(575)
(536)
(235)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإحسان بتريم، 8 رمضان1441هـ، بعنوان: منحى العبودية في الصوم، وتحرير البشر عن استعباد بعضهم لبعض، وتقويم مسلك الحياة
الحمدُ للهِ مولانا العَليِّ الكبير، العَظيمِ القدير، السَّميعِ البصير، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ يُحيي ويميتُ وهو حيٌّ لا يموت، بيدِه الخيرُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير، جعلَ المَغانمَ والغنائمَ في العُمرِ القَصير، لِعمارَةِ حياةِ الأبَدِ وعَظيمِ المصير، وأشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه وحبيبهُ السراجُ المنير. اللهم صَلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المصطفى محمدٍ أعلى قدوةٍ في عِبادَتِك، وأعظمِ أسوةٍ في العملِ بطاعتِك. وقد كان يجتهدُ في رمضانَ ما لا يجتهدُ في غيره، ويجتهدُ في العَشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ ما لا يجتهدُ في غَيرِها مِن رمضان. اللهم صَلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمد وعلى آلِه المطهَّرين، وأصحابهِ الكِرامِ الغُرِّ المَيامِين، وعلى مَن والاهم فيكَ واتَّبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين، وعلى آلهِم وصَحبِهم والتابعين، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وعلى جميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برَحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله. تقوى اللهِ التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا عليها (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين)
ولأجلها شُرِعَت الشرائعُ، ومنها فرضُ الصيامِ في شهرِ الجود والإكرامِ، والفَضلِ والإنعام، شَهرُ الغَفْرِ للذنوبِ والأوزارِ والمعاصي والآثام، شهرُ نَيلِ الرضوانِ والرحمةِ مِن ذي الجلال والإكرام، شهرُ العِتقِ من النارِ والعتقِ مِن العارِ والعِتقِ من المعاصي والعِتقِ من المعائب التي تعلَقُ بالإنسان.
أيها المؤمنون بالله: وشؤونُ تقوى ربِّكم جلَّ جلاله تتعلَّقُ بمختلفِ الفكرِ عند الإنسانِ، وتَقومُ عليها الوجهةُ وبمختلفِ المساعي والمَسالكِ التي يسلكُها في حياتِه، مِن ذلك نظرتُه إلى العُمرِ وأيامِ الحياةِ على ظَهرِ الأرض، وقد أوتي عقلاً وسَمعاً وبصراً يَرى فيه بِيَقينٍ أن لا دوامَ ولا بقاءَ ولا خلودَ على ظهرِ الأرض، وأنه يودِّع في كلِّ يومٍ مَن هو أَسَنُّ منه ومَن في سِنِّه ومَن هو أصغرُ منه، وأنَّ الجميعَ مِن على ظهرِ الأرض يُخَرَجون، ومن هذه الدار يُنقَلون ويُرَحَّلون ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
ومَن نظرَ إلى الحياةِ بهذا المنظارِ، وكان قد أُكرِمَ بمعرفةِ الحقيقةِ في خلقِهِ وإيجادِه والإنعامِ عليهِ وإمدادِه مِن قِبَلِ خلَّاقٍ كريم وإلهٍ عظيمٍ، خلق الخلَقَ لِحكَمة، وجعل لكلِّ مخلوقٍ مهمَّة، وجعل أعظمَ المهماتِ ما يتعلَّقُ بالإنسانِ والمكلَّفين مِن الإنسِ والجان، على ظهرِ هذه الأرض: مهمة التوحيدِ له، والإيقانِ بما جاء عنه، والعملِ بمنهاجِه وطاعتِه، والاستعدادِ ليومِ لقائه، وعمارةِ الأرض بِشَرعِه ومنهاجِه ونظامِه الذي أنزلَه على أنبيائه، صلوات الله وسلامه عليهم. وهذه مهمَّة، لا تتمُّ في عالمِ المكلَّفين – وهم المختارونَ مِن الإنسِ والجن – إلا على يدِ الإنسِ والجنِّ الذين وعَوا مهمَّتَهم وحكمةَ خَلقِهم وعرفوا إلهَهم الذي خلقَهم وعرفوا عنه لِمَ خلَقهم ولِمَ أوجدَهم، بل ولِمَ كوَّنَ الأكوانَ مِن حوالَيهم وخلقَ السماواتِ والأرض. وأنَّ الحكمةَ الكبرى والمهمَّةَ العظمى أن تَعِيَ عقولُ البشر ومَن سبَقَت له السعادةُ مِن الجن: أن تعيَ وحيَ الله، وبلاغَ رُسلِ الله الذين خُتِمٌوا بالنبيِّ محمدِ بن عبد الله، وأن يُدركوا أنَّ خالقَهم لم يخلُقهم عبَثاـ ولم يخلقِ السماواتِ والأرضَ وما بينهما باطلاً ( ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).
فتقوى الإنسان في نَظرهِ إلى الحياةِ أنه خُلِقَ ليُقِيمَ أمر ربِّه في حقيقةِ ما بيَّنَ الإلهُ الخالقُ، على لسان خير الخلائق ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)
وعند إدراكِ هذه الحقيقةِ تسيرُ به أنوارُ التقوى في اختيارِ مَقولاتِه، واختيارِ أفعالِه ومُكتَسباتِه، واختيارِ منظوراتِه ومسموعاتِه ؛ ما يُصَرِّفُ فيه هذه الآلاتِ المَوهوبة مِن قِبَلِ ربِّ البريات ؛ بحِكمةٍ بديعةٍ، مِن نطفةٍ كَوَّنَ سَمْعَاً وبَصَرَاً، ومِن نطفة كوَّن لساناً تنطق وتَطْعَم، ومِن نطفةٍ كوَّنَ جهازَ هضم، ومِن نطفةٍ كوَّنَ جهازَ تنفس، ومِن نطفةٍ خلَقَ دماً ولحماً وجلداً وشِعراً وظُفرا وسِنَّاً، بخَلْقٍ بديعٍ متراكب على أحسنِ تقويم .. كيف كانَ ذلك ؟!. ما أعجبَ خلقَك أيها الناسي لخالقِك ! ما أعجب تكوينَك أيها الغافلُ عن مكوّنك ! ثم تدَّعي عقلاً أو فهماً أو عِلماً أو ثقافةً أو تطوُّرا أو تقدُّما بتعرُّفٍ على مَواد مثلك مخلوقة وشيء مِن خصائصِها ! والسَّعيِ وراءَ شهواتِك وأغراضِ نفسِك ! لو كانت المسألةُ هكذا لكانَ خَلقُ الكون عبثاً، ولانْحَطَّ الإنسانُ عن رُتبتِه العليَّة ومكانتِه السَّنيَّة، وكأنه حيوانٌ مِن الأنعامِ بل أضلُّ، وحاشى اللهُ أن يخلقَ الخَلْقَ عبثا (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
ولم يزل هذا الإنسانُ في غفلتِه وإهمالِه لأمرِ ربِّه وجَريِه وراءَ شهواتِه وأهوائه يُذَكَّر بما يحصلُ عليه في الحياةِ أنه عبدٌ مخلوقٌ ضعيفٌ يجبُ أن يرعَى حَقَّ مولاه، وأنَّ إليه مَصيرَه ومُنتَهاه، بزلازلَ تحدثُ في الأرض، وبفيضاناتٍ تقصرُ عنه قوَّتُه مهما تقدَّمَ وتطورَ أن يكفَّها، وبأنواعٍ مِن الأمراض تنتشر، ونشاهدُها أكثرَها وأكبرَها ينتشرُ في دولِ التقدُّم والتطور وفي بيئاتِ دعوى الاكتشافاتِ والاختراعات والوصولِ إلى القَمرِ كما يقولون، ومعرفة الذرَّةِ وعِلمَها كما يدَّعون .. مختلف أنواعِ الأمراضِ الصَّعبَةِ الشديدة أولُ ما تنتشرُ عندَهم وفي بلدانِهم وفي أماكنِهم، ومنها تُوزَّع على بعضِ الأماكنِ على ظهرِ الأرض ؛ ليعلم مَن على ظَهرِ الأرضِ أنهم ضعفاء، وليُدركَ كلُّ مُدرِكٍ قبلَ انكشافِ الستارةِ أنه محتاجٌ إلى إلهٍ كريمٍ مرجعُه إليه، عظيمٍ قديرٍ هو المُسيِّرُ للوجودِ وما فيه. وكلُّهم أمامَ أعيُنِهم أنه لم يخلقِ الأوكسجِّين الذي هو ضرورةٌ في حياتِهم ويغلِّف به الأرضَ أحدٌ منهم ولا مِن آبائهم ولا مِن مصانعِهم ولا من حكوماتِهم ولا مِن معسكراتِهم ولا مِن تقدُّماتهم، العينُ تحكم أمامَ مرآى مِن الصغيرِ والكبيرِ مَن الذي خلقَ الإنسانَ على هذا التَّكوينِ وجعلَه محتاجاً إلى هذا الأوكسجين ؟ وغلَّفَ الأرضَ بهذا الأوكسجين إلى المَدى المُعَيَّن .. مَن عيَّنه ؟ مَن حدَّده ؟ مَن قدَّره .. أيُّ جهةٍ ؟ أيُّ دولة ؟ أيُّ هيئةٍ ؟ أيُّ تقدُّمٍ ؟ أي تطورٍ عند الإنسانِ المُغتَر، عند الإنسان المُفتري ؟ عند الإنسان الطاغي إذا استَغنى بشيءٍ يسيرٍ حقيرٍ مَخلوقٍ للعليِّ الكبير ظنَّ أنه الربُّ الأعلى كما ظنَّ فرعون، وكما نطقت ألسنُ أحوالِ مَن يدَّعي التقدُّمَ في عَصرِكُم أنهم أرباب العُلا وأنهم المُتَحَكِّمون في الملأ .. وعزَّةِ الكريمِ العزيزِ الذي أحكمَ الأنفاسِ لكلِّ دابَّة على ظهرِ الأرض فتَتنفَّس بقدرتِه أنفاساً معدودة في اليوم والليلة ليس لهم طاقةٌ على فيروسٍ يصيبهم، ليس لهم طاقة على زلزلةٍ لمدةِ لحظاتٍ على ظهرِ الأرض، ليس لهم طاقةٌ على فياضانات تفيضُ عليهم البحار فتُغَيِّب أسلحتَهم وتُغَيِّب قصورَهم وتُغَيِّبُ ما عندَهم مِن قوةٍ وعتاد ؛ إنَّ القويَّ واحد .. وإذ انكشف السِّتارة ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) جل جلاله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أربابُ الأفكارِ الذين يَستتبِعون أهلَ الاغترارِ مِن ورائهم، كما قالَ في فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ )
وكلُّ الأفكار المختلفة على ظهرِ الأرض المنقطعةُ عن إدراكِ خالقِ الأرضِ ومكوِّنِها ومعرفة الحكمة التي خَلَقَ الأرض وخلقنا عليها (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) كلُّ تلكَ الأفكارِ يُستَتبعُ لها مَن يُستَتبَع مِن أهلِ الاغترارِ، ثم يتبرأ الذين اتُّبِعُوا مِن الذين اتَّبَعوا (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) ويَتَحَسَّرُ الأتباعُ الذين صدَّقوهم وتأخَروا عن تصديقِ وَحيِ الله وعن تصديقِ أنبياءِ الله ؛ يتندَّمون على اتِّبَاعِ أهل ذاكَ الفكرِ ويقولونَ عند رؤيةِ الحقيقةِ وقَبضة الربِّ في يومٍ ( فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ)، (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) كنَّا نخدمُ أفكارَهم ونقدِّسُها، ونصفِّقُ وراءَ آرائهم ونعملُ عليها، واليوم أوردُونا النار ولم ينفعُونا ولم يُنقِذونا (لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً)– رجعة إلى الأرض- (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) ونَتفلُ على أفكارِهِم بِبُصاقِنا ونَردُّ آراءَهم ونَضرِبُها بأرجُلِنا (كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) وظهرُوا أنَّهم لا طاقةَ لهم على أن يكفُّوا عنَّا عذابَ الجبَّار، ولا أن يعوِّضونا شيئاً عن دخول النار (لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).
ولكنَّ أتباعَ الأنبياء وأتباعَ الأصفياء يفرحون بِمَن اتَّبَعُوهم ويَجتمعون معهم في يَومِ الهَولِ الشديد والحَرِّ الذي تكونُ فيه الشمسُ على مقدارِ ميلٍ ويسيلُ العرقُ حتى يغوصَ في الأرضِ سبعين ذراعاً، ويُلجِم هذا إلى كَعبَيه وهذا إلى رُكبَتيه، وهذا إلى سُرَّتِهِ وهذا إلى فِيِهِ ؛ يجتمعون أتباعاً ومتبوعين تحت ظِلِّ العرش يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّ عَرشِ الرحمن، ثم يجتمعون تحتَ لواء الحمد، ثم يجتمعونَ على أحواضِ الأنبياء، كلُّ مُتَّبعٍ للأنبياءِ على حَوض فرحينَ بما اتَّبعوه.. لِمَ ؟ لأنهم لم يَتَّبِعُوا فكرَ إنسان ولا دعوى مخلوقٍ مثلهم، بل اتَّبعوا عباداً مُكرَمين مأمونِينَ مِن قِبَلِ الخالقِ على بلِاغِ رسالتِه يدعون خلقَه إلى الإسلامِ له والإيمانِ به والخضوعِ لجلالِه، لا إلى أنفُسِهم ولا إلى آرائهم ولا إلى أفكارِهم ولا شيءٍ مِن عندِ أنفُسِهم ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ). فكان شرفُ الاتباعِ هنا بأن يجتمعوا في ظِلِّ العرشِ وعند المرورِ على الصراط وفي دار الكرامة {المتحابون في الله على منابرَ مِن نورٍ يومَ القيامةِ يغبطُهم الأنبياءُ والشهداء}.
أيها المؤمنون بالله: هذه حقائقُ الاتباعِ لوحيِ اللهِ ودينِه وتَحرُّر الإنسانِ مِن أن يَستَعبدَه إنسانٌ مثله كائناً ما كان، بدعوى علمِه أو بدعوى عَبقريَّته أو بدعوى صناعتِه أو بدَعوى جَيِشه وعتادِه وقوَّتِه .. لا حقَّ له أن يستَعبِدَ الغيرَ، والغيرُ مثلُه، ولو اتَّخذَ الأسبابَ نفسَها لكان فيها كمثلِه، لا يتميَّزُ عليهِ بِشَيء في حدِّ خِلقَتِه وتَكوينِه "متى استَبعدتُم الناسَ وقد ولدَتهُم أمهاتُهم أحرارا" ! إنَّ شؤونَ دينِ الحقِّ تُخلِّصُ البشريةَ مِنِ استِعبادِ بعضِهم البَعض، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ).
والعجبُ أنهم يأتونَ إلى قَويمِ الأخلاقِ وحُسنِ الآداب فيقولون إنها استعبادٌ للناسِ لبعضِهم البعض، وما هي إلا نتيجةُ وعيٍ صحيحٍ لأمرٍ قويمٍ مَليحٍ، تقوم فيه هذه الوجهةُ وهذه المَداركُ على أدبٍ مع الحقِّ الخالقِ، متعلِّق بجميعِ الخلائق ينتهِي في عظَمتِه إلى أنَّ المُنكرِين والمحادِّين الجاحِدين المكذِّبين الكافرين إذا تصدَّوا للصدِّ عن سبيلِ الله ولإرادةِ إذلال كلمةِ الله تعالى فقاتلوا المسلمينَ فقاتلوهم ؛ يمشي هذا الأدبُ معهم إلى ساحةِ القتال مع ذلك الفاجرِ الكافرِ المُضادِّ المُعاندِ المُحارِب فلا يُمثَّلُ بأحد، ولا يُقتَل صبيٌّ ولا امرأةٌ ولا مُدبِرَاً في منهجٍ عظيمٍ ليس للاستِعباد ؛ لا لأنَّا عبيدٌ لهم ولكن لأجلِ الله الذي أمرنا أن لا نَخونَ عهداً ولا أن لا نُمَثِّلَ بجسدِ إنسان، ولو كان المحاربُ المعاندُ المسيءُ الأدب على ربِّهِ وعلى رسولِهِ وقتَ المعركة وفي القتال! ما أعجبَه مِن دين!
ويقومُ بعد ذلك على برِّ الوالدين، وعلى تَوقيرِ الكبير، وعلى معرفة قَدرِ الأنبياء وتعظيمِهم، ومعرفة قدرِ العلماءِ والأصفياءِ والصُّلحاءِ وتَوقيرِهم؛ لا استِعباداً مِن أحدٍ لأحَد، ولكن خضوعاً مِن الجميعِ للإلهِ الواحدِ الأحد جل جلاله. ثم يريدون أن يتحكَّموا في قِيَمِ الإنسانِ وفي كُلِّ مسارِه في الحياة استعباداً له ولا يُنكرون على أنفسهم ذلك !
أيها المؤمنون: العزَّةُ في اتباعِ مَن يدلُّنا على مُرادِ ربِّنا ونظامِ ربِّنا ومنهاجِ ربِّنا الذي خلَقنا، والذلُّ والهَوانُ أن نُستَتْبَعَ لمَن يُحَكِّم فينا فِكرَه ورأيَه وعقلَه البَشريَّ القاصرَ الذي يتغيَّرُ مِن يومٍ إلى يومٍ، والذي يَسنُّ قوانينَ ثم نجدُ واقعَه، القولُ في جانب، والتعاملُ والفعلُ في جانبٍ آخر! ذلك الإنسانُ الطاغي، ذلك الإنسانُ المستكبر، ذلك الإنسانُ الذي نسيَ بدايتَه ولم يعرف حقيقةَ نهايتِه واغترَّ فيما بينهما مِن الحياةِ القصيرة.
إنَّ رمضانَ مطهِّرٌ للفكرِ والقلبِ عن الأدرانِ وعنِ الرَّانِ وعن الأوهامِ وعن الخيالات ؛ امتناعٌ عن مُقوماتِ الحياةِ مِن الطعامِ والشراب من أجل رَبِّ الأرباب { يدعُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه مِن أجلي } إعلاناً أنَّنا آمنَّا بالغيب، وآمنَّا بالرَّبِّ الإلهِ الذي يدلُّ على عظمتِه كل شيءٍ أمامَنا في الحياة، وأنَّنَا مستعدُّون للقائه، عاملون بمنهاجِه الذي ارتَضاه لنا في واجباتٍ أوجبَها، ومحرماتٍ حرَّمَها، ومندوباتٍ ندبَنا إليها، ومكروهاتٍ وشُبهاتٍ دعانا للتَّرفُّعِ عنها، ومباحاتٍ واسعاتٍ كثيراتٍ أباحَها لنا في دينِه، نتصرَّفُ فيها بما يصلحُ وينفعُ، لا نضرُّ بها أنفسَنا ولا سوانا ؛ فما أعظمَه مِن مَنهجٍ قويمٍ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يا ربَّ العالمين مِن النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) مِن يهودٍ وكلِّ مَن خالفَ منهجَ الرَّبِّ الودود، وكل مَن خرجَ عن مسلكِ الأنبياء المحمود (وَلَا الضَّالِّينَ) مِن النصارى وكل مَن احتجبَ بشيءٍ من المادِّيات أو المظاهر أو الدنيا عن حقائقِ الإيجادِ والإمدادِ وحِكمةِ الخلق (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) برَحمتِك يا أرحم الراحمين.
واللهُ يقولُ وقولهُ الحقُّ المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
بارك اللهُ لي ولَكُم في القرآنِ العظيم، ونَفعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذِّكر الحكيم، وثبَّتَنا على الصِّراطِ المُستقيم، وأجارنا مِن خِزْيِهِ وعذابهِ الأليم. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدينا ولجميعِ المسلمينَ فاستَغفِروهُ إنَّه هو الغفورُ الرَّحيم.
الحمدُ لله حمداً يُطَهِّرُنا به عنِ الأدران، ونشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له عالمُ الإسرارِ والإعلان، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه المخصوصُ بإنزالِ القرآنِ في رمضان. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمدٍ، وعلى آله وصحبِه ومَن تبعَهم بإحسان، وعلى أنبيائك ورُسلِك وآلِهم وأصحابِهم وأتباعِهم والملائكةِ المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برَحمتِك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله. فاتَّقوه في عِمارةِ العُمرِ القصير بما يُوجِبُ الفوزَ الكبيرَ في العُمرِ الباقي الخطير.
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا). يا مَن أُكرِمتم باللهِ والإيمان باليوم الآخر: احمدوا الذي أهدَى إليكم هذا الإيمانَ الذي لا يُعطيهِ إلا مَن يُحِبُّ؛ فإذا قمتُم بحقِّه فعملتُم العملَ الصالحَ، فأنتم أهلُ جِنَانِ الله، وأنتم أهلُ رضوانِ الله، وأنتم أهلُ الفوزِ عند لقائهِ تعالى في عُلاه (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا). ومعنى عملُوا الصالحات: أقاموا حقَّ التقوى لعالمِ الظَّواهرِ والخفيَّات، وتجنَّبوا ما يكرهُه مِن الأقوالِ والأفعالِ التي أشارَ إلى أهميَّتِها في القيامِ بفَريضةِ الصيامِ خيرُ الأنام وقال: { مَن لم يدَع قولَ الزُّورِ والعملَ به فليسَ لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه } إن لم تَرتَقِ في مراقِي التقوى في عدة أيامٍ مَرَّت لك مِن رمضان وقد مَرَّ عليك ربُعُه فمتَى تكون التقوى يا هذا المؤمن!
إنما شُرِعَ الصيامُ لينضَبطَ لسانُك، ولتَصْلُح أركانُك، ولتَستقيمَ على منهاجِ إلَهك. فـ {إنَّما الصوم جُنَّة، فإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ ولا يصخَبْ ولا يجهلْ، فإن امرؤٌ شاتَمَه أو قاتلَه فليقُل إني صائم } أنا مؤمنٌ بإلهٍ فرضَ عليَّ الصومَ، أمتنعُ حتى عن مقوِّماتِ الحياةِ من الفجرِ إلى غروبِ الشمس، فكيف لا أمتنعُ عن ما حرَّمَ عليَّ مما لا ينفعُني وليس مِن مقوِّماتِ حياتي، مِن سَبٍّ ونزاعٍ وخِصامٍ وجدالٍ وعُقوقِ والدين وقطيعةِ رَحِم وأذى جار!
أيُّها المؤمنون: لنُعَبِّر عن إدراكِنا ووَعيِنا العالِي الشريفِ السامِي بتَطهيرِ قلوبِنا وإقامةِ الشأن في مُجتَمعِنا على التواصِي بالحقِّ والصبرِ والتكاملِ والتكافلِ والتَّعاونِ على البِرِّ والتقوى، وتهنئةِ بعضِنا البعضِ بكلِّ خير، وتعزيةِ بعضِنا البعض في كلِّ ما يُنازِلُنا في كلِّ مكروه، وانطواءِ القلوبِ على التحابُبِ في الله، فإنَّ اللهَ يعتقُ في رمضانَ في كلِّ ليلة ستمائة ألف عتيق، جاءَنا في رواية عنِ المصطفى: { ألف ألف عتيقٍ من النار} فإذا كانَ آخرُ ليلةٍ أعتقَ مثلَ ما أعتقَ مِن أولِ الشهرِ إلى آخره، وغفَر لجميعِ المؤمنين إلا أربعة، ويلٌ لهم، العاقُّ لوالديه الذي لم يعرفْ حقَّ أبٍ أو أمٍّ لهوىً ارتكبَه أو لشهوةِ نفسٍ يشتهي فيها استقلالاً لشَيءٍ مِن الأمور التي لا ضرورةَ للاستقلالِ فيها، أو طاعةٍ لزوجةٍ تحملُه على أن يشقَّ على قلبِ أمٍ أو أبٍ ؛ هذا الذي ما درَى أنَّ تَكوينَه ربطهُ اللهُ بصُلبِ الأبِ وبطنِ الأم، وأنَّها التي تَحمَّلَت الآلامَ، وتحمَّلَت الوضعَ والولادة، وتحمَّلَتِ الرّضاعَ والتربية. وقال لرجل حملَ أمَّه على ظهرهِ مِن اليَمنِ إلى حجِّ بيتِ الله الحرام، وأقامَ بها مناسكَ الحجِّ، وكان المُتولِّي لطَعامِها وشَرابِها وتَنظيفها مِن أدناسِها، قالَ لابنِ عمر: يا ابنَ عمر أترى أني أدَّيتُ حقَّ أمِّي هذه؟ قال: ما عملت؟ فأخبرَه، قال: كلُّ الذي عملتَه لا يساوي زفرةً مِن زفراتِها بك حينَ الولادة ! كلُّ هذا التَّحمُّل وكلُّ هذا المَشيِ لا يُساوي مقاومةَ ألمِ زفرةٍ مِن زفراتِها حين ولدَتك (أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ)
إنَّ ذلكَ الذي نسيَ بدايتَه وأرادَ أن يرفعَ رأسَه فوق أبيه وأمِّه، وربما رأى أباه لا يُدركُ بعضَ ثقافتِه التي تثَقَّفَها مِن هنا أو هناك فظنَّ أنه خيرٌ منه، وما درَى أنَّه وجميعَ ما عندَه مِن ثقافة قطرةٌ مِن قَطراتِ صُلبِ هذا الإنسان ؛ هو الذي تَسَبَّبَ في تَكوينِ الرحمنِ له ولِجَسدِه ونَفخِ الروحِ فيه، وأنَّ الفضلَ له. حتى أنَّه لو كانَ الأبُ -والعياذ بالله -أو الأمُّ مُشرِكَين كافِرَين ودعوَا ولدَهما للكُفر فلا يجوزُ أن يطيعَهما في الكُفرِ، كما لا يجوزُ أن يطيعَهما في أيِّ معصية، ويجبُ عليه أن يَصاحبَهما في الدنيا معروفا (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا).
قالت أسماءُ بنتُ أبي بكر -وقد وردَت أمُّها إلى المدينةِ المنورة بعد صُلحِ الحديبيَّة راغبةً عنِ الإسلام، وراغبةً في وِصلةِ ابنَتِها وخِدمَتها ومُواساتِها- فقالت: يا رسولَ الله إنَّ أمِّي قَدِمَتِ المدينة وهي مشركةٌ راغبة أفأصِلُ أمِّي؟ قال: نعم صِلِي أمَّكِ. هذه المشركةُ التي لا تحبُّ الإسلام، وترغبُ أن تَخدُمِيها، اُخدُمِيها وقُومِي بِخِدمَتها ومَنفَعتِها الجسديَّةِ الدنيويَّةِ، .. هكذا أدبُ الإسلامِ، وشريعةُ خيرِ الأنام. فاعرف قدرَ الوالدَين واتَّقِ الرَّحمن. واغنَمِ التَّجالسَ في اللهِ مع الإخوانِ والاجتماعَ على تعظيمِ القرآنِ الذي كان بدايةُ إنزالِه في رمضان ؛ تعظيمه في رمضان بالخَتمِ له والدعاءِ بعدَ الختمِ له، والتضرُّعِ إلى الرحمن (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).
اللهم اجعَل رمضانَنا هذا مِن أبركِ الرَّمضاناتِ علَينا وعلى أمَّةِ نبيِّك محمد، وما أجرَيت مِن الألطاف في وادينا ونادينا فَزِدنا مِن لُطفِك، وزِدنا مِن عافيَتِك وعَفوِك، وادفعِ البلاءَ والأسقامَ والأمراضَ والشدائدَ والفِتنَ والمِحنَ عنَّا وعن أهلِ يَمنِنا وشامِنا وشَرقِنا وغَربِنا، يا كاشفَ الضُّر ويا دافعَ الكروب ويا كافيَ الخطوب، ويا حيُّ يا قيُّوم فرِّج كروبَنا والمسلمين.
نازَلَ الأمةَ في هذه الأشهر ما أنتَ به أعلم، وذلَّت له رقابُ الصغارِ والكبار وحُبِسَ مَن حُبِسَ في ديارٍ ومَن حُبِسَ في أقطارٍ، وتعَطَّلَت المواصلاتُ وكثيرٌ من حركة الحياة ؛ اللهمَّ إنَّها عِبرةٌ لمَن اعتبَر فارزُقنا الاعتبارَ والاِدِّكَارَ وارفَع نقمتَك وغَضبَك عنَّا، وأصلِح لنا شأنَنا في الحِسِّ والمعنَى يا مُصلِحَ شؤونِ الصالحين برحمتِك يا أرحم الراحمين. وكلَّ السالمِين من المسلمين خاصة والناس عامِّة مِن شرِّ هذا المرضِ وفيروسِه اللهم فأدِم سلامتَهم وعافيتَهم، ومَن أُصيبَ به فعَجِّل اللهمَّ بشفائهم وبإنقاذِهم ودَفعِ شرِّه عنهم، يا مَن بيدِه الأمرُ كلُّه وإليه يرجعُ الأمرُ كلُّه. وما مَع خَلقِك إلا تسبُّب بأسباب، وتَّطَبُّب بأمورٍ أنت صَنعتَها وخلقتَها وجعلتَها كما قال نبيُّك: { ما أنزل اللهُ داءاً إلا وأنزلَ له دواء } اللهم فدَاوِنا مِن جميعِ الأمراضِ والعِلَل، وتولَّنا بما أنتَ أهلُه يا مَن عَزَّ وجل.
وبارِك لنا فيما بقيَ مِن رمضان، واجعله خيراً لنا ممَّا مضَى منه، واجعَلنا مِن أسعدِ الناسِ به، وبمَغفرتِك فيه، وبرَحمتِك فيه، وبعِتقِكَ مِن النيرانِ، وبعِتقِكَ من الذنوبِ والعِصيان، وبعتِقكَ مِن خِزيِ يومِ القيامةِ، يا كريمُ يا منَّان، يا أرحمَ الراحمين.
وأكثِرُوا الصلاةَ والسلامَ على هاديكُم وداعيكُم ومُرشدِكم محمدٍ مختارِ ربِّكم لبلاغِ مِنهاجِه والمَخصوصِ بإسرائهِ ومعراجِه، مَن أنزلَ عليه القرآن، وجعلَه القدوةَ العُظمَى في كلِّ شأن ؛ فإنَّ أولاكم به يومَ القيامةِ أكثرُكم عليه صلاة، ومَن صلَّى عليه واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرَ صلوات. وقد قال مُخبِرَاً وآمِرَاً تكريماً: ( إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ).
اللهم صَلِّ وسلِّم على المُصطفى محمد، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغارِ، مُؤازِرِ رسولِ الله في حالَيِ السِّعَةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيِّدِنا أبي بكرٍ الصِّديق. وعلى النَّاطقِ بالصَّوابِ، حليفِ المحراب، ناشرِ العَدلِ في الآفاقِ، أميرِ المؤمنينَ سيِّدنا عمرَ بنِ الخطاب. وعلى مُحيِي الليالي بتِلاوةِ القرآن، مَنِ اسْتَحْيَت منهُ ملائكةُ الرَّحمن، أميرِ المؤمنين ذي النُّورَينِ سيِّدِنا عثمانَ بن عفان. وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغاربِ، أميرِ المؤمنين سيدِنا عليِّ بنِ أبي طالب. وعلى الحسَنِ والحُسين سيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنةِ في الجنةِ، ورَيحَانَتي نبيِّك بِنَصِّ السُّنَّة، وعلى أمِّهِما الحَوْرَاءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضى وأمَّهات المؤمنين وبناتِ النبيِّ الأمين، وعلى آلِ بيتِ نبيِّك المصطفى المطهِّرين وأصحابِه الغُرِّ الميامِين خصوصاً أهلَ بيعةِ العقبة وأهلَ بدرٍ وأهلَ أحدٍ وأهلَ بيعةِ الرضوان، وسائر الصَّحبِ الأكرمين ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام وانصُر المسلمين، وأذلّ الشركَ والمشركين، وأعلِ كلمةَ المؤمنين، ودمِّر أعداءَ الدين. اللهمَّ ومعَ انتشارِ الآياتِ العظيمات وتَمادِي مَن يتمادَى في الذنوبِ الخطيئات ومَن يُظهرُ الكفرَ والعنادَ ومَن يُظهِرَ الفِطْرَ في رمضان ومَن يتقاتلونَ في رمضان ولا يبالون ومَن يتآذُون ولا يَنتهون .. اللهم ارحم الأمةَ واكشفِ الغمَّة وأجلِ الظُّلمَة وادفع النِّقمَة وحوِّل الأحوالَ إلى أحسنِها، وأيقظِ القلوبَ مِن غفلتِها ونَومِها وسُباتها لتهتديَ بهديِك ولتَمضيَ على قَدمِ نبيِّك. اللهم يا مُحوِّلَ الأحوالِ حوِّل حالَنا والمسلمين إلى أحسنِ حال، وعافِنا مِن أحوالِ أهلِ الضلال وفِعلِ الجُهَّال. اللهم رُدَّ كيدَ أعدائك أعداءِ الدين في نُحورِهم واكفِ المسلمينَ جميعَ شرورِهم، وأيقِظ القلوبَ لتنتَبه إلى واجِبِ النَّفعِ والانتفاع، وواجِب الاهتداءِ والاتباع، والخروجِ مِن ورَطات الغفلاتِ والضياع، وموجبِ وقوعِ الآفاتِ الظاهرةِ والباطنةِ في مختلفِ الجهاتِ والبِقاع، أمِّنِ الأوطان، وادفع كيدَ النفسِ والشيطان، واجعلنا مِن أسعدِ الأمةِ برمضانَ وليالي رمضان، واجعلنا ممَّن صامَه وقامه "إيمانا واحتسابا" فخرجَ مِن ذنوبِه كيوم ولدَته أمًّه وغفرتَ له ما تقدَّمَ مِن ذنوبه وما تأخَّر. يا حيُّ يا قيُّوم اصرِفنا مِن جُمعتِنا وقد جمعتَ لنا الخيرَ، ودفعت عنَّا الشرَّ والضَّير، وألهمتَنا حُسنَ السَّير فيما تحبُّ وترضَى ولطَفتَ بنا والأمةِ فيما جَرى به القضاء يا أرحمَ الراحمين. واغفر لوالدينا ومشائخنا ومعلِّمينا وذوي الحقوق علينا، وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات بأوسعِ المَغفرات يا غافرَ الذنوبِ والخطيئات، يا ربَّ العالمين.
عبادَ اللهِ: إنَّ الله أمرَ بثلاثٍ ونهى عن ثلاث: ( إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذْكُركُم، واشكروهُ على نِعَمهِ يَزِدكُم، ولَذِكْرُ اللهِ أكبر.
10 رَمضان 1441