دروس الهجرة النبوية وأسفار المسلمين وحركتهم وما يتعلق بهم من الهجرات

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة، بعيديد ، مدينة تريم، 27 محرم 1446هـ بعنوان: 

دروس الهجرة النبوية وأسفار المسلمين وحركتهم وما يتعلق بهم من الهجرات

 

نص الخطبة مكتوب:

الخطبة الاولى :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، 

     الحمدلله خالق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما بحكمته العظيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جامع الأولين والآخرين، ومُوقف أهل التكليف من الإنس والجان لأحكامه الإلهية التي لا معقب لها في جميع شؤونهم وأحوالهم، بما آتاهم وبما كلّفهم وما بلّغ إليهم من مناهجه القويمة. 

وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، صاحب المراتب العلية والمسالك السنية والأخلاق العظيمة. 

اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك سيدنا محمد الذي نحن في ذكرى هجرته من مكة إلى المدينة، وعجائب ما أنزلته عليه من السكينة، وما وهبته من الطمأنينة، وما جعلت في خُطاهُ من المقاصد والمرادات والأغراض الثمينة، اللهم أدم صلواتك فيمن جمعت فيه محاسن وكريم الأخلاق، وجعلته حبيبك المميز من بين الخلائق في كل تقييد وإطلاق. 

اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرم على عبدك الصفي المجتبى محمد، وعلى آله وأهل بيته المخصوصين بمقام طهرك الأمجد، وعلى أصحابه الغر الميامين الذين كُلّ منهم بخالص نوره استرشد، ونالوا بذلك المقام الأجل الأمجد، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان على ممر الدهور إلى يوم غد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين بلَّغوا عنك للخلق ما يوجب لهم السعادة في الغيب والشهادة، فسبقت السعادة لمن آمن وحلت الشقاوة على من كفر وجحد، وعلى آلهم وصحبهم وأتباعهم وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين. 

أما بعد،، 

عباد الله فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها، وإن الواعظين بها كثير وإن العاملين بها قليل. 

التقوى في الأسفار:

    أيها المؤمنون، من مجال التقوى أن نتقي الله في تصور الحركة في الحياة، والهجرة من الأوطان والأسفار بالأغراض المختلفة إلى مختلف النواحي والأقطار، في بقاع هذه الأرض في طولها والعرض، وأن نقيم ميزانًا صحيحًا لخيريتها وشرها، وصالحها وفاسدها، وحسنها وسيئها، ومباركها ومشؤومها.

هجرة النبي ﷺ  نموذجًا:

    أيها المؤمنون بالله، هذه هجرة حبيب الله وصفيه ومُجتباه، تدعو الخلائق للفكر الحَسن في مسألة الأسفار والخروج من الديار ومفارقة الأوطان، كيف تكون وعلى ما تكون؟

رحلة النبي ﷺ  مع عمه أبي طالب :

وما كان له من الأسفار قبلها إلا سفرة، وهو ابن اثنتي عشرة سنة مع عمه أبي طالب، كانت بدوافع ربط البنوة بالأبوة في العالم الحسي من تقويم الأسرة، وأن يقوم الأمر في الأسر على العطف والحنان والمحبة، وأن يحرص الابن ويحرص الصغير في الأسرة ألا يفارق الكبير في نظره وإرشاده، وهو يتلقى منه عواطفه وحنانه ورأفته، وذلك ما كان بينه وبين عمه أبي طالب الذي آلت إليه كفالتُه الحسية بعد أن توفي أبوه وهو حَملٌ في بطن أمه، ثم توفيت أمه وهو ابن ست سنوات، ثم كفلَه جده عبد المطلب فتوفي وهو ابن ثمان سنوات، فكفَله عمه أبو طالب. 

فلما عزم أبو طالب للسفر والرحيل قال له ﷺ : "لمن تدعني يا عم؟ خذني معك في سفرك" فسافر به.

