ضرورة امتلاء العقول والمشاعر بمعاني لا إله إلا الله للتحقق بالإيمان

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الخريبة، في مدينة الخريبة، بوادي دوعن، حضرموت، 5 جمادى الآخرة 1446هـ بعنوان: 

ضرورة امتلاء العقول والمشاعر بمعاني لا إله إلا الله للتحقق بالإيمان

الصورة

فوائد مكتوبة من الخطبة:

https://omr.to/K050646-f

 

نص الخطبة مكتوب:

     الحمد لله الملِك الحي القيوم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جامع الخلائق ليوم الميقات المعلوم، التي تَضمحلُّ فيه جميعُ الظنون والوهوم، وتبدو جاليةُ الحق لكل عاقلٍ ولكل ناظرٍ ولكل سامعٍ من أولهم إلى آخرهم.

وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرة عيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، ونبيُّه وصفيُّه وحبيبه وخليله، ختمَ به النّبيين وجعله سيد المرسلين، فهو خير من يدلُّ على الله وأعظم من يُوصِل إلى الله، وأحسنُ من يبيّنُ حكمَ الله، وأعظم مُقتدى يُقتدى به في طلب رضوان الله.

أدِم اللهم الصلوات على خير البريات عبدك المصطفى سيدنا محمد، صَلِّ عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن والاهم فيك وعلى منهاجِهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الهُدى والأنوار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

ما تثمره كلمة التقوى :

     أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبلُ غيرها ولا يرحمُ إلا أهلَها ولا يُثيبُ إلا عليها.

 ألا وإنَّ كلمة التقوى هي "لا إله إلا الله"، جمعتْ لنا نفيَ الأضداد والأنداد وإثبات الألوهية لواحدٍ هو رب العباد، فحملتْ في هذا المعنى شؤوناً كبيرات فيما يتعلق بهذا الإنسان، بل فيما يتعلّق بالمكلَّفين على ظهر الأرض من الإنس والجان.

وقد كوَّنهم الله تعالى من أجساد نفَخ فيها أرواحاً، شؤون الأرواح أعلى وأجل، وهي مع هذا التَّكوين تحملُ مشاعرَ وتحملُ أفكاراً، تحمل مجالات للعقل والاستبصار، ومجالات للعاطفة والمحبة والمشاعر.

وما جاء دين الله إلا ليملأَ أفكارنا ومشاعرنا بنورٍ لا ظلمة فيه، وهدى لا ضلال فيه، وحقٍ لا باطل فيه، ونور لا ظلمة فيه.

    أيها المؤمنون بالله، "لا إله إلا الله" تأخُذ كلَّية الموقِن بها، وتأخذ بجميع مشاعره وعواطفه ومحبته، وبجميع فِكرِه وعقله، فيُحسِن التّفكُّر في ملكوت السماوات والأرض، وفكرُه يوقِعه على الحقيقة في كل ما يَعرِض له في الحياة؛ من شؤون أجسامٍ وأرواح، من شؤون جماداتٍ ونباتات، من شؤون حيواناتٍ، من شؤون كونٍ بديع واسعِ الآيات، كل جزءٍ منه آيةٌ من آيات مُكوِّن الكائنات ﷻ. 

من هم أولوا الألباب؟ :

بذلك قال الله تعالى في عُلاه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، 

وأولو الألباب: من لم يَحجبوا ما أوتوا من الفضل الإلهي بالعقول، لم يَحجُبوا تلك العقول بالشهوات والأهواء عن حُسن استعمالها. 

أولو الألباب: استخدموا الطاقة العقلية التي آتاهم الله إياها في مسارها الصحيح واستعملوها استعمالها المنضبط.

أولو الألباب هؤلاء إن فكَّروا فتفكيرهم يوصِل إلى الحقيقة، وإن ذكروا فذِكْرهم للحق رب الخليقة، ﴿لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.

يكون أعظم الأشياء عندهم في الهَول والعذاب والشقاء والبُعد والخسران دخول النار؛ الخِزْي في ذلك والشقاء في ذلك، والهلاك في ذلك والخسران في ذلك، ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.

فانظروا كيف جُمعِت مشاعرُهم وأَحاسيسهم وأفكارهم على إدراك الحقيقة، والتعلُّق بالحق في جميع شؤونهم وأحوالهم، (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

العقول المنحرفة:

    أيها العباد، العقليات على ظهر الأرض التي تظُنّ أنّ المقصود جمعُ الأموال والثروات والتمتّعِ بالشهوات، وهي عقليات القاصرين الغافلين الفاسقين المجرمين الضالين، الذين لمّا طغت عليهم هذه التَفكيرات المُنحطّة المنحرفة الهابطة ما بالوا في تحقيق أطماعهم وشهواتهم بقتل النفوس وإزهاق الأرواح وسفكِ الدماء وهتكِ الأعراض والتّطاول على حق الغير.

