(229)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الشيخ أبي بكر بن سالم في منطقة عينات، 20 ربيع الأول 1442هـ،: أهمية ضبط الأقوال والأفعال وارتباطهما بما في الضمير والبال من إيمان ومشاعر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمدُ للهِ الذي جعلَ الأقوالَ والأفعالَ ترجمةً لما في الضَّمير والبال، وعنواناً لما يستقرُّ في القلبِ ويرسخُ في الباطنِ مِن الأحوال، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، الحيُّ القيّومُ الكبير المتعال، الأول الآخر الظاهر الباطن الذي ابتدأ الوجود من غير سبق مثال والملك الذي ليس لملكه من نقصٍ ولا زوال.
وأشهد أنَّ سيَّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، ونبيُّه وصفيُّه وحبيبُه وخليلُه، أطهرُ الخلائقِ قلباً وأزكاهم لُبّاً وأحسنهم قولاً وفعلاً، دلَّنا على اللهِ فأحسنَ الدلالةَ فَهْوَ خيرُ من دَلَّ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المصطفى الذي قلت في تعظيمِ وصفِه: ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَى)) وعلى آلِه الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن وعَى ما بلَّغَ عنكَ وأحبَّهُ ووالاه وعلى منهاجِهِ سار، وعلى آبائه وإخوانِهِ مِن الأنبياء والمرسلين معادنِ الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبِهم وتابعيهم والملائكةِ المقرَّبين وجميعِ عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا كريم يا غفّار.
أما بعد، عبادَ الله فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله..
تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها..
وتَحِلُّ في القلبِ حقيقةُ التقوى، فيَجيشُ الصدرُ بمشاعرَ وأحاسيسَ لائقةً بنورِ تقوى الله، فتصدرُ الأقوالُ والأفعالُ متناسبةً مع تلك التقوى والأحاسيسِ والمشاعرِ وَسَطَ الفؤاد، ومِن هنا كان العنوانُ واضحاً في الأقوالِ والأفعال لما يبطُنُ عند كلِّ إنسانٍ مِن شؤونٍ وأحوال، إن الحَقِّ جل جلاله رتَّبَ على الأقوالِ والأفعالِ الجزاء، وهي من حَيْثُ ما يكسب الإنسانُ ويكتسب، فإنَّ الإرادةَ التي أعطاها اللهُ لعبدِه تنبسطُ مِن القلب باستصدارِ الأوامرِ للَّسانِ فيقولُ، وللأعضاءِ فتَتحرَّك، تحت تلك الإشارةِ مِن القلبِ والضمير فتكونُ ترجمةً عمّا حلَّ في ذلك القلب.
ألا إنَّ الأقوالَ والأفعالَ الحسنةَ هي المراقي إلى مراتبِ القُربِ الشريفةِ المستحسَنة، وهي الموصلةُ إلى الجنةِ وإلى فراديسها، وفعلٌ قَدْ لا يُلَقِي له الإنسانُ بالاً يوصلهُ إلى أحوالٍ وشؤونٍ لا تخطرُ له على بالِهِ ولا يتخيَّلُ لها خيالاً، إما في الرُّقيِّ والسُّمُوِّ والقُربِ والمثوبة وإما في الانحطاط والانحدارِ والبُعدِ والعقاب، مِن كلمةٍ مِن نظرةٍ من عطاءٍ مِن أخذٍ مِن خطوةٍ يخطوها الإنسان بقدمِه، قَدْ يكسبُ بذلك رضوانَ الله الأبدي، وقد يكسبُ سخطَ الله، وقد ترتفعُ درجتُه بتلك الكلمةِ أو بتلك النظرةِ أو بتلك الحركة، وقد يكتسب بها سخطَ الله جلَّ جلاله وتنحطُّ درجتُه، إِذاً فمراقبةُ الأقوالِ والأفعالِ علامةُ صحةِ الإيمانِ بالله ذي الجلال، القائل في التنزيلِ على عبدِه الجليل سيدنا محمد ((وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ))
وهذا الخوفُ مِن الله يقومُ بِهِ الزِّمامُ لكلٍّ مِن القولِ والفعلِ ليستقيمَ على مرضاةِ الربِّ حسبَ ما بلَّغَ خاتمُ الرُّسُل صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وصحبه وَسَلَّم.
ألا وَإِنَّ أَكثرَ مُؤَثِّرٍ في حركة الإنسانِ والباعثِ له على الأقوالِ سمعُهُ وبصرُه، فرَبَطهما الله بالفؤادِ وقال: ((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا)) كل أولئك مِن سَمعِ الإنسان ومِن بَصَرِه ومِن فؤادِه كان عنه مسؤولاً مسؤوليةً كبرى أمام محكمةِ مالِكِ الدنيا والأخرى، والعالِم بشؤون وأحوالِ وأقوالِ خلقهِ سرّاً وجهرا جلّ جلاله وتعالى في علاه، وهي مسؤولية أكبر مِن أن تكونَ أمامَ دائرة أو أمامَ وزارة أو أمام أمنٍ أو أمام دولة، مسؤولية أمامَ جبار السماوات وَالأَرْضِ عن السمع والبصرِ والفؤاد، ألا وَإِنَّ السمعَ والبصرَ مؤثرانِ تأثيراً كبيراً على قلبِ الإنسانِ وعلى وجهتِه وعلى ارتقائهِ أو انحطاطِه، فليحفظِ الإنسانُ سمعهُ وبصرَه، مَن استحيا مِن الله حقَّ الحياء فليحفظِ الرأسَ وما وعَى والبطنَ وما حَوى ولْيذْكُرِ الموتَ والبِلى.
أيها المؤمنون بالله : وتفيض المشاعر بحسبِ الإيمانِ، فالمؤمنُ بالله جل جلاله المصدِّقُ بتنزيلِه وبلاغِ عبدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يفيضُ باطنُه بمشاعرِ الولاءِ والتعظيمِ والمحبة، لا يستطيعُ أن يُخفِيَ ذلك لقوَّةِ الْإيمانِ الذي في قلبِه، وهكذا حصل عند رعيلِنا الأولِ مِن أصحابِ حبيبِ اللهِ المُرسَل صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وصحبه وَسَلَّم، فَجَاشَ في بواطِنِهِم ما حدَّثَ عنه المتحدِّثُ منهم أَوَّلَ يومٍ مِن إيمانه وإسلامه يَقُولُ: (ما كان وجهٌ أبغضُ إليَّ مِن وجهكَ فقد أصبحَ وجهُكَ أحبَّ الوجوهِ كلِّها إِلَيَّ، والله ما كان مِن بلدٍ أبغضَ إليَّ مِن بلدِك فقد أصبحَ بلدُكَ أحبَّ البلادِ كُلِّها إلَيَّ)، وهكذا فاضَت العواطفُ والمشاعِرُ فعاشوا مُحتفِينَ محتفلِينَ به في مختلفِ أوقاتِهم لا يُحِدُّونَ النظرَ إليه تعظيماً له، إذا أمرَ ابتدروا أمرَه وإذا توضّأَ وُضوءاً كادوا يقتتلونَ على وَضوئِهِ، وهم سادةُ أهلِ لا إله إلا الله، وهو المبلِّغ لـ ( لا إله إلا الله )، والمُوصِل لها إلى عِبَادِ الله والمربِّي عبادَ اللهِ عليها، أمامَه يكادُ أن يتقاتلَ أصحابُهُ على الوَضوءِ الذي خرجَ مِن أعضائه، ويراهم يتَمسَّحون به صلى الله عليه وآله وصحبه وَسَلَّم، فلا يُمْكِنُ تفسيرُ لا إله إلا الله ومعناها في غيرِ هديِهم وفي غيرِ مَسلكِهم وفي غيرِ أفعالِهم وأقوالِهم، إنَّ المشاعرَ التي أكَنَّتْها الضمائرُ والصدورُ منهم أبدَت منهم هذهِ الأفعالَ، كما أبدَت منهم حُسنَ الأقوالِ في مُخاطبةِ باهِي الجمال، وجامعِ الكمال صَلَّى الله عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وسلم، وأثْنَوْا عليه شعراً ونثراً، صلوات ربِّي وسلامُه عليه.
ويقول شاعرُهم لمَن سبَّ سيدَنا المصطفى:
هجوتَ محمداً وأجبتُ عنه ** وعند الله في ذاكَ الجزاءُ
فإنَّ أبِي ووالدَه وعِرضِي ** لعِرضِ محمدٍ منكم وِقاءُ
أتهجُوه ولستَ له بكُفءٍ ** فشرُّكما لخيرِكما الفداءُ
صلوات ربي وسلامه عليه.
وأدَّبَهُمُ اللهُ في قرآنِه أن يُحسِنوا المخاطبةَ لحبيبِه ويقولُ: ((لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا)) ويقول جل جلاله: (( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ))
بمجموعِ ما جاء عنِ الله ورسولِه تُعرَفُ الحقيقةُ بالإيمانِ والتوحيدِ والشريعةِ والدينِ والهدى وتفيضُ المشاعرُ بالولاءِ والمحبة، فيكونُ لمثلِ هذا الشهرِ شهرِ ذكرى ميلادِه انبعاثاتٌ في قلبِ المؤمنِ مِن محبَّتِه ووِدادِه، ومِن الثباتِ على سبيلِ رشاِدِه، وبذلك يقيمُ المؤمنُ أحوالَه وشؤونَه فيما ينالهُ في الحياةِ مِن مسرَّاتٍ ومِن مكارِه على ما يُرضي الرَّبَّ جل جلاله، فيعمُرُ مسَرَّاتِهِ ومناسباتِ فرحِه مِن زواجاتٍ وقدومِ مسافرٍ وحدوث مولودٍ وسُكنَى بيتٍ إلى غير ذلك بالكلام الطَّيِّب وبالفعلِ الطَّيِّب، بإطعامِ الطعام بطيّبِ الكلام، بالإنشادِ الحسنِ بالآلاتِ المباحة، ويعمُرُ ما كان مِن أحزانٍ بتقوى الرحمن جل جلاله بعيداً عن الجزعِ والتَّضَجُّرِ والتَّبَرُّم، بعيداً عما نُهِيَ عنه مِن ذلك الحزنِ والإحداد، قال رسولُ الله صَلَّى الله عليه وعلى آله صحبه وسلم: لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أن تحدَّ على ميِّتٍ فوقَ ثلاثةِ أيامٍ إلا على زوجٍ أربعةَ أشهُرٍ وعشراً.
فتنضبط الأقوال والأفعال بزِمامِ شرعِ الله ومنهاجِ حبيب الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وصحبِه وَسَلَّم
إنها العنوانُ لما يستقِّرُ في القلبِ والضمير، اللهم املأ قلوبَنا بمحبَّتك ومحبةِ البشيرِ النذير، وثبِّتنا على منهجِهِ في كلِّ قولٍ وفعلٍ ومقصدٍ ونيةٍ وأخذٍ وعطاءٍ وقليلٍ وكثير، وصغيرٍ وكبير، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به البدرُ المنير، واحشرنا في زمرتِه يومَ المصير، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: ((وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))
وقال تبارك وتعالى: ((فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيم))
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيماً * وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا))
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ۚ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا))
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه منَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا من خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيم..
الحمد لله يقذفُ نورَ المعرفةِ في قلوبِ مَن يشاء، فيستقيمون على المنهجِ الذي بعثَ به رسولَه وارتضاه مَن خلق وأنشَأ، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ربُّ الليلِ إذا يغشى، والنهار إذا تجلَّى، خالق الذكرِ والأنثى، جعل سعيَ العبادِ في الدنيا شتَّى وبيَّنَ ذلك بقوله: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ))
وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقُرَّةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه نَبِيُّ الحَقِّ ورسولُ الهدى، اللهم أدِم صلواتِك على عبدِك الهادي إليك والدالِّ عليك سيدِنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه الكرامِ السُّعداء، وعلى مَن والاهُم فيكَ وبهديِكَ اقتدى، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين الذين رفعتَ لهم القدرَ وجعلتَهم أئمّةَ كلِّ مَنِ اهتدى، وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعيهم وملائكتِكَ المقرَّبين وعبادِك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين يا عالمَ ما خفيَ وما بَدا.
أما بعد عِبَاد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله..
تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها ولا يرحمُ إلا أهلَها ولا يُثيبُ إلا عليها، تُكتَسَبُ أنوارُها مِن الحضور مع الله في الصلوات وفي الجُمُعاتِ والاستماع للذكرِ والخطبةِ واستماعِ المواعظ ((وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ))
((سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ))
((فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ))
أيها المؤمنون بالله: كلُّ قولٍ وفعلٍ مصدرُه في القلبِ إيمانٌ أو نفاقٌ أو كفر، ومصدرُه في القلبِ محبَّة أو بُغضِ، ومصدرُه في القلب صدقٌ أو كذب، هكذا كلُّ قولٍ وهكذا كلُّ فعل، فلا تحتقرنَّ الأقوالَ ولا الأفعالَ ولقد قال نبيُّك: (إنَّ الرجلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِن رضوانِ الله ما يظنُّ أن تبلغَ به ما بلغَت يكتبُ اللهُ له بها رضوانَه أبداً ويرفعُه في الجنةِ درجات، وإنَّ الرجلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِن سَخطِ الله لا يظنُّ أن تبلغَ به ما بلغَت يكتبُ اللهُ بها عليه سخطَه أبدا، ويهوي بها في النارِ أبعدَ مِن الثريا.
أيها المؤمن: لك ميزانٌ فيما تقولُ وفيما تفعل ولَك ضبطٌ في الأقوال والأفعال في نفسِك وفي أسرتِك ومَجالسِكَ المختلفة، ولَك فُسحةٌ فيما أحلَّ الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه، وعليك نهيٌ فيما نهاكَ عنه مِن مكروهٍ وشُبهةٍ فضلاً عن حرامٍ ومعصيةٍ في النظرِ والاستماعِ والقَول، وخطواتُ القدمِ ومَشيِ الرِّجلِ وحركةِ اليدِ والأصابعِ وما تعلَّق بالبطنِ والفرجِ وما تعلَّقَ بالسمعِ والبصر، إنها لشؤونٌ عليها تقومُ الموازينُ في يومٍ يوضَعُ فيه الميزانُ فلا تُظلمُ نفسٌ شيئا، قال إلهُنا الذي إليه المرجعُ وله الحكم: ((وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ))
أيها المؤمنون بالله: تُعَلِّمُنا الجُمعَةُ السَّعيَ لذكرِ الله، وتُعلِّمنا ذِكْرَ الله، تعظيمَ الله وإجلالَه وتعظيمَ رسولِه المصطفى محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حتى نحيا بالإيمانِ في الإيمانِ ويكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إلينا مما سواهما. قمةٌ في المحبة، وعلوٌّ وسموٌّ في معناها أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليكَ أيها المؤمن مما سواهما، وبذلك تذوقُ حلاوةَ الإيمان، فلا يجوز أن نُوَطِّنَ قلوبَنا محبةَ أيَّ شَيْءٍ أعظمَ مِن محبةِ الله ومحبةِ رسوله ومصطفاه، فالله ورسولُه أحقُّ بمحبَّتِنا وأحقُّ بطلبِ الرضوان ((وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ))
فالإيمانُ في القلبِ تقومُ به مشاعرُ طلبِ رضوانِ الله ورضوانِ رسولِه، ولا مبالاةَ في رضوانِ اللهِ ورسولِه أن يغضبَ ذَا أو ذَا أو ذَاكَ، أفرادٌ أو جماعاتٌ، صغارٌ أو كبار، قال نبيُّنا المُختارُ في خطابِ إلهِه الغفَّار (إن لم يكُن بكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي)، وقال (سبحانكَ لك العُتبى) أي طلبُ الرِّضا حتى ترضَى، لك العُتبى حتى ترضى، أي يقومُ ديني وعبادتِي على طلبِ رضوانِك، حتى أنالَ رضوانَك، ولم يرضَ جبارُ السماواتِ والأرضِ عن أحدٍ مِن خلقِه كما رضِيَ عن محمدِ بن عبدِالله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلم وبذلك قدَّمَهُ على مَن سِواه، فلا ينصرف شهرُ ذكرى ميلادِه إلا وقد ظَفِرْتَ بالسَّنا مِن إسعادِه وبيانِهِ وإرشادِه ومحبتِه ووِدادِه، لِترِدَ على حوضِه المورود، فما أطيبَ ذلك الموردَ للواردين، وتنظرَ وجهَهُ وطلعتَهُ الغرَّاء في يومِ الدين، وتستظلَّ بظلِّ لواءِ الحمدِ، وتحتَ ذلك اللواءِ آدمُ وشيثُ بن آدم ونوحٌ وإدريسُ وإبراهيمُ وإسماعيلُ وإسحقُ ويعقوبُ ويوسفُ والأسباطُ وموسى وعيسى وصالحٌ وهودٌ وجميعُ أنبياءِ الله، قال عليه الصلاة والسلام: (آدمُ فمَن دونَه تحت لوائي يومَ القيامة) فاجعلنا اللهمَّ معهم تحتَ ذلك اللواء، يا حيُّ يا قيومُ يا عالمَ السرِّ والنجوى.
