الترابط بين: الإيمان والعمل الصالح والوصف الحميد، وآثار ذلك
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع تاربة، بوادي حضرموت 28 ربيع الثاني 1443هـ، بعنوان: الترابط بين: الإيمان والعمل الصالح والوصف الحميد، وآثار ذلك.
الخطبة الأولى:
الحمد لله منوِّرِ قلوبِ المؤمنين بأنوارِ الإيمان واليقينِ والمعرفةِ الخاصَّة والمحبَّة الخالصة، وأشهدُ أن لَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له وليُّ المتقين، يجمعُ الخلائقَ للحكمِ بينهم، وهو الذي لا مُعَقِّبَ لحُكمِه في يومِ الدين، وفائزٌ برحمته ورضاه يُخَلَّدُ في جنَّاتِ النَّعيم، وواقِعٌ في سخطِه وغضبِه بكُفر وفسقٍ وعصيان فمآواه الجحيم، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه، إمامُ المتقين وسيِّدُ المرسلين، وخاتم النبيين، المجتبى المصطفى الأمين. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك الهادي إليك والدالِّ عليك أكرمِ الخلقِ عليك عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، وعلى آلِه الأطهار وأصحابِه الأخيار، ومَن والاهم فيك وعلى منهاجِهم سار، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين معادنِ الأنوار، وعلى آلهم وصحبِهم وتابعيهم والملائكةِ المقرَّبين وجميعِ عبادِ الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد.. عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله.. تقوى الله التي لا يَقبلُ غيرَها، ولا يَرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيبُ إلا عليها. وإنَّ الواعظين بها كثير وإنَّ العاملين بها قليل ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
أيها المؤمن بالله -جلَّ جلاله-: يُدرِكُ المؤمنُ قوةَ ارتباطِ الإيمانِ بالعمل، ومِن عملِ الإنسان: قولُه، وكلامُه، وما يصدرُ مِن بين شفتيه؛ فهذه الأقوال مع بقيَّةِ الأعمال مِن جميع الجوارحِ قويةُ الرَّبطِ بالإيمان، تُعَبِّرُ عن قوةِ الإيمان وضعفِه، وعن وجودِه وعدمِه.
وبذلك سمعنا صاحبَ الرسالة يقول عن الذي يتجرَّأ على أنواعٍ مِن الكبائر أنه لا يكون في تلك الحالة مِن المؤمنين، فيقول صلى الله عليه وسلم: (لا يسرقُ السارقُ حينَ يسرقُ وهو مؤمن، ولا يزنِي الزاني وهو يزني وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمرة حين يشربُها وهو مؤمن، ولا يَنتَهِبُ نُهْبَةً يرفع الناس إليها فيهم أبصارَهم وهو مؤمن).
ثم يُنبِّئنا عن أخلاقٍ وصفاتٍ تتناقض مع الإيمان، فيقول: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن) مَن هو يا رسول الله؟ قال: (مَن لا يأمَنُ جاره بوائقه) ما يطمئن الجار ولا يأمن مِن بوائقه، يعني مِن شروره ودخيلته وضُرِّه وكذبه وآذاه ،مَن لا يأمنُ جارُه بوائقَه ليس من المؤمنين. و: (ليس مِن المؤمنين مَن مات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائع وهو يعلم به)
فهكذا جاءتنا السنةُ الكريمة مُبيَّنةً لنا أنه لا يمكن ترجمة الإيمان إلا بصالحِ الأعمال، وحَسَن الصفات وجميلها وحميدها.
و: (أكملُ المؤمنين إيمانا أحسنُهم خُلُقا).
و: (لا يؤمن أحدُكم حتى يكونَ هواه تَبَعَاً لما جئتُ به).
لا يُحَكِّم العادة ولا العرف ولا الجماعة ولا الهيئة ولا الحزب ولا القبيلة ولا الصغير ولا الكبير على أمرِ الله؛ فأمرُ الله ورسوله مُقَدَّم، يلتزمُ ما أمرَه الله، ويجتنب ما نهاه الله عنه، في عاداته، في لباساته، في كلماته، في مناسباته، ويحبُّ ما أحبَّ اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن تًكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا﴾
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾
هنا الفلاح والفوز على الحقيقة أيها المؤمن. فحقِّق إيمانَك، فما مقصودُ حضورِك إلى الجمعة إلا أن تزدادَ إيمانا، وأن تُحَقِّق الإيمانَ في أعمالِك ومسارِك في هذه الحياة الدنيا، فإنَّ الأعمالَ حَسَنُها وصالحُها وعبادتُها وطاعتُها تصدرُ عن الإيمانِ ويقوى بها الإيمانُ ويزداد ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.
وأغلى شيء في حياتِك إذا عَقَلْتَ الإيمان. لو نُزِعَ من قلبك فمُتَّ وكنت مُخَلَّداً في نار الجحيم لا ينفعُك صغيرٌ ولا كبيرٌ ولا أميرٌ ولا وزيرٌ ولا شيءٌ مما اكتسبتَ في الدنيا، فبئسَ المآلُ إلى جهنمَ وبئس المصير.
الإيمان أغلى ما تملكُ في الحياةِ الدنيا، وأعظم ما وهبَ اللهُ عبادَه، حافِظ عليه، انتبِه منه، أَحسِن ترجمتَه بالأعمال الصالحات؛ فإنَّ المؤمنَ ذو حياء، وإنَّ المؤمنَ ذو رأفةٍ ورحمةٍ بعباد الله جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
تحقَّق بحقائقِ الإيمان، فمِن أقوى العلامات ما قال خاتمُ الرِّسَالات: (المؤمن مَن أمنَه الناسُ على دمائهم وأموالهم وأعراضِهم). يأمنُه القريبُ والبعيد، يأمنُه المسلمُ والكافر -فضلاً عن الجار، فضلاً عن ذي الرحم- لا يخونُه في نفسِه ولا مالِه ولا أهلِه ولا ولدِه ولا عِرضِه ولا شيء مِن شؤونِه..
(المؤمن مَن أمنَه الناسُ على دمائهِم وأموالِهم وأعراضِهم) فذلكم المؤمن، لا يُخشَى منه مكر، ولا خداع، ولا كذب، ولا حيلة، ولا إيصال ضُرٍّ وإيصال شَر.
كذلك كان يتحقَّق أيها المؤمن بالله جل جلاله وتعالى في علاه، احذر أن تكتفيَ بأن ترى نفسَك مؤدِّيَا للفرائضِ الخمس وحضورك فيها قليل ولصلاة الجمعة ثم لا تتفَقَّد خِلَالَك وأوصافَك وأقوالك، ولمَّا سُئل النبي: أتصدرُ بعضُ المعاصي من المؤمن؟ قال: (قد يكون ويتوب)، فقيل له: أيكذب المؤمن؟ قال لا! قال لا يكذب المؤمن.
فاعجَب لهذا الذي في كلِّ يومٍ يكذب ويعُدُّ نفسَه مِن خيارِ المؤمنين! يا مغالط نفسك! يا ضاحك على نفسك! ما هذا الإيمان؟ خَلِّص نفسَك من هذه البليَّة (فإنَّ المؤمنَ لا يكذب) عندما قال النبيُّ هذا تلَا هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾.
ولذا قال الصحابة: "ما كنا نتَّهم بالكذب إلا منافق". ولو صدرت كذبة مِن أحدٍ تغيَّر عليه صلى الله عليه وسلم ولم يرووا عنه حتى يرى إقلاعَه عن هذا الوصف الخبيث!
كم تساهلَ الناسُ رجال ونساء! بعض الأسرة.. الزوج والزوجة والابن والبنت يتربَّون على الكذب وكل يوم يكذبون! فأين الإيمان؟!
(ولا يزال الرجلُ يكذب ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتبَ عند الله كذابا) فإذا كُتِبَ عند الله كذاباً فعليه اللعنة ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلى الكاذِبِينَ﴾ والعياذ بالله تبارك وتعالى-
اصدُق في حديثِك وقولِك، واصدُق في عملك، واصدُق في نيَّتك، واصدُق مع الله ﴿قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ أي يوم؟ يوم الحكم. حكم على مَن؟ علي وعليك وعلى كُلِّ مُكَلَّف، على كلِّ مَن وصلتهُ الدعوةُ إليه وهو عاقل، عليه يكونُ الحكمُ ذاك اليوم..
مِن قِبَل مَن؟ من قبل دولة كبرى؟ الأمر أكبرُ مِن ذلك! مِن قِبَل الأمم المتحدة؟ الأمرُ أكبرُ مِن ذلك! مِن قِبَل مخابرات؟ الأمرُ أكبرُ مِن ذلك!
من قِبَلِ جبارِ السماواتِ والأرض عالمِ السِّرِّ وأخفَى مَن بيدِه ملكوتُ كلِّ شيء يحكمُ بين عبادِه في ذاك اليوم، يكون الحكمُ في ذاك اليوم، ولا مُعَقِّبَ لحكمِ ربِّك العليِّ العظيم -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
فاصدُق مع الله ﴿قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ۚ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
اللهم حقِّقنا بحقائقِ الإيمان، اللهم احفظ علينا الإيمانَ وزِدنا إيمانا، وتوفَّنا مؤمنين وألحِقنا بالمؤمنين والصالحين وأنت راضٍ عنَّا برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أعِذنا مِن كُلِّ ما يُنقِص الإيمانَ ويُضعِف الإيمانَ مِن الأقوالِ والأفعالِ والمناظرِ المحرمات، وارزقنا الاقتداءَ بخيرِ البرياتِ في جميعِ النِّيَّات والأقوالِ والأفعالِ والحركاتِ والسكناتِ يا عالمَ الظواهرِ والخفيَّات يا ربَّ الأرضين والسماوات يا ربَّ العالمين.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
وقال تباركَ وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم﴾
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ * ۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيْئًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمۡ يَرۡتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ * قُلۡ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمۡ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ * يَمُنُّونَ عَلَيۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُواْۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسۡلَٰمَكُمۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِيمَٰنِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾
﴿إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا يزيدُنا به اللهُ إيمانا، ونشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له اعترافًا واعتقادًا وإيقانا، ونشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أوضحُ الخلائق حُجَّةً وأصدقُهم لسانًا وأعظمُهم بياناً وأرجحُهم ميزانا. اللهم أدِم صلواتِك على المصطفى محمدٍ مَن رفعتَ له قدراً ومكانا، وعلى آلِه الأطهارِ وأصحابِه الأخيار، ومَن والاهم فيك واتَّبعَ سبيلَهم سِرَّاً وإعلانا، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين الذين عظَّمتَ لهم شأنا، وآلِهم وصحبِهم وتابعيهم وملائكتِك المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عباد الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله..
فاتَّقوا اللهً لتأخذوا نصيبَكم مِن الجمعة، فما شُرِعَت إلا لتزدادوا إيمانًا وتُحَقِّقوا الإيمان، وهي الفريضةُ التي مَن تركَها مُتهاوناً ثلاثةَ أسابيع طَبَعَ اللهُ على قلبِه بطابعِ النفاق (مَن تركَ ثلاثَ جُمَعٍ تهاوناً بها طبعَ اللهُ على قلبِه بطابعِ النفاق) -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، فاتقوا اللهَ في جُمعتِكم.
جمعكُم لتَتذكَّروا، ولتَتبصَّروا، ولتَتدبَّروا، ولتَتنوَّروا، ولتَتطهَّروا، لا لتحضرُوا بأجسادِكم ثم تنصرفون، حاشا اللهُ أن يكونَ في تشريعٍ صورةً وعبثاً ولعبا؛ إنما فرض الجمعةِ لنتطهَّر، لنتنوَّر، لنتدبَّر، لنتفكَّر﴿ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
أيها المؤمنون: يقول صاحبُ الرسالة: (مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) يتكلم بخير أو يسكت. قال له بعضُ أصحابه: أوصني يا رسولَ الله؟ قال: (هل تملكُ لسانَك؟) قال وماذا أملكُ إذا لم أملك لساني يا رسول الله! قال صلى الله عليه وصحبه وسلم: (أتملكُ ما بين رجليك؟) قال: يا رسول الله وماذا أملكُ إذا لم أملكْ ما بين رجلي؟! قال: (فاحفظ ما بين رجليك، وصُن لسانَك إلا مِن خيرٍ أضمن لك على اللهِ في الجنة).
(صُن لسانَك إلا مِن خير).
قال لسيدِنا معاذٍ كما جاء في الحديث الصحيح: (ألا أخبرُكَ بِمِلَاكِ ذلك كلِّه؟) قلت: بلى يا رسولَ الله، فأخذ بلسانِ نفسِه وقال: (كُفَّ عليك هذا) قال يا رسولَ الله وإنا لمُؤاخَذُون بما نتكلمُ به؟ قال: (ثكلتكَ أمُّك يا معاذ، وهل يكبُّ الناسَ على مناخرِهم إلا حصائدُ ألسنتهم)!
(مَن كان يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِر فليُكرمْ جارَه)
(لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ وباليومِ الآخِر أن تسافرَ إلا مع زوجٍ أو ذي محرم)
الأعمالٌ مربوطةٌ بالإيمان، والإيمانُ مربوطٌ بالأعمال.
وكم تسمع ربَّك وسطَ القرآن كلَّما ذكرَ الإيمانَ ذكرَ العملَ الصالح ﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾ ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾
إيمانٌ وعملٌ صالح؛ لا ترجمةَ للإيمانِ إلا بضبطِ العملِ الصالح.
أما التي تسافرُ مدَّعيةً تَقدُّمَها وتطوُّرَها وحرِّيتَها بلا زوجٍ ولا محرمٍ ثم تقول إنها مؤمنة.. فهي مؤمنةٌ بشهواتِها وآفاتِها وبعضِ دعاةِ الشرِّ في زمانِها، ليست مؤمنةً بالله ولا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم! فكيف إذا كانت في شبابِها تُبتعَث إلى بلدٍ غيرِ بلدِها؟! فكيف إذا كان إلى بلدِ الكفار؟!
وإنَّ الأجيالَ الذين ابتِعثُوا هناك -وإن حفظَ اللهُ الكثيرَ منهم، وبعضُهم تاب وأناب أو ازدادَ معرفةً بالإيمان- ولكنَّ الأكثر كانوا هم بذورُ الإلحادِ في دولٍ مَن حواليكم، هذه الدول مِن حواليكم التي ظهرَ فيها الإلحادُ والتكذيبُ بالله ورسولِه والدين كلِّه.. كان بذورُهم هؤلاء الذين ابتُعِثُوا هؤلاء رجال ونساء.. إلى أمريكا وإلى فرنسا وإلى أوروبا وغيرها، وكان ما كانَ مِن كذبٍ وخداعٍ عليهم حتى عادوا إلى بلدانِهم بفكرٍ غيرِ الفكرِ، ونظرٍ غير النظر، صِيغَ لهم بأيدي عدوِّهم وكانَ بذورَ الإلحاد في بلادِ المسلمين!
أيها المؤمنون: عُوا أمرَ الله، وعظِّموا شريعتَه، وترجِمُوا عن إيمانِكم باستقامَة والتزام، واتباعٍ لخيرِ الأنام ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
شرحَ الله صدورَنا، وملأنا بالإيمانِ واليقينِ والإخلاص، ورزقَنا تحقيقَ الإيمانِ بالعمل، وزادَنا إيماناً حتى يتوفَّانا على أكملِ الإيمان، إنه أكرمُ الأكرمين.
وأكثرُوا الصلاةَ والسلامَ على معدنِ الإيمان وسيِّد أهلِه عبدِ الله محمد، فإنَّ ربَّ العرش يصلي على كُلِّ مَن صلَّى على نبيِّه في المرةِ الواحدةِ عشرَ صلوات، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أولى الناس به يوم القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة).
ولقد أمرنا اللهُ بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه وثنَّى بالملائكة، وأيَّه بالمؤمنين فقال مُخبِراً وآمراً لهم تَكرِيمَاً: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المختار نورِ الأنوار وسرِّ الأسرار سيدِنا محمد، وعلى صاحبِه وأنيسه في الغار، مؤازرِ رسولِ الله في حاليِ السَّعَةِ والضيق، خليفةِ رسولِ الله سيِّدِنا أبي بكر الصِّديق، وعلى النَّاطقِ بالصَّواب، حَليفِ المِحرَاب، نَاشِرِ العَدلِ في الآفاق، الحليمِ الأوَّاب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عمرِ بن الخطاب، وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، ومُنفِق الأموالِ ابتغاءَ وجهِ الرحمن، مَن استحيَت منه الملائكةُ الحِسَان، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخي النَّبِيِّ المصطفى وابنِ عَمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمه، لَيْثِ بني غالب، إمَامِ أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيِّدِنا عليِّ بنِ أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيدَي شبابِ أهلِ الجنةِ في الجنة وريحانتَي نبيِّك بنصِّ السنَّة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضا، وعلى الحمزَةَ والعبَّاس، وسائرِ أهل بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبة وأهل بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وعلى سائرِ الصَّحبِ الأكرمين، وآل بيتِ نبيِّك الطاهرين، وعلى جميعِ الأنبياءِ والمرسلين، والملائكةِ المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ وانصرِ المسلمين، اللهم أَذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أَعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دَمِّر أعداءَ الدين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، اللهم ألِّف ذاتَ بينهم، اللهم ادفعِ الآفاتِ والرَّزَايَا عنهم، اللهم حوِّل أحوالَهم إلى أحسنِ الأحوال، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احفظ أموالَهم، اللهم صُن أعراضَهم، اللهم ارفع عنهم سلطةَ الكفار والفجار، اللهم حوِّل أحوالَهم إلى أحسنِ الأحوال والأطوار.
يا مَن بيدِه الأمرُ كلُّه، يا قويُّ يا متين، يا عزيز يا غفَّار.. لا إلهَ لا أنت سبحانكَ فرِّج كروبَنا والمسلمين وادفعِ البلاءَ عنَّا والمؤمنين، ولا تصرِف أحداً مِن الجمعةِ إلا بقلبٍ منوَّرٍ بأنوارِ الإيمان واليقين، مُقبلٍ عليكَ يخافُ عذابَك ويرجو رحمتَك ويرجو مرافقةَ نبيِّك في دارِ الكرامة.
اللهم ثبِّتنا على متابعةِ هذا المصطفى في كلِّ ظاهرٍ وفي كُلِّ خفا، وارزقنا الاقتداءَ والاقتفاء، اللهم وأصلِح شؤونَ الأمة، واكشفِ الغُمَّة، وأجلِ الظلمة، وادفعِ النِّقمة، وابسط بساطَ الرحمة، وعامِل بما أنت أهلُه يا وليَّ النعمة يا حيُّ يا قيومُ يا أرحمَ الراحمين.
واغفِر لآبائنا وأمهاتِنا، والمتقدِّمين في مساجدِنا وبيوتِنا، واجمَعنا بهم في دارِ الكرامةِ وأنتَ راضٍ عنَّا برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين. واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، واغفِر خطايانا، وبدِّل سيئاتِنا إلى حسناتٍ تامَّات موصلات، وتُب علينا توبةً نصوحا زكِّنا بها قلباً وجسماً وروحا، واختِم لنا بأكملِ الحسنى وأنت راضٍّ عنَّا، واجعل آخرَ كلامِنا مِن هذه الدنيا "لا إله إلا الله" متحقِّقين بحقائقِها برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
نسألكَ لنا وللأمَّة مِن خيرِ ما سألك منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مِن شرِّ ما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنتَ المستعانُ وعليكُ البلاغُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهَى عن ثلاث:
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ﴾
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
29 ربيع الثاني 1443