شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -23- آداب الصلاة
الدرس الثالث والعشرون من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، ضمن الدروس الصباحية لأيام الست الأولى من شوال 1442هـ، آداب الصلاة.
فجر الثلاثاء 6 شوال 1442هـ.
آداب الصلاة
"خفض الجناح، ولزوم الخشوع، وإظهار التذليل، وحضور القلب، ونفي الوساوس، وترك التقلّب ظاهرًا وباطنًا، وهدوء الجوارح، وإطراق الطرف، ووضع اليمين على الشمال، والتفكّر في التلاوة، والتكبير بالهيبة، والركوع بالخضوع، والسجود بالخشوع، والتسبيح بالتعظيم، والتشهّد بالمشاهدة، والتسليم بالإشفاق، والانصراف بالخوف، والسعي بطلب الرضا."
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بالصلة به، ووسائل القرب من حضرته، والظفر بعظيم مِنّته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما أعظم رحمته ورأفته بخليقته، وما أجلّ ما خصص به المؤمنين من بريّته، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وإمام وسيّد أهل حضرته، والمنتقى المختار من خيرته من الخلائق وصفوته. اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار وصحابته وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الناشرين لواء التبشير به وذكر فضيلته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكّرنا الإمام الغزالي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- بالآداب، ويذكر لنا الآن "آداب الصلاة"، فالصلاة عماد دين الله -تبارك وتعالى- وهي الصلة بين العبد وبين ربه، وحضرة الرحمن التي تكرّم على عباده ببسط بساطها ومد سِماطها. وجعل فيها من الأسرار ما يفوق جميع الأفكار، وما لا يصل إليه تعقّل البال ولا تخيّل الخيال. قال سيد أهل حضرة الكبير المتعال: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة".
وعلى المؤمنين بالله ورسوله أن يأخذوا نصيبهم الأوفى، وحظهم الأكبر من أسرار ما بسط لهم العليّ الأعلى في هذه الصلاة فرضًا ثم نفلًا. فهي من أجلّ وخير وأعظم ما يتقرب به المتقربون إلى حضرته، وتعبد بها الكثرة الكاثرة من ملائكته في السماوات، ومنهم القائم، ومنهم الراكع، ومنهم الجالس، ومنهم الساجد وهكذا... والذين تخصّصوا بالركوع أو بالسجود أو بالقيام أو بالجلوس بين يدي الله، يجمع الله تعالى من سر ما تفرّق فيهم في ركعتين يصليها المؤمن على ظهر الأرض، فيشارك الملائكة الذين أحدهم قائم منذ خُلق إلى أن تقوم الساعة، والذين أحدهم راكع منذ خُلق إلى أن تقوم الساعة، والذين أحدهم ساجد منذ خُلق إلى أن تقوم الساعة، والذين أحدهم جالس بين يدي الرب منذ خُلق إلى أن تقوم الساعة، ففي ركعتين يشارك هؤلاء كلهم وهو على ظهر الأرض فضلًا من الله ورحمة.
ومن حق المؤمنين أن يعرفوا قدر ما تكرّم الحق عليهم في هذه الصلة، وما هيأ لهم من أسباب الوُصلة الخاصة به تعالى في علاه، وأن يستفيدوا منها، ما وصلت الفائدة إلى بعض خيار الأمة فكان بعض التابعين يناجي ربه لعشرات من السنوات كل ليلة: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا من عبادك الصلاة في قبره فأعطِنيها في قبري، من عشقه للصلاة، وقُبِر وسقط على أحد الذين دفنوه مالاً له فجاء يحفر فوجده يصلّي في قبره! وعاد إلى عند أخته، قال: اخبرينا بما كان يعمل؟ قالت: لماذا تسأل؟ قال: أحب أن أعرف، قالت: لابد من سبب. فأخبرها، قالت فأما إن كان ذلك فإني أسمعه في قيامه في الليل منذ خمسين سنة في هذا المكان يقوم ويقول: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا الصلاة في قبره فأعطِنيها في قبري، فما كان الله ليرد دعائه. خمسين سنة وهو يسأل أن يعطيه.
