(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس العاشر للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في كتاب: تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب للشيخ محمد أمين الكردي الإربيلي ، في مسجد القثم بن العباس، سمرقند - الأحد 26 شوال 1445هـ .
يتناول الدرس العاشر فصلاً من كتاب "تنوير القلوب، يركز على إثبات رسالة النبي محمد ﷺ من خلال المعجزات التي ظهرت على يديه. يستعرض الدرس مجموعة من هذه المعجزات، بدءاً من إخباره عن أمور غيبية مستقبلية ومعجزات حسية كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه، ومعجزات تتعلق بالطبيعة والجمادات مثل حنين الجذع وتسبيح الحصى. كما يشير إلى أن القرآن الكريم هو أعظم معجزاته ﷺ. يقدم تفاصيل وروايات لبعض هذه المعجزات، مؤكداً على أنها دليل قاطع على صدق نبوته ﷺ، ويختتم الدرس بالحث على محبة النبي ﷺ والإيمان برسالته.
فصلٌ في بيان ثبوت رسالة نبينا محمد ﷺ
" اعلم أنه قد عُلِمَ بالضرورة أنَّه ﷺ ادعى أن الله تعالى أرسله رحمةً للعالمين بشيرًا ونذيرًا، واستدل على صدقه في دعواه بمعجزات كثيرة ظهرت على يديه موافقة لدعواه، ولم يقدر أحد على معارضته، وكل من كان كذلك فهو رسول الله، فلزمَ بالضرورة أن سيدنا محمدًا رسول الله قطعًا. واعلم أن معجزاته ﷺ كثيرة جداً :
1 - منها ما أخبر به عن المغيبات المستقبلة فمن ذلك قوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أدنى الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم:2-3] وقد وقع كما أخبر لأن الروم غلبوا فارس بعد غلبهم الروم، وقوله تعالى: (إِنَّ الذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) [القصص :85] أي مكة وقد رده الله إليها، وقوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتَدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح:16] وقد وقع، لأن المراد بالقوم أولي البأس الشديد بنو حنيفة، وقد دعاهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتالهم، وقوله ﷺ :"الْخِلافَةُ بَعْدِي ثَلاثُونَ سَنَةٌ" رواه أحمد في مسنده، وكانت خلافة الخلفاء الراشدين هذا القدر. وقوله :"اقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبي بَكْرٍ وَعُمَرْ" أخرجه أحمد في مسنده والترمذي وغيرهما، وهذا إخبار منه بِبقائهما بعده، وقد كان كذلك. وقوله لعمار رضي الله عنه : "تَقْتُلك الفئةُ الْبَاغِيَةُ" أخرجه البخاري في صحيحه وغيره، أي المخطئة للصواب، وإن لم تكن آثمة وقد قتل مع الإمام علي رضي الله عنه في يوم صفين. وقوله للعباس رضي الله عنه حين أسره الصحابة قبل إسلامه :"افْدِ نَفْسَكَ إِنَّكَ ذُو مَالِ" فقال : لا مال لي، فقال ﷺ: أَيْنَ المالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ وَلَيْسَ مَعَكُمَا غَيْرِكُمَا وَقُلْتَ : إِنْ أَصِبْتُ فِي سَفَرِي هذَا فَلِلْفَضْلِ مِنْهُ كَذَا وَلَعَبْدِ اللَّهِ مِنْهُ كَذَا" فقال: والذي بعثك بالحق ما علم أحد هذا ،غيري وإنك لرسول الله، وأسلم.
2 - ومنها انشقاق القمر بمكة حين سألوه آية، فانشق فلقتين، فلقة فوق الجبل، وفلقة دونه، ورآه أهل الآفاق كلهم كذلك، وفيه أنزل الله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)[القمر:1] وروي عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺ أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين أي فلقتين، أخرجه البخاري ومسلم، فيجب الإيمان به والاعتقاد بوقوعه لشهادة القرآن المجيد بذلك : فإنه أدل دليل وأقوى مثبت له، وإمكانه لا يشك فيه مؤمن بعد ما أخبرنا به الصادق الأمين؛ لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه كيف يشاء، كما يفنيه ويكوره في آخر أمره، ولا ينكره إلا مبتدع ضال مضل مخالف للملة السمحة، وذلك لما أعمى الله قلبه عن التصديق بالقرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
3- ومنها نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير قليله ببركته ﷺ في أوقات كثيرة رويت بأحَاديث صحيحة.
4ـ ومنها البركة في الطعام القليل حتى كفى الجمع الكثير .
5- ومنها كلام الشجر وإجابة دعوته، كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه ﷺ وجد في بعض أسفاره أعرابيًا قد دعاه إلى الإسلام، فقال: من يشهد على ما تقول؟ فقال: "هذه الشجرة"، ثم دعا شجرة، فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه وقالت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثلاث مرات، ثم رجعت إلى مكانها .
6- ومنها حنين الجذع وذلك أنه كان يستند إلى جذع ويخطب، فلما صنع له المنبر وخطب عليه حن له ذلك الجذع، وسمع الناس له بكاء حتى كثر بكاؤهم لما رأوا من به، ولم يزل كذلك حتى جاءه النبي ﷺ وجعل يُهدئه كما تهدىء الأم ولدها حتى سكن. الحديث رواه الشيخان وغيرهما عن بضعة عشر من أكابر الصحابة .