شمائل النبي ﷺ  في رحلة الشام :

ومع ذلك فكان كِسوةُ تلك السفرة أنه ﷺ  كان قائمًا بالخدمة للمسافرين في خُلقه الكريم، وفيما ورِث من الفطرة، وبقايا أديان الأنبياء من قبل من خِدمة الصغير لمن هو أكبر منه، فكان الذي يَتولى خِدمة متاع الجيش، خدمة متاع المسافرين من تلك الرفقة، وكان يتولى القيام على شؤونهم، وعلى أمتعتهم، وعلى رواحلهم.

علامات النبوة جلية منذ الصغر :

حتى لما نزلوا بجوار صومعة الراهب "بحيرا" رأى علامات من علامات النبوة، من غمامة تُظِل الجَمع وهم مقبلون، ومن اخضرار شجرة كانت يابسة، ومن تدلّي أغصانها إلى جانب لأنهم سبقوا إلى الظل، وقام  بخدمة متاع الجيش وربط رواحلهم، ثم جاء والظل ممتلئ، فجلس في ناحية فيها شمس، فتدلّت أغصان الشجرة على رأسه الشريف تمنعُ الشمس عنه.

ويَرقُب "بحيرا" من صومعته هذه الوقائع، ويُرسل إلى هذا الوفد والطائفة أن غداءكم اليوم عليّ، وأنكم مدعوون لي.

فعجب القوم وقالوا: ما أكثر ما نمرُّ في هذا المكان، وما قد دعانا هذا الراهب ولا ضيَّفنا!

وألحّ عليهم وقبِلوا الضيافة، وأقبلوا عليه وتركوا النبي محمدًا ﷺ  عند أمتعتهم.

فأخذ يتأمل الوجوه، ولم يجد العلامات التي قرأها في الإنجيل، قال: بقي منكم أحد لم يحضُر؟

قالوا: ما بقي إلا أصغرنا سنًا هو عند متاعنا، قال: لا أحب أن يتخلف عن ضيافة هذه منكم صغير ولا كبير. 

فبعثوا إليه، فبعث أبو طالب وجيء به، فلما أقبل رأى الوجه وأيقن أنه هو.

ثم بعد ضيافتهم، كلم عمه أبا طالب واختلى به وقال: ما يكون هذا الغلام منك؟

قال: هو ابني.

قال: لا ما ينبغي لأبيه أن يكون حيًا، إن أباه يموت وهو حمل في بطن أمه.

قال: صدقت، ذاك أخي مات ومحمد حمل في بطن أمه، وإنما أنا عمه.

فسأله عن بعض أحواله وأخباره وأخلاقه، فأجابه.

قال: إئذن لي أن أنظر بين كتفيه، فنَظر وإذا بالعلامة ختم النبوة، فكاد أن يُغمى عليه.

ثم قال: يا أبا طالب، لا تترك ابن أخيك هذا يدخل معك فإن فرقة من يهود مُتربصين به ويريدون قتله، فارددهُ من حيث أتى قبل أن يتعرضوا لقتله.

وسمعَ كلامه وأرسل أخاه الحارث بن عبدالمطلب ليرُدّ محمدًا إلى مكة المكرمة.

وكانت السفرة الثانية في تجارةٍ لخديجة بنت خويلد، سافر فيها ﷺ  وهو ابن خمس وعشرين سنة، بِقَيَمه وشِيَمه وأخلاقه، يعمل في تجارة لكسب الحلال لسيدةٍ كريمة، كان يحوط بها سلامة الفطرة، وما بقي من ملا المكارم بحكم الفطرة وبقايا الخليل إبراهيم، ودين الأنبياء السابقين من كرم، ومن صدق، ومن أمانة، ومن شجاعة، وأمثال هذا.

لم تكن تُتاجر في خمر، ولا تُتاجر في ربا، ولم تكن تستعمل التجارة لظلم أحد، ولا للنيل من أحد، ولا لفسادٍ في الأرض.

تعلق خديجة بسيدنا محمد ﷺ :

فسافر ﷺ وربح أضعاف ما يربحون، وما كان الدافع لاختياره من قِبَلها إلا ولع قلبها بدين الخلق وحالهم على ظهر الأرض، وأنّه لا يمكن أن يكون هذا دين الله الذي يرتضيه، وما تتتبّعه من ابن عمها ورقة بن نوفل الذي تنصّر وعرف الإنجيل، ويقرأ منه بالعبرانية ويترجمها إلى العربية، وما تكلم علماء أهل الكتاب من أيام ولادته ثم في أيام شبابه من اقتراب ظهور نبيٍّ وصفاتِه التي وصفها الله بها في التوراة والإنجيل، فتولّع قلبها ومال خاطرها إلى أن هذا الشخص مُتجمِّعٌ فيه ما يقولون من أوصاف حميدة ومساعٍ رشيدة، فلعله أن يكون هو النبي المنتظر الخاتم للأنبياء.

وأمرت مولاها وغلامها مَيسرة أن يَرقبه في تصرفاته، وأن ينقل إليها كل ما يشاهده من أحواله، وشاهد عجائب من حبيب الحقّ سيد الأطايب ﷺ، وجاءوا بالأرباح الكثيرة ورأتهم مُقبِلون وفوقَه رأت من يُظلّله حاملًا مظلّة فوقه شخصان وهما من الملائكة، شاهدتهم البَرّة الكريمة.

وأقبلت، فاستفسرته فذكر لها من العجب ما ملأ قلبها وجوفها وشدّ عزمها أن تقرُب من هذا الجناب وتخطُب سيّد الأحباب، وكانت الخُطبة السعيدة لهذه الصالحة الرشيدة  وكان الزواج بها  فكانت أول أمٍ للمؤمنين وأول ناصرٍ لخاتم النبيين.. هاتان السفِرتان.

ضوابط أسفار المسلمين :

وهكذا فيما يتعلّق بأسفار المؤمنين، ما تعلّق ببابِ إقامة الأسر على الوجه المطلوب، وعلاقة الوالدِ بالولد، وعلاقة الناشئ بولي أمره، وما كان من علاقة بالتجارات البعيدة عن الخمور وعن الربا والمحرمات. التجارات الصحيحة لأجل الكفاية، ولأجل المكارم كذلك. وهكذا يجب أن تكون أسفار المؤمنين.

أسفار النبي ﷺ للدعوة و الهجرة :

ثم كان خروجه من مكة إلى أسواق العرب لأجل بلاغ هذه الدعوة، وهداية الخلق إلى الحق. 

ثم خروجه إلى الطائف في أواخر ما كان من خرجاته قبل الهجرة. ثم كانت الهجرة إلى المدينة.

أسفار النبي ﷺ بعد الهجرة :

ثم لم يكن له سفر ولا خروج من الدّيار إلا في غزواتٍ وجهادٍ ودعوةٍ إلى الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.

هذا نبينا المهاجر في مسلكه الشريف الطاهر ينادي الأمة:

ما تصنعون بالأسفار؟ 

وما مقاصدكم في الخروج من الديار؟ 

وكيف تتقلبون في أرض الله -تعالى-؟

أَبِاعْتِبَارٍ أَمْ بِغَيْرِ اعْتِبَار؟

أَبِادِّكَار أَمْ مِنْ غَيْرِ ادِّكَار؟

أَلِمَقَاصِدَ صَالِحَةٍ وَتِجَارَاتٍ رَابِحَةٍ، وَمَسَاعِي مَشْكُورَةٍ نَاجِحَةٍ؟ أَمْ لِمَقَاصِدَ فَاسِدَةٍ وَتِجَارَاتٍ بَائِرَةٍ، وَمَسَاعِي مَرْدُودَةٍ عِنْدَ الْجَبَّارِ، كَرَّةُ أَهْلِهَا خَاسِرَةٌ؟

سفر المؤمن ومقاصده ونياته :

أيها المؤمنون بالله حقيقة من الحقائق جاءنا بها خير الخلائق، بها تقوم حركتنا في الحياة كلها، وخصوصًا الأسفار والذهاب إلى هنا وهناك.

من بين هذه الأمة فمنهم من يكون قاصرًا في أسفاره على مُجرّد ما يسمى بالتّنزه والتّفرج، وهو إلى فقد الكرامة عند هذا الإنسان والشرف أقرب، إذا لم يقترن بمقاصد تتعلّق بمهمته في الحياة وتنشُّطه لما خَلقه له مولاه، ويُشاركه فيها الكافر.

ومنهم من يسافر أيضًا للتجارات، فإن كان وزاول فيها ما يُخالف الشرع، أو أراد أرباحها لأجل الطمعِ والمكابرة، أو لصرفها في المعاصي، فبئس السعي سعيُه، وبئست الأسفار أسفارُهم وبئست الرحلات رحلاتُهم، وهم في هذه وتلك يُشابهون الكُفّار الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر في أسفارهم ورحلاتهم.

ومنهم من يجعل ذلك لطلب العلم، وأي العلوم يقصدون؟

وبِغَضّ النظر عن أي العلوم -بعد إثبات الخصوصية والمزية لعلوم الشريعة الطاهرة النقيّة، التي هي القانون الحاكم لحركة الناس في الحياة بمنهج الله تعالى العلي العالم المحيط علماً بكل شيء- بعد تخصيص هذه العلوم، فأيُّ علومٍ صحيحةٍ ينتفعُ بها الناس في أبدانهم أو دنياهم، فلا إشكال في أخذ العلم من حيث هو علم، ولكن في كيفيته، وفي المقاصد فيه، وفي استعماله، أين يستعمل؟

أعلى مقاصد السفر وأشرفها :

    أيها المؤمنون بالله تبارك وتعالى، وبقي من يُسافر وهم قِلة لأجل طلب علوم الشرع المطهر، أو لطلب تزكية النفس، ونسبَتُهم بين الأمة قليلة جدًا، ثم فيهم من يُخلص ويَصدق، ومن يأخذ العلم على وجهه بسنده، وفيهم من خلَط هذا العلم بالأهواء، أو بالعصبيات للحزبِيّات، أو إرادة الحُكم، أو الشهوات الأخرى.

   أيها المؤمنون بالله، والمسافرون لطلب العلوم عامةً -من غير علوم الشّرع المصون- كان بحكم الإسلام والشريعة، وجب أن يُحرِّروا النيات، وأن يكونوا مُتحرّرين عن التبعيات الساقطة للساقطين، والتبعيات الفاسدات للمفسدين، وأن يكون لهم همٌّ بإقامة أمر الله على ظهر الأرض من خلال الحِرَف والصناعات والتخصصات المختلفة في الحياة مما يُقصد.

تأثير الأسفار على الفرد  :

ومنهم من يبالغ في الأمر ويُخرجه عن حدِّه، ومنهم من يُجاوز حدَّ أخذ المعلومات إلى أن يجعل في الكفار والفُجّار قُدوات! وبذلك حصل عند الكثير من هؤلاء المسافرين -خصوصًا إلى أراضي الكفار- حصل عند الكثير منهم :

  •  التأثُر السَّلبي في الفكر وفي الأخلاق، 
  • وعاد من عاد منهم إما بشكٍّ في دينه،
  •  أو بإلحاد، 
  • أو بضعفِ صلة بالله ورسوله، 
  • أو بأخلاقٍ خبيثة، 
  • أو باتباع شهواتٍ مقيتة مُحرَّمةٍ، لا تجلب لأصحابها إلا كدَر الحياة، وعذاب الآخرة، وفساد المجتمع، وتقطُّع أوصال صلاته وعلائقه.

وقليلٌ منهم استفاد من تلك العلوم:

  •  ولم يضيِّع قدوته بالسيد المعصوم، 
  • أو أدرك وهو في تلك الأسفار عظمة الدين، وما جاء به خاتم النبيين، 
  • ورثى به الطوائف المارقة والكافرة، ورآهم يعيشون كالأنعام بل أضل، وزاد إيمانه، وتمسك بحبل ربِّه، 

وهم قليلون جدًّا من بين الألوف، وعشرات الألوف بل مئات الألوف، بل ربما وصلوا إلى الملايين من أبناء وبنات المسلمين، يقصدون بلدان الكفار باسم طلب العلم، وباسم أخذ الشهادات، وما إلى ذلك.

والذي يسلَم من فِتنهم ويُخلص قصدَه لوجه الله نسبةٌ قليلة من هذه المئات الألوف، والملايين من البنين والبنات الذاهبين إلى تلكم الجهات.

