(575)
(536)
(235)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان بحارة عيديد، مدينة تريم، 13 ذو الحجة 1442هـ بعنوان:
أقسام الناس في القرآن الكريم في الطلبات والرغبات وفي الفكر والسلوك
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله.. الحمد لله القويِّ القادرِ المُبدىءِ المُعيد الفعَّال لما يريد، ونشهد أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، هو السيد الخالق الحاكم البارىء المصوِّر وكُلُّ مَن في السماواتِ والأرضِ له عبيد، ونشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، سيِّدُ أهلِ حقيقةِ التوحيدِ وأكرمُ إمامٍ هدَى إلى المنهجِ القويمِ الرشيد. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على خاتمِ الأنبياءِ وسيدِ المرسلين، عبدِك المجتبى المصطفى الأمين سيدنا محمد، وعلى آلِه وأهل بيتِه الطاهرين وأصحابِه الغُرِّ الميامين، وعلى مَن والاهم فيكَ واتَّبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهِم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله.. فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله وأحسِنوا يرحمْكُم الله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
أيُّها المؤمنون بالله جلَّ جلاله: وأنتم في خاتمةِ موسمِ عيدِ الأضحى المبارك وإقامةِ الشعيرةِ الكبرى التي هي ركنٌ مِن أركانِ الإسلام: انظروا وتأمَّلوا وتفكَّروا وتدبَّروا؛ فإنَّ الناسَ يعيشون على ظهرِ الأرض منقسمِين في مُراداتِهم وطلباتِهم، وفي سلوكِهم وأعمالِهم ومقاصدِهم وأفكارِهم.
أيُّها المؤمنون بالله جَلَّ جلاله: ومَن الذي منهم يفوز؟ ومَن الذي منهم يسعَد؟ ومن الذي منهم يُدرك خيرَ الحياة وخيرَ الوفاة؟ ومَن الذي يقع في ورطاتِ الهلاكِ والشقاءِ الأبدِي!
أيها المؤمنون: الكلامُ الفَصْلُ لربِّنا الحَكَمِ العدل -جلَّ جلاله- في ضمنِ وتلوَ آياتِ الحَجِّ والوقوف والإفاضةِ وأيام مِنى ذَكَرَ لنا أصنافَ الناس وأقسامَهم، وبيَّنَ لنا أحوالَهم ومآلَهم {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} {قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ}. فذكَرَ سبحانه وتعالى في ضمنِ هذه الآيات التي ذكَّرنا فيها بالحجِ والمشاعرِ والشعائر شؤونَ الطلبات والأمنيات والهِوايات والرَّغبات عند الناس، قال جلَّ جلاله: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
هذا تقسيم الناس فيما يتعلَّق بمطالبِهم وأمنياتِهم ورغباتِهم وسؤالهم؛ فريقان: فريق انحصر نظرُه في الدنيا ومتاعِها وما فيها.. مالُها وزخرفُها وصحتُها وأبنيتُها ومراكيبُها ومُتـَعِها؛ لا يُحَقِّقُ طلَبَاً إلا فيها، ولا يُصدِرُ رغبةً إلا إليها {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} "آتِنا في الدنيا": مظاهرُها الكذَّابة وظواهرُها الغرَّارة ومُتَعها الفانية، وهنا ينحصرُ فكرُه وطلبُه. قال الحق: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} أي مِن نصيب، لا حظَّ له ولا نصيبَ في الآخرة، فويلٌ له مِن ساعةِ الغَرغرة إلى الأبد لأنه لا نصيبَ له هناك، لا حَظَّ له هناك، ويلٌ للذي انحصرَ طلبُه في مُتَعِ الدنيا وشهواتِها.. في مظاهرِها وزخارِفها الفانيات، لا نصيبَ له في الآخرة.. فمَن له عند الممات؟ ومَن له ساعةَ الوضعِ في القَبر؟ ومَن له يومَ البعثِ والحَشر؟ ومَن له في يومِ القيامة؟ ومَن له في حياةِ الأبد؟ وقد حُرِمَ النصيبَ مِن كُلِّ تلك الحياة! {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} مِن نصيبٍ ولا حظٍّ ولا قِسم ولا سَهم! فاحذر أن تكونَ ممَّن سَقَط وانحطَّ وانحصرَت مطالبُه في هذه المُتَعِ التي مِن أجلها يُقادُ الناسُ وبسببِها يُصَرَّفون في مختلفِ الأحوال حتى باعتداءِ بعضِهم على بعض، وقتلِ بعضِهم لبعض، وسبِّ بعضِهم لبعض، وأخذِ بعضِهم حقَّ البَعض، في سبيلِ تحصيلِ هذه الرغبات والمطالبِ والمقاصدِ الزائلات الحقيرات! فليكن ذلك شأنُ مَن لم يؤمِن بالله واليومِ الآخر، وكُلُّ مَن بلغَته الدعوةُ منهم ولم يؤمِن فويلٌ له ثم ويلٌ له. لكن لا يكون هذا شأن مؤمن ولا شأن مسلم صادقٍ أسلَم وجهَه لله الخالق، وصدَّقَ بالنبيِّ خيرِ الخلائق صلى الله عليه وسلم.
إنَّ لنا مطالب، إنَّ لنا أسئلة، إنَّ لنا رغبات، في الدنيا زاداً، وفي الآخرة استقراراً ومُكْثَاً ولُبْثَاً آبَادَا.
أيها المؤمنون: قال تعالى: {مِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} لم يقل في طلبات الأول "حسنة"؛ لأنهم لا نَظَرَ لهم إلى حقيقة الحُسْنِ بل إلى صورة التَّرَفِ والترَفُّهِ والمُتعة الفانية فقط "آتِنا في الدنيا" كل ما تعلَّق بالدنيا وكان مِن شأن الدنيا هاته..!
و: "مَن لم يُبالِ مِن أي بابٍ دخَلَ عليه الرزقُ لم يُبَالِ اللهُ به في أي وادٍ مِن أوديةِ جهنَّم أهلكَه". (مَن أصبح والدنيا همُّه جعل اللهُ فقرَه بين عينيه، وشتَّت عليه شملَه، ولم يأتِه مِن الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومَن أصبح والآخرةُ همُّه جعل اللهُ غِنَاهُ في قلبِه، وجمع عليه شملَه، وأتتهُ الدنيا وهي صاغرة).
أيها المؤمنون: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي ما هو حَسَنٌ في علمِك، وفي حُكمِك، وفي ميزانك، آتنا مِن الدنيا ما هو حَسَن؛ مالٌ لا يُطغِي ولا يُلهي لا مِن حرامٍ ولا مِن شبهةٍ، وولد لا يَضِلُّ ولا يُضِلُّ ولا يكون سبباً لأن يَجُرَّنا إلى النار، وزوجةً صالحةً لا ننتهك بها الحرمات وتكون مقتديةً بالكاسيات العاريات وسبباً للإفسادِ بيننا وبين والدينا أو أرحامنا، فليس ذلك مِن الحُسْنِ في شيء.
"حسنة" {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} ما كان حَسَنَاً في ميزانك وطيِّبَا عندك، لا يؤدي إلى الضُّرِّ ولا الفساد ولا الشر ولا الغفلة ولا المخالفة للشريعة. {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}: علماً نافعا، وعافيةً في الأبدان مصروفةً في الخيرِ والصلاحِ والبرِّ والنفع، ومساكنَ طيبة لا شبهةَ فيها؛ ليست مِن أراضي المساجد والأوقاف ولا مِن حقوقِ الغَيرِ مأخوذةً بغيرِ وجهٍ حلال، فليس ذلك مِن الحسنةِ في شيء. إنما الحسنةُ مسكنٌ من حلالٍ ينوي فيه صاحبُه الخير ويبنيه مِن حلال ويجعله مأوى له ولأهله، ومحَلَّاً لصِلةِ الأرحام ولإكرامِ الضيف ولذكرِ الله وأنواعِ الطاعات؛ هذه الحسنة. {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} وكُلُّ ما أَوْرَثَ العذابَ فليس بحسنة، وكُلُّ ما حَرَمَ الدرجات والثواب فليس بحسنة.
{آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} يجمع الحسناتِ في الدنيا متابعةُ أسعدِ خلقِ الله في الدنيا والآخرة {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
"وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً": ثَبَاتٌ عند الموت وموتٌ على حسنِ الخاتمة. {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}: ثباتٌ عند السؤال في القبر وأن يُجعَل روضةً مِن رياض الجنة. {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}: حشْرٌ في النور مع أهل النور، سَوْقٌ إلى ظِلِّ العرش، وورودٌ على الحوضِ المورود، واستظلالٌ بظلِّ لواءِ الحمدِ المعقودِ لسيدِ الوجود، وإعطاءٌ للكتابِ باليمين، ورجحان لكفَّةِ الحسنات، ومرورا على الصراط، وفوزا عند اللقاء والوقوف بين يديه، ودخولا إلى الجنة، ومرافقة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، والنظر إلى وجهِك الكريم.
لا تُعَرِّضنا لما ليس حَسَن، لا تُعَرِّضنا للعذاب ولا للفضيحة، ولا لظهورِ القبائح، ولا لخفَّةِ الميزان، ولا للخسرانِ عند الوقوفِ بين يديك، ولا للهُويِّ في النار، ولا للعذابِ بأنواعه {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
سلِّمنا ونجِّنا من عذاب النار {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} لن ينصرَهم مِن أول ما يُلاقون مِن الشدائد مِن أهوالِ سكراتِ الموتِ ثم عذاب القبورِ ثم الخِزي يومَ البعث والنشور ثم دخول النار.. لن يجدوا لهم نصيراً مِن حزبٍ ولا هيئةٍ ولا جماعةٍ ولا حكومةٍ ولا شركةٍ ولا مؤسسةٍ ولا أصدقاءَ ولا قبيلة {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار} لن يجدوا أحداً ينصرهم ويُسَلِّمهم مِن غضبةِ الجبار ولا من عذابه وعقابه ولا من دخول النار- والعياذ بالله جلَّ جلاله-.
هكذا تنتهي طلباتُ المُوَفَّقِين المؤمنين يطلبون الحسنةَ لا السيئة في الدنيا وفي الآخرة، فهم أبعدُ الناس عن السيئات في المقولات والمنظوراتِ والمسموعاتِ والمعاملات، وأقربُهم إلى الحسناتِ في المقاصد والنيات والإرادات؛ لذلك عقَّبَ تعالى بعد ذلك بذكرِ انقسامِهم أيضا فريقين بعدما انقسموا فريقين في الطلبِ والرغبة، كذلك هم في السلوك والنية انقسموا إلى قسمين.
بعد أن ذكر الحق تعالى هذه الآيات وقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} -وهي أيامكم هذه هذا آخرها- اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر واليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة -الذي أنتم فيه الآن.. هذا آخرُ الأيام المعدودات- {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} وهو وقتُ الأضحية التي نُدِبَت لكلِّ قادرٍ مِن المسلمين. بل قال بعضُ العلماء بالحرمة لمن قَدَرَ أن يُضحِّي فلم يضحِّ حتى غربت شمسُ هذا اليوم، فبقيت هذه الساعات لإمكانِ الأضحية حتى تغربَ شمسُ هذا اليوم فينتهي. والأضحية تَقَرُّبٌ إلى الله، وبَذْلٌ من أجلِ الله، ومواصلةٌ للأرحام، واحتفالٌ بشعائرِ الله، ومعرفةٌ بقدر عيدِ الحق جل جلاله التي شرعَها لنا، وإدخالٌ للسرورِ على الأهل والأقارب.. إلى غير ذلك من الفوائد.
إنها لتُجمَعُ بظلفها وقرونها وشعرها ولحمها فتوضع في ميزان الحسنات فتُضاعَفُ سبعين ضِعْفَاً، وإنه يُغفَرُ لصاحبها بأول قطرة لدمها.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} فأكثروا ذكرَ الرحمن جلَّ جلاله وتعالى في علاه، مَن يتَّخذ الأيام المعدودات للملاهي والغفلات ما أصاب.. بل أخطأ! بل خَسِر! {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}. وقال عن الحجاج: {ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} فنفَرَ في اليوم الثاني من أيام التشريق {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ..} فنفَرَ في اليوم الأخير{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ} {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} المرجعُ إليه والحشرُ إليه جل جلاله لأوَّلِكم وآخرِكم ومؤمنِكم وكافرِكم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} هذه المساعي، هذه الأعمال، هذه المسالك {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ينطوي على البغضِ لعبادِ الله، والحقد على خلقِ الله ويخاصمُ بشدَّة ليأخذَ غيرَ حقِّهِ. كما روى الشيخان في صحيحهما عن رسول الله: (أبغض الرجال إلى الله الألَدِّ الخَصِم) صاحب اللَّدد: البغضاء والشحناء، وصاحب الخصومة والمنازعة، كثير النزاع كثير الخصام {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ..} وقصدُنا الخير ونريدُ الخير ونحن ما نحب إلا كذا ونحن نتمنى للناس الخير.. وبعد ذلك {هُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} كَذَبَ فيما يقول، ومع ذلك {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ}! يعلم الله قلبي ويعلم الله نيتنا وما نريد للناس إلا كذا! ما عملك؟ ما معاملتك؟ أَتُصَدِّق ما قلتَ أم تُكَذِّبه؟ فإن كذَّبته فويلٌ لك {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} {وَإِذَا تَوَلَّىٰ..} -تمكَّن من أي شيء- {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ..} يُهلِك الحرثَ ويُفسَدُ شأنَ ما يحتاجُه الناسُ مِن أغذيةٍ وأطعمةٍ يُنبِتُها اللهُ لهم، إمَّا بإهلاكِها نهائيا أو أن يجعلَ فيها لاستعجالِه عليها وعلى أخذِ الأثمان والقيمةِ لها بجعلِ الموادِّ الضارَّةِ السامَّة وسطَ تلك النباتات ليستعجلَ على تكبيرِها وعلى صورةِ إنضاجِها بغير نُضجٍ لتُسبِّبَ سمومًا وسرطانًا في آكلِها {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ}. ويهلك النَّسْلَ: إمَّا بقطعِ النسلِ والابتعادِ عن طلبِ الولد، وإمَّا إهلاكِه بتَعريضِه أن يكونَ في تبعيَّة الفجار والكفار والفُسَّاد {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} يشتري له الجوالات ليُفسَدَ بها أوقاتَه وأفكارَه ولتأخذَ عقلَه في ليلِه ونهارِه، ويَفسَح له المجالَ ليذهبَ إلى مقاهي الإنترنت ليَمتلىء بأنواعِ السوء، حتى لا يَحضُرَ له قلبٌ مع الله في صلاة ولا غيرها {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ..} وويلٌ لمن يَعتَزُّ بغيرِ الله، وويلٌ لمن يَعتَزُّ بالدنيا أو مظاهرِها -ولو حلالها فكيف بحرامها- {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} -هذا الصنف الأول- وما أكثرهم، انظر يمينَك وشمالَك تَجدْهُم كما ذكرَ ربُّك جلَّ جلاله- وانظر إلى الصنفِ الآخر: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } يبيع نفسَه مِن أجلِ الله، يبذلُ مِن أجلِ الله، يقولُ مِن أجل الله، يفعلُ مِن أجل الله، يتعبُ مِن أجل الله، يَنفَع الناسَ مِن أجلِ الله، يَبذُل حالَه ومالَه مِن أجلِ الله في مرضاةِ الله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
وقد كان مِن أسبابِ نزولِها مهاجرة سيدنا صهيب عليه رحمة الله مِن مكةَ فلحقَه بعض المشركين فأرادوا رَدَّه قال ما تستفيدون مني؟ خذوا مالي وما معي كله واتركوني أذهبُ إلى رسول الله، قالوا تعطينا مالَك والقوم عُبَّادُ أموال؟ قال نعم، قالوا حتى ما في يدك؟ قال حتى مافي يدي خذوه، والذي في مكة في مكان كذا وعند فلان خذوه، والذي في يدي خذوه، وأقبلَ على المدينة فلمَّا قابَل رسولَ الله التفت إليه وقال: رَبِحَ البيعُ أبا يحيى رَبِحَ البيعُ أبا يحيى، وتلا عليه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} يحب البَذْلَ مِن أجلِ ربه، يبذل المال، يبذل النفس، يبذل الروح، يبذل الوقتَ، يبذل الفكرَ لإصلاح، لتقريب، لتحبيب، لطاعةِ الله، لنصرِ الحقِّ ورسوله {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
جعلنا الله في خِيَار الفريقين، وثبَّتنا على متابعة سيد الكونين، وجعل الموسمَ مباركًا عليا وعلى المسلمين، وفرَّج الكروبَ ودفعَ الخطوب، وأصلح القوالبَ والقلوبَ إنه السميعُ القريب العليُّ المجيب، لا إله إلا هو عليه توكَّلنا وإليه أنَبنا وإليه المصير.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وقال تباركَ وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}
أعوذ بالله مِن الشَّيطان الرَّجيم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الحمد للهِ مُعيدِ الأعياد والمَانِّ بالإسعاد لكلِّ صادقٍ معه في الخافي والباد، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له جامعُ الأوَّلين والآخِرين ليومِ المعاد، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبنا محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ مُعَلّمٍ وأكرمُ هاد. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه الأمجاد، وعلى مَن تبعَهم في سبيلِ الهدى والرشاد، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين خِيرتِك مِن أهلِ المحبةِ والوِداد، وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعيهم والملائكةِ المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين يا بَرُّ يا جواد.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسِيَ بتقوى الله.
فاتقوا اللهَ في طلباتِكم ورغباتِكم، وانظروا مِن أي الفريقين وفيمَ ترغبون، واتقوا اللهَ في أفكاركم ومسالِككم ومقاصدكم، وانظروا في أيِّ الفريقين. وهذا تقسيمُ ربِّكم في كتابه. ولا الناس إلا هكذا كما أخبرَ بهِم مَن هو أعلم بهِم ربهم جل جلاله وتعالى في علاه، ومآلُهم كما ذَكَر؛ فمنهم مَن لا خلاقَ له في الآخرة وحسبُه جهنَّم وبئس المهاد، ومنهم مَن لهم نصيب مما كسبوا، وله الرأفةُ مِن الرؤوف بالعباد جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
واخرجوا مِن العيدِ بهذه الوِجهة الصادقة، والرغباتِ العظيمة الفائقة، والوِجهة القويَّة القويمة؛ لتغنموا خيرَ الحياة وتقوموا بحقِّ الله فيها، وتُواصِلوا أرحامكم وتُبِرُّوا والدِيكم، وتنفعوا جيرانَكم وأهلَ بلادِكم والمسلمين بما تقدرون، وتبذلون للذي يُعطِي كُلَّ مَن أنفَقَ في سبيلِه ما هو خيرٌ له وأجملُ وأعظمُ وأجزل، وأكرمُ وأكمل، في الدنيا والبرزخ ويوم الوقوف بين يديه عز وجل، وفي دارِ الكرامة والعطاءِ الذي لا حَدَّ له ولا غايةَ ولا يخطر على قلبِ أحدٍ في الأخيرِ والأول.
أيها المؤمنون بالله: وأكثِروا الصلاةَ والسلام على مَن به أنقذكمُ اللهُ ودلَّكم وهداكم وأرشدَكم وجعلكم خيرَ أمة عبدِه المصطفى محمد، فإنَّ أولى الناس به يوم القيامة أكثرُهم عليه صلاة، وإنَّ الله أمرنا بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنَّى بالملائكة وأيَّهَ بالمؤمنين، فقال مُخبِرَاً تكريما وتعظيما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم على المُنقِذ مِن الضلالة والذي أحسنَ الإرشادَ والدلالة خاتمِ الرسالة عبدِك المصطفى سيِّدِنا محمدٍ، وعلى الخليفةِ مِن بعدهِ المُختار، وصاحبهِ وأنيسهِ في الغار، مُؤازرِ رسولِ الله في حالَيِ السَّعةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطِقِ بالصواب، حليفِ المحراب، أميرِ المؤمنين سيدنا عمرِ بن الخطاب، وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَنِ استحيَت منهُ ملائكةُ الرَّحمن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخِ النَّبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمام أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهِما الحَوراءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى خديجةَ الكُبرى وعائشةَ الرِّضَا، وعلى الحمزةَ والعبَّاس، وسائر أهل بيتِ نبيِّكَ الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وسائرِ أصحاب نبيك الكريم، وأهل بيته الطاهرين، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وتابعيهم، وملائكتِك المقربين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أَذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين، اللهم اجمَع شملَ المسلمين، اللهم ألِّف ذاتَ بين المسلمين، اللهم ادفعِ السوء عنَّا وعن أهلِ "لا إله إلا الله" أجمعين، اقبلِ الحجَّ ممَّن حجَّ، والعمرةَ ممَّن اعتمر، والزيارةَ ممَّن زار، اللهم وعوِّض الأمةَ خيراً عمَّا نازلَهم وداهمَهم مِن البلايا والأضرار، اللهم وارفع عنهم سلطةَ الكفار والأشرار وحوِّل أحوالَهم إلى أحسنِ الأحوال في السِّرِّ والإجهار يا عزيزُ يا غفَّار.
اللهم اختِم عامَنا هذا بخير وأقبِل علينا العامَ القادم الثالث والأربعين بعد الأربع مائة وألف مِن هجرة نبيِّك الأمين بصلاحِ أحوالِ أمَّته، وجمعِ شملِ أمَّته، وكشفِ الشدائدِ عن أمَّته، ولَمِّ شعثِ أمَّتِه، وإيقاظِ قلوبِ أمَّتِه، وصلاحِ أحوالِ أمَّتِه ظاهرًا وباطنًا يا أكرمَ الأكرمين يا أرحمَ الراحمين.
اللهم خُذ بأيدينا ونواصينا إليك، أخذَ أهلِ الفضلِ والكرمِ عليك، قوِّمنا إذا اعوجَجنا وأَعِنَّا إذا استقمنا ولا تَكِلنا إلى أنفسِنا ولا إلى أحدٍ مِن خلقِكَ طرفةَ عين، واغفِر لنا ولوالدينا ومشائخِنا وذوي الحقوقِ علينا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحياهم والأموات يا مجيبَ الدعوات.
اللهم {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
اللهم {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
اللهم {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
14 ذو الحِجّة 1442