7- ومنها تسبيح الحصى ونَطق الجمادات روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا مع النبي ﷺ بمكة فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا و قال : السلام عليك يا رسول الله .
8- ومنها أن جملًا شكا إلى النبي ﷺ أن أصحابه استعملوه زمنًا طويلًا، فلما كبر أرادوا نحره، فَتشفع فيه. رواه جماعة من الصحابة .
9- ومنها كلام الشاة المسمومة له حين صنعتها له يهودية بخيبر .
10 - ومنها أنه أتي بصبي في حجة الوداع يوم ولد، فقال له: "من أنا؟" فقال : رسول الله، فقال : "صدقت بارك الله فيك"، فسمي مبارك اليمامة.
ومنها غير ذلك ما لا يحصى، وتضمنت ما ذكرنا وما لم تذكر كتب الحفاظ المؤلفة في ذلك، كدَلائل النبوة للبيهقي وأبي نعيم والطبراني في معاجمه، والكتب الستة، والمسانيد كمسند الإمام أحمد، وأعظمها القرآن الشريف؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام تحدى العرب بأقصر سورة منه، فعجزوا جميعًا، قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين فإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة :23-24].
فلا يخلو الحال إما أن يكون الإتيان بمثل بلاغة القرآن في قدرة العرب أو لا، أما الأول فباطل؛ لأنهم لو كان في قدرتهم ذلك لفعلوا، وأما الثاني فهو الحق؛ لأنهم ما قدروا على الإتيان بسورة من مثله حين تحداهم بذلك، وقد كانوا في عدد كثير فصحاء بلغاء أعداء للنبي ﷺ ، وحيث إن ذلك ليس في قدرتهم ؛ فيكون القرآن أعظم معجزة".
اللهمّ صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه وعلينا معهم وفيهم وعلى جميع آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعد،،،
ومن رحاب سيدنا الإمام القُثَم بن سيدنا العباس عم المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- نواصلُ دروسنا في هذا الكتاب؛ كتاب (تنوير القلوب في معاملة علَّام الغيوب)، للعلّامة الشيخ محمد أمين الكردي الأربيلي النقشبندي رحمه الله تبارك وتعالى.
قال: فصلٌ في بيان ثبوت رسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- التي بسرِّها وصلَ القُثَمُ إلى هذه البقاع وإلى هذه الأماكن من أجل تبليغ هذه الرسالة، وأداء حق هذه الرسالة، وحمْل هذه الأمانة، وإلّا ما كان أن ينزعجَ من المدينة المنورة وقد شهد فيها وفاة سيدنا رسول الله ﷺ وكان ممن يعاون وقت تغسيله وكان والده العباس مع سيدنا علي بن أبي طالب يتولّيان الغسل فكان سيدنا القثم وأخوه الفضل، وكان وحِبّ رسول الله ﷺ -أسامة بن زيد- يقرِّبون الماء ويناولونه العباس وكان عليٌّ يُباشر بيده غُسلَ سيدنا المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فكان حاضرًا في ذلك الحين وما هي إلا سنوات حتى ارتحل من بقعةٍ إلى بقعة حتى كان أجَلَه في هذا المكان -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- وجمعنا الله به في أعلى الجنة وأكرمَ نُزلنا ووِفادتنا عليه.
يقول: "اعلم أنه قد عُلِمَ بالضرورة أنَّ نبينا ﷺ ادّعى أن الله تعالى أرسله رحمةً للعالمين بشيرًا ونذيرًا، واستدلّ على صدقه في دعواه بمعجزات كثيرة"؛ فإن الله يُؤيد المرسلين بالمعجزات وكان أكثرهم معجزات خير البريات -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بل ونظير كل معجزةٍ لنبيٍّ قبله وقعت له في حياته وزاد زياداتٍ كمثلِ: انشقاق القمر، وكمثل نبع الماء من بين أصابعه، وكمثل المعجزة الكبرى وهي القرآن، فلن يقع مثل ذلك لأحد من الأنبياء من قبل، وأما ضرْب سيدنا موسى للحجر وتفجّرت منها العيون؛ فإن من الحجارة ما يتشقق منه الماء وما يخرج منه الماء،ولكن من بين اللحم والدم كيف يخرج الماء؟! ولم يحدث كذلك معجزة إلا لسيدنا المصطفى محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وتكررت بعددٍ من غزواته، عددٍ من رحلاته، لما نقص عليهمُ الماء وخافوا العطش، وضع يده ﷺ في الماء ففار الماء من بين أصابعه في بعض الوقائع التي حضرها سيدنا أنس، مع أن الركوة التي قُدمت إليه لم تتسع لبسط أصابعه فيها، ثم شربوا منها وتوضؤوا واغتسلوا وسَقَوْا دوابهم، قال القائل لسيدنا أنس، كم كنتم؟ قال: كم كنتم؟.. كم كنتم؟! كنا ألفًا وخمسمائة ولو كنا مئة ألف لكفانا… لو كنا مائة ألفٍ لكفانا -ﷺ-.
يقول: "ظهرت على يديه موافقةً لدعواه، ولم يقدر أحد على معارضته، وكل من كان كذلك فهو رسول الله؛ محمدًا رسول الله قطعًا"، وزاد أنه خاتم الرسل وأنه سيد المرسلين وأنه المُرسل إلى الخلق عامة.