الهجرة دروس وعبر للسفر :

   أيها المؤمنون، في الهجرة تعليم وثباتٌ للمنهج القويم، وأن لا تكون أسفارُ المسلمين إلا للقصد العظيم، وإلا للشأن الفخيم الذي خُلِقوا من أجله، وإلا للإصلاح على وجه هذه الأرض للهدى وطريق الرشاد، وإلا لتسخير المعلومات والتخصصات للمقاصد الكبرى، وصلاح الدنيا والآخرة بمنهج الله الذي حمله خيرُ الورى.

أيقِظ اللهم قلوبَ الأمة، وزكِّ عقولهم ونفوسهم، وخلِّصهم من ورطات التبعية للمفسدين والغافلين والمجرمين. يا أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.

والله يقول وقوله الحق المبين ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾

وقال تبارك وتعالى:

(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم

(وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)) 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

      الحمد لله ملك السماوات والأرض، وأشهد أن لا إله إلا الله الحاكم بين خلقه يوم الجمع والعرض، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، خير من قام بالسنة والفَرض.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدك المُختار سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وآبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم، وتابعيهم وملائكتك المقربين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:

   عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا الله وأحسنوا. 

إحسان مقاصد السفر :

أحسنوا وأقيموا الموازين في الرحلات:

  •  من أجل النظر في هذا الكون وما فيه والاعتبار، 
  • أو من أجل طلب الرزق الحلال، 
  • أو من أجل طلب علم دينٍ أو علم دنيا تُرادُ من أجل الدين والاستعداد للآخرة.

وأقيموا ميزان الله بتقواكم في أسفاركم ورحلاتكم، وحركتكم على ظهر هذه الأرض، واستفيدوا من درس الهجرة، واعلموا أن الأمة مُطالبةٌ بهجرةٍ مفروضةٍ عليهم، وهي الهجرة من أرض المحرمات والذنوب والمعاصي إلى طاعة الله الحاكم على الخلق يوم الأخذ بالنواصي.

فريضة الهجرة في سبيل الدين :

     أيها المؤمنون، وهجرة من لم يستطع أن يقيم شعائر الله في أي بلدة من بلدان الكفار، وأي بقعة من بقاع الأرض لا يستطيعون إظهار شعائر دين الله فيها، أو يُرغَمون فيها على الذنوب والمعاصي ومخالفة الشرع، فهذه هجرة فرض مفروضة على أصحابها أن يهاجروا

قال تعالى: (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ هذه الهجرة المفروضة.

الهجرة من المحرمات الى الطيبات :

وهجرة جميع المؤمنين من أراضي المحرمات، وما حسّنهُ لهم عدوهم إبليس وجنده شياطين الإنس والجن من المناظر المحرمات والآلات المحرمات، والملابس المحرمات، وأنواع ما حرّم عالم الغيب خالق الأرض والسماوات وما زيّنوه لهم، ومن ذلك العصبيات، ومن ذلك الاختلافات على غير بصيرة، والمعادات، والبغضاء، والشحناء.

يجب الهجرة من هذه الأراضي الموبوءة القبيحة القذرة إلى أراضي الخير والنور، والطاعة لله.

وبعدها هجرة مندوبة مطلوبة لكل مؤمن حريص، وهي هجرة المكروهات، وهجرة جميع الشبهات، والتخلي عن المشتبِهات في استقامة لأجل عالم الخفيات ﷻ .

هجرة خواص الخواص :

ووراء هذه هجرة كمال لخواص خواص المؤمنين من أهل المراتب العوال، وهي :

 هجرتهم لكل غفلة عن الله، ولكل ما لا يقربهم إلى الله، من الأقوال والأفعال والأحوال والمقاصد والنيات واللباسات، والمطاعم، والمشارب، كل ما لا يقرب إلى الله يهاجرون عنه إلى أرض الحضور الدائم مع الحي القيوم، والصدق الكامل مع الذي بيده الأمر كله جل جلاله وتعالى في علاه

 هذه الهجرات التي يجب أن نفهم معناها، وتلكم الأحكام التي يجب أن نقيم بها ميزان أسفارنا.

وبارك الله في من بقي في الأمة، وإن كانوا قلة، يسافرون ويهاجرون لأجل تزكية النفس، ولأجل علم الشريعة للعمل به ولهداية الخلق إليه وتعليمهم إياه. 

وإن كانوا قلة على ظهر الأرض، فنِعْم ما مشوا فيه، وما سيَّرهُم الرحمن ووفقهم له. 

اللهم بارك فيهم، وانظر إليهم، واجعل الخيرات صبابة عليهم، واجعلها مفاضة منك عليهم ومنهم بك إلى عبادك في شرق الأرض وغربها.

اللهم وأنقذ الأمة، واكشف الغمة، وحَوِّل الأحوال إلى أحسنها.

 اللهم ولا يزال الكفار والفجار يرحلون ويبذلون الأموال للإفساد ولقتل النفوس ظلمًا، ويُخصّصون أيضًا بالقتل من كان مُستقيمًا على منهاج حَسن، أو قائدًا في مسلك يُعكّر عليهم ظلماتهم وشهواتهم الخبيثة.

اللهم رُدّ كيد الكفار والفجار، اللهم ومن قتلوه من المسلمين، فاجعل في قلوب المسلمين ما يُوجِب لهم الشهادة، وينالون به السعادة، يا حي يا قيوم.

فالقتلى قتلى في كفار ومسلمين، ولكن والله لا سواء، قتلى الصادقين من المسلمين في الجنة، وقتلى المعتدين الفاجرين الكافرين في النار، لا سواء، كما قال نبينا ﷺ  لمنادي الكفار يوم أُحد: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال: "لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار".

وهكذا قتلى المؤمنين الذين يريدون وجه الله، والذين يخلصون مع الله، هم أهل الجنات، فلهم الشهادة، لمن لم يقصد منهم غير الله ولم يشرك به في عمله إرادة أخرى، فرُبّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته. ومن قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله. 

هجرة الصفات المذمومة :

    أيها المُؤمنون اصدُقوا مع الله وهاجِروا، هاجِروا من أرض الغيبة، فقد حلَّ فيها أسر كثيرة، ورجال ونساء كانت وظيفتهم ليلًا ونهارًا. 

هاجِروا من أرض النميمة، هاجِروا من أرض الكِبر، هاجِروا من أرض قطيعة الأرحام، فقد ابتُلِيَ بها من ابتُلِيَ، وتعرَّض للعنة ربِّ العرش العظيم. 

هاجِروا من الجهل في الشريعة والدين، وتعلموا أحكام ربِّ العالمين. 

هاجِروا من تصديق كذبة الكُفّار في الأفكار والأخلاق، وصدِّقوا الإله الخلّاق ورسوله عظيم الأخلاق. 

هاجِروا من الغفلَة، هاجِروا من الإهمال للأبناء والبنات. 

هاجِروا من إضاعة أمر الله إلى المُحافظة على أمر الله وتعظيم شرعه.

عظيم أجر الهجرة :

فتلكم الهجرة التي يُشكرُ مسعاها، ويُحمدُ رُجعاها، ويُعلو شأن أصحابها في الدرجات العُلَى. 

اللهم ارزُقنا الهجرة من جميع الذنوب والمعاصي، وارزُقنا هجرة ما نهيتَنا عنه يا حي يا قيوم في كل ظاهرٍ وباطنٍ، من كل قولٍ وفعلٍ وعملٍ ونيَّة، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الرَّاحمين.

الصلاة على النبي ﷺ مغنم :

وأكثروا الصلاة والسلام على صاحب الهجرة، الهادي إلى سبيل الهُدى في كل سرٍّ وجهْرة، (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) . 

فصلاتكم عليه قُربةٌ إلى الرب، وصِلةٌ بحبيبه الأطيب، وسببٌ للشفاعة ونيلها في اليوم الأهوَل.

     أيها المؤمنون بالله، صلاتُكم على النبي محمد صلواتٌ لكم من ربّه العظيم، وكفّارةٌ للوزر الوخيم، وسببًا للحصول على جنات النعيم، فأكثروا الصلاة والتسليم على من ناداكم من أجله الإله العظيم، وقال مُبتدِئًا بنفسه ومُثنيًا بالملائكة ومُؤيّهًا بالمؤمنين تعظيمًا وتفخيمًا وتكريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

اللهم صلّ وسلّم على الرحمة المهداة، والنعمة المُسداة، والسراج المنير، البشير النذير، عبدك المُختار سيدنا محمد، 

وعلى صاحبه وأنيسه في الغار، مُؤازِره في حالتي السّعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق، 

وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، المُنيب الأوّاب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، 

وعلى من استحيَت منه ملائكة الرحمن، مُحيي الليالي بتلاوة القرآن، ومنفقِ الأموال في رِضا الإله ورسوله المُصطفى من عدنان، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان، 

وعلى أخ النبي المُصطفى وابن عمّه، ووليّه وبابِ مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب، 

وعلى الحسن والحسين سيديّ شباب أهل الجنّة في الجنّة، وريحانتيّ نبيك بنصّ السنّة، وعلى أمّهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى أخواتها بنات زين الوجود، وأمّهن خديجة الكبرى وأمّهات المؤمنين، 

وعلى الحمزة والعباس وسائر أهل بيت نبيّك الذين طهّرتهم من الدنس والأرجاس، 

وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد، وعلى أهل بيعة الرضوان وسائر الصحب الأكرمين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الدعاء :

اللهم أيقظ قلوب المسلمين، اللهم طهرها عن الرجس والكفر والخبث، اللهم حوِّل أحوالهم إلى أحسن الأحوال، اللهم احقن دماءهم، اللهم احرس أموالهم، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم اجمع شملهم على ما تُحب، اللهم ارفع عنهم سلطة الأعداء، وعُضال الداء، اللهم أصلِح لنا ولهم ما خفي وما بدا.

اللهم اجمع شملهم بعد الشتات، وفرِّق جموع أهل البغي والعناد، والظلم والطغيان والفساد، اللهم حوّل الأحوال إلى أحسنها.

اللهم رد كيد الصهاينة، وما يقومون به من نشر شر وفساد وقتل وسفك للدماء، وظلم وعدوان، اللهم اجعلهم ومن وقف في صفهم عبرة للمعتبرين، خذهم أخذ عزيز مقتدر، يا منزل الكتاب، يا سريع الحساب، يا منشئ السحاب، يا هازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، وادفع عن المسلمين جميع شرورهم.

اللهم ومن وصلته أيديهم ونالوا منه يا مولانا في عرض أو في مال، أو في نفس، فاجعلها لهم يا ربنا شهادات وسعادات وقربة إليك.

اللهم وارزق هؤلاء المسلمين صدق النية، وإخلاص القصد، وصفاء الطوية لك يا حي يا قيوم.

اللهم وعجل بالفرج للأمة، واكشف جميع الغمة، وأجل جميع الظلم، ولا تصرفنا من جمعتنا إلا مهاجرين إليك مما سواك، إلا مقبلين عليك، كما ترضى به ويرضى مصطفاك، إلا مقتدين به في الأقوال، والأفعال، والمقاصد، والنيات، وجميع الأحوال والحالات.

اللهم ولا ننصرف من جمعتنا إلا بمغفرة واسعة لنا ولوالدينا ومشايخنا وذوي الحقوق علينا، ومن في ديارنا.

اللهم وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، فاغفر لنا ولهم الذنوب والخطيئات، وتجاوز عنا جميع المعاصي والسيئات، وبدّل السيئات إلى حسنات، يا من يعفو عن عباده ويأخذ الصدقات، يا من يقبل التوبة، يا من يكرم الأوبة، يا من يغفر الحوبة، يا من يكشف الكربة، يا من يرفع الرتبة، يا حي يا قيوم، بيدك الأمر كله، واغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين، واختم لنا بالحسنى، وأنت راض عنا.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) .

(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) .

(رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) .

(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) .

نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

تاريخ النشر الهجري

27 مُحرَّم 1446

تاريخ النشر الميلادي

02 أغسطس 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام