(228)
(536)
(574)
(311)
خطبة جمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الرّوضة بعيديد، تريم، 24 جمادى الأولى 1442هـ بعنوان:
العلامات والعناوين الرّئيسة لفكر وأعمال كلٍّ من فريقي الجنّة والنّار
السَّلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته
الحمدُ لله ربِّ العالمين الحكيمِ العليم، غافرِ الذَّنب قابلِ التَّوب شديد العقاب ذي الطَّولِ العليِّ العظيم، وأشهدُ أن لَّا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، خلق الجنَّةَ وخلقَ لها أهلاً، فهم بعَملِ أهلِ الجنَّةِ يعملون، وخلق النّار وخلقَ لها أهلاً، فهم بعملِ أهلِ النّار يعملون، ثم قال: { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون}.
وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقُرةَ أعيننا ونورَ قلوبِنا محمّداً عبدُه ورسوله، ونبيُّه وصفيُّه وحبيبُه وخليلُه، أرسلَه بالهدى ودينِ الحقِّ ليظهرَه على الدِّينِ كلِّه ولو كرَه المشركون، فهو خاتمُ النَّبيِّين الأمين المأمون، القدوة العظمى لأهلِ الجنَّة في جميعِ ما ينوُون ويعتقدُون ويقولُون ويفعلُون.
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المُجتبى المُختار سيِّدِنا محمَّد، هادي الأنامِ إلى المنهجِ الأقومِ الأرشد، وعلى آلِه المُطهَّرين وأصحابِه الغُرِّ الميامين، وعلى مَن والاهم فيكَ واتَّبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، وعلى آبائهِ وإخوانه مِن الأنبياءِ والمرسلين، المُؤتَمَنين مِن قِبَلِكَ لإرشادِ العبادِ طريقَ الحقِّ والهُدى والدِّين، وعلى التَّوضيح والتَّبيين، وعلى آلِهم وأصحابِهم والتّابعين، وعلى ملائكتِك المُقرَّبين، وعلى جميعِ عبادِك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمين.
أما بعد.. عبادَ الله، فإنِّي أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله، تقوى اللهِ التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا عليها.
فاتَّقوا اللهَ، ومَنِ اتَّقى ربَّ العالمين ابتَعدَ عن الطُّغيان، ولم يُؤثرِ الحياةَ الدُّنيا وما فيها مِن المتاعِ الفَان، على نعيمِ البقاءِ والخُلدِ الرَّضيِّ الهَان.
أيها المؤمنون بالله: حقائقُ إليها يرجِعُ فكرُ الخلقِ وعملُهم في الحياة، وكل ما يصدرُ مِن المُكلَّفين مِن ساعةِ التَّكليف إلى حينِ الوفاة، ما بين طغيانٍ وإيثارٍ للدُّنيا، وما بين خوفٍ مِن الجبَّارِ الَّذي قُدرتُه باهرةٌ في كلِّ مخلوقٍ وفي كلِّ كائن، المتأمِّل للأكوان يهابُ الدَّيانَ الذي يُسيِّر ويُقدِّر، ويُنشئ ويُصوِّر، ويقدِّم ويؤخِّر، ويُبطِن ويُظهِر، إنَّه صاحبُ القوةِ التي لا حدَّ لها والقدرةِ التي لا حدودَ لها {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} يخافُ هذا الإله، وينهَى نفسَه عن هواها، فيعيشُ في هذه الحياةِ مُجانباً لهوَى النّفسِ مَحبةً لها وتزكية، ورفقاً بها وتَرقيَة، وحمايةً لها وحراسَة، وإسعاداً لها وخشيةً عليها مِن شقاءِ الأبد.
ألا كلُّ مَن أحبَّ نفسَه محبةَ الصِّدقِ حمَاها مِن هلاكِها، حمَاها مِن رذائلِها، حمَاها مِن خبائثِها، فإنها جُبِلت على هوايةِ الرّذائل واشتِهاءِ القاذورات المُهلكات، فيخالفُ هذه النَّفسَ إيماناً بربِّ القُدس مُستعِدّاً للمرجعِ إليه في يومٍ يظهرُ الفرقُ فيه بينَ أهلِ الطُّهر وأهلِ الرِّجس.