وقد قال ﷺ: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون". وقال فيما روى الإمام مسلم: "مررتُ على موسى ليلة أُسري بي وهو قائمٌ يصلي في قبره". فعشق الصلاة فخاف أن يقطعه الموت عنها فسأل الله أن يجعله ممن يصلون في قبورهم. فهكذا شأن من عرف قدر الصلاة أو عرف نصيبًا من قدر الصلاة، "صلةٌ بين العبد وربه".
فكانوا يقولون في تنوع إمداد الله بالفضل والعطاء إن القيام مائدة، والركوع مائدة أخرى غير مائدة القيام، وإن الاعتدال مائدة غير مائدة القيام والركوع، وإن السجدة مائدة أخرى، وأن الجلوس بين السجدتين مائدة، وأن السجدة الثانية مائدة تختلف عن السجدة الأولى وعن الجلوس وهكذا… فينبغي أن ننظر شأننا مع الصلاة، وأن نرقى من مجرد الواقفين بأجسادهم لتقِـف قلوبنا بين يدي مُقلّبها، ويفتح لنا ذوق حقيقة الصلاة، وسِرّ الصلاة، لنكون ممن يقيم الصلاة وليس مجرد من يصلي بل يقيم الصلاة.
وقد أسلفنا أن سيدنا عمر وسيدنا علي كانا يحبان أن يُجدّدا الوضوء لكل صلاة. كان بعض التابعين وتابع التابعين وبعض صلحاء الأمة يتهيأ لكل فريضة بالاغتسال، فيغتسلون ويتطيّبون ويلبسون أحسن الملابس. وقد قال لنا الرحمن في قرآنه: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف:31]؛ أي: صلاة، عند إرادة السجود.
وكان منهم في هذه البلدة الشيخ علي بن أبي بكر السكران، ومن المتأخرين الإمام عبد الله بن حسين بن طاهر؛
من غُسْله في كل فرضٍ عزمةٌ *** صوفيةٌ سَهُلت على الآحاد
في الحضرة الكبرى يقيمون الصلاة
في تبعية إمامهم الأعظم ومتبوعهم الأكبر ﷺ.
قال سيدنا الغزالي: "آداب الصلاة: خفض الجناح"، وإذا كان نُدِب إليه سيد أهل الصلاح، وإمام أهل حضرة الفتاح مع المؤمنين، فكيف عند الوقوف بين يدي رب العالمين. قال الله للنبيّ (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الحجر:88]، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء:215].
وأمر الله به كل ولد مع والديه، فقال جل جلاله: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)[الإسراء:23-24]، فإذا أُمرنا بهذا الأدب مع الوالدين فكيف ينبغي أن يكون حالنا عند الوقوف بين يدي ربنا وربهم ورب كل شيء ومليكه؟.. وقد سمعنا قول زين العابدين إذا سألوه عن تلون وجهه عند القيام إلى الصلاة يقول: أتدرون بين يدي من أقوم ومن أُناجي؟! أتدرون بين يديّ من أقوم ومن أُناجي؟.. فبغاية الذلة والتذلل للكبير المتعال.
قال الإمام حسن بن صالح البحر: فإذا تطهّرت عن الأكدار، وخلعت ربقة الأغيار، تقوم بمحض الذلة والانكسار، فتلاحظ معشوق الجمال، وتخضع بالذل والابتهال، وتخشع لهيبة الجلال، وتلاحظ معشوق الجمال وتقوم بمحض الذلة والانكسار بين يدي الملك الغفار، وتُكبّر هكذا يكون القيام الى الصلاة. فالذي لا يحسّ في قلبه تعظيم وحركة من حين ما يسمع الأذان ثم يتساهل حتى يقرُب وقت الإقامة ولا يهتزّ، ربما سمع الإقامة وهو في غفلة كيف يصلي هذا؟! ولكن على قدر تعظيم شعائر الله يُتصل بحقائقها، ويستفاد من خيراتها، على قدر ما تعظّمها.
"خفض الجناح ولزوم الخشوع"، قال ربنا: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون:1-2]. ويذكر الإمام الغزالي في الإحياء ستة صفات يتم بها الخشوع:
-
حضور القلب
-
وتأمل المعنى؛ تدبّر المعنى
-
والإجلال والتعظيم
-
والهيبة
-
والرجاء
-
والحياء
إذا اجتمعت فقد تمّ الخشوع، تحققتَ بالخشوع.
حضور القلب: أن لا تنصرف الى شيء آخر، وتكون حاضرًا مع ما تقول وتفعل، وما يكفي حضور قلبك دون تدبر المعنى؛ فـتتدبر معنى القيام، ومعنى الفاتحة، ومعنى السورة، ومعنى دعاء الافتتاح، فتتدبر معنى الركوع، ومعنى التسبيح الذي فيه، فتكون حاضر القلب ومتفهم للمعنى. ومع ذلك معظّم ومُجلّ؛ فقد تتدبر المعنى وتحضر قلبك مع الطفل أو الصبي وتتفهم ما يقول لكن من دون تعظيم وإجلال! ليس هذا الخشوع. يكون حضور القلب وتفهم المعنى مع الإجلال والإكبار والتعظيم، ومع التعظيم هيبة، وهو خوف منشأه التعظيم والإجلال؛ تخاف أن تسيء الأدب في حضرته أو أن يرد عليك صلاتك. ومع هذه الهيبة الرجاء؛ وهو أن ترجو أن يقبلك، وأن يُقبِل عليك، وأن يقرّبك من حضرته، وأن يثيبك وأن يدخلك في دائرة أهل حضرته وأهل الصلاة معهم ويحشرك معهم، فيكون عندك رجاء. ومع ذلك كله حياء؛ وهو أن تتيقن أنك مهما بذلت وسعك و جهدك فلم تؤدِ الحق كما ينبغي وأنك مقصّر فتستحي. فإذا جمعت هذه المعاني فأنت خاشع.
قال: وهذه المعاني تلازم الأكياس من الأكابر، في الصلاة وخارجها؛ هم هكذا دائما. وفي هذا يقول الإمام ابن مسعود صاحب رسول الله ﷺ يقول: أول علم يُنزع من هذه الأمة الخشوع حتى لا تكاد تجد خاشعًا. فالخاشعون حتى خارج الصلاة قلوبهم حاضرة مع الله؛ يتدبرون معاني المتلو والمنظور والمسموع، وشئون النباتات والحيوانات والجمادات كلها لها معاني، يتدبرون المعاني ويعظمون ويهابون، ويرجون، وهم خجِلون منكسرة قلوبهم فهم في خشوع. وهؤلاء هم الذين يُقال عنهم أنهم (علَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج:23]. فصلاتهم دائمة، فيتضاعف لهم الحال والشأن والعطاء عند الدخول في الصلاة، ويستمر ويمتد معهم أثر الصلاة وخشوعها بعد الصلاة.
قال: "ولزوم الخشوع، وإظهار التذلل"، فإن ذلك من أقرب المقرِّبات إلى الحيّ القيوم الجليل. إنما ينال أيّ مخلوق من عِزة الله بقدر تذلّلـه لله، والعزة لله جميعا وليس بشيء بعزيز إلا ما أعزّه الله، وإنما يعز الله من تذلل لعظمته، فعلى قدر الذلة يمدّه الله بعزّته، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[المنافقون:8]. وإظهار التذلل، ومن أعظم مظاهره السجود، ولذا جاءنا: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".
"حضور القلب" أكّد عليه وهو من لوازم الخشوع، "نفي الوساوس" بجمع الهمّ والوجهة على الله عند القيام إلى الصلاة. وقد ذكرنا:
-
التعوذ من الشيطان بقول: أعوذ بالله السميع العليم، وبوجهه الكريم، من الشيطان الرجيم.
-
وقراءة سورة الناس قبل الدخول في الصلاة لمن يخاف الوسوسة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَٰهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)[سورة الناس1-6].
-
وأن يتخلى عن كل المشغلات.
وقد كان الإمام الحداد يقول لأصحابه: من كان معه خبر من أحد أو سلام من أحد أو رسالة من أحد لا يعطينا ذلك ولا يخبرنا بها عند خروجنا إلى الصلاة، ينتظر حتى نكمل الصلاة. فإننا نخرج بجمعية على الله. وقال تعالى: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)[النساء:103]، وأنتم مطمئنين، وبقلب متوجّه، لا أن تفكر هنا وتفكر هنا وتقوم تصلي.
ولذا كَرِه ﷺ:
-
من يصلي وهو يدافعه الأخبثان -البول أو الغائط- بل يقضي حاجته ثم يصلي وهو مطمئن.
-
وكذلك إذا حضر الطعام وهو جائع ويتوق إليه يأكل "إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء"، لكي يصلي غير ملتفت ولا مفكر ولا مستعجل، يصلي بطمأنينة.
فيجمع همه على الله في صلواته، وينفي الوساوس، كلما حاول الشيطان صرف فكره عن ما هو فيه يعود إلى ما هو فيه حتى يتمكن الحضور من قلبه، حينئذٍ يصير طبعه الحضور ويصعب عليه الخروج عن معنى الحضور.
"وترك التقلّب ظاهرًا وباطنًا"، لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه أو لسكنت جوارحه، والذي يعبث بلحيته في الصلاة يقول: "لو خشع قلبه لخشعت جوارحه". ولهذا عدّ الالتفات في الصلاة اختلاسة يختلسها الشيطان -سرقة- من صلاة ابن آدم. وقالوا: وسارق صلاته أخس سارق، ما يعرف يسرق إلا الصلاة! أهم ما بينه وبين الله يسرقها ويتلفت وهو يصلي!
ويروى أن العبد إذا قام للصلاة أقبل الله عليه بوجهه فإذا التفت قال: ابن آدم التفت إلى غيري، التفت إلى من هو خير له مني! فإذا التفت الثاني يقول: ابن آدم التفت إلى من هو خير له مني!.. فإذا التفت الثالثة أعرض الله عنه. ومن هنا استُحب للمصلي أن لا ينظر إلا موضع سجوده، ولا ينظر أي شيء ثاني.
"وهدوء الجوارح، إطراق الطرف، وضع اليمين على الشمال"، كما هو مذهب أكثر الفقهاء. وقال بعضهم بالإرسال؛ وهو أن يرسل يديه. وأكثر فقهاء الشريعة قالوا: يضمّ يديه ويمسك اليسرى باليمنى ويضع اليمنى فوق اليسرى، أو يمسك كوعيه بإبهامه وسبابته، وإما ينشر السبابة والوسطى على الذراع ويمسك بالإبهام من فوقه والخنصر البنصر من تحته، إما هكذا وإما هكذا.
-
يقول الشافعية والحنابلة: ويضع اليدين فوق السرة وتحت الصدر.
-
ويقول الحنفية: تحت السرة.
-
وقال المالكية بالإرسال.
يقول: "والتفكر في التلاوة"، على الخصوص ثم بقية الأذكار. بل كان يقول بعض أهل المعرفة: إن الحضور في الأفعال أهم من الحضور في الأقوال؛ الحضور في أفعال الصلاة؛ معنى القيام، معنى الركوع، معنى السجود، معنى الجلوس… الحضور في الأفعال وفي التلاوة على وجه الخصوص لأن القرآن مصدر المعارف والعلوم، وفي الصلاة محل الفتح.
"والتكبير بالهيبة"، فيترجم ما بقلبه بلسانه، فيقول: الله أكبر محققًا أن لا كبير إلا هو. "والركوع بالخشوع"؛ أي: بحقيقةٍ من حقائق الركوع. وممّا ورد في ذكر الركوع: خشع لك مخّي وعظمي وعصبي وما استقلّت به قدمي، اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك مخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين. وتشهد أن كل شيء خاضع لجلاله وهيبته عند ركوعك.
"والسجود بالخشوع"، متذللًا بين يديه، متقرّبًا إليه، معبِرًا عن حاجتك، أنا من أجلك أضع أشرف ما أعطيتني من الأعضاء على ممر الأقدام على الأرض خضوعًا لجلالك، الله أكبر! قال بعض أهل العلم كانت الصلاة عماد الدين لهذا، فتاركها أو قاصد تركها كأنه يقول أنا لا أخضع لك ولا أتذلل لجلالك. أبى يسجد لهذا كان معرض للكفر والعياذ بالله تعالى بترك الصلاة. وما شيء من العبادات التي فُرضت قيل أن تركها من غير جحود لها كفر إلا الصلاة.
-
قال بعض الأئمة منهم الإمام أحمد بن حنبل وبعض الصحابة: أن تركها بالتعمد كفر والعياذ بالله تعالى.
-
وقال جماهير أهل العلم: إذا لم ينكر وجوبها ولم يجحد فهو فاسق وليس بكافر.
"والتسبيح بالتعظيم"، تقديسًا للعليّ العظيم، "والتشهّد بالمشاهدة"؛
-
يحيّي رب العالمين، يقول: التحيات المباركات والصلوات الطيبة لله، التحيات والصلوات لله، التحيات والصلوات الزاكيات… على مختلف الروايات. واختار الشافعية هذا الرواية وهي واردة في الصحيح: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله" لموافقتها مع آية: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) [النور:61]. التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، هذه تحيتك للرب.
-
ثم تحيّي عبده وحبيبه محمد، تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، بكاف الخطاب. وما أحد غيره أذن لك تخاطبه وأنت في حضرته إلا هذا، ولو تخاطب مَلَك أو إنسي أو جنّي تبطل صلاتك إلا بمحمد لابد تخاطبه وإلا تبطل صلاتك!
-
ثم تسلم على عباد الله الصالحين تحييهم معلنًا الولاء لهم، تقول: السلام علينا -بدون خطاب لهم- السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. و قد كان بعض الصحابة يقول قبل ما يعلمهم النبي: السلام على جبريل السلام على ميكائيل ، فعلمهم أن يقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنك إذا قلت ذلك بلغت كل عبد صالح في الأرض والسماء.
-
وتجدّد عهدك مع الله الذي عاهدك عليه:
-
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
-
وفي رواية: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
-
وفي رواية: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
-
هذا التشهد.
قال "والتشهد بالمشاهدة، والتسليم بالإشفاق" تسلم وأنت مشفق، أقُبلت أم لم تُقبل؟ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:60]، تسليم بالإشفاق. وسألت السيدة عائشة رسول الله ﷺ، قالت: الرجل يعصي ويخاف؟ قال رسول الله ﷺ: لا، بل الرجل يصلي ويصوم ويزكي ويخاف أن لا يقبل. (يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ). ولذا قالوا:
-
المؤمن جمع إحسانًا وخوفًا.
-
والمنافق جمع إساءةً وأمنًا.
يسيء ويأمن ما يخاف، والمؤمن يُحسن ويخاف، فرق بين هذا وهذا!.. وعمّن يرضى الرب؟ ومن يحب الرب منهم؟ يحسن ويخاف؛ هؤلاء محبوبو الرب والذين يكرمهم جلّ جلاله.
قال "والتسليم بالإشفاق، والإنصراف بالخوف، والسعي بطلب الرضا"، وكان عند انصرافه يستغفر ﷺ؛ وهذا ما ظهر الإشفاق والخوف، أستغفر الله، أستغفر الله… هو ماذا عمل الآن؟! يخرج من الصلاة ما جاء من معصية، لكنه يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.. لأجل التقصير، ولأجل ما قام بالحق يستغفر، أستغفر الله، أستغفر الله. ويقرأ: اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام، فحيّنا ربنا بالسلام وأدخلنا برحمتك دارك دار السلام، تباركت ربنا وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام. وعلى عدد من الروايات في ذلك وهذه يجمعها.
وعلمنا قراءة آية الكرسي بعد كل صلاة، وقال لنا:
-
"من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يكن بينه وبين أن يدخل الجنة إلا أن يموت".
-
"من قرأ آية الكرسي دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى".
-
من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة تولى الله قبض روحه بيده.
وعلمنا التسبيح 33 والتحميد 33 والتكبير 33 وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، ووعدنا أن من قال ذلك غُفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر.
وأخبرنا أنه ما دام المصلي في مصلاه الذي صلى فيه، ما غيّر مقعده ومجلسه فالملائكة تصلي عليه. "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مُصلّاه الذي صلى فيه تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه"، وفي رواية: "اللهم تُب عليه"، حتى قال بعض أهل العلم فلو سمعهم ما قام من محله بيبقى على طول.
وينبغي للمصلي أن يدعو الله قبل أن ينصرف من محل مصلاه. لما رأى سيدنا عمر من يصلي يقوم رفع الدرة وقال: أليس لك حاجة إليه؟ ما لك حاجة إليه تصلي وتقوم! ادعُه. وإذا صلوا جماعة فينبغي أن يكون دعائهم بعد دعاء الإمام، يرفع الإمام يديه ويدعون معه، لأنه من توابع الصلاة؛ يكون المأموم خلف الإمام. وكان بعض أهل النور والسر يقول: ادع قبل ما تغير هيئتك في الصلاة؛ لأن لكل صلاة أجرة وأجرة الصلاة الدعاء، استلم أجرتك وبعدين غير هيئة جلوسك، ادعُ أولًا.
فهذه آداب الصلاة، جعلنا الله من أهل إقامة الصلاة إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. اللهم لا تحرمنا سِرّ الصلاة، ونور الصلاة، وبركة الصلاة، وحقيقة الصلاة، واجعل سرّها مسلسل في أهلينا وأولادنا وذرارينا ما تناسلوا برحمتك يا أرحم الرحمين.
فإن الله ذم أقواما جاءوا بعد الأنبياء وخالفوا، قال: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59] والعياذ بالله تبارك وتعالى. فاجعلنا ممن أقاموا الصلاة، واتبعوا الشريعة، واقتدوا بنبيك، وجميع أولادنا وذرارينا ما تناسلوا برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
الاستعانة على الخشوع:
-
إما باستحضار الكعبة أو الروضة الشريفة أو الحجرة.
-
وذكر الإمام الغزالي أنه عند التكبير يُقدّر أنه بين أيدي من يعزّ عليه ممّن يعظمهم يحترمهم حتى يحضر قلبه، فيكون هذا وسيلة من الوسائل. وإذا انفتح له باب الحضور اضمحلّت الأكوان كلها ولكن هذه وسائل يتوسّل بها الحضور مع الله تبارك وتعالى وليجتمع القلب على الله تبارك وتعالى.
وكما أن لكل علمٍ عمل؛ فكذلك الخشوع يُعلم ويُعرَف ثم يُعمل به، فيصير وصفًا لصاحبه عندما يعمل به؛ كبقية الصفات المحمودة والحسنة. وبالعلم يعرف معنى الخوف ثم يتصف به، يعرف معنى الرجاء ثم يتصف به، يعرف معنى الصبر فيتّصف به، يعرف معنى الشكر يتصف به، ويعرف معنى الخشوع ويتصف به؛ فالعلم شيء والعمل به شيء آخر.
العمل بالعلم قد يكون:
-
قولًا
-
أو فعلًا
-
أو وصفًا
وبعد ذلك هناك ذوقُ، ومن العلم الذوقي ما يكون نفس العلم به هو عين العمل به وهذا أشرف العلوم وهي معرفة الحق جلّ جلاله. فهناك العمل بها نفس علمها ومعرفتها.. لا إله إلا الله، هذه أشرف العلوم لأنها نتائج الأعمال،
-
والعلم الذي يُراد للعمل؛ العمل أشرف منه.
-
والعلم الذي ينتجه العمل؛ أشرف من العمل.
يراد العمل له وذاك يُراد لأجل العمل، فلا فضل فيه إلا أن يعمل به صاحبه. وأما هذا العلم الآخر هو نتيجة العمل وثمرة العمل فهذا أفضل من العمل.
ملأ الله قلوبنا بالإيمان واليقين، وأدخلنا دوائر الخاشعين الخاضعين المتقين، وجعل لنا من علم الخشوع وذوقه والاتصاف به ما به نرقى مراقي أهل الدرجات فيه، حتى يُلحقنا الله بسيد أهليه في لطف وعافية، ويُسر قلبه بنا، ويقر عينه بنا، وينظر إلينا به وإلى أمته، ويكشف الشدائد والبلايا والآفات عنهم، ويبارك لنا في خاتمة هذه الأيام.
ثلثين راح من الستة، بقي اليوم والغد وتكتمل الست. كنا كملنا رمضان وكملت الست بعد رمضان وعسى بركة العمر واغتنامه وخير لياليه وأيامه، ويحسن الله لكل منّا ختامه، ويجعل عمره معمور بالخشوع والخضوع والقرب من الحق والفهم عن الحق والاستعداد للقاء الحق، ومرافقة سيد الخلق. أكرمنا بذلك، واجعل اعمارنا سلالم نرقى فيها في تحقيق هذه الشؤون في قومٍ يهدون بالحق وبه يعدلون مع اللطف والعافية يا عالم الظهور والبطون بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
10 شوّال 1442