عرفة وعهد الله وشريعته والشوق إليه وإلى حبيبه

للاستماع إلى الخطبة

خطبة عرفة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في صعيد عرفات الطاهر، ظهر الإثنين 9 ذي الحجة 1439هـ بعنوان: 

عرفة وعهد الله وشريعته والشوق إليه وإلى حبيبه

نص الخطبة مكتوب:

 

الحمد لله الملك الحق المبين، رب العالمين، مُكوّن الأكوان، مُنزل القرآن، جعلنا خير أمة أُخرِجت للناس، وأقام لنا سبحانه وتعالى في بيانه ومنهاجه والوجهة إليه أقوم أساس. اللهم لك الحمد شكرًا ولك المنّ فضلًا، يا جامعنا في موقف المباهاة بالملائكة الكرام، والخير والإجابات والغفران والعفو عن الذنوب العظام.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جمعكم بفضله في مواطن كرمه وطَوله، وهيّأكم لاقتفاء كريم سبيله، بالاتصال والاقتداء برسوله، له الحمد وقد جعلكم في خير أمة، وبسط لكم بساط النعمة، ودفع عنكم كم من بلية ونقمة، له الفضل والإحسان والجود والامتنان.

ونشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، ونبيه وصفيّه وحبيبه وخليله، خير من وقف بعرفة وقال: "عرفة كلها موقف". ولقد توجه إلى الحق تبارك وتعالى في شؤون أمته عليه الصلاة والسلام، يُلِح على الرحمن ويسأل ويتضرع ويبتهل، وهو بهم رؤوف رحيم.

اللهم اجزِ عنا نبيك المصطفى خير الجزاء، اللهم أدم صلواتك وتسليماتك العلية في كل حين ونفس على خير البرية سيدنا محمد، وعلى آله أهل الطهارة، وأصحابه أهل الصدق معك والإنابة إليك، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكتك المُقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد: أيها الوافدون على الإله الحق الرحمن علام الغيوب، الذي بيده ملكوت كل شيء، عالم السر وأخفى، الذي وسعكم جودًا ورحمةً ولطفًا، والذي منه مُبتدأكم وإليه مرجعكم ومنتهاكم - تعالى في علاه-، الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون. أنزلكم سبحانه وتعالى منزل الوفادة عليه، وأمركم في هذه العشية أن تخرجوا من حدود حرمه لتستمطروا سحائب كرمه، ولتتصفوا فتتأهلوا للدخول إلى الحرم مرة أخرى وأنتم بحالة أخرى، وبتلقي الفائضات أحرى، جارين في خير مجرى، صادقين مع ربكم سرًا وجهرًا.

أيها الوافدون على الله الكريم الرحمن الرحيم جل جلاله، نعم الوفادة لكل من صدق في الإرادة، وتطيّبَ له الباطن عن كل التفات إلى غير الرب فتلكُم السعادة، يا مُسعد السعداء أسعدنا بسعادتك الكبرى.

أيها الوافدون على الله، لاحظوا معنى الوفادة على رب العالمين، أول الأولين وآخر الآخرين، ذي القوة المتين، راحم المساكين، أرحم الراحمين، الذي أحاط بكل شيء علمًا، وهو على كل شيء قدير. قبل الله وفادتكم وأكرمها، وبسط لكم بساط المِنة، ونشر لكم سبحانه في مغفرته ومحبته عَلَمها، إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.

وإذ قد وفدتم ووفد الألوف ومئات الألوف والملايين إلى المنطقة المباركة المكرمة، حول حرم الله تعالى، بجوار مكان أخذ العهد والميثاق في الأزل علينا، بجانب وادي نعمان الأراك، حيث جمع الله الأرواح إذا أخرجها من ظهر آدم وأشهدها على أنفسها: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ} [الأعراف: 172]. فيا أهل أرواحٍ قالت للملك الأعلى: بلى إنه ربها وحده لا رب سواه: أوفي بعهدك يوفي الله لك بكرامته الكبيرة ومِنته الوفيرة.

 يا أيتها الأرواح، أيغركم شيء مما على ظهر الأرض من زخرف القول وزخرف المظاهر المنقضية الزائلة التي غرت كثيرًا من عباد الله، وحقيقتها: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ).

 يا حامل الروح التي قالت: بلى، ولبّت نداء العلي الأعلى، ثم جئت تجدد عهدك مع مولاك: ب "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك". ارعَ حق هذه الروح، واجعل لك في فهم معناها وواجبها المعلق برقبتك واسعًا من النظر، تقتفي به الأثر، وتكون به من أهل العبرة فيمن اعتبر وادْكر، مُستعدًا متزوّدًا من هذه الحياة القصيرة للبرزخ والمحشر، بل وللوقوف بين يدي من خلق وفطر.