أيها المؤمنون بالله: إنَّ أفكارَ وأعمالَ الكفارِ والفجَّار على ظهرِ الأرضِ تنتظمُ كلُّها تحتَ هذين الأصلين، طغيانٌ وإيثارٌ للحياةِ الدُّنيا، طغيانٌ في الفكر.. كما هو عند المُلحِدين الذين يُنكرونَ خالقَهم وخالق كلِّ شيء مِن حوالیهم، وهم يوقنون أنه لا يتكوَّن مُكوَّنٌ إلَّا بمكوِّن، ولا يَحدثُ حدثٌ إلّا بمُحدِث، ثم يُنكرون إحداثَ وإيجادَ الخالقِ القويِّ القادرِ لهم وللسماوات والأرضين وما فيها وما بينَهن، طغيانٌ في الكُفرِ يتناقضُ مع العقل في مبادئه، فمبدأ العقل يُنكرُ أن يكونَ الكونُ بلا مكوِّن والمخلوق بلا خالق والوجود بلا موجِد، أول مُسكة مِن العقل تحكمُ بهذا.. فيطغى هذا الإنسان ويُلحد، ويعاند ويجحد، ويتبعه أنواعُ الطّغيان في الفكرِ الذي يؤدِّي إلى الظّلم، وإلى احتقارِ أصنافٍ مِن خلقِ الله، وأمثالٍ له مِن جِنسه خلقَهم الله تبارك وتعالى على ظهرِ هذه الأرض، ويتبع ذلك طغيانُ العمل، طغيان في التّعامل، ويرتكزُ في إيثار الفاني دون الباقي، وإيثارُ الحقير دون الكبير، وإيثار الحياة الدّنيا بمظاهرها، مالاً وجاهاً وشُهرةً، وسُلطةً وحكماً، وقضاءً للأغراض الدَّنيئة، هذه العناوين الرَّئيسةُ لأعمالِهم على ظهرِ الأرض، يتصرَّفون تحتَها، ولقد خلق اللهُ النَّارَ وخلقَ لها أهلاً فهم بعَملِ أهلِ النَّارِ يعملون، وما عملُ أهلِ النّارِ إلا فسوقٌ في طغيانٍ وإيثارٍ لدارِ الزَّوال ودارِ الغرور.
هذه أعمالُ أهل النَّار.. يقضونَ الشَّهواتِ الحقيرات، على حسابِ القِيَمِ والدِّيانة، وعلى حسابِ الحُرمَةِ والصِّيانة، وعلى حسابِ منهاجِ الخالقِ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ لِحكمة، جلّ جلاله وتعالى في علاه، أولئك الطَّاغونَ المُؤثِرُون للحياةِ الدُّنيا فهي مبلَغُهم مِن العلم، لا يريدون إلا هي ولا يفكِّرون إلا فيها، ولا ينظرون إلا إلى لَهوِها ولَعبِها ومُتعِها، هذا عنوانُ أهل النّار، عناوينُ عملِ أهلِ النَّار كما أنبأ الجبّار جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
ويرتكزُ فِكرُ مَن هدى اللهُ ممَّن خلقَهم للجنّة وجعلهم أهلَ الجنّة، يرتكزُ على أمرَين اثنين: خشية الجبّار القديرِ الخالق، والخوف منه، إجلالاً وهيبةً وتعظيماً، ومحبةً لهُ لإنعامِه وإفضالِه ولإحسانِه وامتِنانِه، ولكَمالِه وجلاله، ولأنَّه المُستحِقُّ للمحبةِ بكلِّ معانيها، إذ هو المُوجِدُ المُنعمُ المُتفضِّل، المُحسنُ المُدیمُ النِّعم، الدَّافع النِّقَم، الذّي له الجمالُ كلُّه وله الكمالُ كله، وإليه مرجعُ الأمرُ كلُّه، جلّ جلاله وتعالى في علاه.
يهابونَ هذا الإله محبةً وتعظيماً، ويستعدون للقاه فيشتغلونَ في مِضمارِ نَهيِ الأنفُسِ عن الأهواء.. هذا عنوانُهم، هذا عنوانُ عملِ أهل الجنّة، فهم بعملِ أهلِ الجنَّة يعملون، ينهونَ النُّفوسَ عن أهوائها، ويزكُّونَها بمنهاجِ خالقِها الذي أقسمَ بمظاهرِ إيجادِه الكائنات بأصنافِها أنَّه يفوزُ ويُفلحُ كلُّ مَن زكَّى هذه النَّفس، ويخيبُ مَن دسَّاها { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } يكفيك قسمٌ من الله الحقِّ، الذي لا يقول إلا الحقَّ أم لا ؟
{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا } ما يكفيك ؟.. { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } ما يكفيك ؟.. الله يُقسم يحلف بهذه الكائنات التي خلقَها { وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على ماذا يحلفُ ربُّنا؟ ما هذا الخبر الذي أقسمَ فيه { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } فيا طالباً الفلاحَ مِن غيرِ تَزكيةِ النَّفس، ما أغفلَك! وما أجهلَك! وما أتعبَك! ولم تُدركِ الفلاحَ مِن غيرِ تزكيةِ النَّفس { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } فيا فارّاً مِن الخيبةِ وهو يعطِي النَّفسَ هواها في الخيبةِ وقعت.. وإلى السُّوء وصلت، وفي البلاء ارتطَمت { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } خابَ مَن دسَّى هذه النَّفس وأهلكَها باتباعِ هواها، قال الله وهو يوحي إلى نبيٍّ من الأنبياء: { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }.
أيها المؤمن بالله: اُخرُج مِن الجمعة وأنتَ ذاكرٌ ليومِ الحساب، وأنت تهابُ وتخافُ ربَّ الأرباب، وعنوانُ انطلاقِ عملِك في الحياة، نهيٌ للنَّفسِ عن هواها، فيكون عنوان أنَّك مِن أهل الجنّة وفي مسلكِها تسلُك، ولا تسقطُ في النّار ولا فيها مع مَن هلَك تهلِك.
أيها المؤمن بالله جلّ جلاله: وإنَّ مِن مظاهرِ الطّغيان وعناوينِه الطُّغيان في اتخاذِ القُدوات، فإنَّ اتخاذَ القدواتِ علامةٌ لشأنِ هوى النَّفس، أهو مُتَّبعٌ مُنقادٌ إليه أم هي مُزكَّاةٌ مؤدَّبةٌ تجعلُ هَواها تَبعاً لأمرِ ربِّها، الذي لا مجلَى له إلا في رسالةِ المرسلين ونبوَّة النَّبيين صلواتُ الله وسلامه عليهم.
وفي ذلك يقول سيدُنا النَّبيِّ المصطفى: "لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعًا لما جئت به" ومن لم يكُن هواه تبعاً للحقّ فإنَّ قدوتَه غيرُ الحقّ، ويقتدي في الحياة في فكرِه وطريقةِ تفكيره، في زيِّه ومنطقِه، في أخذِه وعطائه، في حركتِه في الحياة، إما بالهوى وهو الرّأس، وهو بذلك مقتدٍ بمَن قبلَه مِن أتباعِ الهوى، ومِن أوَّلِهم العدو الذي اكتَنَّ باطنُه على العداوةِ لبني آدمَ بكلِّ إمكانيَّاته وهو إبليس، تابعُ الهوى، الذي رفضَ السّجود لآدمَ عليه السّلام، فتَابعُ الهوى، وكلُّ مُقتدٍ بهواه ومتّبعٍ لهواه فمقتدٍ بإبليس.
وهكذا مضى أهلُ الانحراف والزّيغ، حتى قالَ الله في إنسان في بني إسرائيل كان عندَه علم، وكان عنده مظهرُ عبادة، وكان عنده مظهرُ إجابةٍ للدعاء، آتاه اللهُ الآيات فأغُريَ وأغُويَ حتى اتَّبعَ هواه، وأخذ يدعو على النَّبي موسى لينتصرَ جيشُ الكفارِ على سيِّدنا موسى، فأنزلَ اللهُ في شأنه: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
فتفكَّر أيها المؤمن.. تفكيراً بعيداً فيه عن الطُّغيان، تفكَّرْ تفكيرَ المُستوِي المُعتدِل، المُنصِفِ العاقل الواعي، أحسِن الفكرَة، فإلى ذاك دعاك ربُّك الذي خلقَ عقلَك، وخلق لك الفكرَ بعقلك، وأرسلَ الرُّسلَ ليُقوِّموا طريقةَ تفكيرك حتى لا تطغَى في الفكر، ثم لا تطغَى في القولِ ولا في العمل، وتنهَى هذه النَّفسَ عن هواها وتخشَى ربَّها ومولاها وتتهيأ للقاه تعالى في علاه.