وقال: "واعلم أن معجزاته ﷺ كثيرة جداً: 1- منها ما أخبر به عن المغيبات المستقبلة فمن ذلك قوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أدنى الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم:2-3]"، وكان الحال الظاهر أن الروم قد حُطّموا وحُطّمت قُواهم وتفرقوا وأن عدوهم من أهل فارس أقوياء ومُرتبين ومُنظمين وعندهم عُدد كبيرة وجيشٌ كبير وأنهم يحتاجون عشرين، ثلاثين، أربعين سنة؛ ولن يستطيع الروم هزيمتهم، فأنزل الله: (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أدنى الأرْض…)، وكانت البقعة التي وقعت فيها الوقعة التي عند البحر الميت في الشام، أدنى الأرض أقربها إلى البحر، هذه البقعة في جميع بقاع الأرض في أدنى الأرض، حدد البقعة التي يكون فيها الأمر وحدد المدة في بضع سنين -ما بين ثلاث إلى تسع سنين ما يزيد على تسع -البضع ما بين الثلاث إلى التسع- فلا يزيد على ذلك فكان كذلك.
على خلاف ما هو متوقَّع، وكم لله من حوادث في الوجود يتوقع الخلق شأنًا ويكون شأنٌ آخر، فسبحان مقلِّب الشؤون ومقدِّر المقادير: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آلعمران:26].
حتى لما قرئت الآية، تراهنَ المشركون قبل تحريم الرهان في مكة المكرمة مع سيدنا أبوبكر الصديق، يقول سيدنا أبوبكر الصديق: سينتصر الروم وذلك أن المشركين كانوا يحبون انتصار فارس؛ لأنهم مشركون مثلهم، يعبدون غير الله تعالى ويعبدون النار ويعبدون الأصنام، والمسلمون كانوا يودّون أن ينتصر الروم لأنهم أقرب إليهم من أهل الكتاب، ويؤمنون بالأنبياء، وقبله يؤمنون باليوم الآخر وليس ذلك عند المشركين، فقال المشرك لأبي بكر: ولا يمكن أن تنتصر الروم؛ لا عشرين سنة ولا ثلاثين سنة ولا خمسين سنة، ما يقدرون على فارس، قال بيني وبينك مدتك، وحدد سنواتٍ نحو ست، فأخبر النبي قال له: اذهب إليه وزدْهُ في المدة؛ تسع، لأن الله قال في بضع سنين، والبضع لا تزيد على تسع، وزدهُ في الرِّهان -ضاعف الرهان- وزده في المدة قل له: تسع، فرجع إليه وقال أزيدك إلى تسع سنين، قال: إلى تسع! حتى تسعين!، قال: إلى تسع، قال: زد الرهان كذا، قال نعم وهو كذلك، فمرت ثمان سنوات وانقلب الأمر وغُلبت فارس وانتهت وقامت صولة الروم وأُخِذ الرهان من ورثة هذا الذي راهن سيدنا أبا بكر الصديق -عليه رضوان الله- وكان الأمر كما أخبر الحق على لسان رسوله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.
قال: وقوله تعالى: (إِنَّ الذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) [القصص :85] أي مكة وقد رده الله إليها"، أيضًا بعد ثمان سنوات من هجرته الشريفة عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتَدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح:16] وقد وقع، لأن المراد بالقوم أولي البأس الشديد بنو حنيفة" -من أهل نجد- وقد دعاهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتالهم، وقوله ﷺ :"الْخِلافَةُ بَعْدِي ثَلاثُونَ سَنَةٌ"، الخلافة بعدي ثلاثون سنة -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.
وهذا أيضًا من معجزاته، فكانت الخلافة ثلاثون سنة وهي:
والباقي من الثلاثين سنة؛ ستة أشهر، لأنه توفي ﷺ في ربيع الأول، وسيدنا علي قُتل في رمضان، فتولى سيدنا الحسن بن علي فكمُلت الستة الأشهر، فلما كان في ربيع سلَّم الخلافة وخرج منها.
وبعدها انتقلت إلى المُلْك العَضود، إلى سيدنا معاوية وانتقلت وانتهت أيام الخلافة كما عيّنها -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ثلاثون سنة، كمُلت بتسليم سيدنا الحسن وانتهت، ودخل الناس في مرحلة المُلْك العَضود واستمر ذلك قرونًا ثم دخلوا في مرحلة الجبرية كما أخبر، استمرت كذلك قرونًا ثم كان آخرها ما ذكره: "يتكادمون تكادُم الحمير" على الإمارات، وكان كما أخبر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ولكنه أخبر أن بعد ذلك خلافة على منهاج النبوة، فالناس على مشارفها وإن كره الكافرون، وإن كره المشركون، لا إله إلا الله القوي المتين سبحانه وتعالى: (لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران:9]، وقد وعد خير العباد أن يعيد في أمته الخلافة الظاهرة،أما الخلافة الباطنة:
وهكذا تسلسلت في خلفائه عليه الصلاة والسلام فهذه الخلافة الباطنة قائمة، ولكن في آخر الزمان تعود الخلافة الظاهرة في تبع الخلافة الباطنة كما كانت في عهد الخلفاء الراشدين؛ "ثم خلافةٌ على منهاج النبوة" كما يقول -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال -رواه أحمد في مسنده- "وكانت خلافة الخلفاء الراشدين هذا القدر".