واتخذ سبيلاً من حُسنِ الأدبِ بتعظيمِ السنةِ وضبطِ الأقوالِ والأفعالِ، واجعل مِن أقوالِك كثرةَ صلاةٍ وسلامٍ على المَرسِل إليكَ ليصلِّي عليك رَبُّك وتقرُبَ من نبيِّه يومَ القيامة (إنَّ أولى الناس بي يومَ القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة)
(من صَلَّى عليَّ واحدةً صَلَّى الله عليه بها عشرا) واستمع قولَ ربِّك، يبدأ بنفسِه، ويُثنِي بالملائكة، ويوجِّه المؤمنين عموماً تعظيماً وتكريماً وتفخيماً فيقول: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))
اللهم صَلِّ وَسَلّم على الرحمةِ المُهداة والنِّعمةِ المسداة، السراجِ المُنير، البشير النذير عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤازرِ رسولِ الله في حاليِ السّعَةِ والضيق، خليفتِه سيدِنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطقِ بالصواب ناشرِ العدلِ في البريَّة حليفِ المحراب أميرِ المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب. وعلى مَن استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، أميرِ المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان، وعلى أخِ النبيِّ المصطفى وابن عمِّه ووليِّه وبابِ مدينةِ علمه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغاربِ، أمير المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب، وعلى الحسنِ والحسينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بنصِّ السُّنَّة، وعلى أُمِّهما الحَوراء فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرِّضا وأمهاتِ المؤمنين، وبناتِ المصطفى الأمين ، وعلى الحمزةَ والعباس، وسائرِ أهلِ بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَس والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبةِ وأهلِ بدرٍ وأهلِ أُحُدٍ وأهل بيعةِ الرضوان وعلى سائرِ الصحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، اللهم ألّف ذاتِ بين المؤمنين، اللهم رُدَّ كيدِ الكائدينَ والفاجرينَ والمفسدينَ في نُحورِهم، واكفِ المسلمين جميعَ شرورِهم، واجعل هوانا تبعاً لِمَا جاء به هادينا إليك ودالُّنا عليك عبدُك المصطفى محمد، اللهم ثبِّت أقدامَنا على حُسنِ متابعتِه محبةً وإيماناً ويقيناً وتصديقاً وتعظيماً ومودةً ورضا، اللهم والطُف بِنَا وبالأمةِ فيما يجري به القضاء.
اللهم وأحسِن لنا خاتمةَ شهرِنا وكلِّ شهرٍ لنا، وخاتمةَ يومِنا وكلِّ يومٍ لنا، وخاتمةَ ساعتِنا وكلِّ ساعةٍ لنا، وأحسِن لنا خواتيمَ أعمارِنا واختم لنا بأكملِ حُسنِ الخاتمةِ عند الموت، يا حي يا قيوم أعِذنا مِن موجباتِ الحسرةِ والندامةِ، وأسعِدنا في الدنيا والبرزخِ ويومِ القيامة، واربُطنا بعبدِكِ المُظلَّلِ بالغمامة، وأُعلِ درجاتِ مَن تقدَّمَ في مساجدِنا وبلدانِنا هذه مِن أهلِ لا إله إلا الله واجزِهم عنا خيرَ الجزاء، وارفَع لهم المراتبَ لديك، واجزِ الإمامَ الفخرَ الشيخَ أبا بكر بن سالم عنا جزاءَك الحسَن كما يليقُ بجودِك، واشكُر مسعاه ومسعَى مَن جَرى في ذلك المجرَى مِن أهلِ الصدقِ والإنابةِ والخشيةِ منكَ والإقبالِ عليكَ والإخلاصِ لوجهِك الكريم.
اللهم ارحَم موتانا وأحيانا برحمتِك الواسعة، وارفعنا مراتبَ قُربِكَ الرَّافعَة، وأعِذنا مِن كلِّ سوءٍ أحاط به علمُك في الدنيا والآخرة، واجعلنا مِن أهل الوجوهِ الناضرةِ التي هي إليكَ ناظرة، وبارِك في جُمعَتِنا واصرِفنا منها والقلوبُ عليكَ مجموعة، والدعواتُ عندكَ مسموعة، والأعمالُ الصالحةُ مقبولةٌ مرفوعة، والذنوبُ مَغفُورة مكفَّرَة مُتجاوَز عنها، والتوبةُ صادقةٌ ثابتةٌ نصوحاً تامَّة لا ننقضُ عقدَها ولا ننكثُ عهدَها ولا نُخلِفَ وعدَها، يا خيرَ التوَّابين، يا مَن يُحبَّ التوَّابينَ ويحبُّ المتطهِّرين، اجعلنا مِن التوابين واجعلنا مِن المتطهِّرين، واجعلنا مِن عبادِكَ الصالحين، واغفِر لنا وللمؤمنين أجمعين، واختِم لنا بالحُسنى وأنت راضٍ عنا يا ربَّ العالمين.
((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))
((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))
نسألكَ لنا وللأمَّة مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مما استعاذَكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنت المستعانُ وعليك البلاغُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث ونهى عن ثلاث:
((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ))
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذَكرُ الله أكبر.
22 ربيع الأول 1442