(228)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة ، حارة الروضة ، تريم، عيديد، 29 جمادى الأولى 1444هـ بعنوان:
مجال السمع في التقوى وعظيم أثره في السر والنجوى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، الحمد لله السَّميعِ البصير، اللَّطيف الخبير، العليم القدير، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدهُ لا شريكَ له، لهُ الملك ولهُ الحمد يُحيي ويُميت وهو حَيٌّ لا يموت، بِيَدِهِ الخير وهو على كُلِّ شَيءٍ قدير.
وأشهدُ أنَّ سيّدنا ونبيّنا وقُرَّةَ أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، اللّهُمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله، المخصوص من السّميعِ البصيرِ بسمعٍٍ سَمِعَ به ما لم يسمعهُ سِواه، والرَّاقي إلى مراتِب القُرب عند مولاهُ في درجةٍ ميَّزهُ بها على من عداه.
اللهم أدِم صلواتك على خاتم الإنباءِ والإرسال، سيدنا محمد المُتَبوِّئ ذُرى الكمال، وعلى آله خير آل وعلى أصحابه الغُرِّ الأبطال، وعلى من والاهم واتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم المَآل، وعلى آبائِهِ وإخوانِهِ من الأنبياء والمرسلين أهل الدَّرجات العوال، وعلى آلِهِم وصحبهِم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وجميعِ عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا سميع يا بصير يا قريب يا منّان يا وال.
أما بعد عباد الله، فإنّي أوصيكم وإيِّايَ بِتقوى الله، تقوى الله التي لا يَقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها، ولا يُثيبُ إلا عليها، وإنّ الواعظين بها كثير وإنَّ العاملين بها قليل.
ولننظُر إلى مجالٍ مِن مجالاتها، ومَنحىً من أنحائِها، وشأناً من شؤونها، يتعلَّقُ بما آتانا الله مِن أمانة الأُذُنَين، وأمانة السَّمع التي مَنَّ بها على هذا الإنسانِ بِفضله، لِيحوزَ بها الإنسان خيراتٍ كثيراتٍ إذا استعملها فيما دعاهُ إليهِ ربّهُ وأباحَهُ له، وتكون كَغيرها من الأعضاء سبب ضُرِّ الإنسان أو هلاكِهِ إذا أساءَ استخدامها، ولم يصرفها فيما خلقه لها الإله المُكَوِّن جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
فسبحان من جعل لنا السَّمعَ والأبصارَ والأفئدةَ وجعل لنا المسؤولية عليها، وجعلها مِن أغلب الأعضاء علينا في جَلبِ النفعِ ودفعِ الضُرِّ، وفي اكتساب المراتب والدرجات أو الهُوِي إلى الحضيض والدَّركات والعِياذ بالله تبارك وتعالى.
أيُّها المؤمنون: مالَ الجُمهور من أهلِ العلمِ الى تفضيل السَّمع على البصر، لأنه به يُسمع دعوة الله جلّ جلاله، وما ذكر السمع والبصر في غالب الآياتِ إلا قدَّم السمع على البصر، إلا في بعض آيات القيامة فإنّ شؤونِها مرئِيَّة وظاهِرة لِلعيان في ذاك اليوم.
أيُّها المؤمنون بالله: مِن أعلى وظائِف هذا السَّمع الذي آتانا الله إيّاهُ أن نستمِع إلى دعوتِهِ وتنزيلِهِ وكُتبهِ وما بَعثَ بهِ رُسُلَه، ولن نجد شيئاً نسمعهُ أعلى من ذلك ولا أشرف.
أيُّها المؤمنون بالله: وهذا السّماع الذي يتّرتبُ عليه الإيمان وزيادة الإيمان، والوصول إلى مراتب الإيقان، وللذين يستمعون على وجه الاستماع ويُنفِّذون مُقتضاه البشرى من الرب
{فَبَشِّرۡ عِبَادِ * ٱلَّذِینَ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمۡ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ}، ولأجلِ ذلك كان القرآنُ أعظم ما تستمع إليه آذانُ مخلوق، أعظم ما ألقى إليهِ السَّمع إنسيٌّ أو جِنِيٌّ أو مَلَكٌ من الملائكة، وإنَّ الملائكة لِتتبادر إلى مواطِنِ قراءة القرآن واستماعهِ.
وقد جاءنا عن أُسَيد بن حُضَيْرٍ رضي الله عنه أنه قال: "بينما أنا قائم ليلة أتلُ القرآن وإذا بمثل السّحابة غشِيَتني، وفيها قناديل كأنّها مصابيح، وإني خِفتُ من استيقاظ أهلي وإذا الفرس تتحرّك، فقطعتُ صلاتي فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم."، فقال: "اقرأ يا أسيد، ذلك الملك تنزل للقرآن إنها الملائكة" وفي رواية قال له: "أما وإنك لو مضيت في قراءتك لأصبحت والناس ينظرون إليها"، تلك الملائكة جاءت تستمع القرآن من فَم أُسَيد بن حُضَيْرٍ رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فخير ما ألقيتَ إليه السّمع كلام ربُّكَ خالق سمعك يا أيُّها الإنسان، خالق سمعك وواهبك إيّاهُ فضلاً من عنده، لا تملك إن قَطَعَهُ عنك أو سَلَبَهُ مِنكَ جماعة ولا هيئة ولا صِحَّة ولا صِحَّة عالميّة ولا حكومة أن تهبكَ شيئاً منه، هو الذي وهبهُ لك فأحسِن استماع كلامه بما آتاكَ مِن سمعٍ فهو خير ما تستمع إليه.
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وويلٌ لِسَمعِ مؤمن يمرُّ عليه الأيام لا يستمع كلام ربّه، {وقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} شَرِّف سمعكَ وقلبكَ وفِكركَ بِكلامِ الإلهِ الذي خلقَ وهو أصدق القائلين جلَّ جلاله، وهو خير ما يُنَوِّرُكَ ويُبَصِّرُك ويهديك.
ثم لا كلام بعد كلام الله أعذبَ ولا أطيَبَ ولا أعلى ولا أغلى ولا أحلى مِن كلام نبيّهُ المصطفى مُحمّد، الذي خاطبه الرحمن وقال عنه في شأن الثناء عليه {وما يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}، وأشار إلى لِسانهِ وقال للصاحب (اكتب فوالذي نفسي بيدهِ ما خرج منه إلا الحق) صلى الله وسلم وبارك وكرَّمَ عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ.
وانظُر إلى تقصيرِ المؤمنين في نَيلهم الشَّرف والتَّزيين لِعقولهم وأفكارهم وأسماعهم بِكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وما نِسبة ما يستمِع إليه الأب والأم ثم الأبناء والبنات في خلال اليوم والليلة، من أقاويلهم وأقاويل غيرهم ومن كلام الله وكلام رسوله، بل رُبّما استمعوا إلى كلام وأقوالِ وألفاظ وعِبارات وكلماتِ أعداء الله وأعداء رسولِهِ، والغافلين عن الله ورسوله أكثر مِمّا يستمعون إلى كلامِ الله ورسولهِ في خلال يومهم وليلتهم، ما أكفرَهُم بالنِّعمة وما أجحدهم لِلمُنعِم الذي أعطاهم هذا السَّمعَ وما كان ينبغي أن يصرِفوه إلا في استماعِ كلامه أولاً، وكلام رسوله ثانياً صلّى الله عليه وعلى آلهُ وصحبهِ وسلّم.
أيُّها المؤمنون بالله: وإنّ الاستماع إلى غِيبةٍ أو نميمةٍ ولو من مُسلِم تورِدُ صاحبها موارد الهَلَكة وَتُوصله إلى العذاب والعِياذ بالله جلَّ جلاله، فاحذر أيُّها المؤمن، فكيف باستماع كلام الفُجّار والكُفّار أو الدّاعين إلى السُّوء والعِياذ بالله تبارك وتعالى، {وقدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُم}، وما من تهديد أكبر من هذا.
{إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} إذا استمعتم فقل للذي فتح لِسَمعِ أولاده كلام الفُسّاق والمُجرمينَ والمُستهزئينَ بآيات الله، والمُتَجَرِّئين على المحارم في مُختلف الأجهزة في البيت وتركهم على علّاتهم معها خنتَ الأمانة، وضيَّعتَ الدِّيانة وتعرَّضتَ للمهانة، ولم تَدرِ قُبح ما أتيتَ يا أيُّها الغافل، ولن يشفع لك تجاهُلُك، ولن يشفع لك تغافُلك، ولن يشفع لك أنك في القرن الحادي والعشرين، ولا أنك في أي بلد كنت ولا في أي مكان كنت.
اتَّقِ الله فيما تَسمعهُ وتُسمِعْ أُذُني أهلك، وتُسمِعْ آذان أبنائك وبناتك، فإنها أمانة أنت عنها مسؤول يا أيُّها المؤمن بالله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
ولا تستمع إلاّ إلى ما يَزينُك، بلِ استماعك لحديث قوم لا يُحِبّون أن تسمع حديثهم يُعَرِّضكَ للونٍ من العذاب تحدّثَ عنه سيِّد الأحباب المُنزل عليه الكتاب، وقال فيه فيما رواه الإمام أحمد وابو داوود الترمذي وغيرهم: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صُبَّ في أذنيه الآنُك يوم القيامة"، أي الرصاص المُذاب المحمّى بالنار، يُصبُّ في أُذُنيه مقابل ما استمع إلى حديث قوم لا يُحِبّون أن يستمع إلى حديثهم.
أيُّها المؤمنون بالله جلَّ جلاله: وهكذا جاء في رواية عنه صلى الله عليه وسلم: "من استمع إلى حديث قوم لا يُحِبون أن يستمع إليهم صُبّ في أذنهِ الآنك يوم القيامة، ومن تحلَّم بحلم لم يره" قال إني رأيت كذا في النوم وما رأى شيء "أعطيَ شعيرة فَكلف أن يعقد بينها فيعذب حتى يعقد وما هو بعاقد" كيف يعقد بين شعيرة من نار والعِياذ بالله تبارك وتعالى.
أيُّها المؤمنون بالله: إنها أمانة عظيمة تزيَّنوا فيها بِزِينة الإيمان والتّقوى، واغنموا نِعمة الله عليكم فيما أتاح لكم من سمع، واحذروا الاستماع إلى الآلات المُحرّمة وإلى المزامير وإلى ما نُهينا عن الاستماع إليه، ولقد جاءنا فيما روى ابن عساكر عن نبينا المصطفى: "من استمع إلى قَينة صُبَّ في أُذُنِه الآنُكُ يومَ القيامةِ"، أي مغنية، وجاءنا في الرواية الأخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من استمع إلى غِناءٍ" يعني من الغناء المحرم، "لم يسمع الروحانيين في الجنة"، قالوا ومن الروحانيون؟، قال:" قُرّاء الجنة"، القُراء في الجنة بالقراءة الشريفة العزيزة الكريمة يحرمها بسماعه للغناء المحرم، فكيف من يختار الغناء المحرم لزواجه أو زواج ابنه أو ابنته ثم يرجو البركة وصلاح الحال! ما أغفله ما أجهله، أتتعرَّض لغضبهِ وعقابهِ ثم تطلب منه البركة؟ أأنت مُستهزئ؟ أم أنت مُستسخر بأمرِ ربك جل جلاله وتعالى في علاه؟ خذ الكلام الطيب الصالح، وخذ الغناء واللّهو المُباح في شرع الله جلَّ جلاله، بِلا مجون ولا اختلاط ولا حركات خبيثة.
إن أمانة الأذن شديدة كبيرة، عنها السؤال يوم يقوم الناس لرب العالمين، فاحفظ أُذنك واحفظ أذن من وُلِّيت عليهم أن تستمعوا إلا إلى ما أباح الله لكم الاستماع إليه وتزدادون به قُربةً إليه، اللهم شرِّف أسماعنا بكلامك وكلام رسولِكَ وسماع ما تُحِبّ مِنا الاستماع إليه، والعمل بِمُقتضى ذلك حتى ننال منك البُشرى وتصلح شؤوننا في الدنيا والأخرى، ونعوذ بك أن نُطلق السّمع إلى ما حَرَّمت فنندم ونخسر في الدُّنيا ويوم الوقوف بين يديك، يا عليُّ يا أحكم، إن الله سبحانه وتعالى أنزل علينا من الكتاب ما يُنَوِّر الألباب ودعانا إلى الاستماع إليه، وقال فيما أنزل على خاتم النبيين سيد الأحباب {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
{هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثَبَّتنا على الصِّراط المستقيم، وأجارنا مِن خِزيهِ وعذابهِ الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي وَسِعَ سمعهُ كُلَّ شيء، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، المَلك القادر الحي، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيِّنا وقُرّةَ أعيننا ونور قلوبنا مُحمداً عبدهُ ورسولهُ، أكرمَ أذنٍ استمعت خبر السماء، ووعت الخِطاب عن الملك الأعلى، فيما شاهد {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك المختار سيدنا محمد، وعلى آلهِ الأطهارِ وأصحابهِ الأخيار ومن مشى في منهجهم الأرشد، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين مَن رَقَوا الفخر الأمجد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا واحد يا أحد.
أما بعد عباد الله، فإنّي أوصيكم ونفسي بِتقوى الله، فاتّقوا الله في سمعٍ آتاكم إياه لِتربحوا ولِتنجحوا ولِتفلحوا، لا لِتَخسروا ولا لِتُعَذَّبوا، ولا لِتسقطوا في هاويات المعصية لواهب السّمع السّميع البصير جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وهو خالق السَّمعَ لكلِّ مخلوق، وما سمْعُ من في السماوات والأرضين شيئاً في مُقابل سمع الله السميع جلَّ جلاله، الذي يسمع وقوع الخاطرِ في قلب كُلِّ إنسان، ويسمع حركة الطير في الهواء، ويسمع دبيب النمل لو كانت وسط صخرة صمّاء في ليلة ظلماء في أسفل البحور لكان الحقّ يراها ويسمع دبيب أرجلها جلَّ جلاله، ولا يحيط بسمعه أحد، سبحان من وسِعَ سمعهُ كل شيء.
أيُّها المؤمنون بالله: واهب السمع لكم ولا يستطيع غيره أن يهبكم إياه، وما معكم ومعهم إلا التسبُّب في المحافظة عليه، أو استعمال وسائل جعلها هو في سنته وخلقه لتقويته، أو للتوصل إلى ذلك السماع وما عدا ذلك فلا يملك أحدٌ إعطاء أحد سمعاً إلا السميع البصير جلَّ جلاله.
فاتقوا الله في أسماعكم واصرفوها فيما يُرضي ربكم، ألا ولقد وقف سيدنا الجليل المبارك في شبابه من أصحاب نبيكم المصطفى أمام مسيلمة الكذاب يقول له: أتشهد أن محمد رسول الله؟ فيقول أشهد أن محمد رسول الله، وتشهد أني رسول الله فيقول: إن في أذني صمماً عما تقول، وكذلك في آذان المتقين الصادقين صممٌ عما يقول الكفار والفجار والأشرار في أي وسيلة، وفي أي جهاز، وفي أي محفل.
إن في آذان الصادقين المؤمنين صمماً عن سماع ذلك الخناء، وعن سماع ذلك الكذب، وعن سماع ذلك الضلال، (إن في أذنَيَّ صمماً عما تقول)، أنا لا أستمع لمثل هذا القول ولا أعرفه، ولا أجيز لسمعي أن يصغي إليه، هكذا قال حبيب بن زيد عليه رضوان الله تبارك وتعالى، وقُطِعت يده وأعيد الكلام فأعاد الجواب، وقطعت الثانية وأعيد الكلام فأعاد الجواب، وقطعت رجله وأعيد السؤال فأعاد نفس الجواب، وقطعت الرجل الثانية وأعيد عليه الكلام فأعاد نفس الجواب، وأُمُّهُ قائمة تقول: لمثل هذا أعددتك يا بُنَي، لمثل هذا الموقف ولمثل هذا الثبات، رضي الله عنها وعن ابنها الذي استشهد في سبيل ربه جل جلاله، وهو يقول نعم أشهد أن محمد رسول الله، فإذا قال له الكذاب وتشهد أني رسول الله؟
يقول إن في أذني صمماً عما تقول وإن قطعت يدي ورجلي.. فهو الثابت.
أيها المؤمنون: وأي ثبات عند من يقول من أجل المرأة من أجل الولد جئنا بهؤلاء المُغنين بالغناء الساقط، من أجل نفرِّحهم ليلة العمر! كذبت وكذبوا، وخسئت وخسئوا، وخسرتَ وخسروا، إنما وقعتم في ذلك لتسيئوا وجوهكم ولتقيموا سوءاً بينكم وبين مليككم وخالقكم، ولتخالفوا هاديكم ونبيكم، ولتتعرضوا للشؤم في زواجكم وأعمالكم.
أيها المؤمن: أمانة الله أدِّها كما ينبغي، وراقب خالق السمع والبصر ولا تصرفهُ فيما حرم عليك.
اللهم صُن آذاننا وأسماعنا وأبصارنا عن موجب الخزيِ والنّدامة في الدنيا ويوم القيامة، وشرِّفنا بما به نرقى مع من يرقى، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام يا أرحم الراحمين.
وأكثروا الصلاة والسلام على المصطفى محمد، فإن ذكر الله والاستماع إليه يزيد الإيمان ويطهر الجنان، ويرفع القدر والشأن، وتعظمُ به الحسنات من الملك المنّان جلَّ جلاله وتعالى في علاه: "من استمع إلى حرف من كتاب الله ظاهراً كُتبت له عشر حسنات" باستماع الحرف فكيف بتلاوته وقراءته؟ أيها المؤمنون بالله: اصغوا إلى ما ألقى الله على رسوله، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
وأكثروا الصلاة والسلام على حبيب الحميد المجيد، الداعي لكم إلى المنهج الرشيد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فإن أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة، وإن الله أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه وثنَّ بالملائكة، وأيَّهَ بالمؤمنين من عبادي تعميماً، فقال مخبرا وآمرا لهم تكريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
اللهم صلِّ وسلِّم على المُجتبى المختار نور الأنوار سيدنا محمد، وعلى الخليفة من بعده وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازِرِهِ في حالة السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر صديق، وعلى شهيد المحراب الناطق بالصواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى مُحيي الليالي بتلاوة القرآن من استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين سيدنا عثمان بن عفان، وعلى أخي النبي المصطفى وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب، وعلى الحسن والحسن سيدا شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمهم الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضى، وأمهات المومنين وبنات حبيبك الأمين وعلى أهل بيعة العقبة، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلى سائر الصحب الأكرمين، وأهل البيت الطاهرين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد يا عباد الله، إن الحق شرَّفهم وميَّزهم، فهم محل القدوة لمن وراءهم وبعدهم، اللهم أعلِ درجاتهم واجمعنا بهم في أعلى الجنة، اللهم لا تصرفنا من جُمعتنا إلا بقلوب خضعت وخشعت وألقت إليك اللهم زمام أمرها حتى لا تصرف سمعها ولابصرها، ولا يدها ولا أرجلها إلا لمرضاتك وجميع أعضائها، حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين.
لا تحرمنا سماع كلامك في مواقف القيامة وفي دار الكرامة، وسماع قراءة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم والنبيين والرُّوحانيين في ذلك الموطن، اللهم هيِّئنا لأعلى السماع وأحسنه، وارزقنا حسن الاتباع في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأفئدتنا وما آتيتنا في حياتنا، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راضٍٍ عنا، حتى لا نَسمع ولا نُسمِع إلا ما تحب على ما تحب يا سميع يا بصير.
أعذنا من موجبات الحسرة والندامة في يوم القيامة وموجبات الخزي في يوم الطامة، واجعل آخر كلامنا من حياتنا الدنيا لا إله إلا الله، متحققين بحقائقها وأنت راضٍ عنا يا الله.
اللهم اغفر لنا وللأباء والأمهات والأجداد والجدات، وللمؤمنين والمؤمنات جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها، خطئها وعمدها، أولها وآخرها، يا غافر الذنوب والخطيئات، يا غافر الزلل والسيئات، يا مبدل السيئات إذا رضي إلى حسنات تامات، بدل سيئاتنا إلى حسنات، واصرفنا من الجمعة بإنابة وثبات واستقامة على ما تحب إلى الممات، يا مجيب الدعوات يا قاضي الحاجات، يا سريع الإغاثات، فرِّج كروب المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وحَوِّل أحوالهم إلى أحسن الأحوال والحالات، يا حي يا قيوم يا الله.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
نسألُك لنا مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مِن شرِّ ما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنتَ المُستَعان وعليك البلاغُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم.
عبادَ الله: إنَّ الله أَمَرَ بِثَلاث وَنَهَى عَنْ ثَلاث:
﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
فاذكُرُوا اللهَ العظيمَ يَذْكُرْكُم، واشْكُرُوه على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكْرُ اللهِ أكبر.
30 جمادى الأول 1444