شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -5- أدب المؤمن بين يديّ الله تعالى (4)

الأدب في الدين -5- من أدب المؤمن بين يدي الله تعالى
للاستماع إلى الدرس

الدرس الخامس من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، متابعة الحديث عن أدب المؤمن بين يدي الله تعالى، الجزء الرابع.

فجر الجمعة 6 شوال 1438 هـ.

 

متابعة أدب المؤمِن بَين يَدي الله تعالى

"وكتمان الحب، ودوام الإخلاص، وترك النظر إلى الأشخاص، وإيثار الحق، واليأس من جميع الخلق."

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدلله الرحيم الرحمن، منزل القرآن، وخاتم النبوة بالمصطفى من عدنان عبده المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه في كل حينٍ وفي كل آنٍ وفي كل شأن، وعلى آله المطهّرين عن الأدران وأصحابه الغرّ الأعيان، وعلى من سار في دربه واتّصفَ بحبّه إلى آخر الزمان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الدرجات العلا صفوة الرحمن، وعلى آلهم وصحبهم، والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ، 

فيواصل الشيخ تذكيرنا بأدب كل واحدٍ منّا مع إلهه وبين يديّ ربه وخالقه الذي إليه مرجعه كما كان منه مبتدأه، وهو القائل:(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104]، وهو القائل ليُبعد الوهم الذي ينساق إلى أكثر العقول لما يُخيّم عليها من ظلمة الشهوة، وظلمة الهوى في هذه الدنيا، يقول: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون:115-116] أن يعبث، وأن يخلق الخلق عبث! (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191]. 

هذا الإله الحق جل جلاله المحيط بك المطّلع عليك، الذي وكّل بك لحكمة ملائكة بالليل وملائكة بالنهار وكتبةً يكتبون ما تقول وما تفعل، وجعل عليك شهودًا من أعضائك ومن جوارحك، وشهودًا من الأرض، وشهودًا من الزمان إلى غير ذلك، والمرجع إليه، وهو المحيط بك وبكل شيء سبحانه وتعالى.

 علّمك أن تُقِلّ غضبك خوفًا من غضبه، وأن لا تنساق مع ما يثور في نفسك من الغضب إلا ما كان له؛ ما شرعه لك وأحبه لك سبحانه على الوجه الذي شرعه، وإلا فأنت تتحرّر عن الرِق لطبعك، لهواك، لمقتضيات نفسك؛ لتسعد بشرف العبودية له وحده جلّ جلاله وتعالى في علاه، وهل يخامرك أن عبوديتك لهواك أو لنفسك فيها شرف؟ فضلًا عن أن تكون أشرف من العبودية للحقّ الخالق الذي خلق، الذي يستحق العبودية وحده، فتخرج عن العبودية إلى عبودية نفسك؟! عبودية هواك؟! فلا غضبك له، ولا رضاك له، ولا حبك له ولا بغضك له، فمن تكون إذًا؟ فماذا اخترت لنفسك إذا؟ فأي السبيل سلكت إذا؟ "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان". 

   ما يحب طبعه ما يحب هواه ما يحب للأغراض، يحب من أجل الله ويبغض من أجل الله، يعطي لله يمنع لله، وهكذا يقول: إنك إذا أُكرمت منه، وقد خلقك من العدم بإيمانٍ وقر في صدرك، وتقربت إليه بعمل صالح، فأفاد قلبك ذرّة أو عُشر معشار ذرة من محبّته، فهو سِرٌّ بينك وبينه، عليك أن ترعاه وترعى حق هذا السِرّ، وتحافظ عليه، وتطلب تنميته، والزيادة منه، فإن مِلتَ إلى إظهار شيئًا منه، أو ما يُشير إليه رغبةً من نفسك أن يعرف عنك غيره، أو أن يقصدك أو يعظّمك أو يحبّك غيره، أو التباسًا عليك تلبيسًا من عدوّك أن يُظهر منك الادّعاء للمحبة، فتدّعي ما ليس لك أو تطلب الشَركة مع الله وهو لا يقبل الشَركة، ما يقبل الشركة، إما تكون له أو لغيره، من عمل عملًا لي أشرك معي فيه غيري، فكله للذي أشركه معي وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك، (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].

ولذ ا دَرَجَ الموفّقون الصالحون المؤمنون على كتم أحوالهم عامّة، أحوالهم مع الله يكتمونها عن الخلق ولا يريدون اطّلاع الخلق عليها وقالوا: ما صَدَقَ الله عبدٌ أحبّ الشهرة، ما صدق معاه وقالوا: ما صَدَقَ الله عبدٌ إلا أحبّ أن لا يُعرف، أن لا يُعرف مكانه.

  فأمّا الذي يميلُ إلى إظهار المحبة ويقول: عندي وعندي…، وهذا يحصل لكثير من المبتدئين في الطريق فيُفتنون، يُحسّوا بحالة طيبة أو معنى من الأُنس أو من الحلاوة، هي عند الراسخين ما هي إلا شيء كمثاله في عالم الحِسّ، ما يُعطى من بعض الحلوى والنعنع للصبيان، ليست بذاك.. ولكنها هو على ما يقول العامّة:  فتّح فرأى ديك، فظنّ الدنيا كلها كما الديك! هو أعمى فتّح مرة واحدة رأى فيها ديك، وبعدين كل ما يصفون له سيارة يقول كما الديك، وكل ما يصفون له طائرة يقول كما الديك، وكل ما يصفون له مسجد يقول كما الديك… كل شيء كما الديك ما يعرف إلا الديك لأنه ما رأى إلا الديك!! وهذا كذلك.. قالوا فيه: وبعض الناس يسكر من زبيبة! ويقول ذقنا وأكلنا وطعمنا وشربنا… إيش معك؟ قال: زبيبة، زبيبة؟! لا إله إلا الله! عادك هنا، وهكذا، ولهذا ذكر في الآداب مع الحق وبيّن ذلك: "وكتمان الحب"، والمحبة هذه مقام عظيم في مقامات اليقين، كل ما قبله مقدّمة له، وكل ما بعده ثمرة له، فلا تدّعي.. 

لا تدّعي فالصدق له علائم *** ما حازها من في الظلام نائم

 إلا الذي لله فيه قائم *** أو سائحٌ من شاهقٍ لشاهق

هذا الأدب الكريم الشريف أصلٌ من الأصول، في عامّة الأحوال والشؤون، يخرج عنه ما كان من أرباب صدق الوجهة في المواقف التي يحسُن التعبير فيها، كقول الأعرابي لسيدنا المصطفى: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام غير أني أحب الله ورسوله، أجد من نفسي المحبة، "فأنت مع من أحببت"، لا دعوى، ولا طلب منزلة، مقرونة باعتراف وانكسار، "ما أعددت كثير صلاة ولا صيام.."، ضعيف ناقص ما عندي شيء..، لكن شأن المحبة هذه أجدها في قلبي لله ولك يا رسول الله، حتى ما أُقدّم شيء عليك، قال له: "أنت مع من أحببت"! والثاني: أهل تمكين، ملأ حب الله تعالى جوانح قلوبهم فصاروا يعبّرون بإذنه إما لنفعٍ أو تبيينٍ أو تحريك همةٍ أو لاستبيانٍ أو لتخفيفٍ إلى غير ذلك من المقاصد الصالحة. 

ولما قال ﷺ: يا ثوبان ما لي أراك نحيل الجسم، مصفّرّ اللون؟ قال: محبتك.. محبتك يا رسول الله! بي المحبة.. ما شانُك؟ قال: إني قد أذكرك فلا أصبر حتى آتي وأنظر إلى وجهك، وذكرتُ أن حياة الأبد حياة الآخرة، فكرت فقلت إن لم أدخل الجنة لم أراك، وإن دخلت الجنة كنت في منزلة دون منزلتك فلا أراك،  فهذا الذي كدّر عليّ عيشي، وحال بيني وبين طعامي وشرابي ومنامي يا رسول الله، ثلاث أيام لا أكل لا شرب لا نوم.. وهكذا تصنع المحبة بأصحابها! هذه المحبة الصادقة، وما كان إلا أن نزلت الآية الكريمة جواب من الله مباشرة لهذا الإنسان المُحب، تقول له لأمثالِه ونظراؤه ممن أدركوا هذا الذوق والسر: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69]، المُرَافَقَةَ أَبْشِرْ بَهَا! النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وعلى رأسهم محمد وأنت معهم، وبُشِّر، وقِدر يأكل وقدر يشرب بعدها، اللهمّ ارضَ عنهم وعنّا بهم.

وهكذا فيما يأتي من غلبة الأحوال على الصادقين؛ الذين هم:

  •  من أبعد خلق الله عن قصد غير الله

  • وعن طلب المنزلة عند خلق الله

  • وعن الالتفات إلى ما سوى الله

فلا يمكن أن يأتي أي واحد لم يتمكّن في هذا الحال ويصل هذه الدرجة، ويقيس نفسه بهم، فنقول: استح على نفسك! إن الملائكة لا تُقاس بالحدّادين على ظهر الأرض! وأنت الذي إذا شاهدت بعينك سابحًا بين أمواجٍ غزيرة صعبة لا تقدر تقيس نفسك عليه، فتقول: إنسان مثلي، معه يدين وأنا معي يدين، معه رجلين وأنا معي رجلين معه رأس وأنا معي رأس، بقفز… لا تقفز.. لا تقفز.. اقعد محلك.. أبعد بعيد، إسلم! إن قفزت قفزة ستعرف نفسك من أنت ومن هو!  وتعرف الفرق الذي بينك وبينه.. ولما قالوا لبعض الأولاد خرج في الماء فغرق، خرجوا أنقذوه وسألوه: ما لك؟ قال: أنا شفت فلان يسبح وصلّحت مثله.. لكن فلان يعرف يسبح، تعلّم السباحة من قبل، لكن أنت ما تعرف! هو حين قفز .. أنا قفزت مثله، لكن عنده ما ليس عندك!

وهكذا تسارع النفوس لمّا تسمع كلام بعض العارفين وأهل التمكين تريد نفسها كماهم!!. يا هذا!… ولهذا رأيت هؤلاء الصحب الأكرمين، من أعظمهم وأشدهم حباً للجناب الشريف، سيدنا ابو بكر الصديق وسيدنا علي بن أبي طالب، قل لي كم مرة يظهرون عن تعبيراتهم في اليوم والليلة عن محبته، تعبير لسان الحال، كل شعرة من شعورهم تنطق، حتى ثيابهم، كلها تنطق بالمحبة! أما بالمقال والادعاء؛ ما قالوا بالادعاء نحن كذا.. ونحن كذا…. 

لأجل الإفادة للناس عند تقديم السؤال لسيّدنا علي: كيف كانت محبتِكم لرسول الله؟ كلمتان ختم فيها المعاني الكبيرة، قال: كان أحبّ إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا ومن الماء البارد على الظمأ، فقط وسكت.. ما قال مثلها، قال: أحب.. طيب أحب بمقدار كم؟ أحب وفقط، الله أكبر! وهم أعظم حبًّا لهذا الجناب؛ لأننا ما عرفنا عنه كما عرفوا، ولا أدركنا منه ما ادركوا، فلا بد يكون حبّهم أقوى من حبّنا.

 وهكذا رأيتم نواطق الأعمال والأحوال الشاهدة بصدقهم في محبة الحق ورسوله، والحق يهدّدهم إن أحبوا شيء  أعظم من الله ورسوله كائنًا ما كان يقول لهم قل يا محمد : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا) كل هذا الذي أمامكم في العالم (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ) لا تسمحوا لشيء من هذا الوجود والكائنات أن تحتل في قلوبكم محبة فوق محبة الله ورسوله، الله ورسوله قبل كل شيء، فإلّا تفعلوا فتربّصوا، تهديد من أين يأتي؟ (فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) بل وصف أصحاب هذا الوصف بالفسق قال: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة:24] أي: خرجوا عن الطريق، خرجوا عن المسار الصحيح، قدّموا آباء أو أبناء أو أزواج أو عشائر أو أموال أو تجارة أو مساكن، قدّموها على الله ورسوله.. فسقوا، خرجوا عن الفسق ما فيه تقدم، المحبة لله ورسوله والجهاد في سبيله قبل الآباء والأبناء والأزواج والعشيرة والإخوان والأموال والتجارة والمساكن قبل هذا كله.. الله ورسوله، الله ورسوله، وجهادٍ في سبيله ترجمة على صدق المحبة في الله ورسوله، اللهم أكرمنا، اللهم أكرمنا، اللهم أكرمنا. 

وبذلك تشوّقوا لزيادة منها ،وقالوا: 

يالله بذرّة من محبة الله *** أفنى بها عن كل ما سوى الله

ولا أرى من بعدها سوى الله *** الواحد المعبود ربّ الأرباب

 ونرى الناس فيما بينهم في الأمر الحقير الفاني يحبّ أحدهم شيء أو يحب أن يتعلق بشيء، كم يبذل فيه، وكم يفكر فيه، وكم يتحمّل من أجله، وكلها حقيرة وفانية، محبة الله فوق ذلك كله، (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ)[البقرة:165]، اللهم ارزقنا نصيبًا وافرًا من هذه المحبة.

ومرّ بعض أنبياء بني إسرائيل على عابد من العُبّاد يقول: أنا أسأل الله يرزقني ذرّة من محبته، فاسأل لي ربك، وسأل النبي ربّه فأوحى الله إليه قل له: أنه في ليلة كذا أجيب دعوتك، أخبره وفرح، جاءت الليلة بعدها مرّ يريد يتفقد حاله، مرّ إلى المكان الذي فيه فوجده في حال شديد، وقال له: اسأل ربك يخفف عنّي، فيقول: يا رب عبدك فلان يسألك أن تخفّف من الذرّة من محبتك فإنه ما أطاقها، وأنه ما عاد قرّ له قرار ولا قدر يجلس ولا يمشي ولا… فأوحى الله إليه: إن إثني عشر ألفًا من عُبّاد بني إسرائيل سألوني نفس مسألته، فلمّا كانت الليلة التي عَيّنت لك أخرجت ذرّةً من محبتي فوزّعته عليهم فهذا نصيبه، جزء من اثني عشر ألف جزء من ذرّة من محبتي، ما قدر عليها!

يا لله بذرّة من محبة الله *** نفنى بها عن كل ما سوى الله

ولا نرى من بعدها سوى الله *** الواحد المعبود ربّ الأرباب 

فما أُرجّي اليوم كشف كربة *** إلا انصَفالي مشرب المحبة

 ونلت من ربي رضاً وقربة *** يكون فيها قطع كل الأسباب 

على بساط العلم والعبادة *** والغيب عندي صار كالشهادة 

هذا لعَمري منتهى السعادة *** سبحان ربي من رجاه ما خاب

وأيضًا لما ذكر الحبيب علي يقول:

 إذا رُمت كتم الحبّ زادت صبابتي *** فسيّان عندي بثّه وخفاءه 

ويقول: أخفيت أكثرها…

فالأحوال مع الله شأنها أن تكون أسرارًا بين العبد وبين ربه، لا يُظهرها للناس، وإلا مالت نفسه إلى الناس فانقطع عن ربّ الناس. وقدر الكثير من صالح الأمة -عليهم الرضوان- يَخفون ويكتمون أكرم أحوالهم، أشد مما يخفي أهل المعصية معاصيهم وذنوبهم. 

فكم خفي في الناس من مسكينِ *** قد امتلأ من صفوة اليقينِ 

وهان بين الناس ذو طمرينِ *** وهو لدى الحق عظيمٌ عالي 

وكم بحُسن الظن من إمدادِ *** قد ناله من كان ذا اعتقادي 

في خاملٍ إمام حقٍّ هادي *** يرونه الناس من الجهّالِ 

يمرّ جنبه ما يسلم عليه، ما يدري ماذا في قلبه، وماذا عنده، ربما كان سبب نجاته في القيامة بشفاعته عند الله، وهو ما يراه شيء في الدنيا، لا إله إلا الله!..الله يرزقنا الآداب. 

وهكذا كتمان الأحوال، حتى تأتي أمر الغلبة، من غير اختيار والمغلوب معذورٌ عند الرب سبحانه وتعالى في شريعته جلّ جلاله.

الحبّ حبّي والحبيب حبيبي *** والسبقُ سبقي قبل كل مجيبِ 

إلى غير ما عبّر أهل الغلبة في شأن محبة الله. اللهمّ إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحبّ عمل يقربنا إلى حبك. 