أيها المؤمن بالله: حقائقُ يجبُ أن لا تغيبَ عن ذهنِك، وأن تحضُرَ في قلبِكَ وفَهمِك وفكرِك وعقلِك، حقائق المسار، اتِّخاذ القدوات.. الخللُ الكبيرُ الذي وقع في الأمة، صاروا في كثيرٍ مِن ديارِ المسلمين وبيوتِهم ومناسباتِهم، القدوة في كثيرٍ مِن شؤونِهم وأحوالِهم إما يهودي وإما نصراني، وإما فاجر كافر وإما ملحد. طريقة الأغاني، طريقة المجون، طريقة الحركاتِ الغيرِ اللائقة والمُثيرة للشهوات مَن القدوةُ فيها؟ مَن القدوةُ فيها ؟ كيف يحبُّها مسلم ؟ كيف يحبُّها مؤمن ؟ كيف يحبُّها مَن يصدِّق باليومِ الآخر ؟ كيف يحبُّها من شُرِّفَ بالتبعيَّة للنَّبي الطَّاهر صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، بين الرِّجال وبينَ النّساء، وهذه الإنهياراتُ والإنحداراتُ والإنحطاطاتُ التي أصابتِ المسلمين في كثيرٍ من أنحاء حياتهم بفسادِ القدوة، وفسادُ القدوةِ خللٌ في حقائقِ الإيمان، خللٌ في حقائقِ اليقين، خللٌ في تحقيقِ شهادةِ أن لَّا إله إلا الله وأنَّ محمّداً رسولُ الله، القدوةُ التي اختارَها اللهُ للعالمين، صلِّ يا ربِّ عليه وثبِّتنا على دربِه، واجعله مُقتدانا في ظواهرِنا وخفايانا، وارزقنا طاعتَه لنُفلح، وأدخِلنا في دوائرِ مَن يسعدُ ويُنجِح برحمتَك يا أرحم الرّاحمين.
والله يقول وقوله الحقّ المبين: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وقال تبارك وتعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }. أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }.
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، ثبَّتَنا على الصِّراط المستقيم وأجارَنا مِن خزيِه وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفروه إنَّه الغفور الرحيم.
الحمدُ للهِ القويِّ القادِر، العزيزِ الغافر، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، المنفردُ بالحكمِ بين جميعِ الأوَّلين والآخِرين في اليومِ الآخر، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمَّداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وصفيُّه النَّقي الطَّاهر، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيِّدِنا محمَّد وعلى آلِه الأطاهر وأصحابِه الأكابر، ومَن على منهاجِهم سائر، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين أهلِ المقامِ العليِّ الفاخر، وعلى آلِهم وصحبهم وأتباعِهم والملائكةِ المقرَّبين وعبادِك الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
أما بعد، عبادَ الله.. فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتَّقوه وأَبعِدوا مظاهرِ الطُّغيان مِن أفكارِكم، وأبعِدوا مظاهرَ الطُّغيان وإيثارَ الحياة الدُّنيا مِن ديارِكم ومناسباتِكم وعاداتِكم، فلا يحقُّ لمجتمعاتِ الإيمانِ أن تَبنيَ عاداتِها ولا أعرافَها، ولا حركتَها في الحياةِ إلا على نورانيَّة الوحيِ المُنزّل وبلاغِ النّبي المُرسَل، وكفَاها بذلك شرفاً واعتلاءً وارتفاعاً وارتقاءً، فوق فكرِ كلِّ مفكِّرٍ على ظهرِ الأرض مِن عَبدَةِ الهوى وعبدةِ الأنفس الأمَّارة، ويا عجباً! مِن طغيان القدوات حتى ينشأَ بين المسلمين الاقتداءُ والتشبُّه بأربابِ الفجورِ والفسوقِ في كثيرٍ مِن شؤونِ حياتِهم في الحياةِ الدُّنيا، أيبتغونَ عندَهم العزَّة، فإنَّ العزَّةَ لله جميعاً { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ } يقول نبيًّنا المصطفى: "مَن تَشبَّه بقومٍ فهو منهم".
أيها المؤمنون بالله: القدوةُ التي اختارَها ربُّ الأرض والسماء محمَّدُ الأسمى، والأنبياء والمرسلون وأولئك الذين هدى اللهُ وبهداهم اقتده، { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ }، قال { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ }، فاختارهَم قدوةً لمَن بعدَهم ولمَن وراءَهم فهل تغيِّر هذه القدوةَ طغياناً، وتنصبُ لك قدوةَ رِجس وقدوةَ فسق، وقدوةَ أفرادٍ لم يعرفوا اللهَ ولم ينظرِ اللهُ إليهم، لم يركعْ أحدُهم ركعةً للهِ طولَ عمرِه، ولدُك يتشبّه به، ولدك يتزيَّى بزيِّه، وأنت غافل يا غافل ! أترضى بهذا ؟ أتتخذ هذا قدوة وهو مِن حطبِ جهنّم ووَقودها إذ وَقودُها النّاسُ والحجارة، هذا واحدٌ مِن وقودِ جهنَّم كيف تَحوَّلَ قدوةً وسط دارِك وأنت مسلم؟! وسط أسرتك وأنت المؤمن.
يا أيها المؤمن: دعِ الطُّغيان في القدوة، واقتدِ بمَن هو خيرُ أسوة { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } اجعلنا منهم يا ربَّ العالمين.. آمين. واخرُج من الجمعة بقلب مجتمع على عنوان الجنّة { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } اعمل على خشيةِ الله ونَهيِ النفسِ عن هواها وأبشِر بحُسنِ المصير، وأبشِر بحسنِ المنقلب.
اللهم اكفِنا شرَّ الشّياطين وشرَّ الفاجرين والكافرين والمُفسدين على ظهرِ الأرض، ولا تجعل لهم صولةً على أفكارِنا ولا عقولِنا ولا على شبابِنا، ولا على أبنائنا ولا على بناتِنا، واجعل هوانا تبعاً لما جاءَ به نبيُّك، وارزقنا خشيتَك ونهيَ النَّفسِ عن هواها برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين وجُودِك يا أجودَ الأجودين.
وأكثروا الصلاةَ والسلام على خيرِ إمام، جاهدَ في اللهِ حقَّ جهاده، فلا يفعلُ عن هوى { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَىٰ } ذلكمُ المعصومُ الطّاهر محمَّد.. صلّوا عليه يصلِّ عليكُم ربُّكم بكلِّ صلاةٍ عشرَ صلوات، صلّوا عليه تكونوا منه قريبين يومَ الميقات، صلُّوا عليه تنالوا كريمَ الشّفاعات، فإنَّ أولى النَّاس به يومَ القيامةِ أكثرهُم عليه صلاة، واسمَعوا أمراً مِن ربِّ العرشِ تعالى في علاه، بدأ بنفسِه وثنَّى بالملائكة وأيَّهَ بالمؤمنين، فقال مُخبراً وآمراً لهم تكريماً {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
اللّهم صلّ وسلّم على عبدِك الهادي إليك والدَّال عليك سيِّدِنا محمّد، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مؤازرِ رسولِك في حالَيِ السَّعةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكر الصِّديق، وعلى النَّاطق بالصَّواب، شهيدِ المحراب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عمر بن الخطاب، وعلى مُحيِي اللَّيالي بتلاوةِ القرآن، مَن استحيَت منه ملائكةُ الرَّحمن، أمير المؤمنين ذي النّورين سيّدنا عثمان بن عفان، وعلى أخِ النّبي المصطفى وابن عمّه ووليِّه وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيّدنا علي بنِ أبي طالب، وعلى الحسنِ والحسين سيدَي شبابِ أهلِ الجنّة في الجنّة، وريحانةِ نبيِّك بنصِّ السُّنة، وعلى أمِّهم الحوراء فاطمةَ البتولِ الزَّهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضا، وأمهات المؤمنين وبناتِه الطَّاهرات، وعلى أهلِ بدرٍ وأهل أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وعلى أهلِ بيعةِ العقبةِ وسائرِ أصحابِ نبيِّك المصطفى وأهلِ بيتِه الأطهار، وعلى مَن تَبعَهم بإحسان إلى يومِ الدِّين، وعلينا معَهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصرِ المسلمين، اللهم أذلَّ الشِّركَ والمشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدِّين، اللهم اجمَع شملَ المسلمين، اللهم ألِّف ذاتَ بينِهم، اللهمَّ إنَّ الطُّغيانَ وإيثارَ الحياةِ الدُّنيا سُلِّطَ على الأعدادِ الكبيرةِ منهم كفاراً وأشراراً، قادُوهم إلى إيثارِ الفانيات وإلى ضَربِ بعضِهم البعض، وإلى الإيقاعِ ببعضِهم البعض، وإلى تهديمِ كلِّ أبنيتِهم وكلِّ ثرواتِهم ومكاسبِهم الظَّاهرة والباطنة، اللهم فارفَع سلطة َأعدائك عن المسلمين، بهدايةِ المسلمين إلى طريقِ الحقِّ والهدى والدِّين القَويم.
اللهمَّ فرِّج الكروبَ وادفع الخطوب، وألِّف ذاتَ البَين، واحقِن دماءَ المسلمين واعصِم اللَّهم أعراضَهم وأموالَهم، وألهِمهم الرُّشد، واجعل هواهم تبعاً لما جاء به خاتمُ النُّبوة والرِّسالة، وادفعِ البلايا والآفات عنهم، واجعلنا ننصرفُ مِن الجمعةِ أسباباً مِن أسبابِ النورِ والهدى والتّقوى والبِر، والصَّلاح والفلاحِ ونشرِ الخيرِ في البريَّة في بيوتِنا وفي أُسرِنا وفي ما حوالَينا وفي بلدانِنا، وفي مَن يجالسُنا بالدَّلالةِ على الخيرِ والحقِّ والهدى فيما تحبُّ وترضَى، يا أكرمَ الأكرمين.
واغفر لنا ووالِدينا ومشائخِنا وذوي الحقوقِ علينا بمغفرتِك الواسعة، حتى لا تدَعَ لأحدٍ منّا ومنهم ذنباً إلا غفرتَه، ولا سيئةً إلا تجاوزتَ عنها وبدَّلتَها إلى حسنة، ولا تَبِعةٍ إلا تحمَّلتَها وبدَّلتها إلى حسَنة.
اللهم تحمَّل عنا التَّبِعات وبدِّل السّيئاتِ حسنات، وتُب علينا في جمعتِنا توبةً نصوحا، تزكِّينا بها قلباً وجسماً وروحاً، وتجعل لنا فيها القدوةَ عبدَكَ المصطفى وآلَه وصحابتَه، وخيارَ عبادِك منِ النَّبيِّين والصِّدِّيقين وتابعِيهم بإحسان مِن العلماءِ العاملين العارفين، الخاشعين الخاضعين الأتقياء، برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمين، ألحِقنا بالصَّادقين واجعَلنا مع الصَّادقين، واحشُرنا مع الصَّادقين في يومٍ قلتَ عنه {يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ}.
اللهم وأعِذنا مِن موجباتِ الخِزيِ والنّدامة، في الدُّنيا والبرزخِ ويومَ القيامة، واخلَع علينا خِلَعَ البِرِّ والتَّقوى والكرامة، وتولَّنا بما أنتَ أهلُه يا حيُّ يا قيُّوم، يا أرحمَ الرّاحمين.
نسألكَ لنا وللأمةِ مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُكَ ونبيَّك سيِّدُنا محمَّد، ونعوذُ بكَ ممَّا استعاذَكَ منه عبدُكَ ونبيُّك سيِّدُنا محمَّد، وأنتَ المستعان وعليكَ البلاغُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العلي العظيم { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }،
{ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }.
عبادَ الله.. إنَّ اللهَ أمرَ بثلاثٍ ونهی عن ثلاث:
( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) فاذكرُوا اللهُ العظيمَ يذكُرْكُم واشكُروه على نِعَمِه يَزِدْكُم، ولَذِكرُ اللهِ أكبر.
25 جمادى الأول 1442