(575)
(536)
(235)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة بعيديد تريم، 27 شوال 1441هـ بعنوان: ارتقاء المؤمنين عن التأثُّرات السِّلبية بشهود المؤثِّر الفعَّال، وخصوصيتهم في التعامل مع الأحداث والاستعداد للمآل.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمدُ للهِ له العجائبُ في تقليبِ القلوب، وإليه المرجعُ فكُلُّ مخلوقٍ إلى خالقِه يؤوب، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ركَّبَ الخلائقَ على حِكَمٍ بديعةٍ إلهيَّةٍ، وعلى عجائبَ تكوينِيَّةٍ ربَّانِيَّةٍ، لا إلهَ إلا هو أحسنَ كلَّ شيءٍ خَلْقَه {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}.
اللهمَّ نشهدُ أن لَّا إلهَ إلا أنتَ ونحمدُك ونشكرُك، ونشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرَّةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُك ورسولُك، جعلتَه المثلَ الأعلى في العالمِ الإنسانيِّ والخَلْقِيِّ عامَّة، وهديتَ به إلى سواءِ السبيلِ بدعوتِه التامَّة. اللهم أدِم صلواتِك على زينِ الوجودِ عبدِك المصطفى محمدٍ وعلى آلِه وأصحابه، وعلى كلِّ قلبٍ آمَنَ به وسَارَ في سبيلِ هداه وصوابِه، وعلى آله وإخوانِه من الأنبياءِ والمرسلين المبشِّرين بِه، وعلى آلهم وأصحابِهم وملائكتِك المقرَّبين المُصَلِّين عليه، وعلى جميع عبادِك الصالحين المؤتَمّين به، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد، عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله.
فاتقوا اللهَ في وجهاتِكم ونيَّاتِكم، واتقوا اللهَ في أفعالِكم وأقوالِكم، واتقوا اللهَ في تصوُّراتِكم واعتقاداتِكم، اتَّقوا المُكَوِّنَ الذي لم يترك ذَرَّةً مما كَوَّنهُ هباءاً منثوراً ولا خارجةً عن عظمةِ مراقبتِه وتَسيِيره بِحكمتِه وتدبيرِه جلَّ جلاله {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
أيها المؤمنون بالله جَلَّ جلاله: عِزُّ الإيمانِ وفخرُه يرفعُكم مراتبَ تسمو عن التأثُّرِ بالكائناتِ إلى قوَّةِ التأثُّرِ بما أبرَزَ المُكَوِّنُ مِن حكمةٍ وعلمٍ، وأبرز المُكَوِّنُ مِن هدايةٍ ودلالةٍ، وأبرزَ المُكَوِّنُ جلَّ جلاله وتعالى في علاه مِن إيقافِنا على شُهودِ فعلِه وتدبيرِه وتَسخيرِه وتقديرِه تعالَى في علاه.
ولقد كان نبيُّنا المصطفى يُقوِّم في القلوبِ المؤمنةِ، والعقولِ التي استقبلَت الرسالةَ بالتصديق؛ يقَوِّمُ معنى شهودِ المُكَوِّن الفعَّال لِمَا يريد، في مختلفِ أحوالِ الإنسانِ صغيرِها وكبيرِها، ويُعَلِّمُ أهلَ بيته إذا جرى لهم أو على يدِ خادمٍ لهم مالا يحبُّونه ولا يهوُونه أن يقولوا: "قدَّرَ اللهُ وما شاء فعل".
"قدَّرَ الله وما شاء فعل" كلماتُ مَن اتَّصَل، كلماتُ مَن أَوْصَل، كلماتُ مَن شَهِدَ الحقيقة، كلماتُ مَن أقامَ الأمورَ في مقامِها بميزانِ بارئها ومُصَوِّرِها وفاطِرِهَا جل جلاله.
أيها المؤمنون بالله: "ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأ لم يكُن"، {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.
أيُّها المؤمنون: وكان في تعليماتِ نبيِّنا إذا نظرَ المؤمنُ إلى شيءٍ يعجبُه مِن شؤونِ الدنيا أن يقولَ: "لبَّيْكَ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخرة". وإذا نظرَ إلى شيءٍ يُعجبُه مِن أمرِ الخيرِ والدينِ أن يقول "الحمدُ لله الذي بنعمتِه تَتِمُّ الصالحات". إنها أحوالُ وأوصافُ قلوب، وتسييراتٌ لِمَا ينازلُها فيما هو أصفَى وأوفَى وأجلُّ وأجملُ وأليقُ بالعَبدِ مع ربِّه.
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} ليس في قلوبِهم شهودُ الفَعَّال، ولا إيمانٌ بالمَصيرِ والعاقبةِ والمآل؛ فهم أهلُ العَمَهِ، وهم أهلُ التَّخَبُّط، وهم أهلُ الضلال، وهم أهلُ الانقطاعِ عن الحقيقة؛ فهم شرارُ الخليقة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}.
أيُّها المؤمنون بالله: نعمةُ الإيمانِ ترفعُكم لأن تُحسِنُوا التعاملَ مع الأحداثِ ومُجرياتِ هذا الكونِ تحتَ قدرةِ المكوِّن وإرادتِه {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
أيُّها المؤمنون بالله: يقولُ الجبَّارُ جَلَّ جلاله ليُقَوِّمَ الشهودَ في قلبِ كُلِّ مؤمنٍ بالحقِّ ورسولِه واليومِ المَوعود، يقول سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}. ويقول جَلَّ جلاله وتعالى في علاه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
أيُّها المؤمن بهذا الإله: اتَّقِهِ في نِسبةِ الأشياء إلى غيره، وخُذ ما شرعَ لك مِن الأسبابِ والوسائلِ لا مُعتَمِدَاً عليها ولا مُستَنِدَاً إليها ولا مُنقَطِعَاً بها ولا غَافِلَاً فيها عن المُسَبِّبِ المُكَوِّنِ الذي لا يكونُ إلا ما أراد. ومَشيئاتُ العِبادِ بمختلفِ أصنافِها خيِّرِها وشَرِّها تحتَ سابقةٍ مِن إرادتِه ومَشيئتِه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
ألا وإنَّ من التقوى في ذلك: استقامتُك على اللجوءِ إليه، والاعتمادِ عليه، والعملِ بما يحبُّ منك، وأن لا تنزعجَ وعندَك قوةٌ إليها تأوي. ولقد قال صلى الله عليه وسلم في مُنازعةِ قومِ سيدِنا لوطٍ له: قال سيدُنا لوط: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً..} من القُوَى الظاهرةِ العاديَّةِ التي تكونُ في عالمِ الحسِّ {أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ} قال سيدُنا المصطفى: (لقد أوى لوطٌ إلى رُكنٍ شديد). إيمانُه باللهِ وتوكُّلُه على الله. ونُودِي مِن قِبَلِ الملائكةِ الذينَ عنده: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ} لن يَصِلُوا بِقُوَّتِهم، لن يَصِلُوا بِكَثرتِهم، لن يَصِلُوا بكُلِّ ما عندَهم، لن يصلوا إليك؛ أنت محاطٌ بسُورٍ مِن عناية ربِّك {لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ..} لأنَّ قلبَها التفتَ إلى غيرِ الوِجهَة، إلى غيرِ المقصد، إلى غيرِ الصوابِ والهدى. فويلٌ للمُتَلَفِّتاتِ قلوبُهم إلى غيرِ منهجِ الله، ومَن طلبوا الطمأنينةَ في غَيرِ ذكرِ الله، ومَن طلبوا الصحَّةَ والعافيةَ مِن عندِ غيرِ اللهِ الذي قالَ عنه الخليلُ إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وإنَّ في خزائنِ الثِّقةِ به ما يُسَخِّرُ الأسبابَ مِن طَرفَها إلى طرفِها ومِن أوَّلِها إلى آخرِها.
اللهمَّ ارزُقنا صِدقَ الاعتمادِ عليك، وحُسنَ الاستِنادِ إليك، وتَقواكَ في جميعِ ما يطرأ مِنَّا ولنا وما يَجري بينَنا في شؤونِ العالَمِ كلِّه؛ حتى لا نزيغَ عن استقامةِ القلبِ على توحيدِك وشهودِك واللجوءِ إليكَ في كُلِّ شأنٍ يا ربَّ العالمين.
واللهُ يقولُ وقولهُ الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيم {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} سبحان ربِّنا العظيمِ وبحمدِهِ.
باركَ اللهُ لي ولَكُم في القرآنِ العظيم، ونَفعَنا بما فيهِ مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصِّراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزْيِهِ وعذابهِ الأليم. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدينا ولجميعِ المسلمينَ فاستَغفِروهُ إنَّه هو الغفورُ الرَّحيم.
الحمدُ لله يَقذِفُ أنوارَ الإيمان في قلوبِ مَن أراد، ممن سَبَقَ له منهم الإسعاد، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا الله وحدهُ لا شريكَ له مَلِكُ الدنيا والبرزخِ ويوم الميعاد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بيدهِ أمرُ الأولين والآخِرين، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، وصفوتُه وحبيبه الأمين. أدمِ اللهمَّ صلواتِك على السيدِ المختارِ المصطفى، وعلى آلِه وصحبِه أهلِ الصدقِ والوفاء، وعلى مَن والاهم فيكَ وتابعَهم واقتفى، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين سادةِ الحُنَفَاء، وعلى آلهِم وصحبِهم سادةِ الشُّرفاء، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين يا عالمَ الظاهرِ والخفاء.
أما بعد عباد الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله. فاتَّقوه فيما آتاكم مِن نعمةِ الإيمانِ به ونَمُّوها، وحافظُوا عليها وقوُّوها، فإنَّ الله يزيدُ الذينَ اهتَدوا هدى. وإنَّ اللهَ يقولُ عن تلكَ القلوب: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. إذا حضرُوا الجمعةَ اجتَمعَت قلوبُهم على الآمرِ بالاجتماع، وعَظُمَ لهم الانتفاع، وإذا صلُّوا صلاةً كانوا بعدَها أصفَى قلوباً وأقوى إيمانا، وإذا تلَوا قرآناً كانوا بعدَه أوفى وأصفَى وأوفرَ تصديقا، وكذلك إذا تَصَدَّقوا، وكذلك إذا أحسنُوا معاملةَ الأهلِ والأولاد أو نصيحتَهم أو تربيتَهم، وكذلك إذا قاموا بِحَقِّ جَارٍ، وكذلك إذا واصَلوا رَحِمَا، وكذلك إذا اهتمُّوا بأمرِ المسلمين ودعَوا لهم. ألا إنَّها قلوبٌ ترعَى مُقَلِّبَها، وتراقبَ مَن بيدِه أمرُها، وتخشَى وتستحيِي أن يراها راضيةً بغيرِ ما يَرضى أو مُنطلقةً فيما لا يحب.
يا أيها المؤمنون: نعمةُ الإيمان راعُوا حقَّ الله فيها لِتزدَادوا إيماناً، فإنَّ الفخرَ والشرفَ في الدنيا والآخرة لِمَن آمنَ بالإلهِ وتحَقَّق. والتَّحَقُّقُ يبدُو في الأحوالِ والأذواقِ والصفاتِ والأفعالِ والأقوالِ التي تبدُو على لسانه، و"كل إيناء ينضح بما فيه".
أيها المؤمنون بالله جَلَّ جلاله وتعالى في علاه: جعلَ اللهُ الشدةَ والرخاء، والفقرَ والغنى، والصحةَ والمرض، وإلى غير ذلك مِن تقليبِ الشؤون وتحويل الأحوال عبرةً للمعتبرين، وذكرى للمتذكِّرين، وسبباً لقوَّةِ الإيمانِ للمؤمنين، وليلقَى المؤمنُ الخيرَ في كُلِّ حالٍ (إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ). فهو "معَ الله" في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وهو "مع الله" سِرَّاً وجهرا، والله معه. ولا تَسَل عن حالِ مَن كانَ ربُّ العرش معَه. {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ..} عظَّمتمُوهم؛ خرجتُم مِن ورطاتِ تَعظيمِ الفانيات، ورطاتِ تعظيمِ الكفار والفجار، ورطاتِ تعظيمِ الزائلات، ورطاتِ تعظيم غيرِ الله وعزَّرتُم الرسل، عظمتُم ما عظَّمَ الله، عظمتم الله وبتعظيمِه عظمتُم الرسلَ وأنبياه {وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} والنتائج الكبيرة التي لا تقدرُ عليها شعوبٌ ولا حكومات: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} مَن يضمنُ لك هذا مِن الحكومات والدول أو مِن الشعوب والأحزاب؟ مَن يضمنُ لك هذا؟ . بيد واحدٍ أَحَد {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.
فَثِقْ بهذا الإله، واصدُق معَه، وتوكَّل عليه، واعتمِد عليه، واستنِد إليه ترَ العجائب {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}.
اللهمَّ املأ هذه القلوبَ باليقينِ والإيمان، وألِحقنا بخَواصِّ أهلِ الصدقِ والعرفان، وطهِّرنا عن جميعِ الدَّنَسِ والأدران، وزدنا بِكُلِّ ما يجري لنا في الحياة ثباتاً وإيمان، وأنظِمنا في سلكِ مَن ارتضيتَ واصطفيتَ يا مَن هو حسبُنا ونعمَ الوكيل.
ألا وبابٌ مِن أبوابِ تطهير القلوبِ وزيادةِ الإيمان وإدراكِ حقائقِ الوحي: كثرةُ الصلاةِ على المُوحَى إليه بالقرآن؛ خاتمِ النبيين المصطفى مِن عدنان. اللهم أدِم صلواتِك على المصطفى المختار الذي قلتَ في حَقِّهِ بعد أن بدأتَ بنفسِك وثَنَّيْتَ بالملائكةِ وخاطبتَ المؤمنين تعظيماً وتكريماً: {إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
اللهم صَلِّ وسلِّم على عبدِكَ المختارِ نورِ الأنوارِ وسِرِّ الأسرار سيدِنا محمدٍ، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه وصاحبِه وأنيسهِ في الغار، مُؤازرِ رسولِك في حالَيِ السِّعَةِ والضِّيق؛ خليفة رسولِ اللهِ سيِّدِنا أبي بكرٍ الصِّديق. وعلى النَّاطِقِ بالصَّواب، حليفِ المحراب؛ أميرِ المؤمنينَ ناشرِ العدِلِ سيِّدنا عمر بن الخطاب. وعلى مُحيي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَن اسْتَحْيَت منهُ ملائكةُ الرَّحمن؛ أمير المؤمنين ذي النُّورَينِ سيِّدِنا عثمانَ بن عفان. وعلى أخي النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب؛ أميرِ المؤمنين سيدِنا عليِّ بنِ أبي طالب. وعلى الحسَنِ والحُسينِ سيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنةِ في الجنةِ، ورَيحَانَتي نبيِّك بِنصِّ السُّنَّة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمةَ البتول الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشة الرضى، وعلى الحمزة والعَبَّاس وعلى سائرِ أهل بيت نبيك الذين طهَّرتَهم من الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بدرٍ وأهل أحدٍ وأهل بيعةِ الرضوان وعلى أهلِ بيعةِ العقبةِ، وعلى سائرِ الصَّحب الأكرمين وأهلِ البيت الطاهرين وعلى مَن تبعَهم بإحسانٍ، وعلينا مَعهم وفيهم يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذلَ الشركَ والمشركين، اللهمَّ أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دَمِّر أعداءَ الدين. اللهم إنَّا نستودعُك ونستحفظُك ما جعلتَ في قلوبِنا وقلوبِ المؤمنين بك مِن الإيمان بك وبما أنزلتَ على نبيِّك وبأنبيائك ورُسلِك وملائكتك وبأقضيتِك وأقدارِك وباليومِ الآخر، اللهم فزِدنا وإياهم جميعاً إيماناً ويقيناً، وارفعنا إلى ذُرَى علمِ اليقين، وارفعنا بعلمِ اليقينِ إلى ذُرَى عينِ اليقين، وارفعنا بعينِ اليقين إلى حَقِّ اليقين، واجعلنا مِن خواصِّ عبادِك المُوقنين.
إلهَنا وسيدَنا.. مهما أراد عدوُّك إبليس وجندُه مِن الجِنِّ والإنس زعزعةَ قلوبِ المؤمنين بأي طَرْحٍ يطرحونه وبأي تصويرٍ يصورونه اخذُلهم وادفَع شرهم، وقوِّ الإيمانَ في المؤمنين وابثُثه في قلوبٍ لم تؤمنْ بعد فتؤمن بك فتنشر الهدى والنورَ في بقاعِ الأرض شرقِهَا وغربِها. اللهم أرِنا الزيادةَ مِن الإيمان واليقين في قلوب المؤمنين، وازديادَ أعدادِهم بأن ينضافَ إليهم مَن لم يؤمن قبلُ إلى دائرةِ الإيمان بكَ يا قويُّ يا متين.
إلهنا رُدَّ كيدَ عدوِّك ومَن سارَ في سبيله، واجعلنا اللهمَّ مِن خواصِّ مَن تحفظُهم وتحفظُ بهم حقائقَ الإيمان واليقينِ والدينِ في أنفسِهم وأهاليهم ومُجَالسيهم وأصحابهم، اجعلنا أسبابَ هداياتٍ، واجعلنا أبوابَ عناياتٍ ورعاياتٍ، واجعلنا ممَّن تُجري لهم وعلى أيديهم الخيرات. اللهم اجعلنا مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشر، وادفع عنَّا وعن الأمةِ كلَّ بليَّة وضر، اللهم أصلِح لنا وللأمة ما بَطَن وما ظهَر.
يا سيِّدَنا لا تصرِفنا مِن جمعتنا إلى وقد اجتمعَت قلوبُنا على الوجهةِ إليك، وصدقَت في التذلُّلِ بين يديك.
اللهم وارحم موتانا وأحيانا رحمةً واسعةً ترفع بها درجاتِ الأمواتِ وتُثَبِّتُ بها قلوبَ الأحياءِ على الإيمانِ إلى الممات، اللهم وادفع عَنَّا جميعَ الآفات والعاهات.
إلهنا.. انتشرَت بليَّةٌ من البَلِيَّات في مشارقِ الأرض ومغاربِها والتي رَوَّجَ لها إعلامُ الناس وأظهرَ ما فيها مِن مخاطرَ أَوْقَعَ الأكثرَ منهم في المَحذورِ مِن القَلقِ والجَزَعِ المذمومِ والتَّخَوُّفِ في غير محَلِّه، وهناك في العالَمِ مِن البلايا والآفاتِ ما أنتَ به أعلم؛ وقد آمَنَّا بكَ وأنَّكَ المُسَيِّرُ للوجودِ والكونِ وما فيه، وليس لأحدٍ معك فيه مثقالُ ذَرَّة في أرضٍ ولا في سماء؛ فيَا ربَّ الأرض والسماء عَجِّل بصلاحِ أحوالِ المسلمين، ودَفعِ البلاءِ عن المؤمنين، وجمعِ قلوبِهم على الصدقِ معكَ واليقين، والاستعدادِ لمُقابلتِك والوقوفِ بين يديكَ يومَ الدين، لا يُلهِيهم عن ذلكَ مُلْهٍ مِن قريبٍ ولا بعيدٍ، برحمتك يا مبدىءُ يا معيدُ يا فعَّالُ لِما يريد.
نسألكَ لنا ولهم وللأمَّة مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونَعوذُ بك مما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، فاغفِر لنا وارحَمنا وبلِّغنا فوقَ ما أمَّلْنَا مما أنتَ أهلُه مِن خيراتِ الدارَين يا ربَّ العالمين.
عبادَ اللهِ: إنَّ الله أمرَ بثلاثٍ ونهى عن ثلاث: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذْكُركُم، واشكروهُ على نِعَمهِ يَزِدكُم، ولَذِكْرُ اللهِ أكبر.
29 شوّال 1441