مخلوقون ومعاهم مخلوق! وسنة الخالق في ربط المخلوقات ببعضها، وأن هذا يتكون من هذا، ويتكون من هذا؛ قهرٌ عليهم فسبحان القهار، ومع كونهم مقهورون متجبرون، متكبرون، متغطرسون. من فضلك اصلح لنا مظلة بس لكن لا تأخذ من مواد الله التي خلقها شيء! لأنك متقدم متطور صانع كبير أنت في القرن الحادي والعشرين، إصنع المظلة، مواد الله الذي خلقها ما تأخذ منها شيء، هات من عندك أنت! من عندك أنت من عندك أنت! جيب لك أيش؟ أيش يجيب لك ؟ يروح إلى مخلوقات الله ويجيب ذا ويقرب ذا عندها ويصلح كذا ويرتبها كذا ويدقها هنا ويصلح هنا ويقطعها هنا؛ ويقول لك خذ، أيش صلحت؟ مخلوق تحرك في مخلوقات بأمر خالقه وأحضره، ما يقدر من عنده يُحدث شيء! ما يقدر إلا مخلوقات الله وكائنات الذي خلقها هو يقوم يحول ذا إلى كذا، ويصرف ذا في كذا، ويدخل ذا في كذا؛ بقوة مخلوقه من الله، وعقل مخلوق من الله، وسمع و بصر مخلوق من الله، وادوات مخلوقة من الله، ومادة مخلوقة لله؛ فهل من خالقٍ غير الله؟ ما هذا الغرور!! ما هذا الزور! ما هذا الكذب! ما هذا البهتان! ماهذا الإفتراء! -لا إله إلا الله-.
ومع ذلك يُتحدى الخلق كلهم بكل ما عندهم من قوة، يقول: حتى خذوا من مواد الله التي خلقها، وانتم مخلوقون، بس إخلقوا ذباب؟! أنا ما أريد كمبيوتر أنا أريد ذباب؟! من فضلك اصنع لي ذباب، وخذ المواد اللي تريدها وأستعمل الطاقات اللي تريد، بس خرِّج لي ذباب، تحدِّي هل يقدروا ؟! ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج :٧٣]. طيب اي نوع ذباب، هات لنا بعوضة؟! هات لنا نحلة؟! هات خرجها بصنعتك؟! أنت أيش يقدر يصنع؟ ما يقدر-الله الله- (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج :٧٣]. بعدين هات القوة حقك كلها إخرج اللي أخذه الذباب ما تقدر ترده! قالوا: لو أخذ الذباب حبة سكرة أول ما يضعها في فمه تذوب؛ هيا إذهب وخذها، لو أمسكت الذباب وبتشيل الحبة تجدها قد ذابت (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج :٧٣]. والقوي الله، القوي الله، ما لهم لا يؤمنون ما لهم لا يخضعون؟! ما هذا الغرور؟ ما هذا الزور؟ (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالً) مما خلق وليس مما تخلقون أنتم، مما خلق.
( وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا (٨١))؛ مغارات وسراديب وسط الجبال تَكُنُّكم، (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ) قمصان؛ (تَقِيكُمُ الْحَر) حر الشمس، وحر التعب وحر الجو كذلك البرد فاكتفى بذكر الحر، والذي يقي البرد أيضا كثير، فبذكر الضد يُعرف الثاني. (تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ)، وسرابيل من الدروع حق الحديد وغيرها؛ (تَقِيكُم بَأْسَكُمْ) ضرب السيف، يصلِّح لكم سرابيل يقول لك: ضد الرصاص (تَقِيكُم بَأْسَكُمْ) ضرب الرصاص فيها ما تأثر فيه. (سَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ) هو الذي جعلها، وبمواد معينة فيغيرها، أنت تقول ما نريد هذه المواد، نريد ان نُوقى البأس بمادة ثانية، بجعلك أنت؟ لا، بجعله هو، بس هو جعل هذا يقي هذا، وهذا يقي هذا، وأنت خاضع لذلك خاضع مُتكبر تناقض؛ ولهذا قال :(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) [الرعد:١٥] طوعا مؤمنون، هذا طوعا ماذا؟ ما يسجد طوعا، وهو ساجد في كل تراتيب التدبير الكونية، خاضع بس يقول ما أبغى أسجد ما أؤمن، وإنت في ملكه وتحت تصرفه في تدبيره، خاضع لسننه سبحانه وتعالى، ولتكوينه- لا إله إلا الله-.
يقول تعالى:(وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) كل ما تحتاجونه وفَّره، كل ما يصلح لكم لحياتكم يَسّره، وزوَّد الأرض بكل المواد التي تحتاجونها، والتي تستكملون بها مقاصدكم وأغراضكم المختلفة، هل غيرهُ رتبها؟ هل غيرهُ كوَّنها؟ هل غيره صنعها؟
( كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)؛ تُقرُّون بالحقيقة، وتنقذون أنفسكم؛ تُسلمون لله تبارك وتعالى؛ فَتَسلمون من النار، وتَسلمون من الغضب بإسلامكم للرب جلّ جلاله -لا إله إلا الله-. (كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ)، ونحن ومن نعيش على ظهر الأرض بأسماعنا بأبصارنا بتنفسنا بأجهزتنا بما حولنا من مواد؛ هو خالقها وحده جلّ جلاله؛ والحكمة، لعلّنا نُسلٍم، فلم هذا الإصرار على الكفر؟ وهذا العناد، والدعوة إلى الإلحاد والدعوة إلى تكذيب المرسلين بلا بصيرة بلا بينة بلا علم؟ إلا غطرسة من بني آدم، وجحود، وتكبر، وتطاول وعناد (كذلك يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبين) فإن تولوا بعد هذه البينات، والأمور الواضحات، والدلائل القاطعات؛ (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ) يا حبيبنا بلّغ فقط، ولا عليك من كفرهم ولا من قولهم (فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) [يس:٧٣]، (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم :٨٤]، (إِنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم:٨٣]، فلا تعجل عليهم ، إتركهم في كبريائهم ومكرهم ومكايدتهم وكذبهم وزوُرهم وتَلبيسهم،وتضليلهم ودعواهم الباطل (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا ) [مريم:٨٣-٨٦]. ثم قال:(إن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) [مريم:٩٣-٩٥] -لا إله إلا الله- ارزقنا كمال الإيمان يا رب.
( فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبين) وبلَّغ وبيَّن وأَحسن البلاغ نبينا محمدﷺ يا رب السماوات والأرض ياعليمًا لكل شيء نشهدك أننا نشهد أن نبيك بلغ، وأحسن البلاغ أن سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بين وأحسن البيان وبلغ، وأحسن البلاغ،وأدى الأمانة على خير الوجوه فصلِّ عليه بأفضل الصلوات، واجزِه عنا خير الجزاء يا باريء الأرضين، والسماوات، واجعلنا في ركبه وحزبه ودربه نشرب من شربهِ ونسعد بقربه يا أرحم الراحمين يا منزل هذه الآيات عليه، سَقيت بها قلوب الرعيل الأول، ومن أسعدتهم ممن بعدهم وهذه قلوبنا بين يديك فاسقها من ماء آياتك، وأسرار تعليماتك يا حي يا قيوم يا الله.
( فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبين) يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها! كلهم يُقِرُّون بأن هذا ما هو خلقهم،ولا خلق آباؤهم، ولاخلق مصانعهم؛ وأنه خلق الله، وأن مصانعهم عالة على ما خلق الله، وهي من خلق الله جل جلاله (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ) في أسماعهم، وأبصارهم،وعيونهم،ومشامهم،ومسامِّهم،وأعصابهم،وخلاياهم، والهواء المبثوث لهم، والأكسجين الموهوب من الرب مجاناً لهم، وتقويم خلقتهم وتسخير الأسباب لهم؛ (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ) ويعرفون محمد نعمة الله الكبيرة ثم ينكرونها! (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ) ثم ينكرونها! ينكرون النعمة وهي بينِّة! (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [يونس:٣١]، (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه) [الزمر:٣٨]، فلما الجحود؟ فلما التكذيب؟ (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣)) المكذبون يخرج من ذلك من لم تبلغه الدعوة، يخرج من ذلك من سبقت له الهداية بالإسلام، والبقية في الكفروالعياذ بالله؛ (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات:٦]؛ جحود ( وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ ) [العاديات:٧] سيشهد على نفسه بذلك، ويغالط نفسه فيقرّ في القيامة -لااله الا الله- (إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) [العاديات:٨]؛ اي المال والمتاع الفاني لشديد، وكان محبته لصاحب المال يجب ان تكون أشد؛ لكنه مسكين راح وراء مخلوق (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ) [البقرة:١٦٥]، هو الذي يستحق المحبة، هو الذي يستحق المحبة؛ هو الخالق ،هو المكون، هو المُنعم هو المُتفضل، هو رب الكمال، هو رب الجمال كله؛ الله يستحق المحبة قبل كل شيء، وقبل كل أحد، ولا يجوز من مخلوقاته وكائناته أن يحب أحدا كمحمد؛ لأنه الأحب لهذا الخالق؛ فيجب أن نحبه أكثر من أنفسنا وأكثر من أهلنا وأولادنا، وأكثر من الأموال وأكثر من الجنة نحب الله ورسوله ﷺ، ونحب الجهاد في سبيله، فحبب اللهم إلينا ذلك، وكان في دعاء نبينا: "اللهم أننا نسألك حبّك، وحبّ من يحبّك، وحبّ عمل يقربنا إلى حبّك" -لا إله إلا الله-إذن فأمامنا وأمام الكل يوم بعثٍ يعلم كل فيه أين وضع رجله وماذا كان عمله ؟ (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)).
اللهم ارزقنا اغتنام العمر، ووفر حظنا من الأجر، وادفع عنا كل وزر يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، اللهم بارك لنا في رجب ولياليه، وقد مضى علينا ربعه فبارك لنا في باقيه، وفي ساعاته ولحظاته، ووفر حظنا من زيادة الإيمان واليقين والقرب منك، وتلبية ندائك في دائرة خاتم أنبيائك وأصفى أصفيائك. اللهم وأدخل في تلك الدائرة أهلينا وأولادنا، وأهل ديارنا وأهل منازلنا وأهل بيوتنا، واجعل بيوتنا من بيوته المستنيرة، وعلى طريقته ماشية في كل ظاهرة وسريره، يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين، البيوت التي قلت عنها لأمهات المؤمنين (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب :٣٤] اجعل آياتك والحكمة متلوة في بيوتنا كما تُليت في بيوتهم، وقائمين بحقها ومنفذين لها؛ حتى تكون بيوتنا مرتعًا وموطنًا لتطبيق شرعك، وتنزل أنوار العمل بما أوحيت إلى نبيك، اللهم آمين، على بيوت كثير من المسلمين ظُلمة، فحولها إلى نور بعد الليلة، يارب حولها من ظُلمة إلى نور، حولها من بُعد إلى قُرب، حولها من شقاء إلى سعادة، يارب العلمين، اجعل في بيوتنا أخلاق نبيك، اجعل في بيوتنا سنن نبيك، اجعل في بيوتنا شرع نبيك، اجعل في بيوتنا أداب نبيك، اجعل في بيوتنا معاملة نبيك، برحمتك يا أرحم الراحمين يا أجود الأجودين وأصلح شؤوننا والمسلمين أجمعين.
09 رَجب 1444