مجريات ما ينزل بالخواطر والمشاعر والقلوب عناوين وجهة الإنسان في الدنيا، والعاقبة والمصير في العقبى

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، في مسجد جبران، في مدينة عمّان، الأردن، 26 صفر 1446هـ بعنوان:

مجريات ما ينزل بالخواطر والمشاعر والقلوب عناوين وجهة الإنسان في الدنيا، والعاقبة والمصير في العقبىـ

نص الخطبة:

    الحمد لله، الحمد لله الواحد الأحد الحي القيوم الذي لا يموت، مُقلِّب القلوب والأبصار، مُوَفِّق من يشاء إلى ما به يرقى أعلى المراقي، ويَنزِلُ أشرف المنازل، حيث فيها كل نازلٍ بها حيُّ بإذن الله لا يموت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما يُوفِّق من يشاء يَخْذُلُ من يشاء، فيغفلَ عن النهاية والمصير، فتحلُّ عليه النقمة ويكون مآله عذاب السعير.

وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا مُحمدًا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير. 

اللهم أدم صلواتك على الهادي إليك والدّال عليك، أحب خلقك إليك وأكرمهم منزلة لديك، سيدنا مُحمد المجتبى المُصطفى المُختار، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن والاهم فيك، وعلى منهاجهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:

    عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فَاتَّقُوا اللَّه عِبَاد اللَّه وأَحْسِنُوا يرحمكم الله (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، وإن من مجالي تقواهُ ﷻ استقامةُ الفكر والشعور والاستشعار والاستحضار، وما يهجُسُ على البال والخاطر على ما هو أحبُّ وأطيب، وأجمل وأرغب، وأدنى وأقرب، وأحزم وأقوم، وأكرم وأنعم. 

خواطر المؤمن مرتبطة بتوجّه قلبه:

إنّ مُجريات ما ينزل بالخواطر والقلوب عناوين وجهة الإنسان، وما يُراد به في العمر القصير، وما بعده من عمر البرزخ إلى عمر القيامة الذي مُقداره خمسون ألف سنة إلى عمر الأبد والدوام، حيث كتب الخالق على هؤلاء المُكلّفين من خلقه أن يُؤبَّدوا ويُخلَّدوا بإبقائه إياهم إمّا في الجنة وإمّا في النار.

وكلّ مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، والقدر خيره وشره، يستقيم نظره، وعلى ضوء ذلك تستقيم خواطره، ويهجُس بقلبه ما يوجب الزُّلفى إلى الحقّ والسعادة في الحياة القصيرة، وما بعدها من الشأن الكبير.

ألا إنّ من كفر بالله ومن كذب باليوم الآخر، ومن تشكّك فيه ومن ضعُف إيمانه به، لينحصرون في هذا العمر القصير، وما يجري فيه، ويغفلون عن المستقبل الكبير، وعن الشأن الخطير من بعد الغرغرة إلى البرازخ إلى يوم النفخ في الصور، إلى مواقف القيامة، إلى الاستقرار إمّا في الجنة وإمّا في النار.

قصر نظر عقل الكافر:

لذلك فعقول الكافرين بالله على ظهر الأرض محصورة مقصورة، فهي لذلك صغيرة، لا تُفكّر إلا في أيام العمر القصير، وأيام المُدّة القليلة، التي تكتنفها أنواع المُنغِّصات، وأنواع الآفات عند من واتته الأسباب في كثير من صحته أو توفير المال لديه أو توفير كثير من رغباته، فهؤلاء في مُدّة العمر القصير لا يسلمون من حوادث الدهر وتغيّر الأمر وتقلّب الأحداث، فإذا كان هذا غاية نظرهم ومطمحهم، فما أقصر عقولهم! وما أقلّ مداركهم!

يوم القيامة تتجلى الحقائق :

ولكنّ أكثر النّاس لا يعقلون، وفي القيامة يُنادى الذين كانوا يرون أنفسهم أهل الثقافة والفهم والإطلاع والإدراك في الحياة الدّنيا، ممّن لم يتجاوز نظرهم هذا العمر القصير، يُنادون في مواقف القيامة (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فاعترفوا بذنبهم فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ).

