(228)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع تاربة، بوادي حضرموت، 3 جمادى الأولى 1445هـ بعنوان:
الأسرة والصحبة وعظيم أثرهما في الحياتين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الحمد لله، الحمد لله العظيم الحكيم، العلي القدير العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فيجمع عليه شَمْله، ويُصلح أسرته وأهله، ويختار له أصحابَ هُدىً وصلاح، سائرين مسار التقوى والفلاح، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرَّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، ونبيّه وصفيّه وخليله، خير داعٍ إلى الهدى والرشاد، وهو أكرم العباد على الله الجواد.
اللهم أدِم صلواتك على المصطفى المختار سيدنا محمد، الذي جعلت أمته خير أمة، وأصحابه خير أصحاب، وآله خير آل، وأسرته خير أسره، اللهم أدم صلواتك على المختار المجتبى سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، حُماة دينك في السر والإجهار، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان على ممر الأعصار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأنوار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
عباد الله، فاحضروا قلوبكم فما دعاكم رب العالمين؛ لإقامة هذه الفريضة وأداء هذه الشعيرة إلا لتغنموا، وتفوزوا بمِننه ومواهبه الكبيرة وخيراته الكثيرة من مغفرة وقرب، ومن إنابة إليه تبارك وتعالى ونيل محبة، ومن الارتقاء في الدرجة والرتبة، إنها مجامع التوجه إلى الله، والتذلُّل بين يدي الله، والإصغاء إلى أخباره وكلامه، وكلام عبده ورسوله ومصطفاه سيدنا محمد.
أيها المؤمنون، جعل الله تبارك وتعالى بداية خلق الإنسان، بخلق آدم من تراب وطين، ثم سوّاهُ ونفخ فيه من روحه، ثم خلق منه ومن ضلع من أضلاعه حواء أم الآدميين وزوَّجها إياه، فكانت الأسرة الكريمة التي أُمِرت بِسُكنى الجنة وامتُحِنت بأمر من أوامر الله، ثم أُهبِطت إلى الأرض للقيام بالخلافة عن الله جل جلاله (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) [طه:123]، وبدأ شرف الخِلافة عن الله في الأرض بآدم وحواء، ثم ولدا الأولاد من الأبناء والبنات، وتكوَّنت منهم الأسر وتفرَّعت عنهم أسر بني آدم إلى أن تقوم الساعة.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] فكان في حكمة الله سبحانه وتعالى هذا التكوين للأُسَر، ثم جعل العلائق بين الناس والروابط والصِّلات في صُحبةٍ وفي لقاءاتٍ وفي تعارفاتٍ تحصل بينهم، والأُسر محل ومحطّ القيام بأمر الله إذا صلُحت، وهي أساس صلاح المجتمع، وبذلك كان عباد الرحمن في دعائهم للرب يقولون كما حكى الله عنهم في كتابه: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان: 74] من تقَرُّ بهم العين، أي: يُسَرُّ بهم القلب والفؤاد، في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد، ويتم الاجتماع بهم في جنات الخلد، ذلكم الربح لكل أسرة اتّقتِ المولى جل جلاله، وأقامت أمورها على منهاج إلهها، وعلى تعاليم ربها، وما أوحى إلى رسوله ﷺ وما بعثه به، هم الرابحون.
(قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الزمر: 15] أولئك الذين أضاعوا أوامر الله، تلك الأُسر التي لم تقم بفرائض الله، ولم تجتنب ما نهاها الله تبارك وتعالى عنه، تِلكُم نواة الفساد في المجتمعات، وتِلكُم أسباب الضياع والشر الذي يصيب بني آدم وينازلهم في حياتهم، يتفرّعُ عن هذا الإهمال أو الإغفال أو الانحراف أو الفساد في الأسرة، يتفرّع عنه أنواع الشرور واستقاء أنواع الأفكار الخبيثة والتصورات الكاذبة الباطلة، وتصوّر شيء على غير ما هو عليه، وامتلاء النفوس بالرغبات في المُخزيات، والرغبات في السيئات، والرغبات في الاستجابة لشهوات النفس وهواها، بلا مراعاة لقيم ولا أوامر ولا نواهي، تلكم الأسر التي يقل فيها ذكر الله ولا يُتلى فيها كتاب الله، ولا يعملون بسنن النبي محمد بن عبد الله، مظهر الفساد في مجتمعات البشر على ظهر الأرض، ويتفرّع عنهم أنواع المؤذيين والمعتدين والمتطاولين والمتسببين في الشرور بين بني آدم.
أيها المؤمنون بالله، وأُسر المؤمنين وما يتفرّع منها وعنها، سبب الصلاح، سبب الفلاح، سبب النجاح، وبذلك سمعنا الرحمن يقول لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6] ويقول تعالى عن أصحاب الجنة (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) [يس: 55-56]
أيها المؤمنون بالله، يقول الله: (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ) [الطور: 21]
أيها المؤمنون، ويجتمعون في دار الكرامة، تلكم الأُسر كما أشار القرآن وكلام المصطفى ﷺ حتى أن الشهيد في سبيل الله ليُشَفَّعُ في سبعين من أهل بيته، من أسرته ومن جماعته وقرابته، كلهم قد وجبت له النار فلا يدخلون النار بشفاعة هذا الشهيد الواحد فيما بينهم، إذا استشهد الشهيد في سبيل الله، مخلصاً لوجه الله تعالى، مقتولاً على يد أعداء الله من الكفار الحربيين الذين يعتدون والذين يظلمون، والذين يصدّون عن سبيل الله ويحادون الله ورسوله.