وتسمعون في زمانكم في كل يوم قتلُ نساءٍ وأطفالٍ وعُزّل، في كل يوم تكسيرُ؛ إما مساجد وإما مستشفيات وإما مدارس وما إلى ذلك. انتهت عقلياتُ هؤلاء المنقطعين عن الله إلى أن يستخدموا في سبيل تحصيل الشهوات كل طاقاتهم، فهذا منتهى حضاراتِهم وهذا منتهى تفكيرهم، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.

وهؤلاء قد أشبَعوا لكم المُؤثّرات من الوسائل المختلفة: 

  • لبعثِ الشهوات، 

  • للقطع عن الله، 

  • ولإغراء الناس بعضهم ببعض، 

  • ليضرب بعضهم بعضاً، 

  • ويقتل بعضهم بعضاً، 

  • وينتهك بعضهم حُرمات بعض، 

  • ولينقطِعوا عن الحق ورسوله. 

ملأوا الوسائل المختلفة من وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وكل وسائل النشرات والإعلام بين الخلق والإعلانات، ملأوها بالدعوة إلى تعظيم الشهوات وإلى اتباع الشهوات.

﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُبَيِّنَ لَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾

أثر الفساد على قضية فلسطين:

    أيها العباد، بل وفي احتلال هؤلاء الصهاينة لأرض فلسطين ما توصّلوا إليها إلا بعد أن نشروا بيننا معشر الأمة فساداً، ونشروا بيننا تقاطعاتٍ لوِصْلة الإيمان، ونشروا بيننا تعظيماً للفانيات، ونشروا ولا يزالوا ينشرون المخدرات ويحرُصون على نشرها بين فئات المسلمين، وخصوصاً المجتمعات التي بقي فيها شيء من المحافظة على الدين، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

ويعظِّمون كل حقير تافه ساقط ناقص، ويريدون أن يُمْلوا على الأمة احتقارَ كلّ عظيم وشريف ورفيع القدر عند الله ﷻ، قلْباً للموازين الإلهية وعكساً للسنة الربانية، (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)، فما تؤول تلك الأعمال إلا إلى مثل هذه الفضائح في الدنيا، ولَعذاب الآخرة أشق.

أسرار لا إله إلا الله :

     أيها المؤمنون بالله، من أسرار لا إله إلا الله:

  • أن تتخلّى عن تعظيم ما ليس له قدرٌ عند الله، وما ليس برفيعٍ عند الله ﷻ ، 

  • وأن تعْلم أن الخير ما هو خيرٌ عند الله، 

  • وأن الفاضل من هو من له فضلٌ عند الله. 

وقد جمع الله الفضلَ العظيم في نبيه الكريم وقال: ﴿إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ وقال له: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾. 

فهو جامع الفضائل وذو الفضل الأكبر لدى الإله الأكبر ﷺ، فيجب من سِرِّ لا إله إلا الله أن تستقي القلوب محبة وتعظيماً لجناب محمد بن عبد الله رسول الله، عبده المختار وصفوته المنتقى ﷺ.

ومعنى ذلك: 

  • أن تحيا سُنَنُه في قلوبنا وأعضائنا وديارنا ومنازلنا وأهلينا وأولادنا، 

  • وأن نجدَ لها مساحة من اهتماماتنا ورعايتنا وانتباهنا وتعظيمنا، 

﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.

القدوة الحسنة :

    يا أيها المؤمنون، لا إله إلا الله يمتدُّ نورها لتُخرِجَ من قلبك القدوة بكل من لا مكانة له عند الله، في عادة أو عبادة، في ظاهر أو باطن. 

ألا لا قدوة بكافر، 

ألا لا قدوة بفاجر، 

ألا لا قدوة بفاسق، 

ألا من تشبه بقوم فهو منهم، 

ألا من كثّر سواد قوم فهو منهم.

الأمة مقبلة على فسطاطين:

     ألا أيها المؤمنون، لا يجوز الولاء لمن عادى الله ورسوله، ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾، هذه حقائق الإيمان.

