روح الصيام وأسرار التزكية وآثارها في الدارين
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الشيخ حسين مولى خيلة، بحارة خيلة، مدينة تريم، 7 رمضان 1446هـ بعنوان:
روح الصيام وأسرار التزكية وآثارها في الدارين
كيف تزكي نفسك في رمضان؟ (فوائد مكتوبة من الخطبة):
لتحميل الخطبة (نسخة pdf):
نص الخطبة مكتوب :
الخطبة الأولى :
الحمد لله، الحمد لله المَلِك القُدوس، مُزكِّي النفوس ومُطهِّرها، ومُصَفِّي القلوب ومُنوّرها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، انبسط بِساط فضله على البرية، ونازلتهُم من حضرته عجائب الإفضالاتِ الصمدانية.
ونشهد أن سيدنا ونبينا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، أكرم البرية خُلقاً وسَجية، وأعلاهم في الرتب لدى ربه ﷻ في كل ظاهرة وخفية.
اجتهاد النبي ﷺ في رمضان :
كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره من أيام السنة، ويجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها من رمضان، فَصَلِّ اللهم وسلِّم وبارِك وكرِّم على مَظهر الجود والإحسان ومعدِن الفضل والامتنان، مَن أُنزلتَ عليه القرآن في رمضان، عبدك المصطفى المختار سيدنا محمد وعلى آله وأهل بيته المُطهرين عن الأدران، وعلى أصحابه المهاجرين والأنصار الغُرّ الأعيان، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفعت لهم القدر والمنزلة والمكانة والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
علاقة الصيام بالتقوى:
أما بعد،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، القائمة على الإيمان، كلما قوِيَ قويت، وكلما كبُرَ كبرت، وكلما عَظُم الإيمان عظُمت التقوى للملك الديان.
وجعل الله تعالى شرائع الإسلام مُقوِّيات للإيمان ومُثَبِّتات للتقوى.
ونقرأ هذا في خطاب ربنا لنا معاشر المؤمنين فيما يتعلق بصيام رمضان حيث يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
تثبُت أقدامكم على التقوى في السر والنجوى بنور الإيمان الذي يُقوّيه الصيام، وبه تقوم شريف المراقبة للملك العلام ﷻ ، والتعظيم له بالامتناع عن المُفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مراقبةً لرب الفجر ورب الشمس ورب الليل ورب النهار جل جلاله وتعالى في علاه، الذي أحل لنا بفضله في ليالي رمضان الطعام والشراب وأنواع المفطرات الحلال في الليل.
الاحتياط في وقت الفطور والسحور:
قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾.
الفجر والليل:
الفجر: طلوعُ ذلك النور المُعترض في الأفق الذي يزداد حتى تطلعَ الشمس.
والليل: غروب تلك الشمس عن الأبصار والأعين على المدى، إن كان في جهة الغروب صحراء أو بحر، أو بعد أن تذهب عن رؤوس الجبال وعما يستر العيون عن رؤيتها في جهة الغروب.
فمهما تُيقّن الليل سُنّ له التّعجيل بالفطر وهو من سُنن رسول الله ﷺ ، ومهما لم يشُكّ في بقاء الليل فيُسنّ له تأخير السحور.
فإذا وقع في الشك فلا، بل ينبغي قبل أن يشُكَّ أن الفجر قد طلع أن يجعل سحورَه، فيحتاط قبل تبيُّن الفجر بالإمساك، كما أنه لا يجوز أن يَقدَمَ على الفطر حتى يتيقن الغروب.
وحسبنا في التحذير من التّساهل في ذلك، ما جاء في الحديث الصحيح أنه رأى أقواماً مُعلّقين بعراقيبهم في النار، مُشقّقة أشداقُهم تسيل دماً وقيحا، فقال: "يا جبريل من هؤلاء؟" قال: "هؤلاء الذين يفطرون قبل تحِلّة صومهم من أمتك"، يفطرون قبل تحلّة الصوم قبل أن يحل لهم الإفطار ويتيقّنوا الغروب.