فَبَخٍ لكل من نال مرتبة الشهادة واصطفاه الله لها من آل غزة في أيامنا، وكل صادق مخلص لم يكن له غرض، ولم يكن له مراد ولم يكن له نية إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، إلا أن يرُدَّ بأمر الله اعتداء المعتدين وظلم الظالمين، أولئك الذين اتخذهم الرحمن شهداء، قال جلَّ جلاله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 140-141] (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142] فإنه يجعل في أحداث الحياة ما يُظهِر علمه في الصابر الصادق والمجاهد المُحِق، وفي الكاذب المائل إلى دنياه أو إلى أغراضه أو إلى مقاصده التافهة القصيرة الحقيرة.
أيها المؤمنون بالله، شأن الأسر عظيم، شأن الأسر في صلاحها عظيم، وإذا فسدت ففساد المجتمعات لا بد أن يكون ببذرة فساد الأسرة.
أيها المؤمنون، الأُسر التي تُعظِّم أمر الله وتكثر ذكر الله، وتقيمُ سنن النبي ﷺ في طعامها وشرابها ولباسها، وفي الكلام بينهم البين، وفي دخولهم وخروجهم، وفي منامهم وقيامهم، تلكم الأُسر المؤمنة التي يتهيّأ أصحابها للاجتماع في دار الكرامة ومستقر الرحمة.
أيها المؤمنون، وأرباب العلائق في الله تبارك وتعالى مِن جيران ومن مُتصادقين ومتزاملين ومُتآخين في الله تبارك وتعالى يجتمعون أيضاً في دار الكرامة، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47] وفي المقابل يقول الله في الصنف الآخر: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا) والعياذ بالله (حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) [الأعراف: 38] ويقول: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) [الزمر: 73] ويقول: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا) [الزمر: 71] إنها الروابط والعلائق التي يجب أن تكون بين المؤمنين خالصة لوجه الله تبارك وتعالى، ويقيم ميزان الله في كل علاقة مع صغير وكبير، وذكر وأنثى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67] اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين، واجعل أسَرنا أسر الصالحين الهداة المهتدين، واجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر يا أكرم الأكرمين.
والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204] وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ * قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات: 13-18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزْيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله ولي المتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يتولّى الصالحين، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرَّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه الصادق الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على خاتم النبيين وسيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأهل بيته الطاهرين وأصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
عباد الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحمُ إلا أهلها ولا يُثيب إلا عليها، وإن الواعظين بها كثير وإن العاملين بها قليل.
أيها المؤمنون، ومن تقوى الله جل جلاله رعاية الأسرة وأداء حقوقها، تعليماً وتقويماً وتربيةً وتهذيباً، وإطعاماً ونفقةً وكسوةً وسُكْنى وحسن معاشرة، وأن نختار للأبناء والبنات الأسماء الحَسنة المحمودة، التي تُوافِق أسماء النبيين والصديقين والصالحين من عباد الله، وأن نتجنب الأسماء المذمومة، وأن نرعى حقهم من أول وضعهم، بما جاء من سنة الأذان والإقامة في أُذُن المولود، الأذان في الأذن اليمنى والإقامة في الأذن اليسرى، وبما نُحَصِّنُهم ونُعَوِّذُهم، وبما نُسمي الله عند كل رضعة لهم أو إطعام أو سقي، وبما نُحسن تربيتهم حتى نأمرهم بالصلاة وهم أبناء سبع، ونضربهم على تركها وهم أبناء عشر، ونُفرِّق بينهم في المضاجع، رعاية لحق الأدب وتقويم الحياء والعِفّة والحِشمة التي بُعِث بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وجُعل الإيمان بضع سبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وجُعِل الحياء شُعبة من الإيمان.
أيها المؤمنون، كم للأسر من أثر ودور إذا انتبه الأب وانتبهت الأم؟ وإذا رعوا حقّ الله فيما يتعلّق بتلك الأسرة، وكم يترتب على فسادهم من فساد الأبناء والبنات، واتصالهم بمفسدين من أصدقاء ومن صديقات يحيدون عن سواء السبيل، ويقعون فيما يوجب الخزي الوبيل.
أيها المؤمنون بالله، ألا فـ "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ"، وإن المؤمنين مع بذل الوسع يدعون الله تبارك وتعالى لهؤلاء الأولاد، بل ويطلبون الدعاء لهم من المؤمنين عامة وخاصتهم خاصة، وقد حرص الأنصار إذا وُلِدَ المولود فيهم أن يأخذوه إلى رسول الله ليُحنِّكه، وليكون أول ما يدخل جوف المولود ريق المصطفى ﷺ، بما يُرقِّق له التمر ويُحنِّكهُ به، وكانوا يُردِّدونهم عليه ويجلسهم على رجليه الكريمتين وحِجره الشريف ﷺ، وإذا كبروا ترددوا عليه، وربما قال بعض الأنصار لأولاده بعد طلوع الشمس: "ادخل مع رسول الله إلى بيته، وانظر إلى الوعاء الذي توضأ منه بالليل، واشرب ما بقي من ماء فيه"، وربما أرسلوا معه الماء كما جاءنا في الصحيح ليضع يده فيه فيشربه أهل دارهم.
على هذه التربية والعلاقات القلبية تربت بيوت الأنصار والمهاجرين في المدينة المنورة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وفيهم أولئك السابقون الذين قال الرحمن عنهم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
أيها المؤمنون بالله، بتفقُّد الإنسان لأسرته؛ يستنزل من الله الصلاح والهداية، وبصلاح الأسرة يُتخيّر الأصحاب، فلا يصادق أفراد الأسرة إلا خيِّراً تقياً مؤمناً، و" المرء من جليسه" و"المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل".
أيها المؤمنون بالله، وبصلاح الأسر تصلح المجتمعات، ويكون للأسر شأن في البرازخ والقيامة، ثم في دار الكرامة، ويخسر من يخسر أهله أو بعض أهله في ذلك اليوم، جزاء ما كان في هذا العمر القصير مِن سعيٍ لهم، ومن اعتقادٍ لهم، ومن مسالك يسلكونها، ثبِّت اللهم أقدامنا على خير المسالك، وأعِذنا من الزيغ والمهالك، وأصلح شؤون المؤمنين والمؤمنات يا رب العالمين.
وأكثروا من الصلاة والسلام على خير الأنام، فإن أولانا به يوم القيامة أكثرنا عليه صلاة وسلام، وإن الله يصلي على من صلى على نبيه مرة واحدة، يُصلّي الله عشر مرات بالصلاة الواحدة على خير البريات محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بالملائكة وأيَّهَ بالمؤمنين، فقال مُخبراً وآمراً لهم تكريماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسْلِيماً) [الأحزاب: 56] اللهم صلّ وسلم على المختار المجتبى سيدنا محمد، وعلى الخليفة من بعده المختار، وصاحبه وأنيسه في الغار، مُؤازر رسول الله في حالِ السَّعَة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعلى الناطق بالصواب ناشر العدل حليف المحراب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلى الناصر لله في السِّر والإعلان، من استحيتْ منه ملائكة الرحمن، محيي الليالي بتلاوة القرآن أمير المؤمنين ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعلى أخِ النبي المصطفى وابن عمه، ووليِّه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة وريحانتي نبيك بِنَصّ السنة، وعلى أمهم الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا والحمزة والعباس، وعلى سائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد وعلى بيعة الرضوان، وسائر الصحب الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذلَّ الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمِّر أعداء الدين، اللهم نجِّ واحفظ واحرس المسلمين في غزة وعسقلان وفي أنحاء بيت المقدس بقدرتك يا أقدر القادرين، واكلأهم وصُنهم وارعهم وزدهم إيماناً ويقيناً وإنابة وخشية، والطف بهم فيما تجري به المقادير، واخذل المعتدين الغاصبين الظالمين المفترين الكاذبين الفاجرين من الصهاينة ومن عاونهم ومن قام معهم، واجعل الدائرة عليهم وخالف بين وجوههم وكلماتهم، يا منزل الكتاب يا سريع الحساب يا منشئ السحاب يا هازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم، واكف المسلمين جميع شرورهم، وأصلح قلوب المسلمين في المشارق والمغارب، وادفع البلايا والآفات عنهم والمشاغب والمتاعب والنوائب.
اللهم يا محوّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وعافنا من أحوال أهل الضلال وفعل الجُهّال، اللهم اغفر لنا وللوالدين ومشايخنا وأهل الحقوق علينا، والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، واخُصص اللهم بواسع المغفرة من تقدّم في مساجدنا هذه وبلداننا هذه من أهل لا إله إلا الله عامة، ومن أهل الصديقية والنفع والهدى والرشاد خاصة، واجمعنا أجمعين في دار الكرامة وأنت راضٍ عنا، وأصلح أسرنا وأهالينا وقراباتنا وذرارينا، وأصلح جيراننا وأصدقائنا وأصحابنا، واجعلنا أهل خير وهُدى، سالمين من كل زيغ وردى، متهيئين للقائك وأنت راض عنا، يا حي يا قيوم يا مسعد السعداء، أسعدنا بما أسعدت به خواص المسعودين في الدنيا والآخرة، واجعلنا من أهل الوجوه الناضرة التي هي إليك ناظرة برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:147] (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:250] (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [يونس:85] (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10].
نسألك لنا والأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، إن الله أمر بثلاثٍ ونهى عن ثلاث، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90] فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
05 جمادى الأول 1445