    يا أيها المؤمنون، والأمة مُقبلة على وضعٍ وحالٍ وصفهُ رسول الله بعد مرور أوضاع تمر بهم، ثم ينقلب الناس إلى فِسطاطين: 

  • فسطاط إيمان لا نفاق فيه، 

  • وفسطاط نفاق وكفر لا إيمان فيه. 

تظهر الحقائق ويذهب هذا الاختلاط، فرَّقونا بأنواع الأفكار والأحزاب والاتجاهات في كل بلد من بلاد المسلمين، وصارَ يدخُل مع هذا ومع هذا ومع هذا كثير من المُغرّر بهم، وكثير من الذين لهم نياتٍ حسنةٍ أو صالحةٍ، وكثير من الذين ظنُّوا الخير في ذلك وانطلقوا هنا وهناك.

ولكن الأمة مُقبلة على وقت يذهب فيه هذا الاختلاط، ولا يبقى صالح إلا في معسكرٍ واحد، في فسطاطٍ واحد، ولا يبقى مؤمن إلا في فسطاطٍ واحد، ويبقى جميع الفجار والكفار والمنافقين في الفسطاط الثاني. 

الأمة مْقْبلة على ذلك كما أخبر حبيب الإله المالك ﷺ، فلا يبقى ذو ولاءٍ لكافرٍ وفاجرٍ إلا انحاز إلى فسطاط الكفر والنفاق -والعياذ بالله تعالى-، ولا يصدُق ولاءٌ في قلبٍ لله ورسوله إلا انحاز إلى فسطاطِ الإيمان الذي لا نفاقَ فيه.

   أيها المؤمنون، يقول الرحمن: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. 

ويقول -جل جلاله وتعالى في علاه-، يقول سبحانه: ﴿تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

وسائل الولاء لله ورسوله:

هكذا يُبَيِّن الله هذه المعاني، فنعلم أن وسائل الوَلاء لله ورسوله هي من الوسائل العريقة في تاريخ الإسلام والإيمان، والضّرورية لحفظ الإسلام والإيمان، وأولَ ما وصلَ صاحب الهجرةِ إلى المدينة كانت الأغاني تصدحُ في أجواء المدينة:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داعِ

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المُطاع

ثم يخرج من بني النجار أطفالهم يمرُّون في الشوارع وبين البيوت وينادون:

نحن جوارٍ من بني النجارِ

يا حبذا مــحـــمد من جارِ

ويمرون إلى باب أبي أيوبٍ الذي نزلَ فيه، ورسول الله واقفٌ على الباب يسمعهم ويلتفت إليهم، قال لهؤلاء الفتيات الأطفال من بني النجار: "أتُحبنني؟" قلن: "نعم والله يا رسول الله إنا لنحبك". قال: "الله يعلم أن قلبي يحبّكم، الله يعلم أن قلبي يحبّكم".

تعظيم الرعيل الأول لرسول الله ﷺ :

مشاعر وأحاسيس ملأت منهم الأفئدة وأَخذت منهم العقول، إنما يفكِّرون في صدق هذا الرسول وفي عظمة هذا الرسول، وفي أنه بابهم إلى الله البر الرؤوف، وفي مرافقته بعد هذه الحياة القصيرة في البرازخ ويوم القيامة.

محبة أبوبكر وعمر لرسول الله ﷺ :

هكذا كان فِكرُ الرّعيل الأول وهكذا كانت محبتُهم، قام بالخلافة أبوبكر الصديق عليه الرضوان، وكان أيام الخلافة يصعد المنبر ونزل عن الدرجة التي كان يقفُ عليها رسول الله إلى الدرجة الأدنى منها، ثم يقول: "كنتُ معه في مكان كذا" فيغلِبُه البكاء فينتَحب، ويبكي ببكائه من في المسجد، ويقطعُ الخطبة في بعض الأيام ثلاث مرات، يقطعها نحيبه عند ذكره لرسول الله.

وتأتي زوجته أسماء بنت عميس فتذكرُ للأمة أنه يأتي في أيام خلافته في كثير من اللّيالي فيدخل البيت ويُصلّي، ثم يضعُ رأسه بين رجليه يقول: "واشوقاه إلى رسولِ الله" ويبكي. قالت: حتى أرثاه فأقومُ إليه وأقول: "يا أبا بكر، يا خليفة رسول الله، قد صاحبتَه وقد أحبّك وقد غزوتَ معه وقد لازمته إلى أن توفي وهو عنك راضٍ، وستلقاه بعد اليوم، خفِّف عنك شدة هذا الشوق".

هكذا كان أبو بكر وهكذا كان عمر، يقول: "لم يكن في نفسي شيء أهم من ذلك". 

فاتحُ الأمصار، قائدُ الجيوش بالأنوار، أهم شيء في نفسه أن يُحصِّل بقعةٌ قريبةً من قبرِ محمدٍ وأبي بكر، أهم شيء في نفس عمر. 

هكذا كانت مشاعرهم، 

من يُعلِّمنا الدين غير هؤلاء؟

ممن نأخذ الدين؟

ممن يخالف هؤلاء؟

هكذا كانت شهادتهم "أن لا إله إلا الله" مترجمة، وهكذا كانت شهادتهم "أن محمداً رسول الله" مترجمة بهذه الأحاسيس، مترجمة بهذه المشاعر عليهم رضوان ربي.

ولما جَمع بعض النسّابين من قريش -فيهم عقيل بن أبي طالب وجماعة آخرين- قال: "رتّبوا لي شُؤون المهاجرين من أجل قسمة الأموال عليهم"، فذكروا قَرابة رسول الله ثم ذكروا قَرابة أبي بكر ثم ذكروا قرابة عمر.

فلما جاءوا وعرضوا عليه قال: وددتُ أنه هكذا ليس هكذا، انظروا الأقرب فالأقرب إلى رسول الله، وضعوا عمر حيث وضعه الله

المسألة ليست بالخلافة، انظروا الأقرب، إلى صاحب هذه النبوة والرسالة، قدّموه ثم ضعوا عمر حيث وضعه الله.

هكذا كان يُدين الله عمر، ثم يقول لابنه عبد الله بن عمر وقد رجع من عند أم المؤمنين عائشة: ماذا قالت لك؟ قال: استأذنتُها وقالت إنها كانت تُعدُّ ذاك المكان في الحجرة لنفسِها ولكن طيَّبته لك يا أمير المؤمنين. قال: الحمد لله، لم يكن في نفسي شيءٌ أهم من ذلك، لم يكن في نفسي شيءٌ أهم من ذلك -عليه الرّضوان- وخاف وخاف لأنه تربَّى، أخشى أن تكون قالته هيبة للإمارة.

فقال: قُل لها إذا أخذُتم جنازتي وصلّيتم علي، ضَعوه على باب الحجرة ثم قولوا: يا أم المؤمنين، إن عمر، ولا تقل أمير فلم أعد أميراً بعد، قل إن عمر يستأذن أن يُدفن عند صاحبَيه. وفعل ذلك، وقالت أم المؤمنين: قد طيَّبته له حياً وميّتاً، وقبَروه عندَ رسولِ الله وعندَ أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

وانظر إلى مشاعر الصحابة لما دَفنوا أبا بكر الصديق خلفَ رسول الله، أخَّروا رَأسه عن رأسِ رسول الله وجعلوا رأسه يُقابلُ كتِف رسول الله ﷺ. 

ولما قَبروا عمر خلَّفوا رأس عُمر عن رأسِ أبي بكر، خَلف أبي بكر وجعلوا رأسه إلى ظهر أبي بكر الصديق عليهم رضوان الله.

آداب الصحابة في المقابر، آداب الصحابة في كيفية ترتيب القبور عليهم رضوان الله، ربَّاهم محمدٌ عليه الصلاة والسلام. 

إن دين الحق تسلسل في الأكابر وخيار الأمة، وأقاموا فينا وسائل التّعظيم لشرع الله ورسوله؛ من كل نَثْر وشِعر وما يُعمل من الوسائل، فكُلها مُتصلة بحقيقة تحقيق لا إله إلا الله في القلوب وفي النفوس.

اللهم املأ قلوبنا بنور لا إله إلا الله، وبحقيقة لا إله إلا الله، وبسِرِّ لا إله إلا الله، وببركة لا إله إلا الله، واجعلنا من خواص المتحققين بها، واحشرنا في زمرة كُمَّل أهلها.

والله يقول وقوله الحق المبين: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾

وقال تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾. 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذِكر الحكيم، وثبّتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزْيهِ وعذابه الأليم. 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية: 

الحمد لله مُنَوِّر القلوب بأنوار الوعي لما أوحاه على حبيبه المحبوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جامع الأولين والآخرين ليومٍ تُقلَّب فيه القلوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله.

اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك المختار سيدنا محمد صاحب المنهج الأرشد، أحبّ محبوبٍ إليك وأكرمِ كريمٍ عليك، صلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه، وعلى من والاه فيك واتبعه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

ذكر قصص الأنبياء والصالحين:

أما بعد،،، 

    عباد الله، ولو لم يكن في ذِكر نبأ وأخبار وقصص وحكايات الصالحين أثرٌ قويٌ في تحقيق "لا إله إلا الله" وتحقيق معناها في المشاعر، لما اعتنى ربكم بالقصص في القرآن وسمى سورة (سورة القصص)، وقال لسيد الوجود: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بالحَقّ﴾، فتية من بني إسرائيل أولياء صادقين، آثروا الله على مظاهر الدنيا فرَفع الله قدَرهم.

     أيها المؤمنون، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ﴾، واذكر في الكتاب مريم، واذكر في الكتاب إبراهيم، واذكر في الكتاب موسى، واذكر في الكتاب إسماعيل، واذكر في الكتاب إدريس، في ذِكرِهم حياةٌ للإيمان وتحقيقٌ للولاءِ لأهل الرحمن ولأهل القُربى من الرحمن.

ذكر الله وعلامة محبة الله:

    أيها المؤمنون، فاملأوا عُقولكم بتعظيم الله وأحسِنوا التّفكير في مخلوقات الله لتوصِلكم إلى عظمة الله ﷻ، وأكثِروا ذكر الله ليلاً ونهاراً، سراً وإجهاراً. 

ولقد قال بعضُ النبيين: "يا رب ما علامتُك فيمن تُحب حتى أُحِبه، وما علامتُك فيمن لا تُحب حتى لا أُحبّه؟" فأوحى الله إليه: "إذا رأيت العبد يُكثر من ذكري فاعلم أني أذنت له وأني أحبُّه، وإذا رأيت عبدي لا يُكثر من ذكري فاعلم أني لم آذن له وأني لا أحبُّه".

فيا ما أعجب حال الذاكرين لله (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).

الحمد لله على ما جمعكم من الخير، وثبّت الله أقدامكم على أحسنِ السير في طريق الاهتداء بنبي الخير. 

وأكثروا الصلاة والسلام على خير الأنام، ففيها ولاء الله وولاء الرسول، ومن صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً. 

وخصوصاً في يومكم هذا، "إن من خير أيامكم الجمعة"، يقول لنا: "فأكثِروا عليَّ من الصَّلاةِ فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ، قالوا : يا رسولَ اللهِ كيف تُعرَضُ عليك صلاتُنا وقد أرِمتَ ؟ يقولون : قد بَلِيتَ قال : إنَّ اللهَ حرَّم على الأرضِ أن تأكُلَ أجسادَ الأنبياءِ". أكثروا الصلاة والسلام عليه، فأولاكم به يوم القيامة أكثركم عليه صلاة.

وابتدأ الحق بنفسه وثنّى بالملائكة وثلّث بالمؤمنين فقال مخبراً وآمراً تكريماً: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

اللهم صلِّ وسلم على عبدك المختار سيدنا محمد، 

وعلى الخليفة من بعده، صاحبه وأنيسه في الغار مؤازِره في حالي السعة والضيق خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق، 

وعلى الناطق بالصواب حليف المحراب المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب،

 وعلى شهيد الدار مكثر التلاوة والأذكار، المنيب الذي استحيتْ منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان،

 وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب،

 وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة، 

وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا، 

وعلى الحمزة والعباس وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وعلى أهل بدر وأهل أُحد وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر أصحاب نبيك الكريم وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم فيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

الدعاء:

اللهم لا تصْرفنا من الجمعة إلا ممتلئي القلوب بأنوار لا إله إلا الله، ومُتحققين بحقائقها يا الله، صادقين في الوفاء بها وبحقها وعهدها حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا.

اللهم تدارك أمة نبيك محمد، اللهم أغث أمة نبيك محمد، اللهم اشرح صدور أمة نبيك محمد، اللهم املأ قلوبهم بالإيمان واليقين والتقوى، واملأ عقولهم بأنوار التعظيم والإجلال لك، واملأ قلوبهم بأنوار المحبة لك ولرسولك حتى تكون ورسولك أحب إلى كل منا من سواكما.

اللهم تدارك وأغث وادفع البلايا عنا وعن الأمة في المشرق والمغرب، وأمِنّ علينا بصلاح القلوب والقوالب والظواهر والبواطن، وأدم لنا العوافي في الظواهر والخوافي، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راضٍ عنا.

﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. 

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾. 

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

عباد الله،، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). 

فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

 

تاريخ النشر الهجري

06 جمادى الآخر 1446

تاريخ النشر الميلادي

07 ديسمبر 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام