(536)
(228)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان بحارة عيديد، مدينة تريم، 11 جمادى الثانية 1443هـ بعنوان:
واجب المؤمنين بين التوكل على الله وإقامة الأسباب على منهاجه وموازين ذلك
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله.. الحمدُ لله القويِّ المقتدرِ القادرِ القاهرِ المتين، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له. وظيفةُ مَن آمنَ به أن يعبدَه ويخضعَ لجلالِه ويمتثلَ لأمرِه ويستكين، وذلك هو الظافرُ بسعادةِ الدنيا والآخرةِ والنَّاجي والفائزِ في يومِ الدين. وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه الصادقُ الأمين، القدوةُ العظمى في العبوديَّةِ لحضرةِ الإله، أكرمِ هادٍ إليه ودالٍّ عليه -تعالى في علاه- العبدِ المحضِ الخالص المخصوصِ مِن رَبِّ العرشِ بأجلِّ الخصائص، الذي به كُنَّا خيرَ أُمَّة، ونجَونا مِن البلية والرزيَّة والنِّقمة، وانبسطَ لنا به بساطُ النعمة، فصلِّ يا ربَّنا على عبدِك سيدِنا محمدٍ الذي أرسلتَه للعالمين رحمة، وعلى آلِه وصحبِه القادةِ الأئمَّة، وعلى مَن تبعَهم بإحسانٍ في كُلِّ مهمة، وعلى آبائه وإخوانه مِن المرسلين المُرتقِين في ذُرى الفضلِ والمجدِ والمعرفةِ والهدى أعلى قِمَّة، وعلى آلهم وصحبِهم وتابعيهم بنيَّةٍ وهمَّةٍ، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم في كُلِّ وقتٍ وحالٍ وحين.
أمَّا بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله.. تقوى اللهِ التي لا يَقبلُ غيرَها، ولا يَرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيبُ إلا عليها.
ومِن أجلِها والتحقُّقِ بها شُرِعَت العبادات، وفُرضَتِ الجُمُعَات، وسُنَّتِ الاجتماعات، وعُقِدَت مجالسُ التذكيرِ بِرَبِّ الأرضِ والسماوات والمرجِعُ إليه وأحوالِ يومِ الميقات، والخلودِ في الجنَّات أو في النيرانِ الموقَدات.
أيها المؤمنون بالله جَلَّ جلاله: وإنَّ مِن أعظمِ مجالاتِ تقوى الله إقامةَ الميزانِ في الاعتمادِ عليه، والتوكُّل عليه، والالتجاءِ إليه، والعملِ بشريعتِه وتوجيهاته، وإقامةِ الأسبابِ على هذا الأساس؛ فإنَّ خالقَ الأسبابِ ربَّ الأرباب مَن بيدِه ملكوتُ كلِّ شيء جعل مناطَ التكليفِ بقُدرات يعطينا إيَّاها واستطاعاتٍ يهبُنا إيَّاها، في بحر أسبابٍ ومسبَّبَات؛ فيما يدخل في دوائرِ التكليف والاختيارات الموهوبات لهذا الصنفِ من المخلوقات مِن الإنسِ والجنِّ على ظهرِ هذه الأرض. وبتصرُّفِهم في اختياراتِهم تصدرُ جميعُ أعمالِهم، ومنها ما يحصل على ظهرِ الأرض مِن علاقات، ومِن نزاعات وخصومات، ومِن حروبٍ ومقاتَلات، ومِن انطلاقاتٍ في الشهوات، ومِن إنابةٍ وخشيات، ومِن أعمالٍ صالحاتٍ وطاعات، ومِن قِيَمٍ ومكارمَ وعباداتٍ؛ كل هذا جارٍ على ظهرِ الأرضِ باستعمالِ الإنسِ والجنِّ لِما أوتوا مِن اختيارٍ واستطاعات أعطاهم إيَّاها ربُّ الأرضين والسماوات، وأنزل الكتابَ وأرسل الرسلَ الذين ختمَهم بسيِّدِ الأحباب صلى الله عليه وآله وسلم؛ فوجب على كُلِّ مَن آمنَ وصدَّق وأنابَ ممَّن شهدَ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ الله أن يبنيَ مسارَه في الحياةِ على الاعتمادِ على الله والاستنادِ إليه، والالتجاءِ إليه والتوكُّلِ عليه، والتفويضِ له -جَلَّ جلاله- عاملاً في كُلِّ مستطاعِه في شؤونِ حياتِه، مطعَماً ومشرَبا، وملبَساً ومنكَحاً، ومسكناً ومركباً، وبيعاً وشراءً، وأخذًا وعطاءً.. وجميعُ ما ينطلق به، على نورانيةِ منهجِ اللهِ مقيماً للأسباب؛ عبوديَّةً لله معتمداً على الله، وبذلك تستقرُّ الحياة، وتحصلُ الاستقامةُ التي الأمر بها شيَّبَ خاتمَ الرسالةِ في سورةِ هود في قولِ ربِّكم لزينِ الوجود: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
والطغيان: الميلُ عن الاستقامةِ إيثاراً للنفسِ وشهواتِها أو لطرحِ أحدٍ مِن أهلِ الشرقِ أو مِن أهلِ الغربِ في تحسينِ شيءٍ ليس بحَسنٍ عند الرب -جَلَّ جلاله- أو تقبيحِ شيءٍ وتنفيرٍ عنه وهو حسنٌ عند الله يجبُ الرغبة فيه، هذا طغيان.. طغيان من المؤمنين أن يتركوا منهجَ ربهم فيعتمدون على أطروحاتِ فجار أو كفار مِن شرقِ الأرضِ أو غربِها!
أيها المؤمنون: شعارُ المؤمن: (وجهتُ وجهي للذي فطرَ السماواتِ والأرضَ حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسكِي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين).
وفي أول ذلك: الميزان الصحيح بين إقامةِ الأسباب والتوكلِ على الله -جَلَّ جلاله-، وقد غابت في أوساطِ المسلمين معاني التوكل عند عمومِ المسلمين، ومعاني التفويضِ إلى الله، ومعاني الاعتماد على الله، بل معاني الالتجاء بصدقٍ والرَّغَبِ إليه والتضرُّعِ له! غاب عند كثيرٍ مِن رجالِ المسلمين ونسائهم وصغارِهم وكبارهم! وخصوصا في أوساطِ مَن يدَّعي الاطلاعَ ويدَّعي الثقافةَ والوعيَ ويدَّعي إدراكَه للأمور ومُجريات الحياة وما يدور في ميادينِ السياسية والصناعةِ والتجارةِ وغير ذلك؛ فأولئك تمتلئ قلوبُهم بالأسباب على أنحاءَ مختلفةٍ في تفكيرِهم وما يطرأ على نظرِهم وضمائرِهم، مع هذه الأنحاء المختلفة يظنُّ كلُّ واحد منهم أنه مدركٌ للحقيقة وأنه المثقَّف الذي يجب أن يُتَّبَع! حتى مِن قبلِ رجالِ علمِ الشريعة المطهَّرة والمعرفة بأحكامِ الدين والفقه في الدين يرى نفسَه أولى أن يُتَّبَع وأولى أن يُهتدى به! بغرورٍ امتلأ به مِن إيحاءاتٍ لنفسِه ولعدوِّه مِن إبليس وجُندِ إبليس مِن الإنس والجن المُحتقرِين لشرعِ الله! المستصغِرين لأحكامِ الله وأمرِ الله -تعالى في علاه-! الذين يريدون أن يضاهِئوا بمناهجِهم وأنظمتِهم وأفكارِهم وقوانينِهم شريعةَ الرحمنِ ومنهاجِه! وأحكامِه وتحليلِه وتحريمِه! خابوا وخسروا ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ ﴿قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾.
أيها المؤمنون بالله: يجبُ أن نعودَ لهذا الميزان؛ أن نحيِيَ الاعتمادَ على الرحمن، وأن نُضيء صدورَنا بصدقِ التوكلِ على الذي قال لنا في القرآن: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ أي كافيه، وقال تعالى ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾.
ألا إنَّ اللهَ يكفِي مِن كُلِّ شيء ولكن لا يكفِي منه شيء.. لا يكفي منه شيء، لا يكفي منه مالٌ، ولا يكفي منه سلطة، ولا يكفي منه قبيلة، ولا يكفي منه صحة ولا عافية؛ هو يكفي مِن كلِّ شيء ولكن يكفي منه شيء، يُغني عن كلِّ شيء ولكن ليس شيءٌ يغنِي عنه، وليس شيء يستغني عنه.. العرشُ والكرسي والسماوات السبع والأرضون السبع وما فيهنَّ ومَن فيهنَّ وما بينهنَّ مفتقرون إليه محتاجون إليه، هو الغنيُّ عنهم كلُّهم -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
أين غابت معاني هذا الاعتمادِ على الله؟! حتى رأينا قلَّةَ الاستنادِ إلى الله! قلَّةَ التضرُّعِ له! إذا نزلَت نازلةٌ أو أصابتهم مصيبة لجأوا إلى المظاهر والأسباب وحدَها وكأنَّها الفعَّالة! وأنصتوا ماذا تقول إذاعاتُ الدولة الفلانية والدولة الفلانية والهيئة الفلانية.. وكأنَّ الأمرَ بيدِهم! وكأن الحكمَ يرجعُ إليهم!
ما هذا الظن؟! ما هذا الوهمُ الفاسد؟! ما هذه الغَيْبَة لحقائقِ الإيمان؟ والغَيْبَة عن اللجاءِ إلى مَن بيدِه الأمرُ كلُّه؟! ومَن لا ملجأ ولا منجَى منه إلا إليه!
فيجب أن تعودَ حياةُ هذا الاعتمادِ على الله والتوكلِ عليه والالتجاءِ إليه.
ولقد قال لأوائلنا في قيامِهم بأمرِه على ظهرِ الأرض ومقابلتِهم لكلِّ معتدٍ مِن الطغاةِ والمفسدين: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ ثم قال لهم إني وإن أنزلت إليكم ملائكتي وأيَّدتُكم بهم فحقيقةُ النصرِ مِن عندي وحدي، يقول تعالى: ﴿بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾
وقال -جَلَّ جلاله-: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
وصرَّح وقال في الآية الثالثة: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
أيها المؤمنون بالله -جَلَّ جلاله-: هذا الميزان، ثم الانطلاق في الأسباب لا يكون إلا بنورِ السنَّة والكتاب، لا على ما يوحِي إلينا وما يُخَطِّط لنا أحدٌ مِن أهلِ الشرقِ أو مِن أهلِ الغرب، الله مُقَدَّم، وهو الأعلم، وهو الأحكم؛ فنتنوَّر بنورِ أوامرِه ونواهِيه وما أحلَّ وما حرَّم، وما أحلَّ مِن الطيبات وما حرَّم مِن الخبائث على يدِ محمدِ بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- فلنَقتدِ به ونَهتدِ بهديِه.
اللهم أيقِظ قلوبَ المسلمين وخلِّصهم مِن هذه الظلماتِ والآفاتِ التي حلَّت بقلوبِهم وعقولِهم، وخُذ بأيديهم إليك، ورُدَّ عنهم كيدَ عدوِّك إبليس ومَن شايعَه وناصرَه مِن شياطينِ الإنسِ والجنِّ أعداءِ نبيِّك الأمين، لا تبلِّغهم مراداً فينا ولا في أحدٍ مِن المسلمين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
وقال تباركَ وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم﴾
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ *۞ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الحمد لله.. بيدِه الأمرُ كلُّه، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله إليه مرجعُ الأوَّلين والآخرِين، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه، بعثَه الرحمن ﴿بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.
اللهم صلِ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك الأمين سيدِنا محمدٍ وعلى آلِه الأطهار المقترنين بالقرآن، وأصحابِه الأخيار المقيمِين للميزان، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عباد الله: فإني أوصيكم وإيَّاي بتقوى الله..
اتقوا الله، وردُّوا إلى حياتِكم حقائقَ الإيمان؛ باللجاءِ إلى الله، والاعتمادِ إلى الله، وكثرةِ التضرُّعِ والابتهالِ والاستنادِ إليه في حقائق:
ربِّ عليكَ اِعتِمَادِي ** كما إليكَ استِنَادِي
صِدْقَاً وأقصَى مُرَادِي ** رضاؤك الدائمُ الحال
فذلكم منهجُ الحقِّ ورسولِه الأصدق -صلى الله عليه وسلم-، فقد سُئل: قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسألُ عنه أحداً بعدَك؟ قال: (قل آمنتُ باللهِ، ثم استقِم)، وأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾.
حقِّقوا الإيمان، وقوموا بالاستِقامة؛ باستعمالِ الأسباب، فكم بين أيديكم مِن أسبابٍ لمصالحِ دينِكم ولمصالحِ معاشِكم بمنهاجِ دينِكم تكاسلتُم عنها وتغافلتُم! لأنه لم يشجِّعكم عليها أبواقُ اليهود ولا أبواقُ النصارى ولا أبواقُ الملحِدين التي دخلت كلَّ بيتٍ مِن بيوتكم! والتي تأثرَ بها أهلوكم وبنُوكم! حثَّكم اللهُ عليها وحثَّكم رسولُه، مِن زراعة أو صناعة أو تجارة على منهجِ الله، مع آدابٍ وإحسانٍ للجيران ونياتٍ صالحات، وجدِّدوا التَّشمير.. كم مِن أسبابٍ أعطانا اللهُ إيَّاها تغافَلنا عنها لأنَّ أبواقَ المزمِّرين المزمجِرين في العالم لا تحثُّنا عليها ولا تَلفِتنا إليها!
ألا يكفينا حثُّ اللهِ وحثُّ رسولِه؟! ألا نستنير ونُحسِنُ المسير؟ ونستعد مِن العمرِ القصير لأجل المصير؟! ألا نتبع البشيرَ النذيرَ والسراجَ المنير -صلى الله عليه وسلم-؟
فانشَطوا في إقامةِ الأسباب على منهجِ ربِّكم وما جاء في السنة والكتاب واتباعِ سيدِ الأحباب، صلى الله عليه وسلم، واستَعينوا بالله، وتوكَّلوا على الله، واعتمدوا عليه، واسألوه يؤتِكم مِن الخير فوقَ ما ترومون وأعظمَ مما تطلبون، فهو الذي بيدِه الأمرُ كلُّه ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ و: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾.
ألا: وإنَّ مِن أعظمِ الأسبابِ العجيبة كثرةَ الصلاةِ على عبدِه ونبيِّه محمدٍ صاحبِ الرُّتبةِ الكبيرة والمنزلةِ الشريفةِ لدى الرحمن؛ فإنَّ الرحمنَ يصلي على مَن صلَّى على هذا النبيِّ مرةً عشرَ صلوات، وإنَّ أولى الناسِ به يومَ الميقات أكثرَهم عليه من الصلوات.
وإنَّ اللهَ أمرَنا بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بالملائكةِ وأيَّهَ بالمؤمنين، فقال مُخبِرَاً وآمِرَاً لهم تكريما: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلِّم على المبعوثِ بالرحمة، أعظمِ نعمة، عبدِك المصطفى محمد، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مؤازرِه في حالَيِ السَّعَةِ والضيق، خليفةِ رسولِك سيِّدِنا أبي بكر الصِّديق، وعلى النَّاطقِ بالصَّواب، نَاشِرِ العَدلِ في الآفاق، حَليفِ المِحرَاب، المُنيبِ الأوَّاب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عمرِ بن الخطاب، وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَنِ استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، أميرُ المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخي النَّبِيِّ المصطفى وابنِ عَمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمه، إمَامِ أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيِّدِنا عليِّ بنِ أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيدَي شبابِ أهلِ الجنةِ في الجنة وريحانتَي نبيِّك بنَصِّ السنَّة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضا، وعلى الحمزَةَ والعبَّاس، وأمهاتِ المؤمنين وبناتِ المصطفى الأمين، وأهل بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبة وأهل بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وسائرِ الصَّحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ وانصرِ المسلمين، اللهم أَذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أَعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دَمِّر أعداءَ الدين، أيقظ قلوبَ المسلمين، نَبِّه عقولَ المسلمين، سِرْ بها سبيلَ الرَّشادِ والنورِ المبين، رُدَّ عنَّا وعنهم كيدَ الكفار والشياطين، واجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريم، وارزقنا الاستقامةَ على المنهجِ القويمِ والصراطِ المستقيم، ثبِّتنا على الحقِّ فيما نقول، ثبتِّنا على الحقِّ فيما نفعل، ثبِّتنا على الحق فيما نعتقد، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به نبيُّك سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنا.
اللهم فرِّج كروبَ أمَّته وادفع البلايا عنهم، واجمع شملَهم على ما تحبُّه منهم وترضى به عنهم، اللهم حوِّل أحوالَهم إلى أحسنِ الأحوال، وعافِنا وإيَّاهم مِن أحوالِ أهلِ الضلال وفعلِ الجهَّال،
اللهم اختم لنا بالحسنى وأنت راضٍّ عنَّا، واغفر لعبادِك المؤمنين والمؤمنات موتاهم وأحياهم إلى يومِ الميقات بأوسعِ المغفرات يا غفَّارَ الخطايا والسيئات، يا أكرمَ الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
نسألكَ لنا وللأمَّة مِن خيرِ ما سألك منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مِما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنتَ المستعانُ وعليكُ البلاغُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهَى عن ثلاث:
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ﴾
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
12 جمادى الآخر 1443