"كتمان الحب، ودوام الإخلاص"، كيف دوام الإخلاص؟ تفقّد الفلتات التي تلتفت فيها إلى غير الرب، فالآفة في الالتفات، فقد تُخلص في عمل وبعد ذلك ينفتح عليك ثغرة بسيطة فتلتفت إلى غير الرب، فقال لك: "دوام الإخلاص"، داوم عليه، تفقّد حالك، حتى إذا انفتح باب من الالتفات للخلق سدّه، وتُب إلى الله منه، وعلّمنا النبي دعاء ينفي عنّا كبار الشرك وصغاره نقول: " اللهم أني أعوذ بك أن شرك بك شيء وأنا أعلم وأستغفرك  لما لا أعلم".

 ومن أخلص لله أربعين يوم، داوم عليه حتى وصل إلى أربعين يوم، ما ترك إرادة لغير الله في شيء من العبادات والطاعات؛ تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، أربعين يوم يُخلص فيها لله، إخلاصًا في عبادته كلها (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ)؛ أي: العبادة، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة:5]، هكذا "دوام الإخلاص"، والإخلاص سِرّ من أسرار الله، حقائقه ودقائقه تخفى حتى على الملائكة، كما أن بعض دقائق الشرك الخفي تخفى حتى على الكتبة، ويعلم بها الله، الله يخلصنا من أنواع الشرك الظاهر والخفي كله، و يرزقنا الإخلاص لوجهه الكريم. 

   قال الإمام الحداد: نظمنا بعض قصائد قبل أن نقرأ في النحو، ما رأينا فيها بعض كلمات تخالف قواعد العربية من حيث الإعراب، قالوا: ما غيرتها؟ ما بدلتها؟ قال: لا، لا.. ما مضى على الإخلاص لا يُغيّر! قد قلناها من أجل الله ما نبدّل، من أجل الخلق نبدّلها؟ أنا قلتها من أجل الخالق، الآن من أجل الخلق نبدّل؟ لا.. ما مضى على الإخلاص لا يُغيَّر. وبذلك لما نطق لسان حال المخلصين الذين لا يبالون بِمظاهر الخلق، قالوا:

 لحنُنـا معـربٌ، وأغرب مـن ذا أن إعـراب غيـرنا ملحـونُ! 

إعراب من لم يخلص مع الله ما ينفع ما يفيد، رجل فصيح بليغ ما عنده سريرة بينه وبين الله، ما عنده حقيقة علم، والخِطابة تنفع أحد؟! خِطابة ما قامت على أساس من العلم ونور الإخلاص تصير خباطة،  فهو خبيطٌ لا خطيب! لكن عند الناس يقول لك الناس: هذا يهزّك.. يهزّ الجمع كله.. في قلبه إخلاص؟ في حقائق علم عنده؟ .. "يأتي على الناس زمان كثير خطباؤه، قليل فقهاؤه، العلم فِيه خير من العمل"، يقول: "إنكم في زمان قليل خطباؤه كثير فقهاؤه"؛ الذين يفقهون الخطاب عن الله ويدركون سر الإشارة في النداء لله ومحمد كثير، أما المتكلمين الفصحاء قليل، وسيأتي على الناس زمان "كثير خطباؤه و قليل فقهاؤه، كثيرٌ سائلوه، قليلٌ معطوه"، ينعكس الحال! الله يرزقنا الاخلاص، ويُحقّقنا بحقائق الإخلاص، ويجعل لنا إن شاء الله من سِرّ رمضان، وبركة رمضان، وجوائز رمضان نور إخلاصٍ يقذفه في قلوبنا يزداد معنا أبدا، اللهم آمين. 

  يقول: "دوام الإخلاص، وترك النظر إلى الأشخاص"؛ يعني: لا يحجُبك البصر عن البصيرة، لا يحجُبك بصر الكائنات عن شهود المكوّن، لا يحجبك الوقوف مع الرسوم والأجسام عن الغوص عن الحقائق والأرواح. 

نعم عالم الأرواح خيرٌ من الجسم *** وأعلى ولا يخفى عن كل ذي علم

فما لك في أفنيت عمرك جاهدًا *** بخدمة هذا الجسم والهيكل الرسم

ظلمت وما إلّا لنفسك يا فتى *** ظلمت وظلم النفس من أقبح الظلم

تنبّه هداك الله من نوم غفلةٍ *** ولهو ولا تعمل على الشك والوهم

 دع كل صورة واشهَد الحقائق.. فما مهمّات الصور في الوجود إلا لتذكرك المصوّر، فإن لم تذكرك في المصور فهي حجاب وعذاب عليك، يقول: "ترك النظر إلى الأشخاص" إلى الجسوم إلى الرسوم إلى الصور إلى المظاهر، اجعل نظرك إلى القرب من الرب، إلى محبة الرب، إلى معرفة الرب، إلى مرافقة الحبيب الأطيب، انظر الى ذلك.. تعلّق بذلك، وجّه نظرك إلى ذلك، التفت إلى هذا، ولا تقف عند الأشخاص والصور.. دع كل صورة واشهَد الحقائق.

"ترك النظر إلى الأشخاص" أدبًا مع الذي لا ينظر إلا إلى القلوب، الله ما ينظر إلا للقلوب وأنت تروح إلى الأجسام والصور، "إن الله لا ينظر إلا أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، ونياتكم، فاجعل نظرك إلى القلب والنية، لا تنظر إلى الصور ولا إلى الأجسام؛ تأدّب بأدب الله، تخَلَق بِخُلُقِ اللَّهِ "إن الله لا ينظر إلا أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، وهكذا قال ﷺ في مسلكه البعيد عن النظر إلى مجرّد الصور. 

وقد كان بعض أصحابه المحبوبين عند الله وعند رسوله، دميم الخِلقة، غير جميل في الصورة، ومرّ عليه ﷺ وهو في السوق فلم يرى النبي، فجأة من خلفه فغمّض عينيه بيديه، فعَرفه ببرودة يديه وطيب رائحته أنه رسول الله ﷺ، وصار يقول: مَن هذا؟ ويتَمسح به ويقول: مَن هذا الذي يُمسكني؟ ثم فتّح النبي عينيه فقال: من يشتري مني هذا العبد؟ مباسطةً له، فقال: يا رسول الله إذًا تجدني كاسِد ، لا أحد سيرضى بي، شكلي ضعيف، ودميم الصورة، وهكذا ..، إذًا  تجدني كاسِد يا رسول الله،  قال: ولكنك عند الله غال، ولكنك عند الله غال.. رأيت النبوة والرسالة كيف في رفع همّة بني آدم عن الوقوف عند الصور؟ 

جاءت لنا الحضارات في الوقت الحاضر ما عرفت كيف تحل مشكلة الأبيض والأسود إلى اليوم، ولكن محمّد من أول يوم حلّها، من أول يوم أزاح هذه الترّهات والبطلات والوقوف عند هذا المعاني، يقول: لا فضل لعربي على اعجمي ولا لأبيض على الأسود، ولا لأصفر ولا لأحمر إلا بتقوى الله.. هؤلاء أقاموا حضارات كبيرة والمشكلة قائمة إلى اليوم عندهم، وإن كانوا ما يُظهرونها في وسائل إعلامهم، لكن هذا واقعهم، مشكلة كبيرة، ما عرفوا أن يحلونها، ما عندهم  إيمان، ما عندهم رابطة بالنور، فكيف يحلونها؟ 

 " ترك النظر إلى الأشخاص، وإيثار الحق"، 

  • "إيثار الحق"؛ أولاً الرحمن تعالى على كل ما سواه، 

  • "إيثار الحق"؛ منهج الحق، طريق الحق، ما هو عند الله حق، إيثاره عليه، ما يمكن إيثار باطل على الحق. 

والباطل كل ما خالف منهج الله، وكائناً ما كان. بل قال سيد الخلق حبيب الحقِ في حديثه الصحيح: "أصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها الشَّاعِرُ، كَلِمَة لبِيد: أَلا كل شَيءٍ ما خَلا اللَّهَ باطِل" فهمت؟ فما اتصلت به من أجل الحق، أو أكلته من أجل الحق، أو شربته من أجل الحق، أو عملت به من أجل الحق، فهذا مُضافلإ إلى الحق، وما خلا الله؛ ما خلا عن قصد وجه الله وعن إرادة الله، باطل باطل باطل؛ صورة، مظهر، جسم، مال، أرض، سماء، شجر، بحر كل شيء انقطع عن الحق أو قطعك عن الحق باطل باطل باطل، الحق هو الله، (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) [الحج:62] صدق الله، وصدق رسوله.

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** …………………………

فيا حقّ، يلعب أهل الباطل على عقول كثير من المسلمين، وقد آمنوا بك وبرسولك، فتَداركهم واكشف الغشاء عن عقولهم وقلوبهم، حتى لا يغلبهم ظلمة الباطل، واجعلنا وإياهم أجمعين من أهل الحقّ، وأرِنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، يا الله. 

"إيثار الحق، واليأس من جميع الخلق"، فذلك هو السؤدد والعز والرفعة، اليأس عزٌ والتقى سُددٌ.. وما دمت مولّع القلب بعطاء هذا، وتقدير هذا، وترتيب هذا، وتخطيط هذا، وترفيع هذا، وتخفيض هذا… وأنت نسيت أن الرافع الخافض واحد وهو الله، وأن المقدم المؤخر واحد، وأن الرازق واحد، والمعطي المانع واحد. قل: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [فاطر:3]، وإذا أراد يسيّر لك رزق على يد أعدى عدو لك، سخّره، وجاب لك الرزق على يده، لو أراد يرزقك على يد الذي يريد قتلك، ما بيجيب لك إلا رزقك، ما بيقدر قتلك، إلا أن يريد هو جلّ جلاله.

 وإن أراد يرزقك بسبب حيوان، أو بسبب جهاز، أوبسبب إنسان، أو بسبب بيت، أو بأي سبب، يرزقك بذلك السبب، وإذا ما أراد صلّح لك عشرة بيوت... وكل ساعة يطلع الحساب مخربط ، وهذا يطلع، وهذا ينزل، وهذا واحد اعتدى عليها، وهذا المهندس خربط وسقط جانب منه، وخسر أكثر،… البيوت ما ترزق، الأرض ما ترزق، السماء ما ترزق، الله يرزقك.. الله يرزقك جلّ جلاله، بأي شيء، بأي سبب، من هنا، أو من هنا، لكن لا تقف مع الأسباب، انظر إلى المسبب، إن وقفت مع الأسباب فهي فتنة.

رزقنا الله الطمأنينة، رزقنا الله اليقين، رزقنا الله حُسن الأدب معه، حيثما كنا وأينما كنا، اللهم إنّا في قبضتك حيثما كنا فلاحظْنا بعين عنايتك حيثما كنا، اللهم إنّا في قبضتك أينما كنا فلاحظْنا بعين عنايتك أينما كنا، اللهم إنّا في قبضتك حيثما كنا وأينما كنا فاجعلنا في رحمتك حيثما كنا وأينما كنا، واجعلنا في الأدب معك حيثما كنّا وأينما كنا، واجعلنا في شهود عظمتك حيثما كنا وأينما كنا، واجعلنا في الإخلاص لوجهك الكريم حيثما كنا وأينما كنا، بحقّك عليك لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خلقك طرفة عين يا الله، وارزقنا وإياهم الإخلاص، ودوام الإخلاص، وارزقنا وإياهم صدق المحبة وألحقنا بالأحبة، وارفع لنا فيها الرتبة، واكشف عنا وعن الأمة كل كربة، يا أرحم الراحمين يا أكرم الأكرمين، بساعة الإجابة في يوم الجمعة اكشِف الكربة عن أمة النبي محمد، ادفع البلاء عن أمة النبي محمد، واجعلنا في خيار أمة النبي محمد، واجعلنا في أنفع أمة النبي محمد لأمة النبي محمد، وانفعنا بأمة النبي محمد عامّة وبخَاصتهم خاصة بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

ما بقي معنا إلا يوم واحد من أيام الست بعد هذا اليوم، ونحن في أوّل فصل من فصول هذا الكتاب، الأدب في الدين، ظنّنا أننا بنكمّله أو نقرب نكمّله، فما بقينا إلا هنا لضعفنا وعجزنا وحاجتنا إلى ربنا، فنسأل الله أن يكمّل نقصنا، وأن يرحم عجزنا وضعفنا، وأن يمدّنا من عنده بمدد التوفيق، ويرزقنا الأدب معه ليلًا ونهارًا صباحًا ومساءً، يقظةّ ومنامًا، اللهم ارزقنا الأدب معك، حيثما كنّا وأينما كنا، ظاهرّا وباطنًا، والحمد لله رب العالمين.

 

تاريخ النشر الهجري

08 شوّال 1438

تاريخ النشر الميلادي

01 يوليو 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام