شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -20- آداب دخول المسجد
الدرس العشرون من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، ضمن الدروس الصباحية لأيام الست الأولى من شوال 1442هـ، آداب دخول المسجد.
فجر السبت 3 شوال 1442هـ.
آداب دخول المسجد
"يبدأ باليمنى، ويزيل ما في نعله من الأذى، ويذكر اسم الله عز وجل، ويسلم على من حضر، فإن كان خاليًا سلم على نفسه، ويسأل الله تعالى أن يفتح له أبواب رحمته، ويجلس في مواجهة القبلة، ويلزم المراقبة، ويقِلّ المخاطبة، ويترك الملاعنة، ولا يرفع فيه صوته، ولا يُشهِر فيه سيفه، ويمسك بنصال نبله، ولا يصنع صنعة، ولا ينشد ضالة، ولا يُبايع ولا يُشاري، فإذا انصرف بدأ باليسرى، وسأل الله تعالى من فضله ما يعطي."
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مكرمنا بتوالي النعم ودفع النقم وواسعٍ من فيض الجود والكرم، أرسل إلينا عبده الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وجعلنا به خير الأمم، اللهم أدِم صلواتك عليه وعلى آله وصحبه المستقيمين على منهجه الأقوم، وعلى من والاهم فيك واتبعهم على الصدق والإخلاص قدمًا بعد قدم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المقام المعظّم، وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم بإحسان وعلى ملائكتك المقربين، وعبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
أما بعدُ،
فإننا من كتاب (الأدب في الدين) للإمام الغزالي، مَرَرنا على بعض ما ذُكِرَ في آداب الوضوء، فوقفنا على "آداب دخول المسجد"؛ والمسجد: محل السجود؛ المكان الذي يسجَد فيه لمن لا يجوز في شريعتنا السجود إلا له وهو الله -جلّ جلاله- والسجود على سبيل التحية والإكرام كان جائزًا في شرائع من قبلنا من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وقال الحق في ذلك يحكي عن سيدنا يوسف عليه السلام: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ) [يوسف:99-100].
فكان السجود للتحية والإكرام جائز، وهو في شريعة نبينا محمد ﷺ:
-
محرّم لا يجوز للإكرام والتحية
-
أما السجود الذي هو شركٌ لغير الله فهو السجود للعبادة ومعنى السجود للعبادة؛ اعتقاد قلب الساجد أن هذا المسجود له من دون الله إله وربٌّ مع الله، فإذا اعتقد ذلك فهذا هو الكفر والشرك والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فعمُوم السجود محرم في الشريعة، وليس كله بشركٍ وإلا لترتّب على ذلك أمر كبير في الشرائع، والشرائع كلها مجمعة على تحريم الشرك وأنه أكبر الكبائر -والعياذ بالله تبارك وتعالى- كيف وقد أمر الله من الملأ الأعلى من الملائكة من يسجد لآدم: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة:34]، وحاشا رب العرش أن يأمر بشرك، فليس السجود في حدِّ ذاته شرك، ولكن هو في الشريعة حرام لأي أحد غير الحق تعالى. قال نبينا ﷺ: "ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، ولكن يكون شركًا إذا اعتقد الساجد أن المسجود له من دون الله -تبارك وتعالى- إله وربٌّ مع الله، جلّ الله ولا إله إلا هو.
هذا محل السجود، يُعدُّ له مكان خاص من حيث الأماكن فتُشرَّف بسبب بركة السجود ومحل السجود وقدره عند المسجود له؛ لأنه أصدق تعبير على العبودية والخضوع والجلال.
وفي معنى السجود في اللغة:
-
الخضوع والتذلل.
-
ويُطلق على وضع المصلي جبهته على مصلّاه
وهذه هيئة السجود غاية ما يمكن في التشكيلة التي ركب الله عليها جسد ابن آدم أن تكون المعبّر عن التذلل أقصى ما يمكن أن يُعبَّر عن التذلل بذلك، فتوضع أشرف الأعضاء وهو الوجه والجبهة على ممرِّ الأقدام على الأرض. وكان يحب كثير من صلحاء الأمة وأخيارها أن يصادف السجود على التراب ليكون أبلغ في التذلل للربِّ، وقد كان كذلك سجود سيدنا رسول الله ﷺ، وقال عن ليلة القدر: "وإني أُريت أني أسجد صبيحتها على ماءٍ وطين"، فتخلل الماء سقف المسجد ليلة الحادي والعشرين من رمضان فنزل المطر فتبلّل التراب، والفرش تراب، فسجد على الماء والطين ﷺ، وكثيرًا ما كان يسجد على التراب.
ويعجب بعض الناس في اكتشافات فوائد للسجود على التراب ولكن ماذا تساوي هذه إذا قُرنت بسر العبادة والخضوع إلى الحق والتبعية لمحمد؟.. يقولوا أن الشحنة التي قد يحملها الجسد من الكهرباء تكون زائدة على قدر الحاجة فتسبب أمراض وعلل كثيرة، لكن أحسن ما يخرجها الشحنة الزائدة من الكهرباء السجود، خصوصًا على التراب؛ إن سجدت على التراب ما يبقى في الجسد من شحنة الكهرباء إلا التي يحتاجها الجسد بالضبط فقط، سبحان الله!..
ولذا كان الناس في صحةٍ كثيرة في شؤون أجسادهم وهم في عبادتهم لله، لا يلتفتون إلى ذلك، ولكن الفوائد حاصلة معهم وما عرفنا كثرة الأمراض وانتشارها إلا في وقت الرفاهية ووقت الترف. وفي الخبر: ما فشت الفاحشة في أقوامٍ إلا فشت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم. وهذا يبيّن في الحديث أنه تحدث أمراض لم تكن موجودة أصلًا، لا كما يظن بعض الناس ويقول: ما كانت تُكتشف وكانت موجودة. ولذلك فيما عُرف من أحوال الناس أن أعراضها هذه غير موجودة أصلًا، يشيخ الواحد منهم والأعراض كلها التي يشتكون منها أصحاب هذا المرض غير موجودة من أصلها إلى عدد من الشيبان الذين أدركناهم وما عرفوا شيئًا من هذه الكيماويات أصلًا، وما التفتوا إليها، وكانوا على صحةٍ حسنة، ولا يجدون شيئًا من الأعراض لا للسكري ولا للضغط ولا لغيرها من الأمراض التي حدثت بعد ذلك.
لكن هذه الفوائد للجسد في السجود وغيرها ما تساوي شيء بالنسبة للفوائد الكبرى وللتعبير عن العبودية للإله الرب والقرب من حضرة الربوبية، "أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد"؛ لأنه لا يستطيع التعبير عن ذلَّته وعبوديته بأحسن من هذا الوضع، فإن صادف سجود الجسد سجود القلب معًا فهذا هو القُرب الصحيح المشار إليه في الحديث الكريم، وهذا هو القرب الرفيع الذي لو فرضنا أيّ مخلوق غير ساجد فوق السماء السابعة وهذا ساجد على الأرض بجسده وقلبه هو أقرب إلى الله من ذاك الذي فوق السماء السابعة.
"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"؛ لأن القرب المتعلق بالحق بين الحق والخَلْق أمر معنوي أصلًا، لا مساحة، ولا مسافة، ولا صورة، ولا شكل فيه، فما أعجبهُ أن ترى أن الناس يستعملون في معاني من العطف والاعتبار بينهم يستعملون له لفظ القُرب فتكون أحلى من القرب الحسّي ويقولوا: فلان مقرّب عند فلان، وفلان قريب من فلان، وربما قالوا لواحد: أن فلان قريب من هذا الإنسان أقرب منك، والذي قالوا عليه أقرب منك هو مسافر في الشام أو في مصر أو في أفريقيا وقالوا له: أقرب منك! وهو يقول لهم: كيف أقرب مني؟ سأصل عند هذا الإنسان قريب.. ما اعتبروا قُرب الجسد أصلًا، والاعتبار للقُرب هذا المعنوي، فإذا كان هذا يستعمل لفظ القرب في المعنى المعنوي الذي لا دخل فيه للمسافات ولا للأجساد بين الناس فيكون حاليًا وأشرف من القرب الحسّي، فكيف إذا عُبِّرَ عن القرب من الله -جلّ جلاله- ما أحلاه.. اللهم قربنا إليك زلفى.
قد مرَّ معنا في التفسير، قوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة:10-12]، وقال عن شراب أهل الجنة: (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين:25-28]؛ مباشرة من التسنيم، والآخرون مزاجه من تسنيم؛ يُمزج لهم شيء، فكم فرق بين هذا وهذا؟..
"أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد"، هذا المسجد له موطن يتعلق بالظاهر فيكتسب شرف، وكل بقعة سجد عليها ساجدٌ لله فلها شرفٌ بذاك السجود، ولكن إذا خُصّصت بقعة لأجل أداء هذا السجود سُمّيت مسجدًا فتميّز عن بقية البقاع، "أحبّ البلاد إلى الله مساجدها"، المسجد خير مكان عند الرَّب -جل جلاله- يعتبر، إذا علمت ذلك فإن محل السجود الأسنى المُعتبر هو قلبك؛ فإن صحَّ أن قلبك سَجَد فشرف المسجدية معك حيثما كنت!.. وأهل هذه القلوب هم الذين تتشرف بهم المساجد وتحبّهم، ومن لم يصل لتلك الرتبة يتشرَّف بالمسجد وبالقُرب منه، ولكن أهل هذه الرُّتب المساجد يزيد شرفها بهم، عُبّاد للمحراب زينة، فهم زينة المساجد، وهم زينة الأماكن، وزينة الأزمنة، هم زينة رمضان، فالله يحقّق قلوبنا بحقائق السجود، وإذا سجد القلب لم يقوَ على الرفع أصلًا، ما يقدر يرتفع من السجود خلاص يبقى ساجد على الأبد، للقلب سجود لا يرفع منه أبدًا، اللهم أكرمنا بسجود القلب.
يقول: "آداب دخول المسجد"، ويُذكر في الآثار: إنّ لله بيوتًا في أرضهِ وهي المساجد، كما يُذكر أيضًا في الأثر: إن لله أواني في أرضهِ وهي القلوب، الله أكبر!.. وإذا تطهّر القلب وصفا صار بيتًا من بيوت الحق يتردّد إليه الملائكة والروحانيون، وأوصى الإمام الحداد بعض الذين كان مسافرًا إلى الحرمين الشريفين، أوصاه بتعظيم بيت الله والكعبة المشرفة ثم قال: واعلم أنّ لله في باطنك بيتًا وهو القلب!.. وقد أُمر إبراهيم علمك، وإسماعيل عقلك، أن يطهرَّاه، كما أمر الله إبراهيم و إسماعيل أن يطهِّرا البيت العتيق، فكذلك أُمر علمك وعقلك أن يطهّر البيت الذي في باطنك لله، أن يطهِّراه للطائفين العاكفين حوله من الملائكة والروحانيين.
فإن القلب الطاهر يتناوله مَلَكٌ إلى مَلَك وتتردّد إليه خواطر الملائكة، ويدنو الملك الميمون يُلهمه خواطر الخير والمرؤوس كالرأس، صفِّ يا رب قلوبنا.. وكثير مَن يخرج من رمضان من أمة محمد يخرجون بسرِّ السجود القلبي، فيدوم لهم سرُّ رمضان؛ لأن قلوبهم سجدت في رمضان واستمرّت السجدة مكانها.. لا إله إلا الله!
وما أُمرنا بشأن تعظيم هذه المساجد إلا لنعرف قدر السجود، وما قدر السجود إلا متعلق بتلك المضغة التي ينظر إليها؛ قلبك!.. فالشرف والرفعة في الحقيقة لذلك القلب الذي سجد للرَّب -جلّ جلاله- عرف عظمة ربِّه وعلوّه وكبريائه فخضع وذلَّ ذِلَّةً أبى أن يتكبَّر فيها بشهود وجودٌ له أو لغيره مع وجود الحق المعبود، هذا قلب ساجد، فأين الذلة إذا يشهد له وجود؟ حتى يشهد الوجود الحق للموجود الحق، وهذه أفعاله ما لها من الوجود إلا المسمّى المجازي أو الاسم المجازي الوجود، فليس منها شيء موجود بذاته أصلًا، وليس منها شيء غير قابل للعدم بل كان عدمًا بل أصله العدم، سواءً كان عرشًا أو كرسيًا أو جنةً أو نارًا أو روحًا أو جسدًا… الأصل فيها العدم وهو أوجدها؛ فالموجود هو، وإذا أثبتَّ معه وجودًا لك فمتى سجدتَّ ومتى تذلّلت؟
(إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف:206]، لا إله إلا هو، الله يكرم قلوبنا بالسجود له، وتسري أنوار السجود القلبي وأسراره بمجالسة الساجدة قلوبهم، ومشاهدتهم وسماع كلامهم، تبدأ تسري أنوار إلى القلب ليتهيّأ للسجود على حسب مداركهِ وصدقهِ في الوجهة، وفي ذلك قالوا: ما كَمُل غير من جَالَس رجال الكمال، وقالوا: من لم يرَ مفلحًا كيف يفلح؟!
يقول: "آداب دخول المسجد"، فأُمِرنا بتعظيم هذه المساجد وتمييزها، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ)؛ أن تُبَجّل وتُعظَّم وتُميَّز عن غيرها، (أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور:36].
فيحرم فيها ما يحل في غيرها؛
-
يحرم فيها البيع والشراء
-
يحرم فيها إنشاد الضالّة
-
يحرم فيها إلقاء القذر والوسخ
-
يحرم فيها دخول الجُنُب
إلى غير ذلك من خصائص المسجد.
قال: "آداب دخول المسجد: يبدأ باليمنى"، ليستبعث التعظيم من باله وقلبه أنه يدخل لبقعة مميزة فيقدّم الرجل اليمنى، فالعجب من الذي يجد في باطنه اهتزازًا وتعظيمًا عندما يدخل إلى قصر إنسانٍ من ملكٍ أو ثريٍّ أو وزير ولمّا يدخل بيت الله وكأنه في شارع! خلل قوي في الإيمان، خلل في المدارك والذوق.
وكان بعض أهل الصلاح يقف على باب المسجد ينتظر لمّا يجي أحد يدخل وراءه، يقال له: ما لك؟ يقول له: المسجد بيت ربي وأول ما أدخل ينظر إلى قلبي، وأنا أستحي من ربي فأريد أن ينظر إلى قلب واحد قدامي من المؤمنين فأدخل أنا من وراءه حتى يعود نور ذاك القلب وصلاحه عليّ، حتى ما تكون مواجهته مستقلة لي، ما أقدر أواجه بها ربي، فيدخل بالهيبة فيدخل وراء واحد من الناس!
واستفادتك من المسجد وما يتنزل فيه على قدر تعظيم قلبك لهذا المسجد؛
-
لأن التعظيم لهذا المسجد راجع إلى تعظيم السجود.
-
وتعظيم المسجد والسجود، راجع إلى تعظيم المسجود له وهو الله، جل جلاله وتعالى في علاه.
سمعت قول من يقول: أتدرون بين يديّ من أقوم ومن أناجي؟ فتقدِّم الرجل اليمنى، ما تدخل بأي رجل، تقدّم الرجل اليمنى إكرامًا واحترامًا.
"ويزيل ما في نعله من الأذى"، فإنه ﷺ تغيّر وجهه ولونه يوم لما شاهد أثر نخامة في جدار المسجد، وكان بيده عود من النخل فجاء وحكّها بيده، ثم أخذ الطيب وطيّب المكان ﷺ. وذكر عن روحانية المسجد ومعناه، قال: إن المسجد لينزوي من النخامة كما ينزوي أحدكم من الأذى أن يقع في ثوبه. فذلك أمرٌ مكروه.
فيجب تعظيم المساجد وحرمتها، ويذكر في الآثار: أن من ثواب تنظيف المساجد أن يكون ذلك هو المهر للحور العين في الجنة؛ إخراج الأذى من المسجد. فإذا كان إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان، كيف من المسجد؟ الطريق التي يمشوا فيها الناس إماطة الأذى منها شعبة من شعب الإيمان فكيف بالمسجد؟ فلو أدركنا حقيقة ما فيها سابقنا منظّفي المساجد ومطهّريها إلى تطهيرها، وقد اختار الله للمهمة الخليل وابنه (طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125]، وقاموا بالمهمة الخليل وإسماعيل -عليهم السلام- وطهَّرا البيت الحرام.
"يبدأ باليمنى، ويزيل ما فيه عليه من الأذى، ويذكر اسم الله عز وجل"، فيسمّي الحق ويحمده ويصلي على نبيه محمد ﷺ عند الدخول إلى المسجد، فهي من المواطن التي عيّنها لنا ﷺ للصلاة عليه،
-
يقول عند الدخول: بسم الله اللهم صلِّ على سيدنا محمد وآل محمد اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، من مواطن الصلاة على النبي ﷺ.
-
عند الخروج من المسجد تقول كذلك: بسم الله، الحمد لله، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وآل محمد واغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.
والاستعاذة من الشيطان مندوبة عند الخروج؛ لأن كثير من الشياطين يصعب عليهم الوصول إلى الوسوسة على قلب من في المسجد، خصوصًا إذا حضر مع جمعٍ قلوبهم حاضرة مع الله، فينتظر خارج المسجد وينتظر حتى يحاول أن يدنوَ منه بأي طريقة، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وجنوده، بسم الله والصلاة على رسول الله، اللهم صلٍّ على سيدنا محمد وآل محمد اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، عند الخروج تبدأ بالتعوّذ.
وجاء أيضًا في الأثر: أن من قال عند دخول المسجد: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، قال الشيطان: عُصِمَ مني سائر اليوم؛ يقول: طول اليوم لا أقدر على الإنسان هذا عندما يتعوذ بالله عند دخول المسجد: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، يقول الشيطان: عُصِم مني سائر اليوم فالرجال هذا يتحصن بالقوة التي لا تغلب، عُصِم مني سائر اليوم، هي سهلة لكنها عظيمة؛ أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم .
فيُسَنُّ التعوذ بالله من الشيطان عند الخروج من المسجد، حتى جاء في بعض الأثار: أنه إذا خرج المسلم من المسجد احتوشته الشيطان، يأتون له من كل محل فتقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وجنوده، تستعيذ بالله منهم معه جنود كثيرة إنس وجن، وبعضهم عاده إنس يخليه لك جنب المسجد عادك إلا خرجت وقده يوغر صدرك على ذا والا يحسّن لك شيء سيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، واحد من جنود هذاك ولأنه إنسي مثلك يلتبس الأمر عليك أكثر، ما تتنبه له، تظن أنه صديق وما هو صديق ولا رفيق هذا عدو إذا يأمرك بِشَر وينهاك عن الخير، (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].
قال: "ويذكر اسم الله عز وجل، ويسلم على من كان حاضراً في المسجد"، فيُسنّ السلام عليهم إلا إن كانوا يصلون فلا سلام على مصلي، وإن كانوا مشغولين بالتلاوة كذلك كلهم، وإلا فيُسلّم على من كان بجانبه إذا هو غير مشغول بصلاة ولا تلاوة.
-
لا سلام على قارئ.
-
ولا سلام على مصلي.
قال: "فإن كان خالياً في المسجد سلّم على نفسه" وعلى العباد الصالحين، (فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ)، فقل: السلام علينا من ربنا تحية من عند الله مباركة طيبة، وكذلك حتى في بيته إذا دخل ولا أحد فيه ( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ)؛ فتقول: السلام علينا من عند ربنا تحيةً من عند الله مباركةً طيبة السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فبيته من باب أولى تسلم على العباد الصالحين تسلم على نفسك تحيةً من عند الله مباركةً طيبة، ومن هنا قال فقهاء الشافعية: لو سلّم والخطيب يخطب وجب رد السلام عليه، ولا يُعدّ قطعًا للإنصات، (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ) [النور:61]
وهكذا كان ملازم ﷺ للسلام على من في البيت ومن في المسجد إذا دخل سلّم -عليه الصلاة والسلام- وقد يدخل على جماعة فيهم نائمون او هم نيام فيسلم سلامًا يسمعه المستيقظ ولا يوقظ النائم، يُسلّم سلامًا ما يوقظ النائم ويسمعه المستيقظ، ﷺ.
قال: "ويسأل الله تعالى أن يفتح له أبواب رحمته"، فهو في موطن الرحمة المسجد المبارك، وإن المؤمن في المسجد كالطائر في البستان مرتاح يتنقل من شجرة إلى شجرة، وإن المنافق في المسجد كطائر في قفص خرج رأسه وبقيت رجله يريد أن يفتك، وفي ذلك قال قائل:
وفي المساجد سرٌّ ما جلست بها *** إلا تعجبت ممَّن يسكن الدور
لا إله إلا الله ..
"ويسأل الله أن يفتح له أبواب رحمته، ويجلس في مواجهة القبلة"، فذلك خير المجالس وأحبها إلى رسول الله ما استُقبل به القبلة، إلا أن يكون في حلقة من حلقات العلم وحلقات القراءة فحيثما دارت به الحلقة.
قال: "ويلزم المراقبة"، فهو في بيت من؟ بيتٍ من بيوت الله فيلزم المراقبة، ولمّا سمع سيدنا عمر اثنين في المسجد يتكلمان يرفعان أصواتهم سكّتهم قال: من أين أنتما؟ قالا: من الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما بهذه الدُرّة، التي معه وكانت دُرّته أهيب من سيف الحجاج، أترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله؟ أما قرأتما قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [الحجرات:2]، وسيدنا عمر يستشهد بالآية، لا فرق عنده بين أيام وجود النبي في حياته أو هو في البرزخ عنده سواء، وسيدنا عمر ما يحتاج شيخ يصلح عقيدته ويصحّح عقيدته؛ تلقّاها من محمد ﷺ، ما يقول هذه الآية مخصوصة بحياته، حياته الدنيوية تقصد؟ هو حيّ في الحياة الكبرى في عالم الأرواح قبل أن يأتي للدنيا، وهو في الدنيا حي حياة الأجساد والأرواح بأعلى معاني الحياة، وهو في البرزخ حي ﷺ أعلى مراتب الحياة وروحه وهو في القيامة خير حيّ وهو في الجنة أكرم حيّ من الخلق كلهم، أعلاهم حياة ﷺ.
وهكذا يجب أن تُصان المساجد من اللغط وارتفاع الأصوات، فكيف بالسب والشتم، وكيف إذا تحول السب والشتم للأحياء والأموات في المنابر؟! لاحول ولا قوة إلا بالله..
وكان يلحظ بعضهم أيضًا معنًى خفيًا في البيت والمنبر، ويقول: إن من معاني البيت المعنوية القلب، ومن معاني المنبر المعنوية اللسان، وأنه للمؤمن الصالح يأتي الحديث الذي ورد في مسجده ﷺ وبيته يقول: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" قال: وبين قلب المؤمن ولسانه روضة من رياض الجنة، إذا صفا القلب وطاب كان بيتًا للحقّ ولرسوله ﷺ، وإذا طاب اللسان ونادى إلى الرحمن في تبعية سيد الأكوان كان منبرًا، "وما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة".
وهكذا قال أهل العلم: لو أن إنسانًا دخل الروضة الشريفة فكان بين منبر الحبيب ﷺ وبيته، فحلف أنه في الجنة لا يقدر أحد من أهل الفقه أن يحنّثه، إذا صاحب الشريعة قال: "ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة"، وقال: أنا في الجنة والله العظيم، صدق والحديث معه، "ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة".
يقول: "ويلزم المراقبة، ويقِل المخاطبة" لغير الإله، إلا ما كان من تعليم أو إرشاد أو خُطبة ونحو ذلك. "ويترك" من باب أولى "الملاعنة" والمسابّة "ولا يرفع فيه صوته، ولا يُشهر فيه سيفه، ويمسك بنصال نبله، ولا يصنع صنعة"؛ لا يخيّط ولا يغلّف الكتاب وسط المسجد ولا يجلّده، الصنائع والحرف التي تُكتسب خارج المسجد لا تفعلها وسط المسجد؛ لأنه بُنيَ للذكر والصلاة وقراءة القرآن وللعلم، فالمساجد بُنيت لهذا.
"ولا ينشد ضالّة"؛ إذا ضاعت عليه يخرج الى باب المسجد فيقول: ضاعت عليّ الحاجة الفلانية من حصّلها، من رآها.. ليس وسط المسجد، بل ينبغي أن يُقال لمن ينشد ضالّة ضاعت عليه وسط المسجد: لا ردّ الله عليك ضالّتك؛ عسى ما تحصلها، أنت تكلم الناس في محل السجود، وأنت ساعتي أو قلمي أو نظارتي أو شنطتي ضاعت عليّ وسط المسجد! اخرج خارج المسجد وقل لهم، لا تنشدها وأنت وسط المسجد أدبًا وتعظيمًا. كما يُقال لمن يبيع مع صاحبه ويشتري، قل: لا أربح الله تجارتك.
"ولا ينشد ضالّة، ولا يبايع ولا يشاري، فإذا انصرف بدأ باليسرى، واسأل الله تعالى من فضله ما يعطي" نسأل الله من فضله العظيم الظاهر والباطن، قال الله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة:10]، وكان كثير من أهل الخير والصلاح يحبّ إذا خرج من الجمعة يشتري أي شيء يأخذه إلى بيته يقول هذا فيه بركة، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ)، أي شيء نأخذه من بعد الجمعة فيه بركة؛ بعد وليس قبل.
البيع والشراء وقت دخول الخطيب حرام؛ يحرم البيع والشراء إذا دخل الخطيب لأجل الجمعة بمجرد ما يصعد على المنبر حتى الصلاة ما تجوز إلا لمن دخل المسجد ركعتين "وليتجوّز فيهما"، ومن كان جالس ما يصلي؛ حتى الصلاة ممنوعة فكيف بالبيع والشراء إذا صعد الخطيب على المنبر. عند النداء الثاني عند وصول الخطيب يحرم البيع والشراء بالنصّ في القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ) [الجمعة:9] اترك البيع فالبيع حرام في هذا الوقت، لكن بعد الجمعة، (فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ)، تفضّل علينا بفضلك الواسع يا ذا الفضل العظيم، فهذه آثار لمن يتعلّق بآداب المسجد حقّقنا الله بحقائق السجود.
هنا واحد يقول أنه بفضل الله عليه أنه عند سجوده على التراب شفاه الله من أمراض مستعصية برأسه وجسده، وأنه طاف في بلدان كثيرة للعلاج ولم يجده إلا في التراب، في اتّباع سيد الأحباب ﷺ.
لكن في حكم السجود، فإن السجود إنما يكون:
-
عند تلاوة آية سجدة.
-
أو عند حدوث نعمة كبيرة غير مألوفة أو اندفاع نقمة شديدة يخاف منها؛ سجدة شكر.
-
أو سجود في صلاة
لأجل هذا، في غير هذا، فأكثر أهل العلم يقول ما يمكن يحدث سجدة من دون سبب إما شكرًا وإما لتلاوة آية سجدة وإما في صلاة فهذا يكون السجود، وفيه خلاف بين أهل العلم. وأما من كان ذلك غالبًا عليه فاختلفوا فيه فشأنه شأن، وأما من يتكلّف أو يخاف فيه المراءاة فلا يسجد إلا في أثناء صلاة أو عند سجدة شكر للبشارة بنعمة كبيرة أو دفع نقمة يُخاف منها، أو عند تلاوة آية سجدة أو سماعها فهَهُنا يكون السجود.
ملأ الله قلوبنا بالإيمان واليقين ورزقنا سجود القلب، وزادنا في سِرّ سجود القلب أبدًا سرمدًا بجاه سيد الساجدين. اللهمّ ارزقنا الائتمام بهذا الإمام في سجداتنا، واجعل لقلوبنا سراية من سرِّ سجود قلبه، ولقد عبّر وقال: سجد لك وجهي وسمعي وبصري… كله ساجد ﷺ.. وخشع لك لحمي وعظمي وما استقلت به قدمي، كلها خاشعة وساجدة، حتى لحمه ودمه وشعره ﷺ خاشع لله وساجد، فيا خير السجود سجود زين الوجود سيد الساجدين وهو المتقلِّب فيهم؛ (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء:218-219]، فإذا تحققت بحقائق السجود فأنت من المتقلَّب فيهم. اللهم حقِّقنا بحقائق السجود يا بَرّ يا ودود يا أكرم الأكرمين بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي الأمين.
06 شوّال 1442