لكن مسالك الذين أدركوا الحقيقة واتّسعت عقولهم من الخليقة (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

ضعف الإيمان وفهم الحقيقة :

أيّها المؤمنون، ولما ضاق نطاق العقل والفكر عند المُكذّبين والكافرين ثقُلَ عليهم تذكّر الموت، وصعُب عليهم تذكّر الانتقال من هذه الحياة، وهو أمر لازم حتميٌّ ضروريّ، لابُدّ من وقوعه، فما معنى هذا التهرّب؟ 

وما معنى هذا الإغفال والإعراض؟ 

أبِهِ يُؤَخّر الموت عنهم؟ 

أم بهِ تَطول حياتهم؟ 

أم بهِ تمتدّ أعمارهم؟ 

ولو امتدّت، فإلى أيّ حدّ؟ وإلى أيّ مقدار؟ والضّعف يتناولهم عند مرور الأعوام والسنين، وعند تعاقب الأيام والليالي؛ هضماً وتنفّساً، وبصراً وسمعاً، وحركة يد ورجل، ينالهم الضّعف في كلّ ذلك، وينالهم النقص في كلّ ذلك.

تفكير المؤمن في حقيقة مستقبله:

فما مقدار هذه الحياة؟ وما مقدار من ليس له عقل يُفكّر إلاّ فيها؟ 

وقد أوتي عقلاً من قِبل الخالق يتّسع للفكر على المدى، ولعِمارة ما بعد هذه الحياة له ولأهله ولولده، من خلال التسبُّب في مُوجبات السعادة، وما يُحقّق نيل الحُسنى وزيادة. 

إنّها ميزة المؤمنين، 

إنّها ميزة المُصدِّقين، 

إنّها ميزة الموقنين، 

هم أوسع النّاس فكرًا، وأدقّهم نظرًا، وأعلاهم عقلًا. 

إنّهم الذين يُفكّرون قبل الموت لما بعد الموت، إنّهم الأكياس بشهادة خير الناس القائل صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "الكَيِّسُ من دان نفسه وحاسبها".

راجَع الحسابات، وأحسن النّظر فيما يجري منه، وما يصدر عنه من قول وفعل، ونظر وحركة وسكون، يُراقب عظمة من قِبَل من لا تخفى عليه خافية، ومع ذلك وكّلَ بنا من ملائكته من يكتبون منّا ما يصدر وما يكون؛ من نظر، أو سماع، أو كلام، أو حركة، أو سكون، (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ). 

حال المتغافل عن المصير :

أيّها المؤمنون، ما أقلّ عقول الذين يُحبّون التهرّب من ذكر الموت! فهل يُفيدهم هذا في الحياة شيء؟ أم هو شأن النعامة التي إذا خافت مَن يصطادها ويُطاردها، أدخلت رأسها وسط غار حتى لا تراه، تظنّ أنّه لا يراها، فهل يُغني عنها ذلك شيئاً؟ إنّها الغفلة، إنّها الغَفالة، إنّها ضعف الفكر والعقل.

قدر الله على عباده:

أيها المؤمنون، موتٌ محتوم كحتمية وجودي ووجودك، هل كان وجودي ووجودك بتدبيرك أو باختيارك، أو بترتيب هيئة أو جماعة أو دولة؟! (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ).

(أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ..)، فكما جئتُ وجئتَ إلى هذا العالم لا باختيار ولا تقدير ولا تدبير، فستخرج عنه لا باختيار ولا تقدير ولا تدبير.

فما معك إن كنت تعقل إلا أن تحسن الاستعداد وتتزود بأشرف زاد، لتخرج إلى حال الإسعاد لا الشقاء، وإلى حال الهناء لا العناء، وإلى حال النعيم لا إلى الجحيم.

حال المؤمن عند موته وحال الكافر:

حتى جاءنا في الحديث عن نبينا ﷺ: أن الموت  للمؤمن تحفتهُ.

فما معنى تُحفته؟ 

يخرج من عناء الدنيا وكُدورها وهمومها إلى بشائر تُبشَّر بها روحه عند موته، (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ).

ويقول له المَلَك: اخرج إلى رَوحٍ وريحان وربٍّ غير غضبان.

وحينئذٍ تنادي نفس الميت ويسمعها كل شيء إلا الإنس والجن، عندما يوضع على نعشه وسريره إلى قبره، ويقول: قدموني قدموني إلى جنة ورضوان ورب غير غضبان.

والآخر عندما يلاقي أن الملائكة باسطوا أيديهم لضربهِ عند الموت (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ). 

ثم يُبشَّر بالعذاب، فَإِذا وَضَع على أعناق الرجال واحتملوه نادى: خلِّفوني خلِّفوني!

 يا ويلها إلى أين تذهبون بها؟ ولن يُخلَّف! لن يُخلَّف حاكم ولا محكوم، ولا وزير ولا موظف، ولا غني ولا فقير، ولا أبيض ولا أحمر ولا أسود ولا أصفر، ولا صحيح ولا مريض.