قوله: "اقتدوا بالّذَيْن من بعدي، من بعد الخلافة؛ أبو بكر وثم عمر"، " أخرجه أحمد في مسنده والترمذي وغيرهما. وهذا إخبار منه ببقائهما بعده عليه الصلاة والسلام، بل كان من الحديث الذي أفضى به إلى سيدتنا حفصة، أنه سَيلي أمر الحكم من بعد الخلافة أبو بكر ثم عمر، أخبرها بذلك فكانت مما حدّثتْ به عائشة، وقد أمرها -صلى الله عليه وسلم- أن لا تُخبر ولا تتكلم، فأخبرت، فكان من جملة ما أفاءت به وأظهرته من الحديث الذي أمرها أن تكتمه وأنزل الله بعد ذلك: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ) [التحريم:3]؛ فلم يذكر شأن الخلافة من بعد، بَعُد عن الفتنة ولكن عاتبها على ما أخبرت به من أنه حرَّم مارية القبطية وغير ذلك من المسائل التي كنَّ يُكلمنه فيها، وأعرض عن بعض (… فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ)[التحريم:3-4]
قال سيدنا ابن عباس: -عبد الله بن عباس، أخو سيدنا القثم- قال أسأل سيدنا عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله ﷺ، من هما؟ قال: فما وجدتُ فرصة -قال الى سنة-ما وجدت معه فرصة أسأله، فخرجتُ معه في سفرٍ، فقرَّبتُ له الماء أصبُّ عليه الوضوء فقلت له: من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله ﷺ؟ قال: ويحك يا ابن عباس؛ هما عائشة وحفصة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
قال: وقوله لعمار رضي الله عنه : "تَقْتُلك الفئةُ الْبَاغِيَةُ"، فما كان مقتله إلا بعد قريب الأربعين سنة من ذاك الوقت. من وقت العشرين والثلاثين سنة، وقال له هذا في السنة الأولى من الهجرة، ثم ما قُتل إلا في خلافة سيدنا علي بن أبي طالب -قتلته الفئة الباغية- وذلك أنه لما كان يبني مسجده الشريف عليه الصلاة والسلام، وكان يعمل معهم وكان سيدنا عمار له قوة، فكانوا يُحمِّلونه من حجرتين حجرتين ومن لبِنتين مماهم يحملون، قال: يا رسول الله، أتراهم يحملون من الحجرة ويحمِّلوني حجرتين يريدون أن يقتلوني؟ يضحك مع النبي ﷺ -يكلم النبي- قال: "ليس هم بقاتليك، إنما تقتلك الفئة الباغية"، "ويح عمار تقتله الفئة الباغية"، فعدَّت سنين الهجرة كلها وتوفي ﷺ، وعدَّت خلافة سيدنا أبي بكر وتوفي سيدنا أبوبكر، وعدّت خلافة سيدنا عمر وتوفي سيدنا عمر، وعدّت خلافة سيدنا عثمان وتوفي سيدنا عثمان، وجاءت خلافة سيدنا علي، ولما كان في الوقعة معه في صِفين قُتل سيدنا عمار، فقتلته الفئة الباغية بإخبار المختار ﷺ -أخرجه البخاري في صحيحه وغيره- "أي هي المخطئة للصواب"، خرجت عن الامام، البغي؛ أي خروج طائفة عن الامام وعن الخليفة والحاكم، "وقد قتل مع الامام علي -رضي الله تعالى عنه- في يوم صفين" سيدنا عمار بن ياسر.
وقوله للعباس رضي الله عنه حين أسَرهُ الصحابة قبل إسلامه :"افْدِ نَفْسَكَ إِنَّكَ ذُو مَالِ" فقال : لا مال لي، فقال ﷺ: أَيْنَ المالُ الَّذِي وَضَعْتَهُ عِنْدَ أُمِّ الْفَضْلِ وَلَيْسَ مَعَكُمَا غَيْرِكُمَا وَقُلْتَ : إِنْ أَصِبْتُ فِي سَفَرِي هذَا فَلِلْفَضْلِ مِنْهُ كَذَا، وَلَعَبْدِ اللَّهِ مِنْهُ كَذَا" فقال: والذي بعثك بالحق ما علم أحد هذا غيري، وإنك لرسول الله، وأسلم.
وقالوا كان إسلامه مخفيا -من قبل- وهو في مكة المكرمة يُخفي إسلامه، سيدنا العباس، وكان يكاتب رسول الله بأخبار قريش وما يحوكونه، ولم يكونوا يعلمون أنه مسلم، واستمر كذلك. ودام حتى كان عام الفتح، عام الفتح؛ ضاق من الوضع في مكة وخرج مهاجرا، فلقي النبي ﷺ في الطريق، فقال: "إن الله ختم بك الهجرة" يعني من مكة؛ كما ختم به النبوة؛ كان آخر مهاجريه ، وردّه معه إلى مكة ﷺ لفتحها؛ العباس بن عبد المطلب -عليه رضوان الله-
كان يقول سيدنا عمر: "كان رسول الله ﷺ يرى له ما يرى الولد للوالد"، كان يقدِّره ويجلَّهُ ﷺ ويعدَّه كأبيه وكوالده؛ ولذا إذا لم يجرأوا على مراجعته في شيء، طلبوا من العباس أن يكلمه أو من سيدنا أُسامة بن زيد، أو سيدتنا أم أيمن -بركة الحبشية- فكان يراها كأمه، وكانوا يجرأون على المراجعة له ﷺ في الامور في عظمة هيبته. صلوات ربي وسلامه عليه وعليهم، إنه يسير في الطريق وحده كأنه جيشٌ مُقْبل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
كَانَّهُ وَهُوَ فَرد فِيْ جلالَتهِ *** فِيْ عَسْكَر حيْنَ تلْقَاهُ وَفِيْ حشَمِ
ولما جاء أيضاً المرسلون من فارس، وقالوا: "إن ملِكنا وإلهنا أمرنا أن نأخذك ونذهب بك إليه" فقال: "اصبروا إلى الغد". فلما كان الغد جاء، قال لهم: "إن ربي البارحة قتل ربكم" وهذا الملِك كسرى البارحة قُتِل، سلّط عليه ابنه -ابنه قتله البارحة- البارحة في فارس وهو في المدينة المنورة، ورجعوا إلى اليمن وأخبروا العامل في اليمن قالوا: كلام عظيم إن كان كما قال -لايوجد خبر وصلهم- إن كان كما قال فهو نبي حق، فجاءت الاخبار في نفس الليلة التي أخبر النبي ﷺ وعلموا أنه رسول الله ﷺ، فكانوا يُحدِّثون، ويقولُ أحد الحاضرين معه: انه اصابتني رعدة وخشية لما رأيته، ما قد رأيتها في عمري كله، ودخلت على الملوك وعلى الأمراء، قال: هل معه جند وحرس؟ قال: لا -لما قالوا له- قال هبتُ منه وارتعدتُ لِما قال: معه جند وحرس؟ قال: لا، كان وحده يمشي، قال: كان يمشي وحده ويدخل وحده ولكن امتلأتُ هيبةً فما شعرت بهذه الهيبة في طول عمري لما واجهته، وما جَرَأوا على كثرة الكلام معه -صلى الله عليه وعلى أهله وصحبه وسلم-.
وكان عند خروج سيدنا العباس لما كتم إسلامه مع المشركين في بدر، تأخر، وما أحد تأخر من القوم كلّهم، فخرج معهم، فكان من جملة من يُخفي إسلامه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم بخبرهم. فقال للصحابة: "من لقي منكم العباس فلا يقتله، من لقي فلان فلا يقتله، من لقي فلان فلا يقتله، نؤسِرهم ولا تقتلهم -لانهم يخفون اسلامهم- والناس يظنون أنهم مشركين، فمنهم سيدنا العباس، لما رأى عزم القوم وضرورة خروجه معهم جلب معه المال وذهبَ، وكلّم أم الفضل زوجته -زوجة العباس- قال: في هذا المكان مدفون، فاذا أنا أُصبت ومتُّ في هذه الغزوة، فأعطِي الفضل كذا، وأعطِي عبدالله كذا، وأعطي كذا وصرِّفيه في كذا وأعملوا به شأنكم، فخرج فوقع في الأسر، فأُسر مع الأسرى السبعين إلى المدينة المنورة، وكان يقول النبي: "ماهو صاحبك هذا الذي أسرني"، أسرهُ واحد من الصحابة -أبواليسر- كان نحيف الجسد صغير، وسيدنا العباس ضخم، كان قوي؛ كان وهو على الارض يُقبِّل رأس الراكب على الجمل -وهو على الارض- من طوله وله صوت جهور به، واسرهُ واحد، قال: "ما هو صاحبك هذا الذي أسرنا، جاءنا واحد ضخم كبير، مسكني له فسلّمني له" ضحك النبي، قال: الله أعانه عليك بملَك"، ملَك اليوم مسكك، وإلّا ما يقدرون.
فلما جاءت الفدية، قال: كل من معه شيء يفدي عن نفسه، فدى من فدى، وبعض الفقراء الذي ما عندهم فدية، جعل فديتهم أن يعلِّموا عشرة من أولاد الأنصار القراءة والكتابة، فإذا علّم العشرة فهذه فديتهم، وقال لابن العباس: أنت اخرج الفدية عن نفسك وعن بن أخيك عقيل؛ اخرج عنه الفدية، قال: يا رسول الله من أين؟ ما عندي لنفسي فكيف أعطي ابن أخي؟! قال: المال الذي دفنته في مكان كذا، وقلتَ لأم الفضل إن أنا متُّ.. قال: قد علمنا انك نبي، ففدى نفسه وفداه، ونزل فيه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ) [الأنفال:70]، فكان ذلك، ولما جاء مال البحرين قال النبي ﷺ: أين العباس؟ قال: خذ من هذا الذهب، فأخذ مقدار ما يقدر على حمله أضعاف ما أنفقه، و(يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ الله) عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولم يزل يخفي إسلامه ورجع مع المشركين إلى مكة وكان يخابر النبي ﷺ -يرسل إليه بأخبارهم-، فلما كان في عام الفتح قابله في الطريق؛ جاء مهاجراً إلى الله ورسوله، قال له: أنت آخر مهاجر من مكة؛ لأن الهجرة ارتفعت من مكة بعد الفتح، "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ" يعني من مكة المكرمة، مخصوص مكة المكرمة، أما غيرها، فباقي حكم الهجرة على ما هو عليه:
قالوا: "ومنها انشقاق القمر بمكة حين سألوه"؛ هذه آية عظمى، قال: "فانشق فلقتين" -كان يرون- "فلقة فوق الجبل وفلقة دونه ورآه أهل الآفاق كلهم"، ذكروا أنه وجد في بعض التواريخ في الصين انشقاق القمر سنة كذا، من انشقاق القمر أرَّخوا، الأرض -كلها شاهدته، كانت ليلة النصف من شعبان، فطول الليل كان القمر منشق، حتى قالوا أول ما رأوا الآية قالوا هذا سحرَكم، وقالوا بين بعضهم البعض؛ إن قدر أن يسحركم لن يقدر أن يسحر أهل الارض، إصبروا حتى تسألوا من يفد إلى مكة، فوفدَ الناس من حوالي مكة، قالوا: موسم الحج قريب، سيأتي ونسأل الوافدين، فكلما سألوا أحد، هل حصل شيء في شهر شعبان الماضي؟ يقولون: انشق القمر، أهل اليمن وأهل.. ومن كل محل جاءوا وأخبروهم بذلك، وقالوا: هذا سحر كبير.
قال تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) [القمر:1-3]. "و روى عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله ﷺأن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين أي فلقتين، أخرجه البخاري ومسلم، فيجب الإيمان به والاعتقاد بوقوعه لشهادة القرآن المجيد بذلك" ولم يشُق الحق تعالى كوكباً -قمر ولا غيره- لأحد من الأنبياء ولا غيرهم إلا لسيدنا محمد ﷺ.
قال: فإنه أدل دليل وأقوى مثبت له، وإمكانه لا يشك فيه مؤمن بعد ما أخبرنا به الصادق الأمين؛ لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه كيف يشاء، كما يفنيه ويكوره في آخر أمره، ولا ينكره إلا مبتدع ضال مضل مخالف للملة السمحة، وذلك لما أعمى الله قلبه عن التصديق بالقرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
3- ومنها نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير قليله ببركته ﷺ في أوقات كثيرة، رويت بأحَاديث صحيحة. ومنها حديث تبوك؛ الجيش كان ثلاثين ألف، ثلاثين ألف، وكلهم شربوا من هذا الماء، وكلهم سقوا، وسقوا إبلهم؛ ثلاثين ألف، أكبر غزوة غزاها ﷺ، خرج في تبوك وهي آخر غزوة غزاها.
أما لما كان في عام الصلح -صلح الحديبية- فجاؤا الى عند بئر كانت في الحديبية فيها ماء قليل، نزحوه الصحابة؛ نفذ الماء قالوا: "يا رسول الله هذه البئر، بضَّ فيها الماء، أخرجَ من كنانته سهمًا من اسهمه، قال: "اغرسوا فيه، ضعوه في البئر" فلما ذهبوا وغرسوه في البئر، فاض الماء، ولم يزل في أيامهم هناك، جلسوا أياما حتى صالحوا قريشًا، ثم أرادوا السفر، بعد أيام قال: "انزعوا السهم، هاتوا السهم" فلما نزعوا السهم غار الماء، ورجع كما كان، ﷺ عظُمت معجزاته.
4- ومنها البركة في الطعام القليل حتى كفى الجمع الكثير، ومن أعظم ما كان في يوم الخندق، وسيدنا جابر معه عَنَاق، رأس غنم صغير، ومعه صاع واحد من الشعير، أمرها أن تخبز، وذبح هو العناق، وذهب يدعو، فقال: إني رأيت أثر الجوع عليها، هل عندك شيء؟ قالت: ما عندنا إلا هذا الشعير، وهذا العناق، فلما ذهب يدعو، قالت: لا تفضحني بالقوم، ستجيء بناس كثير، قال؛ النبي ﷺ واثنين وثلاثة معه، هذا الذي سيكفيهم الطعام، فذهب فأخبر النبي، وقال: إنا صنعنا طعامًا كذا كذا، وأخبره بقدره، قال له: مرحبا، تعال أنت واثنين أو ثلاثة معك، قال له: مرحبا، أمر منادي ينادي في الخندق: يا أهل الخندق، إن جابر بن عبدالله صنع عسورًا، فحيا وأهلًا بكم، تفضلوا، هرب سيدنا جابر وراح يجري لها، قلتُ مالَك؟، قال: رسول الله نادى في الجيش، انا قلتُ لك تقول له اثنين أو ثلاثة، قال: قلت له اثنين أو ثلاثة، قلت: هل أخبرته بمقدار ما معنا؟ قال: نعم، قالت: فلا عليك شيء، الله رسوله أعلم، ما دام قلت له هو يعرف، انتهى.
وصل ﷺ والجيش وراءه، منهم حدود ثمانمائة واحد، والغذاء ما يكفي إلا ثلاثة أو أربعة، فقال: أرسل إليه، قال قل لهم لا تخرجوا البُرمة من على النار، ولا تخبزوا حتى آتي، عجنوا العجين وتركوه، فلما وصل -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- دخل إلى البيت والناس تحت البيت، قال لها: ادعي الخبازات اللاتي يخبزن معك، هو خبز قليل بتخبزه هي وحدها، قال: هاتي معك خبازات، جاءت بخبازات دعتهنَّ من الجيران، فكان يناول كل واحدة من العجين بنفسه بيده يعطي هذه، ويعطي هذه، و يخبزن، ويرجع ويعطي هذه ويعطي هذه ويخبزن، ويغرف من القدر، وهو يفور، ويغرف لهم، فيعطي، قال أدخلْهم عشرة عشرة، أدخلَهم الى البيت على عشرة عشرة، يدخلون عشرة يأكلون ويشربون المرق، ويأكلون اللحم ويأكلون الخبز، ويخرجون، وعشرة وعشرة وعشرة وعشرة، واستمر هكذا ثمانين مرة، من عشرة عشرة عشرة، والنبي بنفسه هو يغرف لهم، ويناولهم العجين، حتى كَملوا، فلما انتهوا وكملوا، قال؛ والبرمة مليانة، القدر الذي يخبز فيه والعجين كما هو، قال: هل بقي أحد؟، قال: ما بقي، قال: أنا وأنت وأهل الدار، ناولهم خبز ثم أكل هو وإياه، ثم قال: اطعموا من حواليكم، فإن الناس أصابتهم مجاعة، فخرج وإن برمتنا لتغط وإن عجيننا ليُخْبز؛ وقسموا على الجيران وعلى أهل المدينة، كلهم من هذا الشعير ومن ذاك العناق الصغير.
فصلى الله على البشير النذير، والسراج المنير، ونسأله سبحانه وتعالى ببركته يبارك لنا ولكم في الإيمان، فيزيد زيادة، إن شاء الله، ولا يزال يزداد أبدا سرمدا، يبارك لنا فيما أعطانا من النور ومن المعرفة ومن المحبة له ولرسوله، ويزيدنا منها زيادة لا تنقضي أبدا يا أكرم الأكرمين.
5- ومنها كلام الشجر وإجابة دعوته، كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه ﷺ وجد في بعض أسفاره أعرابيًا قد دعاه إلى الإسلام، فقال: من يشهد على ما تقول؟ فقال: "هذه الشجرة"، ثم دعا شجرة، فأقبلت تخط الأرض حتى قامت بين يديه وقالت : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثلاث مرات، ثم رجعت إلى مكانها، قال لها: ارجعي إلى مكانك، فرجعت تخط الارض حتى وقعت في مكانها، فأسلم الأعرابي.
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة *** تمشي إليه على ساق بلا قدم.
اللهم صلِّ عليه وعلى اله وصحبه وسلم.
وقال له الاخر: وكان حامل في كمِّهِ ضّب قال: لا أُؤمن بك -أعرابي- حتى يؤمن بك هذا الضب، قال "للضب": من أنا؟ قال: أنت رسول الله محمد، سعِد من آمن بك، وخاب من كذبك، قال الأعرابي؛ أنت رسول الله، فشهد شهادة حق، صلى الله عليه وعليه وعليه وصحبه وسلم.
6- قال: ومنها حنين الجذع وذلك أنه كان ﷺ يستند إلى جذع ويخطب، فلما صُنع له المنبر وخطب عليه، حنَّ له ذلك الجذع، مع أنه ما فارقه إلا خطوات فقط، الجذع هنا والمنبر هنا، بينه وبينه ثلاثة أو اربع خطوات، لكن الجذع شقَّ عليه فراق النبي ﷺ والبُعد منه وكان يضع يده عليه وبجانبه، وجسده عنده، والآن بينه أذرع، فبدأ يحن، وبدأ يبكي هذا الجذع، بدأ الصوت يرتفع، صوت الجذع -آننننننن- كحنين العِشار، ارتفع الصوت، حتى غطى الصوت، ماعاد يسمعون، خرج النبي من على المنبر وجاء الى عنده وضمه إليه، سَكن سَكن سَكن هدأ، سكن، أخذ يضع أذنه، ثم وضع فمه عليه، وضع أذنه، وضع فمه عليه، فكلّم الجذع، ثم عاد وقال: "إن هذا الجذع حنّ لما فارقه من الذكر، والذكر يسمعه، لكن الذاكر هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم، هو اشتاق إلى الحبيب، وهذا جذع جماد."
كان سيدنا الحسن البصري إذا ذكر هذا الحديث، يبكي، يقول: "خشبة تحنُّ إلى رسول الله، خشبة حنّت. ألسنا أولى بالحنين إليه؟" قال: "خشبة حنّت إلى رسول الله، ألسنا أولى بالحنين إليه؟" قالوا: "كاد أن ينشق الجذع، وغطى الصوت في المسجد." يقول الراوي: "فالتفتُ يميني ويساري، فما رأيت من الصحابة، أحد إلا واضع رأسه بين رجليه، يبكي، بكى المسجد، ما فيه كلهم بكوا، وهو يكلم الجذع، والجذع يحنّ وهم واضعين رؤوسهم بين أرجلهم يبكون، ثم عاد وأكمل الخطبة ﷺ.
وقال: اني خيَّرتهُ بين أن يعود نخلة في الدنيا، أو يكون في الجنة، قال: "فاختار أن يكون في الجنة." قال: "خير اختيار، وهذا جذع" وقال: "ولو لم أفعل به هكذا، ولو لم أضمه إليه، لبقي يحن إلى يوم القيامة." فارتفع شأن جذع وهو خشب -سبحان الله- جذوع كثيرة في العالم، لكن هذا يدخل الجنة، من بين بقية الجذوع -سبحان الله- وإذا دخل الجنة، ما تظن أنه يكون في الأولى ولا في الثانية، سيطلع الى فوق، لأنه ما اختار الجنة إلا من شأن يرى الحبيب ومن شأن يكون قريب منه، سيصعدون به إلى الفردوس الأعلى، هذا الجذع من أجل أن يكون بجانب الحبيب صلى الله عليه وسلم، جزاء المحبة، فالله يرزق قلوبنا نصيباً من هذه المحبة، قال: "وسمع الناس له بكاء حتى كثر بكاؤهم لما رأوا ما به، ولم يزل كذلك حتى جاءه النبي، وجعل يهدئه، كما تهدئ الأم ولدها، حتى سكن" الحديث رواه الشيخان، عن بضعة عشر من أكابر الصحابة رضي الله عنهم.
7- ومنها تسبيح الحصى ونطْق الجمادات، فيما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا مع النبي ﷺ بمكة فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وقال: السلام عليك يا رسول الله .
8- ومنها أن جملًا شكا إلى النبي ﷺ أن أصحابه استعملوه زمنًا طويلًا، فلما كبر أرادوا نحره، فَتشفع فيه -رواه جماعة من الصحابة-
وآخر جمل ندَّ عليهم -توحّش- وسط المزرعة مع بعض الصحابة وكانوا يسقون عليه ويحملون عليه، فلما ندّ عليهم، ما عاد قدروا يقربون منه، لأنه إذا توحّش الجمل فهو شديد البطش. فأخبروا النبي، وقد مرّ عند بستانهم، قال: "افتحوه". قالوا: "أننا نخاف عليك". نخاف أن الجمل يبطش. قال: "لا عليكم." فدخل صلى الله عليه وسلم، أقبل الجمل، جاء إلى عند رجليه يقبِّله، ثم وضع فمه عند أذن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم النبي وضع فمه عند أذن الجمل، ثم قال: "إن هذا الجمل يشتكي كثرة عمل وقلة علف" قال: "إنكم تعملون عليه كثير، وتعطونه طعام قليل، فهو يشتكي منكم." قالوا: يارسول الله، بعد اليوم نعلفه كثير، ولن نعمل عليه، ما عاد نعمل عليه، نعطيه علف بس، قال لهم خذوه، فهدأ وصاروا يقولون له: "أنت تشتكي عند النبي محمد، ولا نعمل عليك بعد اليوم شيء أبداً، خلاص، خذ بس، بنعطيك أكل كثير، بدون عمل " فما عاد عملوا عليه، إكراماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- شكا بهم عند حضرة النبوة -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كم وقعت له من هذه الحوادث عليه الصلاة والسلام.
وكان يوم جالس مع جماعة من أصحابه وحمل الحصى فسمع الصحابة لها تسبيح، ثم وضعها، ثم حملها ووضعها في يد سيدنا أبي بكر، فلما حملها سمعوا لها تسبيح، ثم وضعها ثم حملها ووضعها في يد سيدنا عمر، فسمع لها تسبيح ثم وضعها وتركها، وكمَّل المجلس وقام، فلما قام، جاء الصحابة كل واحد يحمل الحجر معه، ما سمعوا شيء، ما ظهر لهم شيء من هذا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
9- ومنها كلام الشاة المسمومة له حين صنعتها له يهودية بخيبر. هذه اليهودية سمَّت الشاة، وزادت السم في الذراع، قالت لهم: ما أحب الأعضاء الى محمد؟ قالوا: لها الذراع، فزادت سم في الذراع، فلما حمل الذراع وبدأ يأكله، صاح الذراع!، قال: يا رسول الله إني مسموم لا تأكلني، فردَّه، وقال للذين معه وقد بدأوا يأكلون: لا تأكلوا من هذا، فدعاها فاعترفت، أنها سّمت الشاه، وقال: ما حملك على هذا؟ قالت: قلتُ إن كنتَ نبي لم يضرك، وإلا أراحنا الله منك، قال: ما كان الله ليبلغك قتلي، ثم عفا عنها في حق نفسه، ثم دفعها إلى أولياء الذين ماتوا بسببها، اثنين منهم ماتوا بسبب الأكل منها، ثم كان أثر السُم في لهواته فاحتجم، وصار يحتجم كل عام، ثم قال: عند مماته، إن أكلة خيبر ما زالت تعاودني في كل عام، وهذا أوان قطع أبهري، قالوا: ليجمع الله له مع عظمته في النبوة، الشهادة أيضا، منها أن يموت مسمومًا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
10- ومنها أنه أُوتي بصبي في حجة الوداع يوم ولد، فقال له: "من أنا؟" فقال : رسول الله، فقال: "صدقت بارك الله فيك" فسمي مبارك اليمامة.
ومنها غير ذلك ما لا يحصى، وتضمنت ما ذكرنا وما لم تذكر كتب الحفاظ المؤلفة في ذلك، كدَلائل النبوة للبيهقي وأبي نعيم والطبراني في معاجمه، والكتب الستة، والمسانيد كمسند الإمام أحمد، وأعظمها القرآن الشريف؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام تحدى العرب بأقصر سورة منه، فعجزوا جميعًا، قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين فإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة :23-24]، فلا يخلو الحال، إما أن يكون الإتيان بمثل بلاغة القرآن في قدرة العرب أو لا،
الحمد لله على نعمة القرآن، وقد أرسله الله رحمة للعالمين، وجعل أمته خير أمة، الحمد لله الذي أكرمنا به، اللهم املأ قلوبنا بمحبتك، ومحبته، وولائك وولائه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
قُربًا ومحبة أدخلنا في الأحبة، واجعلها من أبرك الأيام علينا، وأسعد الزيارات وتعوده علينا وعلى أحيانا وموتانا ، بفضلك العظيم ومنِّك الجسيم.
بسرِّ الفاتحة
إلى روحهم وإلى حضرة النبي محمد ﷺ
28 شوّال 1445