شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -44- آداب الطريق، وآداب المعاشرة

للاستماع إلى الدرس

الدرس الرابع والأربعون من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، ضمن الدروس الصباحية لأيام الست الأولى من شوال 1446هـ، آداب الجلوس على الطريق، وآداب المعاشرة. 

فجر  الثلاثاء 3 شوال 1446هـ.

 

يتضمن الدرس:

  •  غض البصر لتتنور البصيرة
  •  كيف تنصر المظلوم؟
  •  إغاثة الملهوف
  •  إرشاد الضال
  •  رد السلام وحكمه
  •  ثواب قول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
  •  السلام على النبي في الصلاة
  •  الكلمة الطيبة للسائل واعطاءه ولو قليل
  •  بيان أدب ترك التلفت
  •  أين ينظر المصلي في صلاته؟
  •  متى يكره الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
  •  لا يصغي إلى الساعي إلا ببينة
  •  قصة عن خطر النميمة
  •  حسن الظن وفائدته
  •  من آداب المعاشرة: السلام عند الدخول
  •  الجلوس حيث اتسع المجلس
  •  حكم تخطي الرقاب
  •  مجالسة الصالحين
  •  النظر بعين التعظيم لأهل الدنيا
  •  لا يبذل لهم دينه للمراعاة
  •  تنبيه عن معاداة الناس أو استفزازهم
  •  الركون إلى الناس
  •  الزهد فيما أيدي الناس
  •  نصح الناس إذا رأى أثر القبول
  •  موقف للإمام الشافعي عن كلام الناس

 

نص الدرس مكتوب:

 

آداب الجلوس على الطريق

"غضّ البصر، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإعانة الضعيف، وإرشاد الضالّ، وردّ السلام، وإعطاء السائل، وترك التلفّت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق واللطف، فإن أصرّ فبالرهبة والعنف، ولا يصغي إلى الساعي إلا ببينة، ولا يتجسس، ولا يظن بالناس إلا خيرًا."

 

الحمد لله مُكرمِنا بالمسلك القويم والصراط المستقيم، بهداية عبده الأمين على وحيه، ذي الخُلق العظيم، خاتم النبيين وسيد المرسلين، الشفيع الأعظم في يوم العذاب الأليم. اللهم أدِم صلواتك وأزكى التسليم على مصطفاك مِن الخلق عبدك الرؤوف الرحيم سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين سادات أهل محبة الله وقُربه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ،

فإننا فيما بلغنا مِن الآداب التي حملها إلينا مَن قال: "أدّبني ربي فأحسن تأديبي"، محمد ﷺ، نتذكر شؤونًا مرَّ علينا في يوم أمس، ذِكرُ "آداب الاستئذان"، ويقول المؤلف: "آداب الجلوس على الطريق"، وذلك فيما صحَّ من حديث نبينا ﷺ: "إياكم والجلوس على الطرقات"، فمن المستحسن لمن استغنى عن الجلوس في الطرقات ألّاَ يكون جلوسه على الطرقات، وأن يكون جلوسه ما بين مسجد، وما بين زاوية، وما بين مكان عمل، وما بين بيتٍ مِن بيوته فذلك أفضل؛ ولكن كل مَن يجلس على الطريق فله آداب ينبغي أن يقوم بحقّها، وأن يؤدّيها على وجهها.

قالوا: يا رسول الله، ما لنا من الجلوس مِن بُدٌّ! قال: "فإن أبيتم إلاَّ الجلوس، فأعطوا الطريق حقها". قالوا: وما حق الطريق؟ فسرد لهم ﷺ  آدابًا، منها ما يأتي في غضون وأثناء ما ذكره الشيخ، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.

قال: "آداب الجلوس على الطريق: غضّ البصر"، والمؤمن مدعوٌّ إلى غض بصره عما لا يعنيه، وعما لا يحتاج إليه، وعما لا يزيد به خيره، أو يزيد به إيمانه، أو يحتاج إليه في شيء مِن معاشه ومعاده، وماعدا ذلك فكلما غضّ البصر، فذلك أوفر لأن تتنوّر البصيرة وتنفتح، ويدرك الحقائق التي لا تُدرَك بالأبصار؛ ولكن بالقلوب، (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46]؛ يعني: ليس عمى البصر بمصيبة ولا مشكلة كبيرة؛ لكن المشكلة الكبيرة عمى القلب -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، فمن كان له قلبٌ لا يفقه به، فبصره مهما كان ولو كان حديدًا وقويًا فهو لا يُبصر به، لا يبصر به الحقيقة، وأُذنه لا يسمع بها؛ فعينه ما تفيده، وأذنه ما تفيده، قال: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف:26].

ولكن إذا تنور القلب، فصاحبه ينتفع مِن البصر وينتفع بالعين، وينتفع مِن الأذن بالسمع؛ لأنه يستقيم في بصره وفي سمعه على ما أحب الله تعالى منه 

  • (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر:17-18]

  • (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) [المائدة:83]. 

  • وقال سبحانه وتعالى فيمن يتولى: (وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) [الأعراف:100]، ما يسمعون الحق ولا ينقادون له، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فما تغني عنهم آذانهم شيئًا.

قال: "غضّ البصر"، وذلك فيما يتعلق بالمارّة، بمن يمرّ مِن صغير أو كبير، أو ذكر أو أنثى. 

  • لا يتتبع معايب أحد. 

  • ولا ينظر إلى النساء الأجنبيات. 

  • ولا إلى ما لا يعنيه. 

فيكون وهو على الطريق غاضًّا للبصر، إنما يبصر ما له حاجةٌ إليه، وما له فيه قُربة إلى ربه -جل جلاله- كمن جُعل في الطريق لمراقبة مَن يمرّ، أو لكفاية شيءٍ مِن الضُر أو الشر وما إلى ذلك، وما عدا ذلك، فمجرد القاعد على الطريق مِن غير أن يكون له مهمة في الطريق، فأدبُه غضّ البصر.

"ونصرة المظلوم"، لو وهو  جالس على الطرقات مرَّ أحد يظلَم أحد، يُضرَب بغير حق، يُؤذي بغير حق، يُسَبُّ بغير حق، وجب عليهم أن ينصروا المظلوم، واجب عليهم أن يقوموا مع المظلوم، فإن مَن ظُلِم عنده أحدٌ وهو قادر على أن ينصره فلم ينصره، أذله الله تعالى في موطن يريد أن يُنصَر فيه فلا يُنصَر فيه، -والعياذ الله تبارك وتعالى-، ومن ذبَّ عن عِرض أخيه المؤمن ونصر المظلوم، ذبَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة، ونصره في موطن يحب نصرته فيه.

"نصرة المظلوم" شيمة المؤمنين، فلا يرضون بأن يشاهدوا المظلوم فيسكتوا وعندهم قدرة على الكلام، ويسكنوا وعندهم قدرة على التحرك، بل ينصرون المظلوم بما استطاعوا، فإن السكوت عن المظلوم وعن نصره سببٌ لغضب الله -جلّ جلاله- وأن تنتشر بينهم شرور وآفات. 

وصار الآن كثير مِن الظلم يُنشَر ويُعرَض وعلى مستوى الأرض يُشاهَد مِن هنا ومِن هناك، فتوجَّب على الناس واجب آخر أنهم مهما قدروا أن ينصروا هذا المظلوم الذي شاهدوا ظلمه في شرق الأرض، أو غربها وجب عليهم أن ينصروه بهِمة، بنيةٍ، بدعاءٍ، بتبرّعٍ، بأي شيء، وبأي قدرة عندهم وإمكانية أن ينصروه.. وجب عليهم أن ينصروه، وكل مَن تأخر عن نصرته فعليه مخاطبة ومسؤولية أمام الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه.

هكذا، وفضلًا عن الغافل الجاهل من المؤمنين يسمع عن ظلم أحدٍ يقول: اتركه، أو يستاهل، أو خلُّه، ما يدري أنه بهذه الكلمة بدل أن يتأثر ويتكدر لكدر المؤمنين، ويحزن لحزنهم وينصرهم ما استطاع، أنه بهذه الكلمة يصير: 

  • مشاركًا للظالم 

  • ومطالبًا يوم القيامة 

أنه نصر الظالم - والعياذ بالله- وشارك! وهو بعيد؛ لكنه شارك بكلماته هذه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ولو أن رجلًا قُتِل ظلمًا بأقصى المشرق، فعلمه رجلٌ في أقصى المغرب فرضيَ به، كان شريكًا في قتله! ولو أن رجلًا قُتِل مظلومًا بأقصى المغرب، فعلمه رجلٌ في أقصى المشرق فرضي به، كان شريكًا في قتله -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. فلهذا يحذر المؤمن وينزّه جانبه وعِرضه وصحيفته عن أن يُوضع فيها إثم ظلم، ضربْ أو قتل أو عدوان، وهو ما باشر بنفسه ولكن رضي، رضي أو شارك بكلمة، و "من أعان على قتل مؤمن" بغير حق ولو "بشطر كلمة"؛ لا كلمة كاملة شطر كلمة -نصف كلمة- "لقيَ الله مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله"؛ الذي أعان على قتل مسلم بغير حق بنصف كلمة -شطر كلمة-! فكيف بما فوق ذلك؟! فالأمر خطير..

ولو أنَّ أهل السماء والأرض تمالأوا على سفك دمِ رجلٍ مسلمٍ بغير حق لأكبَّهم الله في النار. (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93]. 

إذًا؛ فمن الواجب نُصرة المظلوم، وإذا كان يحصل ظُلم في الطريق هذه وأنت لا تقدر على النهي عنه، فابعد من هذا الطريق ولا تجلس فيها، فإذا جلست فعليك: 

  • نُصرة المظلوم.

  • "وإغاثة الملهوف"؛ يأتي الظمآن العطشان، يأتي الجيعان، يأتي المُقِلَّ -شديد الفاقة- ملهوف؛ فينبغي أن تُغيث الملهوف.

  • "وإعانة الضعيف" للوصول إلى حاجته وغرضه ومقصده، أو كفِّ سوءٍ عنه.

  • "وإرشاد الضال"؛ في الطريق الحسيّة أو المعنوية؛ 

    • ضالٌّ يقول لك: أين دار ال فلان؟ أين المسجد الفلاني؟ ما يدري  أين.. أرشده؛ وليش تجلس في الطريق؟! 

    • أو ما يعرف الطريق إلى الله تعالى، والسير ضل فترشدُه. تقول له: لا، يجوز وهذا ما يجوز؛ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما نصَّ -عليه الصلاة والسلام- في آداب الطريق.

  • "وردّ السلام" لمن سلَّم؛

    • والحقُّ على الماشي أن يُسلّم على القاعد. 

    • والراكب أن يبدأ السلام على الماشي. 

    • وإذا كان كلهم مُشاة فالصغير على الكبير يبدأ بالسلام، ينبغي للصغير أن يبدأ. 

    • والقليل على الكثير يبدأون بالسلام على الكثير، وهكذا ينبغي أن يبدأوا.

 ولكن من بدأ منهم فذلك فضيلة ومَكرُمة. 

وفي صفةِ نبينا ﷺ كان يبدأ من لقِيَه بالسلام؛ من صغير وكبير وأبيض وأسود وأصفر وأحمر، كل من يُلاقيه من المسلمين هو الذي يبدأ بالسلام ﷺ، يسبقهم قبل أن يسلموا عليه هو يبدأ بالسلام ﷺ.

حتى أنه كان ليمُّر على الصبيان فيسلم عليهم، فتعجّب بعضهم، كان يمشي مع سيدنا أنس بن مالك، مرَّ على صبيان في الشارع يلعبون، قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وردوا السلام. قال: يا صاحب رسول الله، تعتني بالسلام على الصبيان؟ قال: كنت أمشي مع النبي ﷺ فإذا مر على الصبيان سلّم عليهم، نبيّنا يسلم على الصبيان ﷺ. 

وبهذا يكون الخطأ أن يمرَّ مسلم عنده مسلم ولا يُسلم عليه، وتحية المُسلم السلام. و "خيرُهما الذي يبدأ" صاحبه "بالسلام"؛ 

  • والابتداء بالسلام: سُّنة. 

  • والإجابة: واجبة.

 ولكن السُّنة هنا أفضل من الفرض في المستثنيات؛ وإلا فثواب الفرض يزيد على ثواب السُنّة بسبعين درجة، إلا بعض مسنونات يفوق ثوابها على المفروض في المستثنيات، مثل:

  • ردّ السلام؛ أفضل منه الابتداء بالسلام.

  • مثل من عليه دينٌ لك على مُعْسِرٍ؛ عندك واجبٌ إنظارُه وسُنة إبراؤُه، الإبراء أفضل من الإنظار، هو سُنة لكنه أفضل.

 وهكذا في مسائل معدودة معينة يكون يفوق فيها النفلُ الفرضَ، وإلا فثواب الفرض يزيد على ثواب النفل بسبعين درجة؛ فمنه ردّ السلام، وهو واجب.

  • فإذا سلّم عليهم مسَلِّم واجب عليهم أن يردوا السلام. 

    • فإن ردّ واحد منهم خصَّه الثواب وسقط الإثم والطلب عن الباقين. 

    • وإن ردَّوا جماعةً فهو أفضل؛ لكل واحد منهم ثواب.

    •  فإن سكتوا كلهم أثِموا كلهم. 

  • وإنْ سلَّم عليهم وقالوا: أهلًا وسهلًا، أثِموا كلهم.. هذا ما هو جواب سلام! أو إنْ سلَّم عليهم وقالوا: مرحبًا، إيش مرحبا! أين رد السلام؟ يأثمون. 

أو إذا سلَّم عليهم، قالوا: يا حيّا.. هذا جواب هذا؟! قل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ هذا جواب السلام لا  أهلًا وسهلًا أو مرحبًا، أو ياحيّا، أو صباح خير، أو مساء خير، ولا شيء من ذا الكلام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وهو الجواب كذلك؛ (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء:86]، يقول الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه.

وهكذا دخل عليهم بعض المشركين للنبي ﷺ وقال: أنعِموا صباحًا. قال: قد أبدلنا الله تحية خير من تحيتِك، هي السلام؛ نحن تحيتنا السلام، هذه تحية الجاهلية. 

قال: "وردُّ السلام"، 

  • فإذا قال: السلام عليكم، كتب الله له عشر حسنات. 

  • فإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله، كتب الله له عشرين حسنة. 

  • فإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كتب الله له ثلاثين حسنة.

في مجلسٍ كان ﷺ جالسًا، فدخل الرجل قال: السلام عليكم. فردّوا عليه السلام -رد النبي والصحابة- فقال ﷺ: عشر. ثم جاء الثاني قال: السلام عليكم ورحمة الله، فردوا عليه السلام، قال ﷺ: عشرون. وجاء الثالث قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردوا عليه السلام، وقال ﷺ: ثلاثون. قالوا: ما عشر وما عشرون؟ قال: قال الأول: السلام عليكم فكتب الله له عشر حسنات، والثاني قال السلام عليكم ورحمة الله فكتب الله له عشرين حسنة، والثالث قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فكتب الله له ثلاثين حسنة، كلُ حسنة خير من الدنيا وما فيها. تفنى الدنيا وما فيها وتبقى هذه الحسنة. وبكلمة واحدة تُحصِّل عشر وعشرين وثلاثين.. نعمة كبيرة! زيِّد الكلمة! لماذا تقصر على نفسك عشر حسنات؟ قل له: ورحمة الله وبركاته. 

وهكذا أُمرنا أن نسلم على نبيّنا في كل صلاة: "السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته" ﷺ. فالمقبول منّا يرد عليه النبي ﷺ، فنفوز بردّ النبيّ علينا ودعائه لنا بالرحمة والبركة، ونحوز ما لا نحوز بعباداتنا وطاعاتنا كلها. هو الذي يقول: "ما من مُسلمِّ يسلم عليّ إلا ردَّ الله علي روحي حتى أردّ عليه السلام". اللهم صل عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.

قال: "وإعطاء السائل ولو قليلًا بما تيسر"؛ فإن لم يجدوا، فبالكلمة الطيبة؛ يأخذون بخاطره، ويدعون له ويقولون له: لو معنا شيء لأعطيناك، وإن شاء الله ييسر الله لك، وإن شاء الله ييسر الله لنا في وقت آخر يكون عندنا فنعطيك، (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) [الضحى:10]. 

ما تقول: رُح! ولا ابْعِد! ولا ما لك شيء! ولا هكذا.. ولكن إن كان عندك شيء فتعطيه ولو يسير، وإلا فبكلمة طيبة. "والكلمة الطيبة صدقة". وكان إذا أقبل السائل على سيدنا جعفر الصادق، يقول: مرحبًا بمن جاء يحمل إليّ زادي إلى الآخرة بلا أجرة؛ مجانًا! لك الأجر، تقدم زادي لي إلى الآخرة تحمله مجانًا، تفضل ..  فكان يعطيهم ما يجد. 

وهكذا هناك النهي عن نهر السائل وعن رد السائل، وخصوصًا أول سائل يسألك في اليوم. وإن الله قد يرسل ملائكة في صورة سؤّال يختبر بهم المؤمنين ناس يجوا يسألوه، فإن بشَّ في وجهه وأعطاه ما تيسر أو كلمة طيبة، شكر الله له ذلك وضاعف له رزقه الظاهر والباطن. وإن عبس في وجهه أو نَهْره أو ردَّه، وقعت عليه، وضُيِّق عليه في حاله ورزقه بسبب هذا! وهو إنما ملك وهو يظنه إنسان عادي! الله لا إله إلا الله.

قال: "وترك التلفت"، وكان منهجه ﷺ حتى في أثناء مشيه لم يكن يلتفت ﷺ، فإذا ناداه أحد من ورائه وأراد أن يكلمه أو يقبل عليه، التفتَ جميعًا بجسده كلِّه، ما يلتفت بوجهه كذا ولا كذا ﷺ، وكان نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، "جُلُّ نظره الملاحظة"، خاضعًا ﷺ خاشعًا لربه.

"ترك التلفت"؛ والالتفات في الصلاة يُذهب ثوابها، وهي سرقة يسرقها الشيطان من صلاة ابن آدم، اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاته، بيفوّت عليه ثواب ركوع يخليه يلتفت، بيفوّت عليه ثواب قيام يخليه يلتفت، بيفوّت عليه ثواب جلوس يخليه يلتفت، يفوته هذا الثواب! ولهذا قالوا: هذا مسكينٌ سارقٌ يسرق نفسَه! وقالوا: سارق صلاته أخس السرق، ما تحصل شيء تسرقه إلا صلاة نفسك؟! تذهب تروح بها هكذا مجانًا بلاش! تفوت عليك ثوابها؟.. 

وبهذا... وجب أن يكون نظر المصلي إلى موضع سجوده في طول الصلاة، إلا عند قول "إلا الله" في التشهد، عند التشهد وقول: "إلا الله"، فيرفع إصبعَه السبابةَ اليمنى وينظر إليها إلى أن يقوم من التشهد الأول، وإلى أن يسلم من التشهد الثاني.

 قال: "ترك التلفت، والأمر بالمعروف"؛ والمعروف ما بين واجب ومندوب:

  • فالأمر بالواجب: واجب. 

  • والأمر بالسُنة: سُنة. 

يُسَنُّ الأمر بالسنة، ويجب الأمر بالواجب؛ بالفرض.

فإذا صادفَ وهو جالس على الطريق من يترك واجبًا؛ فيرشده إلى فعل الواجب، ويأمره بالمعروف. من سمعه وهو جالس في الطريق يقول: أنا ما أكلم والدي. يقول: فلان! واجب عليك بِرُّ أبيك، يحرم عليك أن تتركه، هكذا.. فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، لما يسمع واحد يسب يقول: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" يقول نبيك ﷺ. فلا تسُب. يقول: وإن هو سبني؟ إن سبك إثمه عليه، لا يجوز أنت تسبه ولا هو يسبك، وهكذا تنهى عن المنكر.

قال: "بالرفق واللطف"؛ لأن العنف يولد منكرًا أكبر. وبدل ما تصلح بين اثنين، تصير أنت الثالث، ويصير رابع، وقدهم خمسة سبعة متقاطعين بدل اثنين بسبب العنف حقك! ليس هكذا! ما هكذا تُغَيَّرُ المنكرات، تُغَيَّر بما يُحَوِّلُ صاحبها من منكر إلى معروف، هذا تغيير المنكر! لا أن يزيد منكر فوق المنكرَ! فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 

  • أصله بالرفق واللطف. 

  • وإنما على الولاة والحكام لمن تظاهر بالمنكرات أن ينهَوْن بالقوة، 

"فإن أصر فبالرهبة والعنف، وَلَا يُصْغِي إِلَى السَّاعِي إِلَّا بِبَيِّنَةٍ"؛ الساعي نمّام، ينقل له كلام مثل أن أحدًا يتكلم عليك، أن أحدًا يرتب لك ترتيب خبيث، أن أحدًا... لا يقبل من الناس، "وَلَا يُصْغِي إِلَى السَّاعِي إِلَّا بِبَيِّنَةٍ"؛ فإنه ما أكثر ما يتكلم الناس على الناس بالكذب ويثيرون بينهم نزاعات وخلافات! والواقع ما فيه شيء مما يتصوره هذا، ولا ما يتصوّره الثاني، ولكن الفتنة بينهم فقط.

قال ﷺ: "لا يدخل الجنة نمّام". وفي لفظٍ: "قَتَّات"، وهو النمّام؛ لا يدخل الجنة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- النمّامَ ولا القتاتَ.

ولهذا أراد بعضهم أن يشتري مملوكًا، قال له صاحبه: كيف هو؟ قال له: ممتاز، كل شيء، إلا فيه عيب واحد، ما هو؟ قال: النميمة. قال: سهل هذا! سهل؟… اشتراه لما اشتراه، جلس أيام عندهم، يقول لسيّده: أنا سمعت أهلَك يتكلمون مع أحد كذا، يتفقون معه، يقولوا أنه إذا تمكنوا بيقتلونك لأنها تريد واحد ثاني.. قال: ايش تقول؟ قال: بتشوف كلامي صدق تَناوَمْ لها وبتشوف إذا حضّرتِ شيء، سكين أو غيره بتعرف كلامي صدق! جاء إلى عند المرأة يقول: تسمعين هذا الرجال سيدي؛ سمعتُ قال إنه بيخطب، وبيتزوج واحدة ثانية! ولكن في طريقة تعمل إذا نام هاتي من شَعرِه -قُصِّي من شعره- هاتيه بنصلح لكِ عليه عمل، فيصير ما عاد يقدر يكلم غيرَكِ أبدًا، ولا ينظر إلى سواكِ.

قالت: طيب، فجاء هذا في الليل يصلِّح نفسه أنه نائم، قامت تأتي بالمقص، فلما هَوَت قام ودقّها وقتلها، جاءوا جماعتُها وقتلوه! ثارت حرب بين القبيلة، والقبيلة ذا، وهذا نتيجة النميمة التي قال أنها سهلةٌ! إيش سهلة؟!

لما قال له: في عيب واحد النميمة، قال سهل هاتُه؛ عدمه حياته وحياة أهله، وفتنهم وأفسدهم وقَوَّم حرب بسبب هذه النميمة! فما أخبث النميمة… "لا يدخل الجنة نمّام" -والعياذ بالله-. 

قالوا: ولا يتولَّع بالنميمة ويصر عليها إلا ابن زنا أو مَن فيه عِرق من الزنا؛ قال: (هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ) [القلم:11-13]، والعياذ بالله.

قال: "ولا يُصغي إلى الساعي إلا ببيّنة، ولا يتجسس" على عباد الله تبارك وتعالى، قال: (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ) [الحجرات:12]. 

"ولا يظن بالناس إلا خيرًا"، فصاحب الخير يظن بالناس الخير، وصاحب الشر يظن بالناس الشر.

إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُه *** وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ

هو يقيس الناس عليه، يظنهم مثله، له مقاصد خبيثة ينزلها عليهم، يقول: هذا إنما قصده كذا، لأنه هو يقصد مثل هذا! -والعياذ بالله تعالى- وقالوا: إنَّ حُسن الظن يفيد صاحبه، فصاحبه مُصيب وإن أخطأ؛ إيش معنى أخطأ؟ أحسن الظن فيمن ليس بحَسَن، ما يخسر شيء، ويمُدَّه الله تعالى ويعطيه ثواب. وأنَّ صاحب سوء الظن مخطئ وإن أصاب، لأنه أقل شيء يُحرَم بركة هذا المسلم وخيره، ولا يمدَّه الله بمدده، ويُؤاخَذ على سوء ظنه إذا جزم به أو تكلم عليه. فهذه آداب الطريق.

 

آداب المعاشرة

 

آداب المعاشرة 

"إذا دخل مجلِسًا أو جماعة سلّم، وجلس حيث اتّسع وترك التخطّي، وخصّ بالسلام من قَرُب منه إذا جلس، وإن بلي بمجالسة العامة ترك الخوض معهم، ولا يصغى إلى أراجيفهم، ويتغافل عما يجري من سوء الفاظهم، ويقل اللقاء لهم إلا عند الحاجة، ولا يستصغر أحدًا من الناس فيهلك، ولا يدري لعله خير منه وأطوع لله منه، ولا ينظر إليهم بعين التعظيم في دنياهم؛ لأن الدنيا صغيرة عند الله، صغير ما فيها، ولا يعظّم قدر الدنيا في نفسه، فيعظم أهلها لأجلها، فيسقط من عين الله؛ ولا يبذل لهم دينه، لينال من دنياهم، فيصغر في أعينهم، ولا يعاديهم فتظهر لهم العداوة، ولا يطيق ذلك ولا يصبر عليه، إلا أن تكون معاداة فى الله عز وجل، فيُعادي أفعالهم القبيحة، وينظر إليهم بعين الشفقة والرحمة، ولا يستكثر إليهم في مودتهم له، وإكرامهم إياه، وحُسن بشاشتهم في وجهه، وثنائهم عليه، فإنه من طلب حقيقة ذلك لم يجده إلا في الأقل، وإن سكن إليهم وَكَلَه الحقّ إليهم فهَلَك، ولا يطمع أن يكونوا له في الغيب كما له في العلانية، فإنه لا يجد ذلك أبدًا، ولا يطمع فيما في أيديهم فيذِلّ لهم، ويذهب دينه معهم، ولا يتكبّر عليهم، وإذا سأل أحدهم حاجة فقضاها فهو أخ مستفاد، وإن لم يقضها فلا يذمـه فيكتسب عداوته، ولا يعظ أحداً منهم إلا أن يرى فيه أثر القبول، وإلا عاداه ولم يسمع منه.

وإذا رأى منهم خيرًا أو كرامةً أو ثناءً فليرجع بذلك إلى الله عز وجل ويحمده ويسأله أنه لا يكِله إليهم. وإذا رأى منهم شرًا أو كلاماً قبيحاً أو غيبة أو شيئًا يكرهه، فيكل الأمر إلى الله تعالى،  ويستعيذ به من شرهم، ويستعينه عليهم، ولا يعاتبهم، فإنه لا يجد عندهم للعتاب موضعاً، ويصيرون له أعداء ، ولا يشفى غيظه ، بل يتوب إلى الله تعالى من الذنب الذي به سلّطهم عليه، ويستغفر الله منه، وليكن سميعًا لحقّهم أصم عن باطلهم."

 

ثم في تَجالُسِ الناس وتَعاشُرِهم مع بعضهم البعض، يقول: "آداب المعاشرة: إذا دخل مجلِسًا أو جماعةً سلّم". فإذا كانوا مشغولين بذِكر ودرس ونحوه، فلا يُسلّم إلا بصوت منخفضٍ على من بجانبه فقط، ويصغي إلى الدرس، يصغي إلى القراءة، يصغي إلى الذكر؛ وإلا فكل داخل عليه أن يُسلّم على من دخل عليهم؛ وجلس حيث انتهى به المجلس مما يليق بمثله، "وتركَ التخطي".

"وجلس حيث اتّسع"؛ حيث اتسع المجلس، فهو يجلس في ذلك المكان مهما كان لائقًا به، ويترك التخطي؛ 

  • والتخطي إما يتخطى أرْجُلَهم وهذا مكروه. 

  • وإما يتخطى رِقابَهم وهذا حرام، هذا حرام إلا لعذرٍ أو ضرورةٍ وإلا حرام إذا ما هناك ضرورة وعذر، كيف؟ يتخطى الأرجل، ويرفع رجله فوق أكتافهم وهم جالسين فتخطّي الرقاب: يرفع رجوله فوق أكتافِهم، وهذا حرام تخطي الرقاب.

 ولمَّا رأى رسول الله ﷺ وهو يخطب مَن دخل المسجد وهو يتخطى، قال: "اجلس فقد آنيتَ وآذيتَ"؛ آنيتَ أي: تأخرتَ، وآذيتَ الناس الجالسين، جاءوا قبلك في المسجد، وأنت جئتَ مِن بعدهم وتؤذيهم بالتخطي! اجلس.. قال: "اجلس فقد آنيتَ وآذيتَ"؛ آنيتَ: تأخرتَ جئتَ متأخر، وعادك تؤذي الذي جاءوا متقدمين! اجلس محلّك لا تتخطى رقابهم. وإنَّ من التواضع الرضا بالدون من المجلس.

قال: "وترك التخطّي، وخصّ بالسلام من قَرُب منه إذا جلس، وإن بلي بمجالسة العامة"؛ فأدب المجالسة معهم: "ترك الخوض معهم" فيما لا يعنيه، "ولا يصغى إلى أراجيفهم، ويتغافل عما يجري من سوء الفاظهم، ويقل اللقاء لهم إلا عند الحاجة، ولا يستصغر أحدًا من الناس فيهلك"؛ حتى الذين تَجَنَّب مجالستهم لا يستصغرهم، فإنه لا يدري بخواتيمهم ولا يدري بمآلهم عند ربهم جل جلاله، لا يستصغر أحد ولكن يحافظ على نفسه ويترك مجالسة ما لا تنفعه مجالسته.

يقول: فلا تجالس إلا من تزينك في القيامة مجالسته؛ إذا كان في القيامة مصاحبته بتزينك، اجلس معه، لا تصحب إلا من يدلّك على الله كلامه، ولا تصحب إلا من ينهضك حاله؛ حاله ينهض العزيمة فيك للتقوى والخير وللرقي، ويدلك على الله مقاله، إلا من ينهضك حاله ويدلك على الله مقاله. هذا الجليس الصالح الذي هو كبائع المسك، "إمّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً"؛ يعبّقك كلك بالرائحة الطيبة. وقال القائل في مجالسة أهل الخير من أهل العلم والفضل:

هم العلماء العارفون الذين في *** مجالسهم للمرءِ أعظم إسعادِ 

قال: "ولا يدري لعله خير منه"، فالخواتيم عند الله، "وأطوع لله منه، ولا ينظر إليهم بعين التعظيم  دنياهم" فالدنيا أحقر من أن تُعظَّم؛ "لأن الدنيا صغيرة عند الله، صغير ما فيها، ولا يعظّم قدر الدنيا في نفسه، فيعظم أهلها لأجلها، فيسقط من عين الله -تبارك وتعالى-"، فإن الله منذ خلقها لم ينظر إليها، وهي: 

  • كل ما لا يُعين على طاعته 

  • ولا يُتَّخَذ زادًا للآخرة 

فهو من الدنيا الفانية المذمومة.

قال: "ولا يبذل لهم دينه"، بالمداهنة فذلك حرام، ولكن بالمراعاة نعم؛ يُراعي من دون أن يبذل شيء من الدين. أما المداهنة: أن يبذل لهم دينه؛ "لينال من دنياهم، فيصغر في أعينهم، ولا يعاديهم" كذلك "فتظهر لهم العداوة، ولا يطيق ذلك"؛ فتظهر منهم لك العداوة أيضًا، لأن الناس في طبائعِهم هكذا، فإذا استفزَّيتهم بأي تصرف ثارت نفوسهم، وفتحتَ على نفسك بابَ جبهاتٍ ومشاكل أنت في غنى عنها؛ اضبط كلامك واضبط معاملتك، وسَلِمْتَ من الآفات هذه كلها؛ تصبح وتمسي وأنت مطمئن ساكن القلب مرتاح، وإلا في اليوم عشرين مُنَغِّصٍ  يُنَغِّص لك من عدو قاعد تفكِّر فيهم حتى وأنت تصلي! قال لي وبقول له… ليش لك بهذا الحالة وانت غني عنها؟! تحضر مع ربك تعالى، ولا تتحامل على أحد، ولا تثير أحد، ولا تستفز أحد بمعاملة ولا بمخاطبة ولا بكلام.

قال: "إلا أن تكون معاداة الله عزّ وجل"، نعم، من أجل الله قال ﷺ: "نُحبُّ بحبِّكَ النّاسَ، ونُعادي بعَداوَتِك مَن خالفَك". قال: "فيُعادي أفعالهم القبيحة"، ومعاداته لأفعالهم القبيحة: 

  • لا يحجُزُه عن نصحهم. 

  • ولا عن نية الخير لهم. 

  • ولا عن حسن الظن بهم.

قال: "وينظر إليهم بعين الشفقة والرحمة"؛ يعاديهم في الله وينظر إليهم بعين الشفقة والرحمة، قالﷺ:  "اللهم اهدِ قوْمِي فإِنَّهم لا يعلمونَ".

"ولا يستكثر إليهم في مودّتهم له"؛ لا يركن إليهم ويستأمن ويطمئن، مهما أظهر لك الناس المودة فلا تثق بذلك ولا تركن إليه، مهما مدحوك وأكرموك وبشُّوا في وجهك وأثنوا عليك، "فإنه من طلب حقيقة ذلك لم يجده إلا في الأقل"، وأكثر الناس باطنهم غير ظاهرهم، وهم أمامك بوجه وورائك بوجه آخر. ولا يسكن إليهم في مودتهم له، "وإكرامهم إياه، وحُسن بشاشتهم في وجهه، وثنائهم عليه، فإنه من طلب حقيقة ذلك لم يجده إلا في الأقل"، كان في اليمن نفسها بعض الرؤساء وبعد ذلك خرَّجوه وراح، وبعد مدة جاء بعده رئيس ثاني ورئيس ثالث، وبعد مدة جاء به، قال له: ارجع تعال، وجاء يزوره، فدخل هو وإياه في مكان، وإذا بهم قيام يصفقون! فكان يقول له: لا تصدقهم قد كانوا يفعلون لي هكذا.. أنا أيام كنت عندهم يُصلحون لي هكذا وبعدين طردوني! وهذا حال الناس غيرُ المتحابين في الله و المتآخين في الله، إلا لمظاهرَ ومصالحَ وأهواءَ ومطامعَ فقط! والمحبة أين هي؟ والمودة الصادقة أين هي؟ إلا عند المتحابين في الله -جل جلاله-، عند أصحاب محمد لمحمّد ﷺ، وعند المتحابين في الله هؤلاء محبة الصدق.

قال: "وإن سكن إليهم" بباطنه "وَكَلَه الحقّ إليهم فهَلَك" -والعياذ بالله-، ولايعتمد إلا على الله- "ولا يطمع أن يكونوا له في الغيب كما له في العلانية، فإنه لايجد ذلك أبدًا، ولا يطمع فيما في أيديهم فيذِلّ لهم". قال الصحابيٌّ لسيدنا رسول الله: دلّني على عمل إذا عملته أحبّني الله وأحبّني الناس؛ قال: "ازهدْ في الدنيا يحبكَ الله، وازهدْ فيما في أيدِي الناسِ يحبكَ الناسُ". 

  • الناس إذا رأوك تتشوَّفُ إلى ما في أيديهم، وتريد منهم شيء يعادونك ويغضبون عليك ويكرهونك. 

  • وإذا زهدت فيما في أيديهم ولا تريد منهم شيء أحبُّوك. 

وإذا تبغى محبة الله ازهد في الدنيا الفانية وكل ما يقطعك عن الله، ابْعدْ منه، "ازهدْ في الدنيا يحبكَ اللهُ وازهدْ فيما في أيدِي الناسِ يحبكَ الناسُ".

قال: "ويذهب دينه معهم، ولا يتكبّر عليهم، وإذا سأل أحدهم حاجة فقضاها فهو أخٌ مستفاد، وإن لم يقضها فلا يذمّه فيكتسب عداوته، ولا يعظ أحدًا منهم إلا أن يرى فيه أثر القبول "للموعظة، وإلا عاداه، ولا يسمع منه، ويُصلِّح له مشكلة ثانية، منكر فوق المنكر الذي قبل وقطيعة؛ فيترقب الوقت المناسب والأسلوب المناسب والطريقة المناسبة ليوصل النصيحة، وإذا وجد مخايل القبول، وإلا يتركهم؛ (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199].

"وإذا رأى منهم خيرًا أو كرامةً أو ثناءً فليرجع بذلك إلى الله عز وجل" فهو الذي سخّرهم "ويحمده ويسأله أنه لا يكِله إليهم" ويكافئهم بما يقدر على المعروف والخير. 

"وإذا رأى منهم شرًا أو كلاماً قبيحاً أو غيبة أو شيئًا يكرهه، فيكل الأمر إلى الله تعالى،  ويستعيذ به من شرّهم، ويستعينه عليهم، ولا يعاتبهم، فإنه لا يجد عندهم للعتاب موضعًا، ويصيرون له أعداء، ولا يشفي غيظه ، بل يتوب إلى الله تعالى من الذنب الذي به سلّطهم عليه، ويستغفر الله منه، وليكن سميعًا لحقّهم أصمّ عن باطلهم."

  • يسمع منهم الحق ويقبله. 

  • ويكون في صمم عن الباطل وكأن لم يقولوا شيء ولا يلتفت إلى شيء. 

وهكذا، ومهما كان يعفو في حقه لأجل الله تعالى، ويُحسِن إليهم، ويسيئون إليه، يكون  له من الله عون ونصير عليهم، ويجعل العاقبةَ له؛ فليسامح من أجل الله، وليعفُ من أجل الله، وليكافئ أهل المعروف والخير بما يقدر عليه. 

  • "من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له حتى تَرَوا أنكم كافأتموه".

  •  "من قال لمن أسدى إليه معروفًا: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء". 

فينبغي أن تكون هذه الألفاظ الطيبة بينهم، وتَعْلَم أن المعطي هو الله والمانع هو الله، وما يسلط عليك مؤذٍ ولا ضارٍّ إلا بسبب منك، بذنب منك فارجع إليه، قل: هو الذي سلَّطه.. لا إله إلا الله! وكن على أدب مع الله تبارك وتعالى. 

ولذا قالوا للإمام الشافعي -عليه رحمة الله- الناس يتكلمون عليك ويقولون كذا… قال:

قد قيل إنَّ الله ذو ولد *** وأن خير الخلق قد كَهَنَ

ما سَلِمَ الله من بريَّتِه *** ولا رسوله ذا فكيف أنا

قال: الله ما سلم من خلقه! خلقهم ورزقهم وينسبون إليه شريك وولد! وجاءهم أطهر الخلق وأنقاهم وأصفاهم، وقالوا: كاهن! وقالوا: ساحر، وقالوا: مجنون، وقالوا... وأنت بغيتْ محمد إدريس الشافعي ما حد يتكلم عليه؟ إنت بعقلك أو بلا عقل؟! ولذا لما قال بعض الأنبياء: يا رب كُفَّ ألسن خلقك عني -لا تخلِّي أحد يتكلم علي- فأوحى الله: إني لم أجعل ذلك لنفسي، أفأجعلُه لك؟! أنا نفسي ما جعلته.. خلقتهم ورزقتهم وهم ينسبون الرزق لغيري، وينسبون إليَّ الولد والشريك!! قال: حتى أنا ما جعلت ذلك... العباد يتكلمون علي، فكيف أنت؟! فلابد منه. لكن إذا كان يتكلمون عليك أهل النقص أو الفسوقِ والفجورِ، فهذا شرف لك وكرامة، المصيبة إذا كان الذي يشمذز منك ويتكلم عليك أصفياء وأتقياء، فهذا الدليل على أنك بعيد من الله تبارك وتعالى، لأن هؤلاء أمائن الحقِّ سبحانه وتعالى، شهداءُ الله في خلقه؛ وأما غيرهم فلا عبرة بكلامهم. يقول سيدنا الإمام الحداد:

دَع النَّاسَ يَا قَلْبِي يَقُولُونَ مَا بَدَا *** لَهُمْ وَاتَّثِقْ بِاللَّهِ رَبِّ الخَلَائِقِ 

وَلَا تَرْتَجِي فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ غَيْرُهُ *** تَبَارَكَ مِنْ رَبِّ قَدِيرِ وَخَالِقِ 

فَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ مِنَ الأَمْرِ هَا هُنَا ***ولا ثَمْ شيءَ فَاعْتَمِدْ قَوْلَ صَادِقِ 

جاءوا لبعض العلماء والأخيار يقولون له: هناك من الناس من يقولون إنك ساحر! قال: سأسجد، فسجدَ شكر لله؛ قالوا: ما لك؟ قال: شكر لله جعلوني مثل الأنبياء! كلما جاء نبيٌّ قالوا ساحر، وأنا قالوا لي كما قيل للأنبياء! فأنا أشكر الله على هذه النعمة! فسجد شكرًا لله -جلَّ جلاله-.

فَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ مِنَ الأَمْرِ هَا هُنَا ***ولا ثَمّ شيءَ فَاعْتَمِدْ قَوْلَ صَادِقِ 

هُوَ الرَّبُّ لَا رَبُّ سَوَاهُ وَكُلُّهُمْ *** عَبِيدٌ وَتَحْتَ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ فَارِقِ

نَعْمُ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يُحِبُّ وَيَرْتَضِي *** لِطَاعَتِهِ وَالْبَعْضُ عَاصِ وَمَارِقِ

بِتَوْفِيقِهِ صَارَ المُطِيعُ يُطِيعُهُ *** وَخَالَفَ بِالْخِذْلَانِ كُلُّ مُفَارِقِ

فَسَلْ رَبُّك التوفيق…. 

اللهم يا من وفَّق أهل الخير للخير وأعانهم عليه، وفقنا للخير وأعنّا عليه. واجعل من قِرى شهر رمضان وبركته علينا توفيقًا منك يدوم لنا طُولَ أعمارنا، فتوفّقنا لما هو أحبّ إليك وأرضى لك، وأنفع لخلقك، وأحب لرسولك وأرضى لرسولك، في جميع ما نقوله ونفعله ونأتيه وندَعُه، يا الله..

فَسَلْ رَبُّكَ التَّوْفِيقَ وَالْعَفْوَ وَالرَّضَا *** وَكَوْنَاً مَعَ أَهْلِ الْهُدَى وَالطَّرَائِق

من هم هؤلاء؟ قال:

رِجَالٌ إِلَى الرَّحْمَنِ سَارُوا ……….

إلى أين؟ قال:

….. إِلَى الرَّحْمَنِ سَارُوا بِهِمَةٍ عَلَى ***  الصِّدِّقِ وَالْإِخْلَاصِ مِنْ غَيْرِ عَائِقِ

فَنَالُوا الَّذِي كُلُّ الْمَطَالِبِ دُونَهُ *** فَـلِلَّهِ مِنْ عِيشٍ كَرِيمٍ وَرَائِقِ

دُنُوٌّ وَتَقْرِيبٌ وَأُنسٌ بِحَضْرَةٍ *** مُقَدَّسَةٍ فِي مَنْتَهَى كُلِّ سَابِقِ

فَآهٍ عَلَى عِيشِ الأَحِبَّةِ كَمْ أَسَىً *** عَلَيْهِ وَكَمْ دَمْعٍ عَلَى الْخَدِّ دَافِقِ

والحمد لله على كل حال. اللهم أمدَّنا بالتوفيق، وثبِّتْنا على أقوم الطريق، واسقِنا من أحلى رحيق، واجمعْنا في أعلى رفيق، وأنت راضٍ عنا يا وليّ التوفيق، في خيرٍ ولطفٍ وعافية، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

تاريخ النشر الهجري

03 شوّال 1446

تاريخ النشر الميلادي

01 أبريل 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام