شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -4- أدب المؤمن بين يديّ الله تعالى (3)
الدرس الرابع من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، متابعة الحديث عن أدب المؤمن بين يدي الله تعالى، الجزء الثالث.
فجر الخميس 5 شوال 1438 هـ.
متابعة أدب المؤمِن بين يَدي الله تعالى
"وسكون القلب، وتعظيم الرب، وقلة الغضب"
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله رب العالمين مالكنا ومالك كل شيء، من بيده ملكوت كل شيء، خالق كل شيء، إليه مرجع كل شيء، الواحد القيوم الحيّ. نشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً يَسلَمُ بها الشاهد بها من كل زَيغ وغيّ وليّ، ونشهد أن سيّدنا ونبيّنا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفوته من بني قصيّ الذي أحياه الحيّ بأعلى حياة وفرّع من حياته حياة كل حيّ. فأدِم اللهم صلواتك على عبدك الطاهر المطهّر سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان في المنهج الأقوم الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المخصوصين بالعطاء الأعظم الأسعد، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ،
فإننا في نعمة استثمار نعمة رمضان في الاتصال بأخبار واجبات العبد أمام الربّ وما يتّقي به الإله من حُسن الأدب، والتقوى ثمرة الصوم ونتيجته، بل وثمرات أنواع الطاعات والعبادات زيادة الإيمان وزيادة المعرفة بالرب، وزيادة الأدب مع الإله الحق جلّ جلاله.
في هذه النعمة نتذكر أدب العبد بين يديّ ربه، ربنا الذي هو أولى مَن نراقبه ونعظّمه ونفكّر فيه ونهتم بأمره وننتبه من حالنا معه، ونعتمد عليه ونستند إليه ونهابه ونُجِلّه ونرجوه، ونستغفره ونلوذ به، ونقيم حاجتنا ببابه، إلى أواخر صفات العبودية في مقابلة الربوبية لهذا الإله الحق. اللهمّ حقِّقنا بالعبودية وتولّنا بسِرّ ربوبيتك وأولوهيتك ولايةً تنقّينا بها عن كل ما لا يرضيك عنّا في كل حِسٍّ ومعنى يا رب العالمين.
ذُكّرنا بالآداب مع الحق جل جلاله -آداب كل فرد منّا مع إلهه سبحانه- حتى انتهينا إلى أدب سكون القلب، فكان آخر ما ذكرنا في درس الأمس: "سكون القلب"، والقلب إذا استشعر عظمة الرب لابد أن يسكن إليه، وأن يطمئن بذكره، فإنّ الله خلق هذا الإنسان على طبيعةٍ إذا أدرك واستشعر وأحسّ بقوة وعظمة وقدرة يقف أمامها ويتصّل بها أن يسكن، حتى كلّما تخيّل في شيءٍ من الأماكن، من الدوائر، من الأشخاص، من الهيئات، قوة وقدرة وضبط يبدأ السكينة عنده لما يذكرها، لما يقرب منها، لمّا يدخل إلى محلها يسكن تمامًا.. هذا بتوهّم القوة والقدرة عند هذه الأشياء، لكن حقائق القدرة، حقائق القوة مع واحد هو الله! ولذا عند انكشاف الحجب يقول الله: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) في الساعة التي يرون فيها العذاب ينكشف عنهم الحجاب عن عظمة هذا الرب لكن في خزي وبُعد وضرب (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) إيش يرون؟ (..أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) ذي الخيالات الطويلة التي عاشها في الدنيا أن القوة مع فلان ومع الفلان ومع الترتيب الفلاني ومع النظام الفلاني أين هي؟ كانت كسراب بقيعة.. (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) جميعها، حتى هؤلاء الذين استخدموا قوة عضلية وجسدية أو مادية أو قوة سلاح أو قوة نفوذ أو قوة تجمّع إلى غير ذلك، بإرادته وتدبيره وتقديره أمدّهم بذلك المظهر وتلك الصورة، بل وعرّضهم في تلك المظاهر والصور إلى أن تختل من وقت لآخر. أين القوة؟ القوة لواحد هو الله (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة:165].
هناك تنكشف الحقائق لكل الخلائق، ولكن ماذا يفيد انكشافها في وقت (لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًاۗ) [الأنعام:158]. فالكافرون أيام الدنيا، أيام التكليف، أيام الاختبار، أما في الآخرة ما أحد كافر هم كلهم آمنوا، لكن إيمان ما ينفع، كما ذكر الله في فرعون: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ) آمنتُ.. آمنت وصدّقت خلاص.. الزهلقة حقي والبهرجة كذب، (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) أصحاب موسى هؤلاء وجماعته الذين قد ذبّحتهم وآذيتهم هو ربهم هو هذا ربي ورب كل شيء، وأنا كنت بغروري وبخيالي أذبحهم وأقتلهم وأقول لهم أنا فوقهم وإنا فوقهم قاهرون، الآن لا شيء من هذا، آمنتُ.. (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ)، لا أنا ولا غيري، (إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) هم هؤلاء الذين كنت أضطهدهم ربهم هو هذا الرب، (إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، قال الله: (آلْآنَ)؟! بعدين كل واحد يؤمن، هل يبقى ملحد في البرزخ أو في الآخرة؟ أو يبقى شيوعي أو نصراني أو يهودي؟ كلهم يؤمنون، ويؤمنون بمحمّد وما جاء به، لكن ما ينفعهم.. وبقي انسحاب الاسم عليهم من خيانتهم للعهود بعد وصول الدعوة إليهم أيام الدنيا لصق الاسم عليهم فما ينفعهم إيمانهم، هم آمنوا وتحوّلوا ما عاد هم كفّار، يعلمون الله واحد وأحد، وأنه أرسل الأنبياء وختمهم بمحمد، وأن محمد أفضلهم... كلهم يؤمنون بذلك؛ عربي عجمي، صغير كبير، جميع الأمم بجميع الطوائف بجميع الأديان كلهم آمنوا، لكن لمّا كانوا في المدة التي أُعطوها فرصةً لهم، ورحمة من ربهم أن يؤمنوا فأبوا، انسحب اسم الكفر عليهم وظلّ اسمهم الكافرون، باعتبار تلك المدة إلى الأبد خلاص -نعوذ بالله من غضب الله-.
وإلا عند انكشاف الحجاب من هذا الذي ما يؤمن؟! كل الناس يؤمنون.. كل الخلق يؤمنون.. وهكذا حتى خطبة إبليس (وَقَالَ ٱلشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلْأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ..) هذا الوعد (وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) حقنا المواعيد والترتيبات كلها من أيام آدم إلى آخركم روّحت ما معي شيء! (وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى ۖ فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُم)، وإذا قد وقعنا في هذا المهوى (مَّآ أَنَا۠ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ) اليوم ما ينفع كلام خلاص روّحت الفرصة.. انتهت.. (مَّآ أَنَا۠ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ ۖ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ ) ما أحد اليوم إلا مؤمن بالله (إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ) قال الله: (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ) [ابراهيم:22-23] اللهم اجعلنا منهم.
"سكون القلب"، لهذا وجب على المؤمن أن يترقب حقائق إيمانه في أدبه مع الله عند موجبات الانزعاج؛ أن لا ينزعج؛ فكثرة الإنزعاج من الحوادث والأشياء دليل قلة أدب وضعف إيمان بالرب جل جلاله وتعالى في علاه. لذا يقول أمير المدينة -الذي كان يؤذي سيدنا الحسن ومدحه بعد موته- يقول له سيدنا الحسين: اليوم تقول عنه وقد كنت تفعل ما تفعل… قال: نعم يا حسين كنا نفعل كل ذلك مع مثل هذا الجبل، أترى هذا الجبل يتحرك لشيء؟ قال: لا، قال كان أخوك الحسن مثل هذا! ما يهتز ما ينزعج.. ساكن القلب. لذا سيدنا خبيب، صلى ركعتين خفّفهما، ثم أخبر عن سكون قلبه قال: لولا أن تظنوا أن بي جزعًا من الموت لطوّلتهما، حتى لا يتبادر إلى خيالكم أن قلوب أصحاب محمد ينزل عندها الانزعاج من الموت ومن غيره. نحن ساكنو القلوب.
قال الحق: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) في تخطيط ترتيب عليكم كبير مقبل (فَاخْشَوْهُمْ) افزعوا.. (..فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) سكون زاد (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[ آل عمران: 173-174].
"سكون القلب" ابحث لك عن حقيقة هذا الأدب، إذا كنت تفتقده في كثير من الأوقات فقصّر هذه الأوقات حتى يزداد وقت السكون، السكون إلى وعد الله، السكون إلى وعيد الله، السكون إلى ضمان الله، السكون إلى عظمة الله، السكون إلى رحمة الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [ الرعد:28].
"سكون القلب، وتعظيم الرب" تعظيمًا لائقًا بألوهيته، بربوبيته، بكماله المطلق جلّ جلاله. "تعظيم الرب" حتى تصدق في توحيده، تصدق في تكبيره، تصدق في تسبيحه، تصدق في حمده. وأحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. بقوة تعظيم قلبك لهذا الإله تصدق فيه، إن قلت: سبحان الله صدقت؛ لأنك منزه تنزيه كامل لهذا الإله جل جلاله عن أن يغفل وعن أن يجهل، وعن أن يغيب عنك وعن أن يفلت شيء من الكائنات عن قبضته وعن قدرته، عن كل نقص تنزّه هذا الإله.
لكن على قدر تعظيمه تصدق في قولك سبحان الله، على قدر تعظيمك له في قلبك تصدق في قولك الحمد لله، وإلا فالصدق مراتب، تقول الحمد لله، وتستشعر عظيم نعمته عليك وعلى الوجود، وأن كل ما في الوجود من إنعام وإفضالٍ منه وحده لا شريك له، وأنه لا يخلو جميع المبتلين والمعذّبين والمكروبين عن أنواعٍ ودقائق من الإنعام والألطاف منه تبارك وتعالى، فالفضل له في كل حال. على قدر هذا التعظيم تصدق في قولك: الحمد لله. أما واحد يقول الحمد لله، وفي ذهنه وفي باله أن أشياء ناقصة عليّ وأنا مفروض أكون فوق هذا، وأُعطى أكثر من هذا... أنت أصلك عدم، ولو عوملت بكسبك لكان حقّك أن ينزل بك العذاب وتهلك! فلماذا تجيب كلام الفارغ؟ أنت في نعمة، أنت قل الحمد لله من صدق قلبك؛ الحمد لله.. أنت أصلك عدم لست بشيء، ولو أُخذت بكسبك لتزلزلت الأرض من تحتك أو نزلت عليك صاعقة! فأنت مُعطى ما لا تستحق ومُعامَل بما لست له أهل، فكيف ما تقول الحمد لله من قلبك؟ الحمد لله.. لو أوخذنا بكسبنا سأكون أنا جالس في هذا المكان؟! ويكون المستمع منكم مستمع في ذا المكان؟! يُصوَّر في عرش الرحمن جالس في مجلس الذكر والعلم، مذكور في الملأ الأعلى، كان شيء من هذا يحصل؟!
الله يعاملنا بفضله.. (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ) [فاطر:45] فالله يوفقه الخير ويحضره، من منا يقول أنه قاصر عليه الفضل والمِنّة والنعمة من الله تبارك وتعالى؟ بل اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر على ذلك. وإذا عظّمته وعرفت النعمة منه.. جعل ذلك الحمد شكرًا منك وزادك من فضله. إله يعامل معاملة تفوق التصوّر! الحمد لله أن ربّنا الله، الحمد لله أن ربنا الله.
لذلك كان يلتفت سيدنا علي ببصيرته إلى الإفضال والإنعام ويقول:
ومما زادني شرفا وتيها *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيّرت أحمد لي نبيّا
جعلت نبيي أحمد خير الأنبياء وأفضل الأنبياء، إيش هذه النعم التي نحن فيها؟ الحمد لله.
على قدر التعظيم تكبّر تقول: الله أكبر! فتكون في عيد؛ فالتكبير شعار العيد، وكل ما صدقت في التكبير لك عيد، والمكبّر ما يعصي الكبير، ولا يعترض على الكبير، ولا يسيء الظن بالكبير. لهذا قال سيدنا علي لما قالوا له اليوم عيد، قال: الحمد لله اليوم عيد، وأمس عيد، وغدًا إن شاء الله عيد، وكل يوم لا نعصي الله فيه فهو عيد! لأننا نقرب منه، لأنها تزيد نعمه علينا، لأنه ينظر إلينا، لأنه يرفع درجاتنا؛ فاليوم الذي لا نعصيه فيه عيد.
كل ما استفدت حقيقة التكبير لهذا الإله، لكن تحتوش قلبك: تكبير الجاه، تكبير المنزلة، تكبير الدراهم والدنانير، تكبير المباني، تكبير الطائرات، تكبير الأجهزة الحديثة، تكبير الرؤساء، تكبير المظاهر في الدنيا… قل الله أكبر من صدق، أبعِد هذا… الله أكبر، قل: الله أكبّره، وعلى قدر تعظيمك تعرف الكبرياء له جل جلاله وتعالى في علاه. الله أكبر سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله.. لا إله إلا الله، على قدر تعظيمك لله تفقه وتصدق في معنى: لا إله إلا الله!
-
فإذا تحققت بمعنى لا معبود إلا الله؛ ارتقت بك إلى معنى لا مقصود إلا الله
-
فإذا تحققت بذلك صار هو معبودك ومقصودك وحده، ارتقت بك إلى معنى لا موجود إلا الله
فجميع الكائنات والموجودات أفعال الله، أصلها عدم إذا شاء يعدم يعدمها، فالموجود بالحق بذاته الدائم الله سبحانه.
-
فإذا تحققت بذلك رقّتك إلى رتبة لا مشهود إلا الله! يعني: تتعامل مع هذا الوجود وأنت تشهد الموجد له لا يقطعك الوجود عن موجده، ولا الكون عن مكوّنه، فبذلك تصحّ لك ألّا مشهود إلا الله من معنى لا إله إلا الله.
ولها معاني ومعاني ومعاني، ولها مباني ومباني ومباني، ولها درجات ودرجات ودرجات، ولها ميادين وميادين وميادين، ولها معارف ومعارف ومعارف، ولها حصون وحصون وحصون، يكفيك أن الرحمن يقول: لا إله إلا الله حصني، إيش تتخيل عن واحد يدخل في حصن رب العرش، "فمن قال لا إله إلا الله دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي" فإذا كان يقول سيد أهلها: "أفضل ما قلت أنا والنبيّون من قبلي لا إله إلا الله"، اللهمّ حققنا بحقائقها.
ولما كان هذه النقطة هي التي ينبني عليها حقيقة الدين كله، قال القائلون من صلحاء الأمة: الدين تعظيم الدين. تعظيم الدين راجع إلى تعظيم الرب جل جلاله. فالأمر قائم على هذا، لكن حقيقة التعظيم يسجد بها القلب، إذا سجد القلب كان القالب كله تبع له! كان رسول الله في الركوع يقول: "خشع لك مخي وعظمي وعصبي…" وفي السجود يقول: "سجد لك سوادي وخيالي ودمي ولحمي …" كله يسجد لله، فبسجود القلب تسجد آثار الإنسان كلها.
إلا أن القلب إذا أُكرم بالسجود لم يُطِق أن يرفع، يرتفع الجسد ويدخل ويخرج لكن القلب يبقى في السجود للرب جل جلاله وتعالى في علاه. وأهل السجدات بقلوبهم هم أوّل من سجد أيام أخذ العهد والميثاق، (..أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ..) وأول من يسجد عندما يدعون إلى السجود في القيامة (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [[القلم: 42] ما يقدر المنافقون الكافرون الذين ما سجدت قلوبهم في الدنيا، ما يقدرون على السجود في الآخرة، ولا بالجسد. فيتصلّب ظهر أحدهم فلا يستطيع أن ينحني أصلا (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم:43] أي كان مطلق لهم تحريك أعضاؤهم، وأعطيناهم الفرصة في أن يخضعوا وأن ينحنوا وأن يركعوا وأن يسجدوا في الدنيا، ما صلّبنا لهم أعضائهم، وتركناها مطلقة لهم ودعوا للسجود ما رضوا! واليوم أرادوا أن يسجدوا ما عاد يُقبل منكم (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)[القلم:44-45]، نعوذ بالله من غضب بالله، ونسأله يحققنا بحقائق السجود.
تعظيم هذا الرب الأمر الذي يجب أن نستجلبه إلى ساحات قلوبنا ليصدق إيماننا وتوحيدنا، وصلتنا بالحق، وصلتنا بمحمد ﷺ، ولا تُسرق علينا خيراتها وبركاتها وبهجاتها بشيء من هذه الأطروحات الفارغة في هذه الدنيا، والأكاذيب والألاعيب الكثيرة، (قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام:91]، (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) هذا الذي معهم (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) والمرجع اللي يرجعون إليه الكل إيش حاله؟ قال: (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ) فأمام العذاب الشديد والمغفرة والرضوان، إيش قيمة هذه الحياة كلها؟ (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[ الحديد:20]
فإيش المنهج القويم الصحيح الذي نمشي عليه في الحياة؟ (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد:21] سابقوا.. هذه مهمتكم في الحياة، هذا منهجكم الصحيح القويم، (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) فنسأل الله يكسو هذه القلوب من نور تعظيمه وإجلاله جل جلاله.
قد سمعتم ما قال القائل لرسول الله ﷺ من الذين وفدوا عليه ووقف معهم يسألونهم يعلمهم الإسلام، ثم تلا عليهم آيات من القرآن ودمعت عيناه ﷺ ومسح الدمع عن عينيه، فقال أحدهم: يارسول الله تبكي من خشية الذي أنزل عليك هذا؟ قال: أجل، أي هذا الذي أدركته هو داخل في ضمن أسباب بكائي هذا؛ لأنه أعرف بالله تبارك وتعالى ﷺ. وهكذا وفي هذا عَلّمنا الرب:
-
أن ما كان علامة على دينه، علامة على عبادته وطاعته، فهو من شعائره،
-
وأن تعظيم هذه الشعائر لما أنه متفرّع عن تعظيمه دليل تقوى القلوب، (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[ الحج: 32].
وبذلك كان الناس حتى بفطرتهم وحتى في جاهليتهم من قبل الإسلام، إذا جاءت البُدن المهداة إلى الكعبة وإلى بيت الله الحرام ما يتعرّض لها أحد، سُراق ما يسرقونها، قُطاع طريق ما يأخذونها، قبائل متحاربة ما يتعرّضون لها، عليها العلامة إنها هدية للحرم خلاص للحرم تروح. يقول الله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ)[الحج: 36] بُدن لكن إذا أهديت للحرم صارت شعيرة من شعائر الله، فكانت تُحترم وتُعظّم بحكم الفطرة والطبيعة، (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، كم سمعتم من العلماء يقولون إن أعظم شعائر ربنا خمس:
-
محمد رسول الله
-
القرآن المنزل عليه
-
الكعبة المشرفة
-
الصلوات الخمس
-
رمضان
هي أعظم الشعائر من لا يعظمها إيش من شعيرة سيعظّمها؟!
قال الله تعالى في الشعائر رسله وأنبياءه، (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) عظمتوهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ) [المائدة:12].
"تعظيم الرب"، ينتج عن هذا أن المؤثرات في الحياة يقل غضبك عندها إلا أن تغضب لله على قدر تعظيم هذا الرب؛ لأنه العظمة الصورية، العظمة الوهمية تنتفي عنك، لذا يقل غضبك على الأشياء؛ لأنها ليست عظيمة في ذهنك، فيبقى الغضب لله، وهذا جاء في وصف نبينا: أنه كان لا يغضب إلا لله، ﷺ.
والمؤمنون في هذا على درجات، فمن الأدب مع الله أن تُرى قليل الغضب لأجل كلمة، لأجل متاع، لأجل جهاز، لأجل أرض، لأجل أي شيء؛ لأن عظمتها قلّت في قلبك أو خرجت؛ فما تغضب لها، "لكن إذا أضيع حقّ الله لم يَقُم أحدٌ لغضبه". "كان ﷺ يعفو عن الذنب إذا كان في حقه وسببه، فإذا أضيع حق الله لم يقم أحد لغضبه" حتى ينتصر لله ﷺ.
إذًا، "قلة الغضب" ولمَ كانت من الأدب مع الرب؟ لأن هذا الإنسان المؤمن بهذا الرب يخاف غضب الرب، فإذا دعته نفسه إلى أن يغضب على الغير خاف أن يغضب عليه ربه؛ فيَسكُن غضبه. يتذكّر خطورة غضب الله، فيسكُن غضبه. وهكذا دعانا ﷺ إذا أحسسنا بحوافز وإثارات الغضب عندنا أن نسكن؛
-
إن كان قائم يجلس
-
إن كان جالس يضطجع
-
أو يذهب يتوضأ أو يغتسل،
-
ويذكر الله تبارك وتعالى حتى يسكن غضبه.
ولهذا نُهيَ القاضي أن يقضي وهو غضبان فإنه يختل عنده الاتزان وحسن النظر في الأمور. فيكون من الأدب مع الرب قلة الغضب إذا غضبت نفسك على أحد فتذكر خطورة غضب الله عليك، فكُفَ غضبك.
"قال: يا رسول الله أوصني، قال: "لا تغضب" فردّد مرارًا قال: لا تغضب". وفي رواية أتى من أمامه قال في رواية: يا رسول الله أوصني بوصية يدخلني الله بها الجنة، قال: "لا تغضب" قال فجاء من خلفه قال: يا رسول الله أوصني بوصية أدخل بها الجنة، قال: لا تغضب. فجاء عن يمينه قال: يا رسول الله أوصني بوصية أدخل بها الجنة، قال: لا تغضب، فجاء عن يساره قال: يا رسول الله أوصني بوصية يدخلني بها الله الجنة، قال: ويحك ما تفقه؟ قلت لك لا تغضب؛ يعني: هذّب نفسك وأدّبها واضبط غضبك، لا تنفذ غضبك إلا ما كان لله سبحانه وتعالى، ولا تقع عرضة للشيطان فإن من أقوى أسلحته الغضب، فهو أقدر على الغضبان من أي واحد آخر. حتى عُبّر عن ذلك بقوله: إني أوسوس لابن آدم في قلبه فإذا غضب طرت إلى رأسه، فصرت ألعب به كما يلعب الصبيان بالكرة.
"قلة الغضب".. لأجل النفس، لأجل المتاع، لأجل الدنيا لأجل أي شيء غير الله يقل غضبه، ويندر غضبه، حتى إذا ثبت كماله ينعدم غضبه لغير الله فما يغضب إلا لله.
قال الإمام محمد بن حسن جمل الليل: صحبتُ محمد بن عمر با مريّم، صاحب المعلامة التي أقامها لتحفيظ القرآن قبل 650 سنة وزيادة، يقول صحبته أربعين سنة فما رأيته غضب! لم يكن أربعين يوم بل أربعين سنة، لم يكن أربعين ساعة أو أربعين يوم ولا أربعين شهر، أربعين سنة! تجد الذي ما يتهذب ولا يتأدب ويغلب عليه طبيعته، حتى 40 دقيقة لة جالسته بدأ الغضب معه! ما هي أربعين سنة وإنما أربعين دقيقة فقط وغضب! امسك نفسك، عظّم ربك، لا تغضب إلا لله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
قال صحبته أربعين سنة فما رأيته غضب، ولما خرج يلحده في قبره سمع روحه تكلمه ويقول له: ساعة العون يا أبا حسن! يعني: هذه ساعة الفرح والسرور ساعة العيد يوم العيد يوم لقائه للرب.. جالسين عنده في وقت احتضاره، عند خروج روحه، وكان في الليل عندهم سراج، لما فاضت روحه أشرق نور في وجهه وغطّى نور السراج، وسمعوا صوت من دون ما يروا شخص يقرأ: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) [التوبة:21-22]، في زمنه الذين حفظوا القرآن على يده ثمان مائة، وقرّأهم في الفقه وفي الشريعة ربع التنبيه ربع العبادات، خرّجَهم حُفّاظ فقهاء، ثمان مئة على يده هؤلاء، كم كان سكان البلد في تلك الأيام؟! هؤلاء الحفاظ كلهم، والذين حفظوا من غيره من دون ما يجون إلى عنده، كم حفاظ في البلد؟!
انظر كيف كان اهتمامهم بالقرآن؟ فهؤلاء الثمان مئة يعادلون قريب خُمس البلد. كم سكان البلد كانوا في ذاك البلد؟ كلهم حفظوا على يده، والذين حفظوا على غير يده كم حُفّاظ؟ نصف أهل البلد أو ثلثينها حُفّاظ بالقرآن الكريم؟ لذلك قالوا مرّت عليهم سنون والمصلون في الصف الأول يوم الجمعة في الجامع كلهم حفّاظ، من طرف الصف إلى طرفه كلهم حفاظ القرآن، بل مرّت مع كونهم حفّاظ بلغوا رتبة الفتوى في الفقه، كلهم مُفتون؛ صف كامل كلهم حُفاظ ومُفتون.
كل هذا آثار التعظيم، كانوا عظّمو الله فأحدثت هذه الأشياء كلها؛ الاهتمام بالحفظ، الاهتمام بالشريعة، الاهتمام بالفقه، كله من أثر التعظيم. أثر التعظيم هو نور لا إله إلا الله؛ فرجع الخير كله الى لا إله إلا الله.
فنسأل الله أن يصلي على من قال له: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ) صلاةً يفتح لنا بها باب هذا التعليم الرباني لمحمّد العدناني في أسرار لا إله إلا الله.. افتح علينا من هذه العلوم وأعطنا من هذه الفهوم يا حيّ يا قيوم، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين زِدنا من إفضالك، وجزيل نوالك ما أنت أهله، وتولّنا بما توليت به محبوبيك وأهل قربك والدنوّ إليك في خيرٍ ولطفٍ وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
ما يعمل شيء في استخراج تعظيم غير الله من القلب وتثبيت عظمة الله مثل تدبّر لا إله إلا الله، بالإكثار منها مع تدبّر معناها لا إله إلا الله؛ ولهذا هو الذكر الذي ينفتح به باب القُرب من الله تعالى، والذي يحتاجه عامّة المريدين في سيرهم وسلوكهم إلى الله كثرة لا إله إلا الله. وما كانت مفتاح الجنة إلا والمعنى قائم فيها.. لا إله إلا الله.
-
فهي مفتاح جنة المعرفة
-
وهي مفتاح جنة القرب
-
وهي مفتاح جنّة الآخرة
كلها لا إله إلا الله. فاجعل لك نصيب منها، حتى كان يقول بعض الصالحين أكثر لا إله إلا الله أكثر حتى تصير كلّك لا إله إلا الله! ولما قُتل بعض الصالحين الأخيار إذا الدم ينكتب في الأرض لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله… لا إله إلا الله، أحينا عليها يا حيّ، أمتنا عليها يا مُميت، وابعثنا عليها يا باعث، وافتح لنا عن كنوزها، واجعلنا من أهل الفوز بها ظاهرًا وباطنًا في خيرٍ ولطفٍ وعافية برحمتك يا ارحم الراحمين.
07 شوّال 1438