وقد جعل الله الأمر فجأة، ليس له سن مخصوص، ولا حال مخصوص، ولا مكان مخصوص، ولا وقت مخصوص (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)، جل الله! 

علامة صحة القلب:

فوجود هذا الفكر الصحيح عند المؤمن في تذكر المصير إلى الحي القيوم، وعظمة الوقوف بين يديه، علامة صحةٍ في قلبه وعقله في مساره في الحياة، في كسبه في أيام الحياة القصيرة.

وما أعظمه من عقل وسعادة أنك بالعمر القصير الفاني المحدود تَعمُر سعادة أبد، وتَعمُر خيرًا في عمر لا ينفد.

خصائص الحياة الكريمة في الجنة :

أيها المؤمنون بالله، أول ما يُنادى به الداخل إلى الجنة عند دخولهم إليها: إِنَّ لَكُم فيها أَن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وأن تصِحوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تشبّوا فلا تهرموا أبداً، وأن تَحيوا فلا تموتوا أبداً.

ما هذه الخصائص لهذه الحياة الكريمة؟ 

هل توجد في حياة رؤساء الأرض؟ 

هل توجد في حياة أغنياء الأرض؟ 

لا نعيم لهم لا بؤس فيه، لا صحة لهم لا مرض فيه، لا شباب لهم لا هرم فيه. 

أم يذهبون لعمل عمليات التجميل يريد أن يُبْعِدوا التجاعيد وآثار الشيخوخة، فهل تُسقِط عنه تلك العمليات ضعف الأعضاء وضعف القوى؟

 فلا يدري بنفسه إلا وقد صَعُبَ نُهوضه وصَعُبَ طُلوعه في دَرَج، وإن أبى أن يعترف لابد أن يُقِرّ، ثم لا يدري بعد ذلك في أي لحظة تُخْتَطَف هذه الروح.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)، (تَفِرُّونَ مِنْهُ): ولم يقل يلحقكم، ولا يدرككم، بل مُلاقيكم أمامكم، ما يحتاج أن يجري من ورائكم؛ هو أمامك، (فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). 

سيدنا سليمان و ملك الموت :

ومما يُذكر عن النبي سليمان أنه كان عنده سيدنا عزرائيل -ملك الموت- معه بعض أصحابه، فكان يكثر النظر في ذلك الصاحب، وتعجّب النبي سليمان من تحديق عزرائيل في صاحبه، ثم أمر الريح أن تأخذ ذلك الصاحب إلى الهند.

وبعد أيام زاره ملك الموت، فقال النبي سليمان: كنت عندي في يوم كذا، وكنت ترقب صاحبي فلان.

قال: نعم كنت أرقبه، لأن أجله أُلقي إليّ في الكتاب أنه بعد ثلاثة أيام أقبضه في مكان في الهند، وهو عندك في فلسطين! فعجبت! ما الذي يأخذه من فلسطين إلى الهند في خلال ثلاثة أيام، في وقت لا توجد فيها تلك الوسائل!

قال: سبحان الله! ما كان يخافه الرجل لما سألني: من كان عندك قلت ملك المَوت، قال: مُرِّ ريحًا تنقلني إلى الهند، فجاء به إلى المكان الذي حُدّد أخذ روحه فيه.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ).

وقال سبحانه وتعالى في بيان هذه الحقيقة: (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) جل جلاله وتعالى في علاه. 

آيات من القرآن الكريم:

اللهم املأ قلوبنا بأنوار الخشية والإنابة، وحسن النظر فيما يُرْضيك، وموجبات السعادة في الغيب والشهادة، في الدنيا والآخرة، يا رب الدنيا والآخرة، يا مَلِك الدنيا والآخرة، يا إله الدنيا والآخرة، يا قيوم الدنيا والآخرة، يامن بيده مَلَكوت كل شيء.

وَاللَّهُ يَقُولُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ (فَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) 

 (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَْ)

(وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ). 

بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية :

    الحمد لله القوي المتين، الدائم الذي لا يموت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده أمر الأول والآخر، والباطن والظاهر.

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، سيد الأوائل والأواخر، وجامع الفضائل والمفاخر، اللهم أدم صلواتك على عبدك المجتبى المصطفى الطاهر، سيدنا محمد، وعلى آله الأطاهر وأصحابه الأكابر، وعلى من سار على منهاجهم إلى اليوم الآخر، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين.

أما بعد،، 

    عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من اتقى الله عاش قويًا، وسار في بلاد الله آمنًا. 

ومن ضيّع التقوى وأهمَل أمرها 

تغشتهُ في العقـبى فنـون الندامـةِ

حسن الوعي لحقيقة الحياة  :

أيها المؤمنون بالله، خلق الله والحياة ليبلونا أيُّنا أحسن عملاً، فالعاقل الواعي لسر الحياة والموت، يُحسن النظر في شأنه وحاله، في سره وإعلانه، في خلال هذه الحياة، فيُحسن الاستعداد للقاء الله، ويُؤثَرُ: "من أكثرَ ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة، ومن نسي ذكر الموت وجد قبره حفرة من حفر النار".

أيها المؤمنون بالله، يقال للمجرمين والفاسقين والظالمين يوم القيامة: (إنَّا نَسِينَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)، في كل من نسي المصير، وكل من نسي الرجوع إلى العلي الكبير، فشأنه في الدنيا أن يَحكُمه هواه وشهوات نفسه وعدوه إبليس، بما يلقي إليه من تسويل وتلبيس، على أيدي شياطين الإنس والجن (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يَضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)

 وانه لهادم، أي: قاطع، ومُنهي اللذات. 

أكثروا ذكر هادم اللذات، ما يُغرى به الناس من تَلَذذ في الحياة كائن ما كان؛ من طعامٍ أو شرابٍ أو منكوحٍ أو ملبوسٍ أو مركوبٍ أو مسكونٍ أو ملكٍ، يتنغّص وينتهي بالموت وينقطع، فلا تبقى منه بقية، ولكن لذائذ البرزخ ثم الأمن يوم القيامة، وإعطاء الكتاب باليمين ورجحان كفة الحسنات، وثبات القدم عند المرور على الصراط؛ هي اللذائذ التي يبقى خيرها وبركتها أبدًا سرمدًا، ويُوصل بها إلى سعادة الخُلد.

شرف الإيمان وأثره في وعي المسلم:

يا من آمن بالله شُرِّفت بالإيمان به، فلا تعش متشبّهًا بالكافرين ولا بالمكذّبين، إن لك الميزة ولك الخصوصية.

قال ربعي بن عامر لِرُستم قائد جيوش الفرس، وقد قاتل المسلمون كثيرًا وهزمهم الله مرةً بعد أخرى، فقال للصحابي ربعي بن عامر: يا ربعي، ما الذي غرّكم على الولوع بنا وديارنا؟

فأجابه سيدنا ربعي - عليه الرحمة - يقول له: ما جئنا لأجل مُلكٍ، ولا لمالٍ، ولا رغبةً في أراضيكم ولا ما عندكم، ولا المتاع، الأمر أكبر من ذلك. 

إنها عقول المؤمنين بالذي خلق، وبالمرجع والمصير إليه، إنه وعي المؤمن لرسالة الإيمان.

قال له ربعي بن عامر: اللهُ ابْتَعَثنا، لِنُخرجَ العباد من عِبادةِ العِباد إلى عبادَة رَبّ العِباد، ومن جورِ الأَديَان إلَى عَدلِ الإِسلَام، ومن ضِيقِ الدُّنيا إِلى سَعةِ الآخِرةِ.

وعيٌ وثقافةٌ من خالص الإيمان وإدراك الحقيقة التي يدركها خيار الخليقة.

الأثر الحسن لكثرة تذكر الموت:

 أيها المؤمنون بالله جلّ جلاله وتعالَى في عُلاه، من الإيجابيات الحسنة أن يجري في بالك ذكر المصير: 

  • فهو يمنعك عن ارتكاب المحذور وموجبات الخزي يوم القيامة 

  • وهو الذي به تقوم حالتك على مسلكٍ حسن، وتُقوَّم به أسرتك، وتُقوَّم به في مجتمعك، وتَتعالى به عن اكتساب ما يوجب الخزي 

(وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)، والعياذ بالله تبارك وتعالى. 

حمداً للرب على نعمة الإيمان، فاخرج من الجمعة بهذه الحقيقة وهذه الإيجابية.

ولقد روى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم ذُكر له رجل بكثرة العبادة، فأكثروا ذكره، ورسول الله ساكت، فلما سكتوا قال: "هل يكثر ذكر الموت؟" قالوا: ما نعلمه، قال: "هل يدعُ كثيراً مما يشتهي؟" قالوا: ما نعلمه، قال: "فليس بالذي تظنون فيما تذكرون" ليس بتلك المكانة.

ليس الأمر مجرد كثرة صورة عبادات، ما الذي يجري في القلب؟ ما الذي يُدرك ليقابَل به الرب؟ وما الذي يُقدَّم إليه؟ 

"إن الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيباً". 

أيها المؤمنون بالله، مسلك التذكر للمصير المحتوم مسلكٌ مضى عليه كل نبي معصوم، ومن صدقهم واتبعهم من أهل الوعي والفهوم، فالله يرزقنا حُسن الاستعداد، والتهيؤ لدار المعاد، وحُسن العمل، وحُسن النظر فيما يُرضيه عنا في العمر النافد، القصير، المُنتهي.

قصر العمر والحاجة للتزود:

أيها المؤمنون، وقد كان يُعمَّر من يُعمَّر إلى السبعمائة سنة، وإلى الألف سنة، وزيادة على ذلك. 

ولما سُئل النبي نوح وقد تعمَّر في الأرض نحو ألف ومئتي عام، مُدة البلاغ في قومه من بعد رسالته وقبل هلاك قومه تسعمائة وخمسين عاماً، سُئل بعد خروجِه من الدنيا: كيف رأيتَ الدنيا؟ قال: "كدارٍ لها بابان، دخلتُ من أحدهما، وخرجتُ من الآخر"، في ألف ومائتين سنة!

وكم تتعمَّر أنت؟ وكم يتعمَّر ولدك؟ وكم تعمَّر أبوك؟ وكم تعمَّر جدُّك؟

 نحن أقصر الأمم أعماراً، ولكننا أكثرهم أجوراً إذا انتبهنا، وإذا غنمنا ما أوتينا من الفضل الرباني، نحن الذين نتقدم على الأمم السابقة في الحساب وفي الميزان، وفي المرور على الصراط وفي دخول الجنة، يقول نبينا ﷺ: "إن الله حرَّم الجنة على الأمم حتى تدخُلها أمتي، وحرَّمها على الأنبياء حتى أدخلها أنا"، فما أعظم ما آتانا الله.

اغنموا جمعتكم باجتماع قلوبكم على الرحمن، وتهيّأوا للقائه بأعمالٍ يسيرة، وشؤونٍ لطيفة سهلة، يترتب عليها الفوز الأكبر.

قد رضي منا بالقليل ﷻ، ووعدنا عليه الكثير، فأكرم به من ربٍّ عظيم، وجوادٍ فخيم!

الدعاء:

اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين، وارزقنا حُسن الاستعداد للقائك يارب العالمين، لا تصرِف من جمعتنا أحدًا إلا بنور الهدى، وحسن الاستعداد للقاء، والدخول في أهل التقى. 

اللهم بارك لنا في أعمارنا؛ كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه.

اللهم أدِم أمنًا لهذه البلاد وبلاد المسلمين، وعجّل برفع البلاء والشدة والظلم والعدوان في فلسطين، من اكناف بيت المقدس إلى غزة ورفح، إلى الضفة الغربية، وجميع أجزاء الشام واليمن، والشرق والغرب، رُدَّ كيد المعتدين والغاصبين والظالمين والمتكبرين، والخارجين عن سَنن الدين، وعن سَنن الفطرة، وعن سَنن الإنسانية، رُدَّ كيدهم في نحورهم، واكفِ المسلمين جميع شرورهم، وحوّل الأحوال إلى أحسنها، وأيقظ قلوب المسلمين ليتهيأوا لنصرك العظيم، وفتحك المبين وردِّ كيد من ناوأهم من أعدائك وأعداء رسولك.

اجعل أعداءنا أعداء الدين كعصفٍ مأكول، يا حي يا قيوم، وأصلح شأن الأمة في المشارق والمغارب، وخذ بيد ملك هذه البلاد، ووليّ عهده، ومن يعاونهم على الخير، وعلى ما فيه رضاك وصلاح العباد والبلاد، وردَّ عنا وعنهم وعن الأمة كيد أهل الفساد، وأهل الزيغ والعناد، وأهل البعد عن طريقك الذي بعثت بها خير عبادك.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عُصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، ونسألك لكلٍّ منا صحةً في تقوى، وطول عُمرٍ في حسن عمل، ورزقًا واسعًا بلا عذابٍ ولا عتاب، وحسن خاتمة عند الموت، وحسن خاتمة عند الموت، وحسن خاتمة عند الموت.

 اجعل آخر كلام كل منا من هذه الحياة الدنيا "لا إله إلا الله"، مُتحققًا بحقائقها، واحشرنا في زمرة خواص أهلها يا رب العالمين. 

نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا واغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾

عباد الله! إن الله أمر بثلاث، ونهى عن ثلاث: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾

فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

 

تاريخ النشر الهجري

06 ربيع الأول 1446

تاريخ النشر الميلادي

09 سبتمبر 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام