مدرسة رمضان في التقوى وطهر الجنان وحقائق الإيمان
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، في جامع الإيمان ، بحارة الإيمان، بعيديد، مدينة تريم، 12 رمضان 1445هـ، بعنوان:
مدرسة رمضان في التقوى وطهر الجنان وحقائق الإيمان
نص الخطبة مكتوب:
الخطبة الأولى :
الحمد لله،، الحمد لله الكريم الرحمن، الجواد المنان، من أنزل القرآن في شهر رمضان، (هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ)، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والإعلان، بيده ملكوت كل شيء وإليه مرجع القاصي والدان، جامع الأولين والآخرين فحاكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، في يوم عظيم شأنه أعظم الشأن.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، ويجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها من رمضان، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على المُجتبى المُصطفى من عدنان، سيدنا محمدٍ وعلى آله الأطهار وأصحابه الغُرِّ الأعيان، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من عظَّمت لهم القدر ورفعت لهم المكان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المُقرَّبين وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
رمضان مدرسة التقوى
أما بعد،،،
عباد الله،، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، وأنتم في مدرسة التقوى والترقي في مراقيها والسلوك في منهجها الأقوى، وتصحيح وتقوية جهاز المراقبة لعالم السر والنجوى، قد مر عليكم أكثر من ثلث الشهر وأشرفتم على نصفه وكل يوم من أيامه نرقى به وفيه ترتقون، ومصعد لمجال قرب من ربكم تصعدون، لمن اتقى الله تعالى فيه، وتحفّظ ما ينبغي أن يتحفظ فيه، وأقبل بكليته على باريه:
-
وأخذ من مَدْرَسَةِ التَّقْوَى تَصْفِيَّةُ الْجَنَانِ وَتَطْهِيرَهُ
-
وَأَخَذَ مِن مَدْرَسَةِ التَّقْوَى تنقية القلب وتنويره
-
وأخذ من مدرسة التقوى صلةً بالهادي الدال على الله، في اقتداءٍ واهتداء.
-
وأخذ من مدرسة التقوى حُسن نظرٍ في أقواله وأفعاله؛ في أقواله وأفعاله، لتكون على منهاج خالقه سبحانه وتعالى ومنشئه وموجده في جميع أحواله.
أيها المؤمنون،، مضت الأيام يوماً بعد يوم، واستقبلنا وسط الشهر بعد أوله، وهو شهرٌ أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار،
فكيف مضت بنا الأوائل؟
وما نحن في الأواسط؟
وما استعدادنا للأواخر؟
لتكتمِل دروسُنا ويكتمِل لنا أخذ الدرسِ من مدرسة التقوى لربِّنا في أيامنا وليالينا، لنكون بعدها أقوَم وأبعد عن الغفلات وأسلم، وأقوى نصيباً من الخيرات التي بها نفوز ونغنم.
أيها المؤمنون: مدرسة رمضان مدرسة التقوى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تُنمّي حقيقة التقوى في قلب الصائم القائم، وتزيده معرفةً ومحبة وتُرَقّيهِ رُتبةً فرُتبة.
فما عملت بكم الأيام الماضيات؟ وما استعدادكم لليالي الباقيات، الزاهيات المُنوّرات، الشريفات الكريمات، النَيِّرات المضيئات!
ليالي القرب من الرحمن، وليالي الفوز بالعتق من النيران، بل والعتق من الذنوب والعصيان، والعتق من النفاق والسيئات، والعتق من التفاتِ القلب إلى غير الرحمن بارئ الأرضين والسماوات.
المقصد والغاية من مدرسة رمضان:
أيها المؤمنون،، تتعدد مواهب الحي القيوم في شهر القيام والصوم، في شهر رمضان المبارك، شهر بركة فيه خير يغشّيكم الله؛ يُنزِلُ عليكم الرحمة ويغفِر ذنوبكم ويقبلُ الدعاء ويُباهي بكم الملائكة، ينظر إلى تنافسكم فيه، فأروا الله مِن أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حُرِمَ خير هذا الشهر.
أيها المؤمنون بالله جلّ جلاله،، يجب ان نرتقي مراقي الوعي والفهم بواسطة الصوم والقيام، في تنقية البواطن وحسن أداء الأمائن، وكيفية قضاء ساعات الليل وساعات النهار، في رابطةٍ قلبية بالحقِّ تعالى وعبده خير البرية صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، حتى لا تنقضي أيام المدرسة العظيمة إلا والله تعالى ورسوله أحب إليك في قلبك مِن كل ما سواهما، من كل ما سواهما! هذا روح رمضان، هذه حقائق الفوز من الشهر المَصون المبارك؛ أن يتزيّن قلبك بحقيقة المحبة لربك ولرسول ربك وحبيب ربك، حتى لا يكون شيء في الظاهر ولا في الباطن في الأرض ولا في السماء في الدنيا ولا في الآخرة أحب إلى قلبك من الله ورسوله محمد بن عبدالله ﷺ، وبذلك تتنوّر قلوب أهلك وأولادك في البيت، وبذلك تخوض مع من تُسلِّم عليهم أو تكلمهم وتلاقيهم من إخوانك المؤمنين، فإنها المدرسة التي من حُرِم خيرَها فقد حُرِمَ الخيرَ كلَّه.
عظمة ليلة القدر:
فيها الليلة التي هي خيرٌ من ألف شهر، تنزلُ الملائكة والروحُ فيها بإذن ربهم، حتى يكون عددُ الملائكة في الأرض أكثرَ من عدد الشجر والحجر، في ليلة القدر يُسلِّمون على المؤمنين ويشهدون معهم صلواتهم ويؤمِّنون على دعائهم. إنها شؤون عظيمة ومواهب فخيمة، وعطايا وسيعة كريمة من حضرة الرحمن الرحيم، "ولو تعلم أمتي ما في رمضان لتمنَّت أن تكون السنة كلها رمضان".
إحسان الصيام وأثره :
أيها المؤمنون بالله ﷻ،، ليطِب لكم حسن التّوقِّي بالصيام وإتقانه، فلا تكون لكم:
-
عينٌ تمتدُّ إلى نظرٍ باحتِقارٍ إلى مسلم
-
ولا نظرِ متاع الغير أو بيته بغير أذنه
-
ولا نظر الدنيا بعين استحسانٍ أو بعين تعظيم
-
ولا نظرٍ إلى مؤمن بعين احتقار
-
ولا نظرٍ إلى شهوة
فهذه وظيفة العين في تقواها لِتحوز المنزلة عند مولاها، فيُشرّفها برؤية وجوه النبيين والصديقين والمُقرَّبين وأهل اليقينط ومُرافقتهم في يوم الدين وفي دار الكرامة ومُستقر الرحمة، في جنة عدنٍ التي أُعِدَّت للمُتَّقين، جعلنا الله وإياكم منهم، المُفتَّحة أبوابها من أول الشهر إلى آخره، التي يتجدَّد فيها التزيين استعدادًا لتحقيق وصول الواصلين من المؤمنين، وتعيين مراتبهم وأماكنهم في جنات ربهم ﷻ وتعالى في علاه.
ثمرات من صام رمضان إيماناً واحتساباً:
أيها المؤمنون بالله،، اشكروا الذي بلّغكم الأيام الفاضلة، وصبّ عليكم الرحمات الهاطلة، وقابلكم بالإفضال والإحسان ليغفر لكم ما تقدم من الذنوب، بل وما تأخر لمن صدق معه في التوب والإنابة إليه، كما جاء في الروايات "من صام رمضان إيمانا واحتسابا" المشهور؛ "غُفِر له ما تقدم من ذنبه" وجاء في مسند أحمد وغيره "وما تأخر"
وكذلك فيمن "قام رمضان إيماناً واحتساباً" ومغفرة ما تأخر: أعلاها حاجز من نور الصدق والتقوى يمنع الإنسان أن يقرب شيئًا مما حرَّم الله عليه من الذنوب والخطيئات، فلا يلتفتُ إلى شيءٍ منها، وأقلُّها: أن يُوفَّق للتوبة الصادقة لو زلَّ أو غلِطَ أو خرجَ عن سواء السبيل.
صوم النبي ﷺ وخروجه في يوم الفرقان:
أيها المؤمنون،، إن رب العرش يُحِبُّ التوابين ويحبُّ المتطهرين، فحقِّقوا توباتكم وأحسِنوا استقبال أيامكم ولياليكم، وتذكَّروا أن نبيكم ﷺ في مثل هذه الأيام من السنة الثانية من هجرته، وهي السنة التي فُرِض فيها الصيام كان بعد العشر من رمضان خارجاً في جهادٍ في سبيل الله ومقابلة للحربيين المعتدين المُوذين، الظالمين الغاصبين، المُعذِّبين للضُّعفاء من المُؤمنين في ديارهم، واستقبال عيرٍ لهم يهمُّهم شأنها، آتيةً من الشام راجعةً إلى مكة، فهيَّأَ الله بذلك الخُروج أن تنصرف العير وأن يخرُج النفير، ليكون الله نعم المولى ونعم النصير للبشير النذير والسراج المنير، وليأتي يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.
اللهم اربطنا بمن أنزلت عليه القرآن، وارزقنا متابعته في كل شانٍ وآن، وتولَّنا به في السر والإعلان، واجعل لنا استفادةً عُظمى من أيام وليالي رمضان، يا كريم يا منان.
والله يقول وقوله الحق المبين : (وَإِذَا قُرئ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُفَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله،، باسط موائد الإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ما أكرمه من منعم ومحسن وآل، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، جعله خاتم الإنباء والإرسال، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك الطاهر سيدنا محمد وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، وعلى من والاهم بإحسانٍ إلى يوم المآل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الدرجات العوال، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وأجزل حظنا من شهرنا وأيامه ولياليه واجعلنا عندك من خيار أهليه.
أما بعد،،،
عباد الله،، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله أن تُضيّعوا ليالي الشهر وأيامه، أو حقائق معاني صيامه وقيامه، فليست صور وليست مظاهر وليست أجسام؛ ولكنها حقائق ومعاني ودقائق ورقائق، وصِلات قلبية روحية بالحق تعالى وخير البرية، وارتقاء في مراتب الإيمان والتقوى ومراقبة للحق في السر والنجوى.
وصايا لما تبقى من رمضان :
أيها المؤمنون بالله،، إنها العطايا الكبيرة من حضرة الرحمن فاتقوا الله أن تُضيّعوها بقطيعة رحم أو بعقوق والدين، أو بكبر أو بغرور أو بعجب أو بغيبة ونميمة، طهِّروا الألسن من قذارة الغيبة والنميمة والكذب واللعن والشتم والسب، واملأوها بزينة القرآن، زينة الذكر للرحمن؛
كم قد قرأتَ من كلام ربك في الأيام الماضيات؟
وكم أنت تالٍ بحضور قلبٍ فيما بقي من الأيام المعدودات؟
أيها المؤمن بالله ﷻ،،
اصدقْ مع الرحمن عالم السر والإعلان، وطهِّر القلب والجنان، وأقِم أمر الله كما ينبغي في نفسك وأسرتك في رمضان، وامتلِئوا بتعظيم هذا الشهر من أجل الرحمن ﷻ
(وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)
واشكروا الذي أمدكم بالتوفيق للصيام والتوفيق للقيام والتوفيق لمتابعة الأوامر واجتناب الزواجر، وتذكركم الواجبات والمهمات.
واقتدوا بأوائلكم الذين صفت منهم البواطن وأحسَنوا أداء الأمائن، كمثل الركب الذين انتخبهم ربكم للحضور مع نبيكم في أواسط هذا الشهر، حتى كان اللقاء في يوم السابع عشر من رمضان، يوم الفرقان كما سماه الله في القرآن.
(يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) جمع المؤمنين وقائدهم خاتم النبيين، وجمع الكافرين وقائدهم إبليس وأبو جهل ومن معه من المفسدين الفاسقين.
يوم الفرقان أعز الله به الاسلام:
أيها المؤمنون بالله تبارك وتعالى،، قال ربكم: (إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ).
يوم الفرقان الذي فرَقَ بين الحق والباطل والكفر والإيمان، وبدأ ظهور ما خبأ الله من عزة رسولهِ ﷺ وأتباعه في الدنيا وفي الآخرة، أعزَّنا الله باتباعه وأعزَّنا الله بنصرته، وكان في أوائلها أن ذهبتِ العير وجنَّبها أبو سفيان وكان قائدها، جنَّبها القرب من بدر وما حواليها وذهب بها جانب الساحل ليدخل إلى مكة من مكان بعيد، بعد أن أنذرَ قومه وحذّرهم خطر تعرض النبي محمد وأصحابه لعيرهم.
حال أهل التكبر وحال أهل الخشوع والخضوع:
وخرجوا بنفيرهم وخرجوا بكبريائهم وخرجوا بغرورهم، وأخذوا يتبجحون تبجح المجرمين الفاسقين بالغناء وشرب الخمور وما إلى ذلك، وهو مسلك أهل الفجور وكل كفور، ولكن زين الوجود محمد ومن معه كانوا على خضوع وكانوا على خشوع، وكانوا على تواضع للرب سبحانه وتعالى، والمتواضع قدرهُ المرفوع، وكانوا على تلاوة لآيات الله، وكانوا على اتصال بالإيمان بالغيب والتطهُّر عن كل عيب، وقال قائلهم في خطبته التي أثلجت صدر نبيكم؛
"آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، فامضِ لما أمرك الله، لعلك خرجت تريد أمراً وأراد الله غيره فامض لما أمرك الله تعالى فلا يتخلف عنك منا أحد، ولو علم قومنا الذين في المدينة وما نحن بأشد حباً لك منهم أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، فامض لما أمرك الله، فوالله لو استعرضت بنا هذا البحر فخُضته لخُضناه معك، ولو سِرت بنا حتى تبلُغ برك الغِماد من الحبشة لسِرنا معك ما تخلف منا رجلٌ واحد" واستبشر ﷺ فاستنار وجهه كأنه قطعةُ قمر.
وقال :(سيروا وأبشروا ما يسرُّكم فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله وكأني أني أنظر إلى مصارع القوم).
ترجمة القلوب المؤمنة بالله ورسوله:
أيها المؤمنون،،هذه القلوب المؤمنة وهذا ترجمة ما فيها وما تحمله أمام الكتاب وأمام المصطفى وأمام الإيمان والدين وحقائقهما فيما يعتلِجُ في القلب، هذا مسلك الصادقين مع الرحمن، ورضي الله عن سعد بن معاذ، وغبطوا المقداد على قوله رسول الله ﷺ: "والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما لمقاتلون، والله لنقاتلن من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، رضي الله تعالى عن هذه النماذج بما فيها من مظاهر الصدق والإخلاص.
حب صحابته له ﷺ :
واستوَوا للصفوف فرأى ﷺ "سواد بن غزية" متقدِّماً على الصف، وكان بيده قضيب فضربه به، وقال: "استوِ يا سواد" فالتفت سواد إلى رسول الله قال: أنت بُعِثت بالعدل والقسط وقد أوجعتني يا رسول الله فأقدني من نفسك.
والنبي في حالة تسوية الصفوف في يوم المقابلة ويوم المقاتلة، فوقف وقال: خذ هذا القضيب فاضربني كما ضربتك، استقدي لنفسك، فحمل القضيب، قال: يا رسول الله ولكنك ضربتني وكانت بطني مكشوفة، وأنت عليك هذا القميص والثوب.
ففتح عن قميصه ﷺ وكشف له أول بطنه وقال: "استقدِ لنفسك" فأكبّ سواد على نبينا يُقبّله ويعتنقه، وشبع وامتلأ تقبيلاً للبطن الشريفة والصدر الأنور، فتعجّب صلاة الله وبركاته عليه،
قال : "ما حملك على هذا يا سواد"
قال: والله يا رسول الله حضر ما ترى وسألت الله أن يرزقني الشهادة، وعلمت أني ألقاه، فأحببت أن يكون آخر عهدي بالدنيا أن يمسّ جلدي جلدك.
فزادي إلى لقاء ربي وزادي إلى آخرته أن أكون مسست الجلد الأشرف الأكرم، فدعا له بخير واستقام في الصف.
ثم لما أخذ يحثّهم على القيام بالجهاد والإقبال بالصدق، قال: "والذي نفسه بيده لا يقاتلهم اليوم منكم رجل فيقتلونه مقبلاً غير مدبر إلا كانت له الجنة"
كان سيدنا عمير بن حمام معه تمرات وكان جائعا يأكل تمرات كنّ في يده، فسمع الصوت النبوي يذكر هذا الحث، فرفع صوته، قال: يا رسول الله أعِد عليَّ مقالتك، قال: "والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم منكم رجل، فيقتلونه مُقبِلاً غير مُدبِر، إلا كانت له الجنة"، قال: الجنة يا رسول الله! قال ﷺ :"الجنة!" قال : بخٍ بخٍ، قال :" فما حملك على قولك بخٍ بخٍ" قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال : "فإنك من أهلها"
فلما سمع الصوت النبوي يقول له فإنك من أهلها، نظر إلى باقي التمرات على يده، وقال: إن أنا عشت في هذه الدنيا حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، حياة سؤومة ملولة، أن أتأخر بعد هذا الكلام النبوي حتى أكمل أكل هذه التمرات، فرمى بالتمرات وأقبل، فكان هو وسواد بن غزية من الأربعة الذين استشهدوا يوم بدر عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
عجيب فعل الصحابة يوم بدر:
أيها المؤمنين بالله جل جلاله وتعالى في علاه،، لم يكن في صفوف المسلمين إلا ثمانية سيوف، والبقية رماحاً وسهاماً يقاتلون بها، فأحد السيوف الثمانية انكسر على صاحبه، فجاء إلى رسول الله، قال: انكسر سيفي يا رسول الله، فالتفت النبي بجانبه، كان عوداً هناك من حطب حمله، فناوله إياه قال: "خذ هذا فقاتل به" ، فما أن مسكه من يده إلا استحال سيفاً أبيض طويلاً حاداً، أخذ يقاتِل به ويشهد المشاهد بعد ذلك.
أيها المؤمنون بالله ﷻ وتعالى في علاه، وفيهم الشابُّ المُقبل بالكلية صاحبُ الصدق مع رب البرية عليه رضوان الله تبارك وتعالى، جاءه السهم فقتله وهو ابن ثمانية عشر سنة، حارثة بن النعمان، وعاد النبي فجاءت أم حارثة: أين ابني حارثة؟ قال :"احتسبيه عند الله، قتل في سبيل" قلت: أخبرني عن ابني، قال: "احتسبيه عند الله، قُتِلَ في سبيل الله" قالت: قل لي أين ابني؟ فإن كان في الجنة صبرتُ، وإن كان غير ذلك فلأُريَنّك ما أصنع، قال: "ويحك يا أم حارثة إنها ليست جنة واحدة إنها جنان كثيرة وان وابنك أصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى"
دعوةٌ لك أيها المؤمن للحوق بركب أهل بدر:
أيها المؤمنون،، وفي كل زمان من يلحق بأهل الفردوس الأعلى!
أيها المؤمنون وفي كل رمضان من ينتخب من قبل الرب ليُحشر مع أهل بدر وسيدهم الأطيب!
أيها المؤمنون: رمضان شهر القرب، رمضان شهر المحبة، رمضان شهر المعرفة، رمضان شهر الهدى، رمضان شهر الدنو، رمضان شهر العطاء، رمضان شهر المغفرة.
خذوا نصيبكم، خذوا سهمكم، خذوا حظكم العظيم بالصدق والإخلاص والإنابة، واستقبال ما بقي باجتهاد أكثر وزيادة في البر والإحسان، وإحسان إخراج صدقة رمضان، فإن الصوم مُعلّق بين السماء والأرض لا يُرفع إلا بصدقة الفطر، اصدقوا مع عالم السر والجهر.
اللهم كما بلغتنا رمضان فاجعلنا في المقبولين، وكما بلغتنا رمضان فوفِّر حظنا من عطائك الثمين، وكما بلغتنا رمضان فزدنا محبةً لك ولحبيبك الأمين، وكما بلَّغتنا رمضان فاربُطنا بالقرآن ربطًا لا ينحل، نرقى به إلى أعلى محل.
اللهم اجعلنا فيه من المنظورين بعين الرحمة، وارحم موتانا وأحيانا، وارفعنا مراتب قربك والدنو إليك، ومرافقة من دعانا وهدانا يا أكرم الأكرمين.
أكثروا الصلاة والسلام على هاديكم إلى الله ودالكم عليه، عبده المختار سيدنا محمد ﷺ، فإن أولانا به يوم القيامة أكثرنا عليه صلاة، ومن صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً، ولقد قال الله مبتدئا بنفسه ومثنِّياً بالملائكة تكريماً وتعظيماً وتفخيماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المهداة والنعمة المُسداة، عبدك المُختار سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، واخصص اللهم بافضل الصلوات معه خليفته على التحقيق، مؤازره في حالتي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبا بكر الصديق.
والناطقَ بالصواب حليف المحراب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
والمُحيي الليالي بتلاوة القرآن، من استحيت منه ملائكة الرحمن أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان.
و أخَ النبي ﷺ وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
والحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة وريحانتي نبيك بنص السنة.
وأمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعائشة الرضا وخديجة الكبرى، وأمهات المؤمنين وبنات سيد المرسلين، وعلى أهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة العقبة وأهل بيعة الرضوان.
وعلى عمّي رسولك الحمزة والعباس، وأهل بيته الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وعلى جميع من والاهم واتبعهم بإحسان، وعلينا معهم وفيهم يا كريم يا رحمن.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمِّر أعداء الدين، اللهم عجِّل غياثك لأهل غزة والضفة الغربية وأكناف بيت المقدس وفلسطين، وعجِّل غياثك للمسلمين في المشارق والمغارب يا قوي يا متين، رُدَّ كيد الظالمين والغاصبين والمفترين والعائبين والحاسدين ورعاة الظلم على ظهر الأرض، واكشف عن المسلمين الكروب والخطوب والبلايا وكل مرهوب، وحوِّل الأحوال إلى أحسنها، واجعلنا فيما بقي من شهرنا خيرا مما مضى، وارزُقنا حسن الاستقامة على المنهج الأقوم، والاستضاءة بنور الصدق والإخلاص والقرآن والسنة مع من استضاء، اللهم اكشف كروب الامة، اللهم اكشف عنهم كل غمة، اللهم اكشف عنهم كل مُدلَهِمَّة، اللهم حوِّل أحوالهم إلى أحسن الأحوال، لا صرفتنا من جمعتنا إلا بغفرانٍ شامل وجودٍ كامل وخير فضلٍ متواصل.
اللهم اغفر لنا ما مضى واحفظنا فيما بقي وألحِقنا بكل برٍ وتقي، وأعِذنا من كل سوءٍ أحاط به علمُك، وفِّر حفظنا من هذا الشهر وحظوظ أهلينا ومن في ديارنا، وكن لنا بما أنت أهل في سرنا وإجهارنا في دنيانا وآخرتنا، لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، واغفر لآبائنا وأمهاتنا ومشايخنا في الدين وذوي الحقوق علينا، واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحياهم والأموات إلى يوم الميقات يا أكرم الأكرمين.
نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد ونعوذ بك من ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله إن الله أمر بثلاث وانهى عن ثلاث (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
فَاذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرُكُمْ، واشكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يزِدْكُمْ وَلَذِكر اللَّهِ أَكْبَر.
13 رَمضان 1445