رمضان ضبط للنفس وهواها:
أيها المؤمنون بالله، إنها صِلَةٌ بالرحمن تتقوى في أيام رمضان، ليكون هذا الإنسان قوياً بعقله وقلبه على تسيير أمر هواه وشهواته، فما ضل من ضل ولا فسق من فسق ولا كفر من كفر إلا باتباع الأهواء والشهوات، وتَغَلُّبها على العقول وتَغَلُّبها على القلوب، وهكذا الخيبة لمن غلبته شهواته وأهواؤه.
قال ﷻ : ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾.
هل رأيت أيماناً سردها الله هكذا؟
هذه أعظم الأيمان المتوالية في القرآن، على ماذا يحلِف الرّب مُنزل القرآن ﷻ ؟
قال عن هذه النّفس: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، قد أفلح من زكّاها: طهّرها ونقّاها بالإيمان بالله وتعظيم أمره وامتثاله والتباعُد عن زجره ونهيه، ما نهى عنه من الأقوال والأفعال والنظرات والمعاملات والصفات في القلوب والجوارح.
الابتعاد عما نهى والفِعل لما أمر، تلكُم هي التقوى التي يُطلَب منا تقويتُها بالصيام، ويُطلب منّا بالصيام تهيِئتنا لزكاة هذه النفوس وطُهرها، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.
ووقع في الخيبة كل من دسّى هذه النفس باتباع الشهوات والأهواء والتّنكر للخالق العالم للسّر والنجوى، وعدم الاستعداد للقائه، من كل كافرٍ ومن كل فاسقٍ ومن كل مسلمٍ متهاونٍ مُضيعٍ لأوامر الله.
أسباب حرمان ثمرة التقوى في رمضان:
تدخُل ليالي رمضان والقطيعة للأرحام في بيته ولا ينزجِر ولا يتذكّر ولا يُنيب ولا يرجع.
تدخُل ليالي رمضان وعينُه مُمتدة إلى الصور الخبيثة، يُقلِّب فيها عينيه مثيراً لغرائزه وشهواته وما يناله من الآفات من سهام إبليس المسمومات، "النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ" - قال تعالى - "مَنْ تَرَكَهَا مِن مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ"، تعجيل الجزاء والنعيم في الدنيا، وما في الآخرة أكبر.
أيها المؤمنون بالله حال هؤلاء المسلمين الغافلين الذين لا يتورّعون عن قطيعة أو عقوق والدين، أو نظر حرام أو إيذاء جيران، أو استيلاء على مالِ وقفٍ أو على حقِ الغير كائناً ما كان، هم الذين أشبَهوا الكفار والفجار في عدم تزكية أنفسهم وعدم مراقبتهم لربهم، وهم الذين لم يُدرِكوا معنى الصلاة ولا معنى الزكاة ولا معنى الصيام؛ فليست صور ولا مظاهر ولكن حقائق وجواهر، (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)، (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
و "مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" ، ولكن من تزكّى ومن تذكر (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي أقام الصلاة على وجهها، فرائضها ونوافلها يُحسن أداء الفرائض.
علامة طالب تزكية النفس:
وعلامة الطالب لتزكية النفس المُتأمل من ربه سبحانه وتعالى أن يُطهَّره وأن يُنقِّيه عن كل رجس:
-
أن يحرص على الجماعة في الصلوات الخمس،
-
وأن لا تفوته تكبيرة الإحرام في صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء، يبادرُ بالحضور ويكبّر خلف تكبير الإمام مباشرة، "صفوة الصلاة التكبيرة الأولى مع الإمام"، ومن حافظ عليها أربعين يوما كَتب الله له براءة من النار وبراءة من النفاق.
هذه علامة المُقبل في رمضان؛ محافظتُه على الجماعة وعلى الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.
أجور النّوافل والتراويح في رمضان:
-
ثم عِشقه النوافل، ومن أعظمها في رمضان الوتر والتراويح.
وقد قيل بوجوب الوتر عند بعض مذاهب أهل السنة، وأن تاركها حتى يطلع الفجر آثم إن لم يصل ثلاث ركعات فأكثر من الوتر.
وقد سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قيام رمضان بصلاة التراويح، التي لطول قيام الصحابة فيها راوَحوا بين أرجلهم فيها فسُمِّيت التراويح، إشارة إلى عشقهم القيام بين يدي الله وتطويلهم القيام والركوع والسجود.
فهكذا يجب أن يكون لنا حظ من حقيقة الصلاة فرائضها ونوافلها.
قال أهل العلم: وكل من حافظ على المغرب والعشاء والفجر في جماعة وصلى صلاة الوتر وصلاة التراويح عشرين ركعة -الذي هو العدد الأفضل بإجماع المذاهب الأربعة عند أهل السنة أن تُصلى عشرين ركعة- من واظب على ذلك في ليالي رمضان كلها فيصح ويصدُق عليه أنه قام رمضان، و "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
ويا لها من ليالي الركعة فيها بسبعين أو ألف، والسجدة فيها بسبعين أو ألف، والتسبيحة فيها بسبعين أو ألف، وهكذا تُضاعَف الحسنات للمقبلين على عالم الخفيات جل جلاله وتعالى في علاه.
صدق المؤمن في تعظيم الجمعة:
أيها المؤمن بالله ﷻ، علامة صدقك مع الله في رمضان انتباهك من هذه الفرائض، وما بقي من ثلاث جمع بعد هذه الجمعة تحضر إليها مُبكِّراً مُتنوِّراً متطهراً خاشعاً خاضعاً، حاضر القلب تسمع إلى ما يُلقى إليك من التذكير ﴿فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وأوجب ترك الاشتغال بأي شيء على من وجبت عليه الجمعة إلا المبادرة إلى الجمعة من عند النداء لها والأذان لها.
قال أهل الفقه: فيكره الاشتغال بأي شيء بعد الأذان الأول إلّا السعي إلى الجمعة، ويحرُم الاشتغال بأي شيء عن السعي إلى الجمعة بعد الأذان الثاني، الذي أشار إليه بقوله: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾.
قالوا: ومن ذكرِ الله ما يُذكَّر به المؤمنون في جمعتهم من الخطبة، ثم يقيمون الصلاة جماعة متوجهين إلى الرب في سجدات الخضوع والخشوع للملك القدوس ﷻ.
زكاة الفطر :
إنها مواسم العطاء الكبير، كذلك ما يكون من زكاة مال أو زكاة الفطرة المُتعلقة برمضان، وإن كان يجوز تقديمها من أول رمضان فإخراجها قُرب العيد أفضل، وليلة العيد أو يوم العيد قبل صلاة العيد أفضل.
يُخرجها المؤمن عن نفسه وعن كل من تلزمه نفقته، من زوجة وأولاد وآباء وأمهات، يُخرج عنهم زكاة الفطر أربعة أمداد بِمُد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا ينبغي للموظفين الذين يقتطعوا من مرتباتهم شيء بمناسبة الزكاة أن يكتفوا بذلك، ولكن يُخرجوها مما في أيديهم، ومن قوت البلد ذلك أفضل وصحيح بالإجماع.
العطاء والإنفاق في رمضان:
أيها المؤمنون بالله ﷻ علامة الصدق مع الله تبارك وتعالى الرغبة في العطاء والإنفاق، من فطَّرَ فيه صائمًا كان مغفرةً لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار، وكان له من الأجر مثل أجر الصائم من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء.
وكذلك طيبُ النفس بالزكاة وإخراجُها طيبةً بها نفسُه، هذه علامة الصدق مع الله جل جلاله وتعالى في علاه.
روح الصيام مراقبة الملك العلام:
ثم قيامه بروح الصيام وجوهر الصيام وحقيقة الصيام مراقبة للملك العلام ﷻ، وخشية منه وإنابة إليه ومحبة له ورجاء فيما عنده، كلها تُنمِّيها فينا وفي بواطننا عبادة الصيام.
عبادة الصيام التي لا عِدلَ لها، عبادة الصيام التي لا مثل لها، كما قال سيدنا أبو أمامة الباهلي وقد خرج في سريّة فقال: يا رسول ادعُ الله لي بالشهادة في سبيله، فقال ﷺ: "اللهم انصرهم وغنّمهم" ، فانتصروا وغنِموا، وجاء إلى سرية أخرى وسأل من النبي أن يدعو له بالشهادة فدعا لهم بالنصر والغنيمة فانتصروا وغنِموا، وفي المرة الثالثة فقال: يا رسول الله سألتك أن تطلب لي الشهادة، فقلت اللهم انصرهم وغنّمهم! فانتصرنا وغنِمنا، فمُرني بعملٍ أتشبث به و أعمله يدخلني الجنة؟ قال: "عليك بالصيام فإنه لا عدل له، عليك بالصيام فإنه لا مثل له"، قال فكان أبو أمامة وأهله يسردون الصيام فلا توقد لهم نار في النهار إلا إن نزل بهم ضيف، فإذا رؤيَ الدخان في بيتهم نهاراً، عُلِم أنه نَزل بهم ضيف، يطبخون طعامه -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
خاتمة الخطبة الأولى :
حَقِّقنا اللهم بحقائق الصيام، وارزقنا حقيقة القيام، وارزقنا الاغتنام لهذه الليالي الزاهرة والزاهية والأيام، وارزقنا الائتمام بخير الأنام، واجعل نور الشهر مُنبسطاً على أراضي قلوبنا وقلوب أهالينا ومن في ديارنا، يعمّ خيره صغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا يا أكرم الأكرمين.
والله يقول وقوله الحق المبين :﴿فَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
وقال تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبَّتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خِزيه وعذابهِ الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً يُنَوِّر الله به القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يغفرُ به الذنوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا ونور قلوبنا محمدا عبده ورسوله وحبيبه المحبوب.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك المبشِّرين به وعلى آلهم وصحبهم وملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
مقويات التقوى :
أما بعد،،
عباد الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، تقوى تتزايد بالصوم والقيام وتلاوة القرآن، وصِلة الأرحام وبر الوالدين والصدقة على المحتاجين وتفطير الصائمين بما تيسَّر ولو بتمرة.
أيها المؤمنون بالله قوُّوا تقواكم للإله بأخذ روح هذه الأعمال، واغتنام هذه الأيام والليال، فهي موسم العطاء والإفضال، والجود المتوال والفيض الهطّال، والمَنح من الكريم المحسن البر الوال ﷻ.
له في أول ليلة من رمضان نظرة خاصة إلى أمة محمد، وعسى أن نالتك تلك النظرة في تلك الليلة!
وعلامتها حالة قلبك من بعد تلك الليلة في خلال هذه الأيام والليالي، ولله عند كل فطر عُتقاء من النار وعند طلوع الشمس عتقاء من النار، فعند الغروب وعند طلوع الشمس يكثُر ويكبُر ويزيد العتق، ومن كان وقت الغروب حاضر القلب مع الله ﷻ، ذاكرا بما علّمنا ﷺ أن نستكثر منه في رمضان، ما نُرضي به الرب من شهادة لا إله إلا الله، واستغفاره وما لا غِناً لنا عنه من سؤال الجنة والاستعاذة من النار، من كان حاضر القلب مع ذلك، فرحاً بإتمام النعمة بالتوفيق للصوم وكمال الصوم، لا بمجرد الأكل والفطر، فهو حريٌّ أن تُعتق رقبته أو رقاب آبائه وقرابته من النار عند الإفطار، وأن تُستجاب دعوته فدعوة الصائم مستجابة حين يفطر.
لمن العتق في رمضان؟ :
أيها المؤمنون، ومن كان وقت طلوع الشمس في ذِكر؛ فهو أحق أن يُعتق رقبته من النار، "ولله في كل ليلة من ليالي رمضان ستمائة ألف عتيق من النار" بل وفي رواية "ألف ألف عتيق من النار"، فإذا كان آخر ليلة أعتق مثل ما أعتق من أول الشهر إلى آخره، وغفر لجميع المؤمنين إلا لعاق والدين أو قاطع رحم أو شارب خمر والعياذ بالله تعالى، أو مشاحن في قلبه شحناء لمسلم، فطهر قلبك وطهر بيتك عن هذه القاطعات عن المغفرة حتى في رمضان والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وتصفّى وتزكى واشكر نعمة الذي بلّغك رمضان، فأمثالك عشرات بل مئات بل ألوف ظنّوا أن يصلوا إلى هذا الشهر فما وصلوا إليه، وما جاءت أيامك هذه إلا وهم تحت التراب، إلا وهم في بطن الأرض بدل ظهرها.
وهكذا تفعل الأيام والليالي بنا، فطوبى للمحسنين والمغتنمين للمواسم المباركة.
رمضان يرفع الله به الدرجات:
ولما عَجِب الصحابة من رؤيا رجل منهم، كان أخوان أحدهما قُتِل في سبيل الله، ومرّت بعد ذلك سنة وزيادة، فمات أخوه على فِراشه، فرآهما في الجنة، ورأى درجة الذي تأخّر هذا ومات على فِراشِه فوق درجة الشهيد فتعجب من ذلك، وبلغ الخبر إلى رسول الله فقال: "أليس قد حضر معي كذا كذا جمعة؟" بعد موت أخيه "أليس صام معي رمضان" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "فذلك الذي رفع الله له به الدرجات".
تعهد القرآن في رمضان :
تُرفع الدرجات بالأعمال الصالحات، سارعوا إليها، وفِّر حظك من القرآن وتأمُّله، وتَدبّر في الشهر الكريم واصحبهُ مصاحبةً لا تقوى بها على هجر القرآن في شوال، ولا في ذي القعدة، ولا ما أخَّر الله تعالى عمرك إلى أن تلقاه.
قال سيدنا عثمان بن عفان: "لو طهُرت قلوبنا ما شبِعت من كلام الله" .
الحذر من اتباع أهل الشهوات :
ألا قوموا بأمر الله واحرُسوا أنفسكم وأهليكم وأولادكم من الغفلات، فإن عدو الله الذي دعا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير من أتباع الشهوات، وترونهم ماذا يفعلون في الحياة؟ ، وماذا يتابعون به؟ الظلم والاعتداء والتعدي على الأطفال والصبيان وتكسير البيوت وإخراج أهلها منها قسراً، إلى غير ذلك استحلالاً لكل القبائح والجرائم، وكل ما تكرهه الفطرة وتنفر منه الفطرة السليمة والعياذ بالله.
وهل لمن اتبع الهوى والشهوات إلا الانحدار في تِلكم الخبائث وفي تِلكم القبائح؟
ويل لمن لم يتزكى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.
فاحرُسوا من شرورِهم أهلكم وأولادكم، إن جماعات منكم يُقتّلون وتُخرّب بيوتهم وتُخرّب مساجدُهم، وتُهدم مستشفياتهم، ويُعَتدى على ذكورهم وإناثهم وأطفالهم وكبارهم، وطوائف منكم يُغزون إلى بيوتهم بالمخدرات وبالمُسكرات وبالمناظر الفضيعات، وكلها من عمل إبليس وجنده الخبيث.
فاحموا أنفسكم واحموا دياركم واحموا منازلكم من هذه الشرور الموجِبة للحسرات والندامات والموقعة في موجبات الخزي يوم القيامات.
اغتنام أيام الشهر المعدودة:
أيها المؤمنون بالله، جاءتكم الفرصة الكبيرة والمنة الوفيرة من حضرة الرحمن ﷻ بتبليغكم ليالي هذا الشهر وأيامه.
بارك الله لنا ولكم فيها أوسع البركة، فشمّروا وجدّوا واصدقوا واتّصلوا بالقرآن وبالحضور في الصلوات، وبمصاحبة الرحمن ﷻ الذي يقول في حديثه القدسي: "أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي".
أيها المؤمنون بالله، كلامه بينَ أيديكم، وذكره مفتوح لكم، وسنن نبيه ﷺ متاح لكم القيام بها، فاغنموا العمر واغنموا الوقت واصدقوا مع عالم السر والنجوى.
خاتمة الخطبة الثانية :
اللهم حقِّقنا بحقائق الصيام والقيام وارزقنا الارتقاء إلى أعلى مقام، ووفِّر حظنا من الجود والإنعام، والمن والإكرام يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين.
وأكثروا الصلاة والسلام على خير الأنام من به خُصصتم وجُعلتم خير أمة، وكُشفت لكم الغُمة وجُليت عنكم الظلمة، نبي الرحمة محمد بن عبد الله.
فإن أولانا به يوم القيام أكثرُنا عليه صلاة، ومن صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً، ولقد أمرنا الله بالصلاة عليه فابتدأ بنفسه وثنى بالملائكة، وأيّهَ بالمؤمنين، فقال مُخبراً وآمراً لهم تكريماً ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، البشير النذير السراج المنير، عبدك المختار سيدنا محمد.
وعلى صاحبه وأنيسه في الغار، مؤازرهِ في حاليي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا بكر الصديق.
وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى الناصح لله في السر والإعلان، من استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان.
وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا وأمهات المؤمنين وبنات سيد المرسلين، ومريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم، والحمزة والعباس وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وأهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد واهل بيعة الرضوان، وسائر الصحب الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
الدعاء :
اللهم أعِزّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعِزّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعِزّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمِّر أعداء الدين.
اللهم اجعل قلوبنا وديارنا مُضيئةً بأنوار التقوى واليقين، تشُرُق عليها أنوار الصيام والقيام بفائِضاتٍ منك يا ذا الجلال والإكرام، ننالُ بها المراتب الفخام، والمنازل العظام، ونرقى بها إلى أعلى مقام، يا حي يا قيوم يا عظيم الإنعام.
اللهم بارِك لنا في أيامنا وليالينا، وأصلِح لنا ظواهرنا وخوافينا، واجعلنا من أسعَدِ أمةِ نبيك محمد بليالي رمضان وأيامه وجودك فيه، وما تجُود به على أهل الإقبال عليك من كل مَن تمَّ وقُبل صيامه وقيامه.
اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك لشر ما عندنا، ولا تجعل في بيوتنا محرومًا ولا مطرودًا ولا مأثومًا، وزِدنا من نوالك ما أنت أهله يا حي يا قيوم.
اجعل لنا كل ليلة خيرًا من التي قبلها، وكل يوم خيرًا من اليوم الذي قبله، وكل ساعة خيرًا لنا من الساعة التي قبلها، ووفِّر حظنا من ليلة القدر، وتولَّنا في السرِّ وفي الجهر، واغفر لنا كل ذنبٍ ووزرٍ، وارفع اللهم عنا جميع الشدائد، وهب لنا منك المحامد، وبلِّغنا الآمال والمقاصد.
واغفر لوالدينا ومشيخنا وذوي الحقوق علينا، ومؤسس المسجد وعامريه وبانيه والمتصدقين عليه، ووالدينا وذوي الحقوق علينا، وأموات المسلمين وأحيائهم إلى يوم الدين بالمغفرة الواسعة يا خير الغافرين، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راضٍ عنّا يا حي يا قيوم.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)
نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وعبادك الصالحون، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وآله و صحبه وعبادك الصالحون، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بك.
أدم لنا أمناً وطمانينةً وسكينةً وتوفيقا، ورُدّ كيد المعتدين والظالمين والغاصبين والمفترين والمفسدين حيثما كانوا وأينما كانوا، ولا تُبلِّغهم مراداً فينا ولا في أحد من أهل لا إله إلا الله يا أكرم الأكرمين.
عباد الله إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزِدكم ولذكر الله أكبر.
08 رَمضان 1446