ألا إنه وقوفٌ بعرفة، كم من سعيد يحوز به السعادة ساعة الوقوف بين يدي الله يوم القيامة، فيكرم بأعظم كرامة، ويقول الرحمن: "ادخل جنتي برحمتي"، وينادي المنادي على رؤوس الأشهاد: "لقد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا".

أيها المؤمن، يا حامل الروح التي لبت في القِدم نداء العلي الأكرم، وجئت تُجدد العهد الأعظم، وتلبي ربك سبحانه وتعالى الإله الأرحم الأكرم، يا حامل هذه الروح، تهيأ ليوم للوقوف بين يدي ربك جل جلاله وتعالى في علاه، إن في صحائفك ما لو آخذك عليه لاسوَدَّ وجهك، ولو آخذك به لخسرت الوقفة بين يديه، ونادى المنادي: لقد شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا. كم من مغتر بمال عاقبته هذا النداء فويل له. كم من مغتر بسلطة عاقبته هذا النداء فويل له، كم مغتر بصور أو جمال أو زخرف عاقبته أن يقال له: لقد شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا؛ فويل له، لا يغني عنه شيء مما اتخذ ولا مما ركن إليه، ولا مما فرح به ولا مما استند إليه، وقد فسد حسابه بينه وبين رب الأرباب، وساء حاله مع الإله الحق سبحانه وتعالى جل جلاله، فله بئس المآب.

أيها الحامل لروح قد أقرت بربوبية الله تعالى في علاه، ابسط بساط الصدق مع المولى في تجديد هذا العهد، فإنك مُجدد العهد، وافد عمن لم يفد من أهلك وقرابتك وجيرانك وأهل بلدك، وبقية المسلمين الذين لم تتسن لهم الوفادة، في هذا اليوم وأنتم في مثل ضربه من جاءنا بالإيمان حبيب الرحمن وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، إنها من الأمانة التي أداها نبيكم المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام، في ضرب المثل للأمة بمقتضى إيمانها بإلهها جل جلاله، وكم اختلت هذه المعاني عند مُنتمٍ إلى الإسلام والإيمان، لا يرعى حُرمة المؤمنين، يهتك أعراضهم ويغتابهم ويسب عليهم، أو يبسط يده على أموالهم أو على دمائهم.

 أيها المؤمنون بالله، إن وحدة الإيمان أعلى وحدة، وإن ميثاقها أشد المواثيق، وإن رابطتها أقوى الروابط، رابطة الإيمان تجمع المؤمن بمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من النبيين وأتباعهم أجمعين، مَن مضى ومن في زمنه إلى يوم القيامة، حتى يجتمع وإياهم تحت راية وتحت لواء مَن جاءنا بالإيمان، حامل لواء الحمد يوم اللقاء، حبيب الله المنتقى، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

جمعنا الله وإياكم تحت ذلك اللواء، وتحته جميع المؤمنين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، وويل لمن لم يدخل تحت ذلك اللواء، ومن لم يستظل بظل ذلكم اللواء فلا نصيب له في الجنة ولا دخول له إلى الجنة، يجتمع أهل الجنة تحت لواء سيد أهل الجنة، تحت لواء محمد الذي تلقى عن الله أعلى المنة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

يا أيها الواقفون في موقف وقف فيه نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام، ونادى لكم الإله الذي تنادونه، وسأل لكم الرب الذي تسألونه، ودعا لكم الخالق الذي تدعونه، لقد ساقتكم عناية الله حتى حضرتم، فاجعلوا القلوب حاضرة والأرواح حاضرة، تحت صيِّبات هذه الغيوث الماطرة. إن المطر الحسي إذا زاد تضرر منه العباد، وقد تضرر منه كثير من إخواننا في عدد من البلاد، لطف الله بهم، وهو آية من آيات الله، إن انقطع عن الخلق تضرروا واحتاجوا إليه، وإن زاد عليهم تضرروا به واحتاجوا إلى انقطاعه، فلا يزال الخلق في احتياج، والرب هو الجواد الذي يلطف ويرحم جل جلاله، مظاهره في الحسية تقدمت لكم في ليلة البارحة، ومضت على عرفة من أثر المطر والريح الشديدة ما مضى، قدّمها قبل أن تصلوا في يومكم هذا، ولو شاء لجعلها في ساعاتكم هذه، فلم تبقَ لكم خيمة ولم يطمئن لكم خاطر، لكن الكريم الفاطر لطف ولاطفكم مع عدم استحقاقنا للملاطفة، وعدم أهليتنا لها، نحن المرتكبون للذنوب، نحن الخطاؤون في الشهادة والغيوب، نحن الممتلئون بالعيوب، وهذه معاملة الكريم الرحمن، وهذه ملاطفة الإله المنان، وهذا جود الواحد الأحد، القديم الإحسان جل جلاله وتعالى في علاه.

