ميزان التبعية والقيادة وأثر ذلك على حياة الأمة ومآبهم
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة بحارة عيديد، مدينة تريم، 30 ربيع الأول 1443هـ، بعنوان:
ميزان التبعية والقيادة وأثر ذلك على حياة الأمة ومآبهم
نص الخطبة:
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمدُ لله القويِّ العزيزِ القادر، الإلهِ المُوجِدِ الفاطرِ، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، النَّاظِرُ إلى مَكنُونَاتِ الضَّمَائرِ، والسَّامِعُ لوقوعِ الخواطر، عالمُ السرائر، جامعُ الأولين والآخِرِين للفصلِ والحُكمِ والقضاءِ بينهم في اليومِ الآخِر، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرَّة أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه الأتقى الأنقى الطَّاهِر. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيِّدِنا محمدٍ الذي ختمتَ به الرسائل، وجمعتَ له الفواضِلَ والفضائل، وعلى آلِه الأطهار وأصحابِه الأخيار، ومَن مشى على دربِهم في كُلِّ ما هو نَاوٍ وفاعِلٌ وقائل، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياءِ والمرسلين ساداتِ أهلِ الفضائل، وعلى آلهِم وصحبِهم وتابعيهم، والملائكة المقرَّبين وعبادِك الصالحين أجمعين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد.. عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله.. تقوى الله التي لا يقبلُ غيرها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيبُ إلا عليها.
ألا وإنَّ أمَّة النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم تُوَدِّعُ شهرَ ذكرى ميلادِه الأطهر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقد عَمِلَ مَن عَمِلَ منهم على تجدِيدِ الولاء، وبَعثِ المحبة، وإقرارِ التَّبعيَّة، وإقامةِ القيادة النبوية، في شؤونِهم وأحوالهم، بما احتفلوا واجتمعوا وذكروا اللهَ ورسولَه، وأنصَتوا إلى الآياتِ والسيرة واستمعوا؛ مُجَدِّدينَ لولائهِم لله ورسوله، مُحيِين موفِّرين لمحبَّتِهم لله ورسوله.
أيها المؤمنون: إنَّ حقائقَ الإيمان تقتضي أن تعيشَ الأُمَّةُ في أيامِها ولياليها عيشةَ الإحساس والإدراك بأسرار "لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله" مطبِّقةً لمعاني الاقتداءِ والاهتداءِ والانتهاجِ في نهجِ خاتمِ الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، المرتضَى من قِبَلِ الإلهِ الخالق قدوةً وإماماً ومُتَّبَعَاً ومُطاعاً وأسوةً حسنة، قال عنها في كتابه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ..} -أي يؤمن بلقاءِ الله والرجوع إليه وباليوم الآخر والبعثِ فيه والقضاء والحكم والفصل فيه من قِبَلِ العليِّ الأعلى- {..أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} وذكر الله كثيرا: أي مَزَجَ حياتَه بأحاسيسَ ومشاعرَ يذكر بها العليَّ القادرَ العزيزَ الغافرَ الأول الآخر الباطن الظاهر، لا يسترسلُ وراءَ المباحات فضلاً عن المكروهات وعن الشُّبَهِ وعن المحرَّمات استرسالًا يُقصِيه عن الذكر وحُسنِ الفكرِ والحضورِ مع عالِمِ الجهرِ والسر -سبحانه وتعالى-. هذا وصفُ الذين اقتدَوا واهتدَوا بالأسوةِ الحسنة؛ آمنوا بالله وبلقائه والرجوعِ إليه، وباليومِ الآخرِ ومجيئه وحصولِ الحكمِ والفصلِ والقضاءِ فيه، في جميعِ ما كانوا فيه يختلفون، حينَ يقولُ الحيُّ القيوم {لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ}.
أيها المؤمنون بالله جَلَّ جلاله: وليكن مسارُنا فيما أخذنا مِن شَحنٍ لطاقَاتِ استحضارِنا واستذكارِنا وتنوُّرِنا بنورِ التبعيَّة لخير البرية؛ ليكون لها مجلىً تصحيحٍ في مجالِ السَّيرِ في الحياة فيما يُنازِلُنا وما يصدرُ عنَّا من نيَّاتٍ وأقوالٍ وأفعالٍ، فيما يُخالجُ ضمائرَنا مِن خواطرَ وأفكارٍ وتنطلقُ فيه جوارحُنا من سلوكياتٍ وأعمال. يجبُ أن تُصَحَّحَ وتُبسَطَ على المنهجِ الأقومِ الأوضح، في تبعيَّةٍ لزين الوجود، وارتِضائه قدوةً، ورفضِ كُلِّ ما خالفَه مما يُنازِعُنا في القدوة، ومما يُنازعُنا في التبعيَّة من الأنفس والأهواء وشياطين الإنس والجن وما يدعون إليه في الفكر والاعتقاد أو الأقوال والأفعال والسلوكيات والمعاملات والتصوُّرات مخالفاً لِمَا بُعِثَ به المأمونُ المؤتمن "محمد بن عبدالله" وجاء به عن الله جَلَّ جلاله.
فلتَتحرَّر الأمةُ مِن هذا التطاولِ والتجرُّؤ من القيادةِ الفاسدةِ الماكرةِ الخبيثة مِن أنفسٍ وأهواءَ لنا أو لسِوانا من بني جنسِنا من البشر لتقودَنا بدلاً عن قائدٍ "الله" ارتضاه أن يقود! والحقُّ تعالى اختاره أن يكون المُتَّبَعَ الذي لا يُخرَجُ عن طاعته ولا عن أمرِه ولا عن سُنَّتِهِ ولا عن هديه، بل صرَّح وقال جلَّ جلاله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
لِنَتَحَرَّر من التبعيَّاتِ المَقِيتَة السَّاقِطَةِ الهَابِطَةِ الفاسدةِ المؤديَّةِ إلى شَرِّ الدنيا والآخرة! إلى فساد الفكر والسلوك، إلى الخيبة عند الوقوف بين يدي مَلَكِ الملوك -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-!
إنَّ ارتضاءَ الناس لبعضِهم البعض قيادةً وأسوةً -دون نظرٍ إلى الأصل مِن طاعةِ الله والرسول- خيانةٌ في الدين! واتخاذ الناس بعضهم بعضا أرباباً مِن دون ربِّ العالمين!
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
أسلمنا لله وآمنا بالله، وإن كان مِن قدوةٍ فمحمدُ بنِ عبد الله، وما طاعتُنا لخلفائه الراشدين ولا لعُلماءِ وصلحاءِ أهل بيتِه خاصَّة، وعلماءِ وصلحاءِ أُمَّتِهِ عامة، ولا لكبار السِّنِّ فينا والصالحين ولا للأبوين ولا لغيرها إلَّا مِن حيث أنها دلالة على طاعةِ الله ورسوله فقط؛ ما خَالَفَ منها أمرَ الله ورسولِه فلا اعتبارَ له ولا طاعةَ له، و: (لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق) في كُلِّ ما أُوجِبَ علينا في الشرع من طاعةِ أولياءِ الأمور أو الوالدين أو طاعة كبيرِ السِّنِّ أو طاعةِ مَن له علَينا ولاية؛ كُلُّ ذلك مُقَيَّدٌ مربوطٌ بموافقتِه لما جاء به المقتدَى الحق، حبيب الحق، ورسول الحق، ومأمون الحق، والمُبَلِّغ عن الحق لجميع الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، والمُخَاطَب بقولِ ربِّنا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}.
ولقد قال لنا مولانا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، وأمرنا أن نتدارك كل ما حصل مِنَّا من تقصيرٍ وهفوةٍ وزللٍ فقال جَلَّ جلاله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}.
أيها المؤمنون بالله: ارفعوا راياتِ التَّبَعِيَّةِ لمحمدِ بن عبد الله، واخرُجوا من الشُّحنَةِ المباركة في شهرِ ذكرى ميلاده بحقيقةِ استقامةٍ على ما أَحَبَّ منكم خالقُكم.
ألا: ولقد سُئلَ صاحبُ الرسالة مِن بعضِ أصحابه وقال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدك؟ قال: (قل آمنتُ باللهِ ثم استقِم).
وأنزل الله مِصدَاقَ ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}.
أترونَ عرضًا أكبر وأجملَ وأوفرَ وأحسنَ مِن هذا؟! ماذا تَعرِضُ عليكم نفوسُكم؟ والصَّادُونَ عن سبيلِ الله من شرقِ الأرض وغربِها ماذا يعرضون عليكم؟ وماذا يَعدونَكم به؟ وماذا يقابلونكم ويعطونكم مقابلَ مخالفتِكم لسنةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وخروجِكم عن أمرِ ربِّكم؟!!
أترون مثلَ هذا العرض؟! : {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}
ماذا يُعطَى مقابلَ هذا إذا فات هذا؟! ماذا سيُحَصِّل مَن يُحَصِّل إذا ضَيَّعَ هذا الأمرَ العظيم مِن الإلهِ العظيم؟!
ماذا؟! أوَظيفة أم وزارة أم رئاسة؟ أم سيارة أم طائرة أم بيت؟ وكلها فانية وعاقبتُها خسران!
ماذا سيحُصِّل مَن خالفَ هذا الأمر ومَن ضيَّع هذا الأمرَ الإلهيَّ الرباني؟!
ألا: فلتَشهدِ البيوتُ والمساكنُ بعد الشهرِ الكريم رفعَ رايةِ الاقتداءِ بالنبيِّ العظيم فيما يدور ويجول من فكرٍ وسلوكٍ في ذهن وعقلِ الأبِ والأمِّ وأولادِهم وسطَ الديار؛ ليعلَموا أنَّ المُقتدى هو المختار، وأنَّ الأسوةَ حبيبُ المَلِكِ الغفَّار صلى الله عليه وآله وسلم.
اللهم ثبِّتنا على دربِه، واجعلنا في حزبِه، وارزقنا كريمَ قُربِهِ، واحشرنا في زُمرَتِهِ وأنت راضٍّ عنَّا يا ربَّ العالمين.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وقال تباركَ وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}
{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا * فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا * مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ۖ وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا * وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا * ۞ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، مَن بيدِه الأمرُ كلُّه وإليه يرجعُ الأمرُ كلُّه، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، والنعيمُ والجزاءُ الحسن فضلُه، والعقابُ والعذابُ الأليم عدلُه، وهو رَبُّ كُلِّ شيء، وبيدِه ملكوتُ كلِّ شيء، سبحانه مِن أبديٍّ سرمديٍّ حيّ، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه، خيرُ قدوةٍ في كُلِّ شيء، حبيبُ الملكِ الإلهِ القيومِ الحي، جاءنا بختمِ الرسالة، ودلَّنا أحسنَ الدلالة وكُنَّا به خيرَ أمةٍ فاقَت الأُمَمَ فضلاً مِن الله تبارك وتعالى وجلَّ جلاله.
اللهم صلِّ وسلِّم على المصطفى المختار سيِّدِنا محمد وعلى آله وصحبه وأهل ولائه وحزبِه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المبشِّرين به، وعلى آلِهم وصحبِهم وأتباعِهم وملائكتِك المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد.. عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله..
فاتقوا اللهَ فيما يُنصَبُ في الأذهان والمقاصد والنوايا مِن قُدوَاتٍ ومتبوعات، اتقوا الله في صَبْغِ حياتِكم ألا تَصبغوها إلا بــ: {صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} صبغة الطاعة والانقياد والاقتداء {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} اللهم اجعلنا منهم.
أيها المؤمنون بالله: فيما يجري مِن المناسبات والعادات اليومية وفي المناسباتِ مِن أعيادٍ وزواجاتٍ وقدومِ مسافرٍ واستحداثِ بناء بيتٍ وموتِ ميِّتٍ.. وغير ذلك مما يحصل في الحياة، اصبَغوه بصبغةِ الله، حلُّوه بخِلعةِ التبعيَّة لمحمدِ بن عبدالله، وإقامة سُنَّتِه، ولا تسترسلوا وراءَ الأهواء.
ولقد جعل الله لكم في المباحات مندوحةً وسَعةً تُسَخِّرونها وتُسَيِّرونَها فيما يُرضِي ربَّكم، ولا تسترسلون فيها استرسالَ الغافل واسترسالَ النَّاسِي للِّقاءِ والمصير والمَعَاد والمرجعِ والوقوفِ بين يديِ الحق، فإنَّ الذين نسُوا يومَ الحساب هم الكفار الذين يشتدُّ عليهم العذاب {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}، {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا}
فلا مجالَ لنسيانِ الحقِّ ولا لقائه والرجوع إليه في ذهنِ المؤمنِ بالله؛ وبذلك يحيا حياةَ الروح، وحياةَ القلب، والحياةَ الطيِّبة؛ محرَّراً أن يُخدَعَ ويُضحَكَ عليه من قِبَلِ نفسٍ أو هوى مِن عنده أو مِن عند مَن على ظهرِ الأرض شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالا!
ألا: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ ٱللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} كذلك خاطبَ الأنبياءُ أممَهم: {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}. ثم وجَّه الحَقُّ الخطابَ إلينا وأمره أن يخاطبَنا نبيُّنا: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}
هذا القدوة لنا.. فكيف لا نخاف مِن بعده؟! ومَن يُجيرُنا مِن عذاب الله؟ أحزبٌ أم مؤسسة أم وزارة أو دولة صغرى أو كبرى؟!
وفي عقيدتِنا أنَّ مَن على ظهرِ الأرض مِن الدول كلِّها "صغرى"، وإن كان مِن دولةٍ تَصِحُّ أن تُسَمَّى "كبرى" فدولةُ القرآن وسنَّةُ محمد والقائمون عليها بحقٍّ هم الدولةُ "الكبرى"؛ لأنَّ المرجعَ لهم، والمصيرَ لهم، وهم الفائزون يومَ القيامة، فما دولةٌ كبرى إلا هي، وجميع ما وُصِفَ بصغرى وكبرى مِن الدول سريعةُ الزَّوال وشيكة الاستبدال، متغيِّرة، فانية، زائلة.
ألا: فاربطوا حبالَكم بالحيِّ الدائمِ القويِّ الذي لا يزول ملكُه ولا يُعَقَّبُ على حكمِه، وبيدِه الأمرُ كلُّه. وأقيموا قيادةَ المصطفى المختار على أعيُنِكم.. فَلْتَقتَدِ له، وعلى أسماعِكم وعلى أيديكم وبطونِكم وفروجِكم وأرجلِكم وألسُنِكم؛ فَلْتَنقَد لخيرِ قيادة؛ لتسعدَ أيَّما سعادة، في الغيبِ والشهادة.
اللهم أيقِظِ الأمةَ وقلوبَها، ونوِّرِ اللهم بصائرَها وعقولَها، وأخرِجهم مِن الظلمات إلى النور، وبدِّل زيغَهم في الاقتداء بالفجارِ والكفارِ إلى إحكامِ القدوةِ بالنبيِّ المختار، اللهم وادفع عنَّا الشرورَ والأشرار، وحوِّلِ الأحوالَ إلى خيرِ الأحوال في السِّرِّ والإجهار، يا كريمُ يا قويُّ يا غفَّار.
وأكثِروا الصلاةَ والسلامَ على خيرِ إمام سيِّدِ الأنام، وأحسِنوا به الائتِمام، وامتلئوا بمحبَّتِه وذكرِه وذكرِ ربِّه على منهاجِه تُحظَون بمرافقتِه يومَ القيامة.
ولقد قال فيما جاءنا مِن الخبر عنه -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الترمذي وغيره مِن أئمة السنةِ الأعلام: (إنَّ أولى الناس بي يومَ القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة).
فأكثِروا الصلاةَ والسلامَ عليه ليلاً ونهارا سِرَّاً وإجهارا؛ فإنَّ ربَّ العرشِ يصلِّي على مَن صلَّى على نبيُّه بالصلاةِ الواحدةِ عشرَ صلوات، واسمَعوا ما أنزلَ مِن كلماتٍ بيِّنات بدأ فيها بنفسِه، وثنَّى بالملائكة وأيَّهَ بالمؤمنين؛ فقال مُخبِراً وآمراً تَكرِيمَاً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم على الرَّحمَةِ المُهداةِ والنِّعمَةِ المُسدَاة السِّرَاجِ المنير البشيرِ النذير عبدِك الطاهر سيِّدِنا محمدٍ، وعلى صاحبِه في الغار، ومؤانسِهِ في حالةِ السَّعَةِ والاقتارِ، الخليفةِ مِن بعدهِ المُختار، خليفةِ رسولِ الله الشَّفيق، سيِّدِنا أبي بكر الصِّديق، وعلى نَاشِرِ العَدلِ في الآفاق، مُتَأدِّبَاً بأدبِ نبيِّكَ مقتديًا بعظيمِ الأخلاق، المُنيبِ الأوَّاب، حَليفِ المِحرَاب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عمرِ بن الخطاب، وعلى بَاذِلِ الأموال في سبيلِك، مُقتَدِياً مُتَّبِعَاً لرسولِك، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَن استحيَت منه ملائكةُ الرَّحمن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى بابِ مدينةِ العلم ومعدنِ الكَرَمِ والحِلْم، أخي نبيِّك المصطفى وابنِ عَمِّه، إمَامِ أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيِّدِنا عليِّ بنِ أبي طالب.
وعلى ريحانتَي نبيِّك الحَسَنِ والحُسينِ، وعلى الحمزَةَ والعبَّاس، وأمهات المؤمنين، وفاطمةِ الزهراء وبناتِ سيِّدِ المرسلين، وآل بيتِه الطَّاهرين، وعلى أهلِ بيعةِ العقبة وأهل بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وسائرِ الصَّحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أَذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أَعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دَمِّر أعداءَ الدين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، اللهم أيقِظ القلوبَ ونَقِّها عن كُلِّ شوب، اللهم ارزقنا حُسنَ المتابعةِ لحبيبِك المحبوب، شرِّفنا بتبعيَّتِه فيما نقول وما نفعل وما ننوي وما نعتقد ظاهراً وباطنا يا مُطَّلِعِاً على السَّرائر والغيوب، اجعل اللهم سرائرَنا خيراً مِن علانِيَّاتِنا، واجعل علانيَّاتِنا صالحة، وارزقنا الاقتداءَ والاهتداء؛ لنَسعَدَ مع خواصِّ السعداء هُنَا وغدا، بما أنت أهلُه يا عالم ما خَفِيَ وما بدا.
يا حي يا قيوم اجمع شملَ المسلمين بعد الشَّتات، وألِّف ذاتَ بينهم على الإيمان واليقين ومتابعةِ خيرِ البريَّات، اللهم وادفع عنَّا وعنهم شَرَّ الفاجرين والفاسقين وأعداءَ الدين، ولا تُبَلِّغ أعداءَ دينِك مراداً فينا ولا في أحدٍ مِن المسلمين يا قويُّ يا متين.
اللهم أصلِح الراعي والرَّعِيَّة، وصَفِّ لنا كُلَّ سريرة وطويَّة، واسقِنا مِن مشاربِ الشريعةِ المطهَّرَةِ النَّقِيَّة، وارفعنا مراتبَ القُربِيَّة، وألحِقنا بأهلِ الصِّدِّيقيَّة، وأعِذنا من كُلِّ أذيَّةٍ وبَلِيَّةٍ ظاهرةٍ وخفيَّةٍ في الدنيا والآخرة.
يا ربَّ الدنيا والآخرة اجعلنا في أهلِ الوجوه النَّاضرة التي هي إليكَ ناظرة. وارحم الآباءَ والأمهاتِ والأجدادَ والجدَّات وذوي الحقوق علينا ومشائخَنا في دينك، والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، واغفر لنا ولهم بأوسعِ المغفرات يا غافرَ الذنوب والخطيئات، يا سامعَ الأصوات، يا بارئ الأرضينَ والسماوات.
يا حيُّ يا قيُّوم لا تصرِفنا مِن جُمعتِنا إلا وقلوبُنا عليك مجموعة، ودعواتُنا عندك مسموعة، وأحوالُنا صالحة، ومساعينا مشكورةٌ ناجحة، يا حي يا قيوم يا أرحم الراحمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
{رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}
نسألكَ لنا وللأمة مِن خيرِ ما سألك منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنتَ المستعان وعليك البلاغُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
30 ربيع الأول 1443