فما جئنا اليوم إلا والشمس مُضحية، وإلا والرياح حسنة طيبة، تُروِّح الأجساد ولا تقلع الخيام، ولا تؤذي الحجاج في وقفتهم المباركة؛ من هيَّأ ذلكم؟ ومن يقدر على ذلك سوى إلهكم جل جلاله وتعالى في علاه؟ مهما اتصل الخلق بما يفيض عليهم الحق في شؤون الماديات والاستعداد بالوسائل والتقدم في الاكتشافات، لا يزالون عاجزين أمام الريح لو أرسلها، وأمام الأمطار لو غزّرها، وأمامها لو أمسكها عنهم، فلم يقدروا عليها بدولهم وشعوبهم وهيئاتهم ومؤسساتهم، عاجزون والله! عاجزون والله أمام كل هذا، لا يقوون على أمطار غزيرة تفتك بهم، ولا على جدب يهلكهم، ولا على رياح شديدة تُقلِّع كل شيء بأمر ربها جل جلاله وتعالى في علاه.

إنهم لعاجزون مهما ملكوا، ومهما اتسعوا، ومهما اكتشفوا، ومهما كان ما كان، وذلكم أمام كل عين، ليعلم الخلق أنهم خلق وأن القوة للحق، والمغترون بنسبة القوة إليهم، وهي نسب مؤتاة ومُعطاة لهم من قبل القوي المتين جل جلاله يختبرهم، إذا انكشفت عنهم الستارة وأدركوا الحقيقة أيقنوا أنهم لا قوة لهم وصرحوا بذلك، (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ). اللهم أجرنا من عذابك يا قوي يا متين، وارحمنا فإنك بنا راحم يا أرحم الراحمين.

ولقد دعاكم جل جلاله وأوصلكم ووفّقكم فضلًا منه وجودًا ومنّاً وإحسانًا منه جل جلاله، جلّ أن يكون محصورًا أو معدودًا، له الحمد على ما أوصلكم وأوصل إليكم، فانظروا الساعات اليسيرة الخطيرة، ذات المواهب الكبيرة والمِنن الغزيرة من الرحمن الرحيم؛ كيف تقضونها وكيف تمضي بكم؟ إن نصيب كل أحد منكم على قدر صفاء قلبه وانكساره من أجل ربه، على قدر صفاء قلبه وانكساره من أجل ربه، على قدر صفاء قلبه وانكساره من أجل ربه، فاطلبوا الصفاء العالي التام، وانكسروا لذي الجلال والإكرام.

في هذا الموقف أيها الأحباب بكى الأنبياء، في هذا الموقف بكى الصادقون المخلصون من الأصفياء، الذين لم تنظر أعينهم حرامًا، ولم تنطق ألسنتهم بحرام، ولم تسمع آذانهم حرامًا، ولم يلتفتوا إلى سوء ومكروه، كلهم ضجّوا في هذا الموطن، كلهم بكوا في هذا الموطن، لم لم لم لم يا هذا الواقف؟ لأنهم عرفوا، لأنهم أدركوا، لأنهم شهدوا، لأنهم سعدوا، لأن الله أراد أن يكرمهم.

فيا مكرمهم، لا تحرمنا من الكرامة، ويا معطيهم خصّنا بنصيب من العطاء، ويا مُعليهم رقِّنا إلى علوٍّ في هذه المقامات، لا نعيش في حجاب عن إدراك عظمة الربوبية، منشدهين مشغولين بشؤوننا القليلة الدنية، يا ربِّ لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا، وأفِض على هذه القلوب مما أفضت على تلك القلوب، ما تُنقّينا به عن كل شوب، وتطهرنا به من جميع العيوب.

يا واقفًا بعرفة، أنت أمام العرضة لأن يتعرف إليك، أن يتعرف عليك! من هو؟ أن يتعرف إليك، كم تعرف لقلب في هذا الموطن، وفي مثل هذا الموقف دخل القلب وهو مُكدّر فخرج صافيًا، دخل القلب وهو مظلم فخرج منورًا، دخل القلب وهو بعيد فخرج في قرب عظيم، أنت عُرضة أن يتعرف إليك، فهل يصادف قلبًا مقبلًا عليه مُنقّى عما لا يحبه، من حقد أو حسد أو كبر أو رياء أو غرور أو عُجب وغير ذلك؟ هل يرى قلبك انطوى من أجله على إرادة الخير لجميع خلقه؟ هل يرى في قلبك خضوعًا لجلاله وتعظيمًا لكتابه ولرسوله؟

إنه في مباهاته الملائكة بالواقفين بعرفة هذا اليوم، جاء في رواية أنه يقول للملائكة: "يا ملائكتي، انظروا إلى عبادي جاءوا إلي شعثًا غبرًا، أرسلت إليهم رسولًا فصدقوا برسولي، وأنزلت إليهم كتابًا فآمنوا بكتابي، وجاءوا إليه، أشهدكم أني قد غفرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم ولمن شفعتم له".

وهكذا جاءنا في الرواية الأخرى، واسمعوا إلى خير الورى، وهو يقصّ علينا خبرًا، في شأن ما أنتم فيه من هذا المسلك والمجرى، وقد وقف ثقفي عليه يسأله، فقال له صلى الله عليه وسلم كما روى الطبراني بسند صحيح، وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب"، قال له صلى الله عليه وسلم: "إن شئت سألتني فأجبتك، وإن شئت أخبرتك بما جئت تسألني عنه". قال: "هذا أحب لي يا رسول الله، فأخبرني"، قال: "جئت تسألني عن مخرجك إلى بيت الله وما لك فيه، وعن طوافك بالبيت وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك بعرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن حلقك وما لك فيه، وعن طوافك بعد ذلك بالبيت وما لك فيه". قال: "والذي بعثك بالحق إيه، عن هذا جئت أسألك". قال له: "أما خروجك من بيتك لبيت الله تعالى، فإنه لا تطأ راحلتك موطئًا إلا كُتب لك به حسنة، ورُفعت لك درجة، وكُفرت عنك خطيئة، وأما طوافك في البيت فإن الله يدخلك في رحمته، وأما ركعتك بعد الطواف فإنهما كعتق رقبة، وأما طوافك بين الصفا والمروة فكعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا فيباهي بكم ملائكته، ويقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا يسألون رحمتي، فلو كانت ذنوبهم عدد الرمل والحجر ومياه البحار غفرتها لهم، أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم. انصرفوا يا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له". قال: "وأما رميك الجمار" يقول له صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "فإنه مدخور لك عند الله"، وأما حلاقك شعرك، فإن لك بكل شعرة حسنة". يقول له الثقفي: "يا رسول الله، وكفارته سيئة؟" قال: "إن لم يكن لي سيئات على عدد هذه الشعرات". قال: "فحسناتك مدخورة، تتحول إلى حسنات مدخورة لك عند الله". قال: "وأما طوافك بالبيت بعد ذلك مغفورًا لك، فإن الملك يقف عليك ويضع يديه بين كتفيك، ويقول: طف، فقد غُفر لك، استأنف العمل، اعمل لما يستقبل فقد غُفر لك ما مضى"، اعمل لما يستقبل فقد غُفر لك ما مضى، ذلك فضل الله علينا وعلى الناس. 

يا مُهيئين لأن يباهي بكم الله ملائكته، أحضروا في قلوبكم صدق الوجهة إليه، والإئتمام بحبيبه الذي وعدكم إذا اتبعتموه أن يحبكم جل جلاله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. 

يا أيها الحاضرون ويا أيها السامعون، راية الاتباع لهذا النبي غابت عن بيوت كثير من أمته، عن بيوت كثير من المسلمين، ورُفعت رايات اتباع لفجرة، لفسقة، لكفرة، لساقطين مِن على ظهر الأرض، برامجهم تحِن في البيوت، وصورهم يراها المرأة والرجل والصغير والكبير، وأصواتهم تزعق وسط الديار وتسمعها الآذان، وتُظلم القلوب، فلتسقط هذه الرايات، ولترفع راية محمد وسط الديار، ولترفع راية المصطفى وسط المنازل، وليُذكر الرحمن، وليُقرأ القرآن، في بيوت تشكو من قلة تلاوة القرآن فيها، وكثرة تلاوة برامج الغافلين عن الله، الذين حذر الله منهم نبيه: {وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] والعياذ بالله تعالى. 

وإن الغفلة تؤدي إلى نزع الإيمان، حتى يصير الإنسان كما وصف الرحمن: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، أين وصلت بهم الغفلة؟ أين أدت بهم الغفلة؟ وصلوا إلى هذه الحدود، والعياذ بالله تبارك وتعالى، والوصول إلى نار الله الموقدة.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا..)؛ لترتفع رايات اتباع محمد، في كل بيت لنا وفي كل أسرة لنا، في صباحنا وممسانا، ليُقرأ القرآن في البيوت، وليُسمع حديث المصطفى محمد، ولتُقرأ الأذكار في الدخول والخروج، وعند الأكل وعند النوم، ولتُقم سنن محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وسط البيوت: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ..} [آل عمران: 31]. البيت الذي يُقرأ فيه القرآن يتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض.

أيها المؤمنون، وبهذا التحصين يُرد عن دياركم ومجتمعاتكم كيد الكائدين من الكافرين والفاجرين، وأنواع البلاء والأمراض والأسقام والحروب، إن سنن المصطفى أسلحة تفك بلايا الحروب والكروب عن أمة محمد، إذا قامت وإذا أقيمت على وجهها؛ فإن الله يرحم عباده بهذه السنن الكريمة.

أيها المؤمنون، وكم من فرائض أُضيعت في الصلوات أو في الزكوات أو في الصيام، أو في بر الوالدين أو في صِلة الأرحام، فلابد من إقامة فرائض الله، إن الله فرض فرائض فلا تُضيّعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، نظام ربك خير لك من نظام كل شرقي وغربي، كل عربي وعجمي، كل إنسي وجني، نظام ربك خير لك، نظام ربك افعل كذا ولا تفعل كذا، منهج الله الذي تقوم به الخلافة عن الله في الأرض.

خمسة أحكام: واجب ومُحرّم ومندوب ومباح ومكروه، ليس هناك أشرف من هذا النظام، ولا أجمل بك أن تنتظم به، فتستقيم لك حياتك الدنيا، وتفوز في العقبى وفي الأخرى، فقدِّم نظام الرحمن على كل نظام على ظهر الأرض، فهو المقدم وهو المعظم، وليس مرجعك إلى أصحاب أي نظام، ولكن صاحب هذا النظام سوف تعود إليه، سوف تعود إليه وتقف بين يديه، وهو الذي يسألك عما شرع لك، وعما أنزل على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

ما أعجبها من ساعة لها شأن يوم تقوم الساعة، فصفّوا قلوبكم وانكسروا لربكم، وابسطوا بين يديه مرغوبكم ومطالبكم في الدنيا والآخرة، فهو رب الدنيا والآخرة، وهو إله الدنيا والآخرة، وهو المُتصَرِّف في الدنيا والآخرة، وهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما جل جلاله وتعالى في علاه.

اللهم بارك لنا في ساعتنا هذه، واجعلنا في المقبولين لديك، نظراتك إلى المحبوبين، يا ربنا لا تجعل فينا قلبًا إلا صفيته، ومن جميع الكدر خلصته، ومن جميع الذنوب طهرته، اللهم ما كان في الصحائف من سيئات فامحها عنا وبدلها إلى حسنات، إلهنا لا يغفر الذنوب إلا أنت، ولا يُقبل المسيء ويتجاوز عنه إلا أنت، ولا يرحم المذنب فيستره في الدنيا والآخرة إلا أنت، فنسألك برحمتك الواسعة أن ترحم عبادك المُذنبين، المُقصّرين، المُخلّطين، الذين عصوك بقلوبهم وجوارحهم، والليل والنهار، والسر والعلانية، وندموا على ما كان منهم ولجأوا إليك، وجاءوا إلى رحابك ولاذوا بأعتابك، واتبعوا ما أوحيت إلى نبيك سيد أحبابك، ولبوا ندائك، وجاءوا إلى بيتك الحرام خاضعين خاشعين، ونزلوا بأمرك إلى فناء البيت بل خارج حدود الحرم ليتهيأوا للدخول على حال مرضي، أبرك، أنقى، أتقى، فاجعل اللهم عودتنا إلى حرمك خير العودات، نلبس فيها خلع التأييدات والنصرات، والتثبيتات والعنايات والمغفرات، والقبول الأعلى الأسنى، يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

والله يقول وقول الحق المبين: {فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف: 204]، وقال تبارك وتعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَام وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

{أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا، ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الجواد الواسع الجود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له البر الكريم المعبود، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه زين الوجود.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على الحامد المحمود، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الرُّكّع السجود، ومن تبعهم على الوفاء بالعهود إلى اليوم الموعود، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء المرسلين وآلهم وصحبهم والملائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد: عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، فاتقوا الله عباد الله في مواطن عطائه ورضاه، وجوده سبحانه وتعالى وهداياه، ومغفرته وفضله ومنّهِ وإسداه، لا إله إلا هو.

أيها المؤمنون، حقيقة الإيمان أن يُبذرَ في قلوبكم محبة الرحمن، والشوق إلى اللقاء والتدان، ومرافقة سيد الأكوان، والنبيين والمرسلين والشهداء والصالحين؛ من فقد هذا الشوق فلا إيمان له، لا حقيقة في الإيمان عنده، وكلما ازداد الإيمان ازداد الشوق إلى الرحمن وإلى رسوله وإلى المرافقة الكريمة.

فهل تجدون قلوبًا تمتلئ شوقًا إلى اللقاء، وتتهيأ للقاء، وتُدرِك ما قال سيدنا بلال المؤذن عليه رحمة الله عند وفاته، وهو في سكرات الموت، وسمعته امرأته تقول: وا كرباه، وا كرباه، ففتح عينيه وهو في السكرات وقال: "لا، بل واطرباه واطرباه، غدًا ألقى الأحبة، محمدًا وحزبه".

أيها المؤمنون، في الموقف الذي أنتم فيه، القلوب المشتاقة إلى باريها لها من المباهات خصوصية، ولها من العطاء خصوصية، ولها من التعرُّف الرباني خصوصية؛ يتعرف إليها ما لا يتعرف إلى غيرها، فهل تلحق بأهل الخصوصية وأنت في هذه البقعة السنية، في بقعة الوقوف فيها في هذا اليوم عبادة شريفة جليلة عليّة، لا تكون إلا في مثل هذا اليوم!

أيها المؤمنون بالله، أتلحق بأهل الخصوصية فيمن يُباهي بهم الرحمن؟ أفي قلبك شوق إلى فوق؟ أفي قلبك شوق إلى محمد وتَوق؟ أفي قلبك شوق إلى رؤية الوجه المنير الشريف، الذي قال: "الويل لمن لا يراني يوم القيامة"، خابت عين لا ترى وجه محمد يوم القيامة، قالت السيدة عائشة عليها رضوان الله: "من لا يراك يوم القيامة؟" قال: "من ذُكِرت عنده فلم يُصلِّ عليّ" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، من ليس في قلبه شوق يهزه على الصلاة عليه إذا سمع ذكري، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها المؤمنون، استبدلوا كل شوق سفلي بشوق علوي، واستبدلوا كل التفات إلى الدني بالالتفات إلى العظيم العلي، ورَدِوا المشرب الهني، وانظروا إلى مراقي القرب من الحق العلي، وتوجهوا إلى الله بالصدق والإخلاص، إنها ساعات لا كمثلها، وإنها لحظات ما أعظم فضل الله فيها، ألا لا تفوتك الخصوصية والدخول في أهل المزية.

ساعة غفران وتكفير للذنوب، وإن كبرت وإن عظمت، فالله أعظم والله أكبر.

يا صاحب العينين الذين عصيتا ربهما، هذا موقف التطهير والغفران، يا صاحب الأذنين التين عصتا ربهما، هذا موقف الغفران والتطهير، يا صاحب القلب الذي عصى، هذا وقت التصفية، هذا وقت الرجوع، أيُقبِل عليك وأنت لا تُحس بإقباله؟ أيَتَوجه إليك وأنت لا تشعر بوجهه؟ تبارك الذي يقبل بوجهه على المقبلين عليه.

ولقد جاء في الحديث أن الله باهى الناس بعمر في يوم عرفة، وأن الله باهى بالملائكة بعلي في يوم عرفة، جاءنا في الحديث أن الله باهى جميع الواقفين باهى بهم الملائكة، وباهى بعمر خاصة وباهى بعلي خاصة، إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى أن أهل الخصوصية في الموقف لهم المزية والبقية في بركتهم.

ويقولوا: وفي الوفد كم عبدٍ منيبٍ لربه ** وكم خاشعٍ كم خاضعٍ متصاغرِ

وفيهم من مسَّته الشمسُ أكثرَ مما مسَّتنا، ومن تعرَّض لكلام ذا وذاك أو لرفع الصوت عليه من ذا وذاك أكثرَ منَّا ونحن في بركته، ونحن في سرِّ ما بينه وبين الله في سريرته، في هذا الموقف. 

وفي الوفد كم عبدٍ منيبٍ لربه ** وكم خاشعٍ كم خاضعٍ متصاغرِ

وذي دعوتهم مسموعة مستجابة ** من الأولياء أهل الهدى والسرائرِ

وراجٍ وباكٍ من مخافة ربه ** بفائضِ دمعٍ كالسحاب المواطرِح

نحن الفداءُ لعينٍ بكت في هذا الموقف عينَ محمدٍ، وهو يدعو لنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويتضرَّع في شأننا، ويسأل فيمن يجيء من أمته، وفيمن يقف بعرفة، ووُعِد في هذا الموقف أن يغفر الله لمن وقف في حجٍّ مبرورٍ جميعَ الذنوب الصغائر والكبائر إلا التبعات، وبقي الهاجسُ في ضميره، يقول من لم يتمكن من أمتي بعد الحج من أداء التبعات أيُفضَح يوم القيامة؟ أم يُقاد منه وينال العذاب في الطامّة؟ فأخذ يسأل الربَّ ويعيد السؤال، فبُشِّر وهو في مزدلفة أن من لم يتمكن من أداء الحقوق أؤديها أنا عنه، وأتحملها عن أمتك هؤلاء صلى الله عليه وسلم، فأصبح يضحك في مزدلفة، قالوا ما أضحكك أضحك الله سنَّك يا رسول الله؟ قال: هذا إبليس يحثو التراب على رأسه لما رأى من استجابة الله لي في أمتي، وقد وعدني أن يغفر لهم إلا التبعات، ووعدني الآن من لم يتمكن من أدائها أدَّاها عنه جل جلاله وتعالى في علاه، وجزى الله عنا محمدًا خيرًا، حمداً لك يا رب، واجزِ عنا حبيبك خير الجزاء. 

وما رُئي الشيطان في يوم أحقر ولا أدحر ولا أصغر منه في يوم عرفة إلا ما رُئي يوم بدر، وذلك لما يرى من تنزُّل رحمة الله وكثرة غفرانه، ألا فليندحر من كل واحد منكم طول عمره، وليبقَ مدحورًا له مدى دهره، حتى يموت والشيطان مدحورٌ عنه، مبعودٌ منه، وملائكة الرحمن محيطةٌ به من كل جانب، إلهنا ثبِّتنا على ما تحب، واجعلنا فيمن تحب، واجعل في هذه القلوب نوايا تكشف بها الكربَ عن المسلمين، وتدفع بها البلاء عن المسلمين، وتصلح بها الديار والأسر، وتصرف بها عنا وعن الأمة كل شر.

أيها المؤمنون بالله، في مختلف الأحداث والظروف وتحوّل الأحوال، يختار الله قلوبًا تصدق معه ولا تتصرف إلا بما يرضيه فهي محل نظره، ثم بعد ذلك سلسلة الأحداث من عهد آدم إلى اليوم، من جميع الأوضاع الداخلية والخارجية، العربية وغيرها، إنما تمر بمرحلة قد أشار إليها في قوله: "ويل للعرب من شر قد اقترب". ولقد بيّن صلى الله عليه وسلم ما يكون، ثم العاقبة بعد ذلك ما هي سنة الذي يقول للشيء كن فيكون؛ العاقبة للمتقين وظهور راية الأمين، وانتشار الهدى وظهور النور المبين، على رغم الكافرين والفاجرين، الذين يفتنون المسلمين ويؤذون المسلمين. يدحر الله تعالى كل متكبر ومعادٍ ومؤذي. 

ألا وإنه لحافظٌ للحرمين الشريفين، وإنه لمُخلِّص لبيت المقدس جل جلاله في الوقت الذي قدّره وارتضاه، وكما أخبر حبيبه ومصطفاه، ويمضي كل شيء كما أراده الله، والفائز من صدق مع الله وأخلص لوجه الله، ولم يتفوَّه بما يُسوِّد وجهه يوم القيامة، ولم يرتبط بمن يحزنه رابطته بهم يوم الطامة.

أيها المؤمنون بالله، نقّوا روابطكم وارتبطوا بالصالحين، وكونوا رُسلًا عن رسول الله في الموطن الذي قال فيه: "ألا هل بلغت؟" وقالوا: بلغت، ونحن نشهد أنه بلغ. يقول: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب". نوبوا عن هذا المصطفى، وكونوا رسلًا لرسول الله إلى أنفسكم وأهل دياركم وأصدقائكم وأصحابكم، لا ترتضوا ما يُخالف شريعته قط قط قط! ولا يصدكم عن ذلك صادٍ من صغير ولا كبير. {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ} ، (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ) جل جلاله، وأن الأحداث هو الذي يتصرف فيها، (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ).

أنتم وغناكم وفقركم وضحككم وبكاكم تحت حكم، تحت إرادة، تحت تصريف، تحت تدبير، تحت تقدير علي، فلا تتعلقوا بغيره، وما طلبتم فمنه فاطلبوه؛ يعطيكم خيرًا مما ترجوه جل جلاله وتعالى في علاه.

ألا إنها ساعات إفضال وجزيل نوال، من حضرة ذا الجلال، وأسأل الرحمن أن يقذف في قلبك نورًا من الشوق إليه وإلى حبيبه، وإلى أهل تقريبه، تحيا على ذلك ويزداد في قلبك حتى تلقى ربك وهو راضٍ عنك، تُحِب لقاءه وهو يحب لقاءك.

إلهنا أيدي الفقراء امتدت إليك وأنت الغني، ومن يرحم الفقراء إلا الغني! إلهنا أيدي الضعف امتدت إليك وأنت القوي، ومن ينصر الضعفاء إلا القوي! إلهنا أيدي العاجزين امتدت إليك وأنت القادر، ومن للعاجزين إلا القادر! فيا قادر يا مقتدر، نسألك بقدرتك صفاءً لقلوبنا، ونقاءً لمشروبنا، وصلاحًا لأحوالنا، ودفعًا للآفات عنا، ونصرًا للحق ولأمة الهدى على جميع أعدائك أعداء الدين، اللهم لا تبلّغهم مرادًا فينا ولا في أحد من المسلمين، حوِّل الأحوال إلى أحسنها.

إلهنا، عقول كثيرة أصابتها لوثات التأثر بما بثَّ عدوك إبليس وجنده من الإنس والجن، وأنت القادر على تخليصها فخلّص عقول المسلمين، وخلّص قلوب المسلمين، وانظر إلى شبابهم وشاباتهم خاصة، وإلى صغيرهم وكبيرهم عامة، نظرة تدفع بها البلايا، وتكشف بها الرزايا، وتغفر بها الخطايا، وتُلهم بها الرشد في الظواهر والخفايا.

يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، اجعلنا في أسعد الأيام وأبركها بالنفحات الرحمانية والفيوضات الربانية، إلهنا ليس لقلوبنا غيرك يداويها، ويصلحها وينظر إلى ما فيها، اللهم فنقِّها وصفِّها، وأدخلنا في دوائر أهل النقاء، من عبادك أهل التقى، وتولّنا وارفعنا إلى شريف المرتقى، واحفظ الحرمين الشريفين وأدِم أمنها وطمأنينتها، وادفع السوء عنها، ومن أرادها بسوء فاجعل كيده في نحره، وادفع شره عنا وعن الأمة أجمعين.

اللهم وحوّل أحوال المسلمين إلى أحسن حال، انظر إلى يمننا وأهل يمننا، انظر إلى شامنا وأهل شامنا، انظر إلى شرقنا وغربنا، واكشف الكرب عنا، وأرِنا في الأمة يا مولانا ما تقرُّ به عين نبيك محمد ﷺ استقامة أمورهم، وانشراح صدورهم وصلاح أحوالهم، وجمع قلوبهم ودفع الآفات عنهم.

يا محوّل الأحوال، يا قوي يا قادر، يا كريم يا غني، يا متعال يا جزيل النوال، يا من يجود قبل السؤال وبعد السؤال، لا إله إلا أنت آمنا بك، فانظر إلينا واغفر لنا، وأهلنا ووالدينا، والمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، مغفرة واسعة لا تبقي لنا ذنبًا، ولا تغادر سيئة ولا إثمًا إلا محت كل ذلك، وبُدِّلت إلى حسنات تامات موصِلات.

يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، وأكثروا الصلاة والتسليم على رسول الله الكريم، فإن أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة.

اللهم أدِم صلواتك على حبيبك الذي قُلتَ في حقه تعظيمًا وتكريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم على عبدك المختار سيدنا محمد، وعلى الخليفة من بعده المختار وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازر رسول الله في حاليي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، أمير المؤمنين ناشر العدل سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى من استحيت منه ملائكة الرحمن، محي الليالي بتلاوة القرآن، أمير ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان، وعلى أخي النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.

وعلى الحسن والحسين، سيدي شباب أهل الجنة، ريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمهما الحوراء، فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا، وعلى الحمزة والعباس، وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة، وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر الصحب الأكرمين، وأهل البيت الطاهرين، وعلى أنبيائك ورسلك أجمعين، وآلهم وصحبهم والملائكة المقربين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم ألف ذات بين المسلمين، اللهم اقضِ حاجاتنا، وبلِّغنا أمنياتنا، واجعل حظنا وافرًا من منحك ومواهبك وعطاياك وتجلياتك في هذا الموقف وهذه العشية، وأدخلنا في أهل المزية والخصوصية، يا ذا الأيادي السخية، والعطايا السنية، يا أكرم الأكرمين.

اللهم يا أول الأولين، ويا آخر الآخرين، ويا ذا القوة المتين، ويا راحم المساكين، يا أرحم الراحمين، أنجز لنا رحمة من عندك نسعد بها في الدنيا والآخرة، وآتنا أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين، واختم لنا بالحسنى، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، وارحم موتانا، وارزقنا كمال العافية ودوام العافية والشكر على العافية، وأحيينا في عافية وتوفنا في عافية، واجعل أعمارنا صالحة مقربة إليك، نكون في كل لحظة منها أقرب إليك وأحب إليك، وخيرًا من اللحظة التي قبلها حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا يا الله.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)

ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

 

تاريخ النشر الهجري

09 ذو الحِجّة 1439

تاريخ النشر الميلادي

20 أغسطس 2018

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام