(231)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ من مسجد الجامعة الإسلامية، كوالالمبور ، ماليزيا- 6 ذو القعدة 1444هـ بعنوان:
أخطار الانحراف في استعمال العقل واتباع الهوى وآثاره على الإنسانية
(يمكنكم الاطلاع على الصور في أسفل الصفحة)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلُوَنا أيُّنا أحسن عملاً، وأشهدُ أن لا اله الا الله وحدهُ لا شريك له، تفرَّدَ بالخلق والإيجاد وإليه المرجِع والمعاد، تنزّهَ عن شريكٍ وعن نظيرٍ وعن شبيهٍ وجلّ وعلا، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدالله ورسوله، ونبيه وصفيُّه وخليله، رفعهُ مالك السماوات والأرض الى المقام الأعلى.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدكَ أحبّ خلقك إليك وأكرمهم عليك سيدنا محمد، وعلى آله الاطهار وأصحابه الأخيار، ومن والاهُم فيك وسلك سبيلهم نية وقولاً وفعلاً، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مَن رفعتَ لهم قدراً ومنزلاً، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المُقرَّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ عباد الله، فإني أوصيكم ونفسِيَ بتقوى الله، فهو القوي القادر القهّار الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو أحقُّ أن يُتّقى من كل شيء، وأحقُّ أن يُرجى من كل شيء، وأحقُّ أن يُخشى من كل شيء.
أيّها المؤمنون: ولقد ميَّزَ الله تبارك وتعالى هذا الانسان الذي خلقهُ، ليقوم الأنبياء وأتباعهم بإحسانٍ بالخلافة عن الله في الأرض، في عِمارتها الحِسِّية والمعنوية والظاهرة والباطنة، بما يتهيّئون به لِأن تُعمرَ منازلهم في البرازخُ وأن يُكرموا بذلك في يوم القيامة، وان يُهيّأ لهم في دار الكرامة ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولِيخيبَ ويُخزى المُعرضون المُناكرون الجاحدون لآيات ربهم المُنعِم عليهم، المُقابلون للنعمة بالكفران والجحود، وليصيروا إلى العذاب الشديد وإلى المقتِ من الله جل جلاله، والخلود في نار السعير، هذه حقيقةُ الحياة والمآل وخُلاصةُ ما في الدارين بخبر خالق الدارين جل جلاله، ومكوِّن السماوات والأرضين وما بينهما رب الدنيا ورب الآخرة سبحانه وتعالى.
أيها المؤمنون: تقوى الإله الذي خلق يقتضيها العقل، فإن الله لما أراد أن يختبرنا بالمُكثِ مُدة، هو الذي يُعيِّنها لا غيره، لكل فرد منا على ظهر الأرض، من حين أن يبرز من بطن أمه إلى حين أن تُقبَض روحه وتخرج من جسده، ترتيب رتّبهُ الجبار لا تملك شعوب ولا دول ولا مؤسسات أن تُغيّره ولا أن تُبدِّله، هذا الذي خلقنا لِيختبرنا مدة هذه الحياة، هيّأ لنا من الأسماع والأبصار والعقول ما يُهيِّئنا للاختبار؛ لِننجح ونفلح ونربح ولا نفوز ولا نخسر ولا نُخزى، فمن أحسنَ استعمال العقل الموهوب له من الله جل جلاله عاش في الدنيا على كسب الفضائل والبعد عن الرذائل، وأقام ميزان الحق الخالق في نفع العباد والبلاد، ونفع نفسه وأسرته ومن حواليه بالميزان الصحيح الحق العدل، وآلَ إلى حُسنِ المصير وجميل المرجع إلى الحي القيوم الذي ابتدأ وإليه المرجع (إنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم).
أيها المؤمنون باللهِ جلّ جلاله: ومن عطَّلَ وظيفة العقل وانحرفَ في استعمالها وهُمْ إبليس وجنده مِن كل من اتّبعهُ من الإنس والجن، هم الذين انحرفوا بما أوتوا من عقول عن حُسن استعمالها، وقابلوا نِعمة المُنعم عليهم بالخلق والإيجاد والرزق والإمداد بالجحود، وظنوا أنهم الخالقون أم بيدهم الأمر أم بيدهم المصير، وكل ذلك ضلالٌ وخيالٌ لا حقيقة له!
إن الذين عطّلوا العقول ودعَوا إلى تعطيل العقول باسم الحُريّات وباسم التقدُّم وباسم التطوُّر إلى غير ذلك، وهم لا يُحسِنون الفكرَ من أين جاءوا؟ ومَن الذي خلقهم؟ وإلى أين يصيرون؟ ويُوقِنون أنهم سيتركون هذه الحياة الدنيا، وكلّ واحد منهم لا يدري متى سينتقل عنها ويتركها ولا يملك أن يؤخِّر نفسه ولا أحداً من أفراد أسرته ولا من أصدقائه ولا من جماعاته عن أجله المحتوم له، ومع ذلك يُكابرون ويُعاندون آيات الله التي أرسل بها رسله، ووجَّه بها أنبياءه وختمهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهم الذين ألَّهوا الأهواء واتّخذوا أهواءهم آلهة من دون من خلقهم ووهب لهم السمع والأبصار والأفئدة.
(واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لا لِتكفروا ولا لتعاندوا وتجحدوا، ولا لِتُقدِّموا الأهواء والشهوات وتعيشوا في الدنيا عبيداً للشهوات تقصدون الرذائل، وتفعلون ما يضرّكم في أجسادكم وأرواحكم ودُنياكم وآخرتكم، وأعتى ما يكون من شرور الأهواء والشهوات ما يكون من محبّة التَّسلُّط على الغير والترفُّع وما يكون من شهوتي البطن والفرج، ولقد سُئل صاحب الرسالة الأمين المأمون عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال "الأجوفان؛ الفم والفرج" هو أكثر ما يدخل به الناس إلى النار والعياذ بالله، لأن أصحاب المعصية بالأفواه كلاماً وطعاماً وبالفروج لِواطاً وزِنا، همُ الذين وراء شهواتهم بطَّلوا العقل وانحرفوا عن حُسن استعماله، واستعملوه فيما يضرُّهم صِحّة وديناً ودُنيا وآخرة، وهم الذين أشار إليهم بعد أن ذكر لنا الأنبياء في سورة مريم، ثم قال: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا).
أيها المؤمنون: حقيقة الإنسانية بِكرامتها يفقِدها الإنسان إذا اتّبع هواه (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ)، قال الله لِخاتم الرسل: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) ليس بِيدهم في الحقيقة أمرُ الدنيا ولا أمرُ الآخرة، ولو كان بيدهم لم يبقَ مؤمنٌ مسلم على ظهر الأرض، ولكن الأمر بيد الله الذي خلق ويدفع بعض الناس ببعض (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا).
أيها المؤمنون بالله: مصيبة العالم اتِّباع الهوى الذي يؤدّي إلى الإعلان بالفحشاء، ويؤدّي إلى الاستهانة بنظامِ رب الأرض والسماء وقانون رب الأرض والسماء، في نفس الوقت الذي ُينادى فيه باحترام وتعظيم قانون الدول والمؤسّسات حتى الألعاب الرياضية، تُحتَرم قوانينها وتُحترم أنظمتها وليس أمامها حُريّة لأحد، وليس أمامها تقدّم وتطوُّر يُخالف مناهجها، وجرَّأوا الناس على مناهج ربّهم جل جلاله، وعلى قانون إلههم الذي خلق سبحانه وتعالى، وهُم في واقعهم في الحياة الدنيا يتركون كثيراً مما تشتهيه أنفسهم مُقابل مُصلحة أخرى يرونها بأعينهم أو يرتقبونها أو يؤمِّلونها، وأمام قانونٍ لدولة أو وزارة فيتركون كثيراً مما تشتهيه أنفسهم مُقابل ذلك القانون، حتى لا يُجرَّموا ويعاقَبوا إذا خالفوا القانون.
أتترُك شهواتك لأجل قوانين الخلق وأنظمتهم ثم تقول هذه الشهوات غالبة عليّ أمام نظام الله ومنهاجه ولا أتركها من أجل الله؟! هذا الانحراف في استعمال العقل، هذا الانحدار والانحطاط عن حقائق استعمال العقل ومعرفة الإنسانية وقَدرها ومكانتها، (لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) لِيقوم الناس بالكتاب وميزان، كِتابٌ فيه الأحكام وميزانٌ يوزَن به الخير والشر والنفع والضر، والصلاح والفساد، والهدى والضلال، يوزنُ بميزان الله الذي نزل، وكلُّ من ادّعى أنه يريد أن ينفع الناس ولكن نفعهم بما يُخالِف ميزان رب الناس فسيضرّ الناس ديناً ودنيا وآخرة.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله وتعالى في عُلاه: إذا أُحسِن استعمال العقول فتتكشّف الأنظمة في عالم الدنيا عن فساد وعن ضلال، وعن غيٍّ وعن شرورٍ وعن مفاسد كبيرة، نظاماً بعد نظام، من أول نظام استُعمِلَ مُخالفاً لمنهج الله الذي خلق، من نظام ابنِ آدم الذي سنّ القتلَ في هذه البشريّة، وأول من قتل في هذه الخليقة الإنسانية (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) وسنَّ له وراء دواعي هواهُ وشهواته أن يتجرّأ على أخيه ويقتله، فكان الذي ذهب بالإثم الكبير - ولا تُقْتلُ نفس ظلمًا إلى أن تقوم الساعة إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ منها - فهل في نظامه ذلك حقيقة حُرية أو كرامة؟ إذا اشتهيت شيئاً فلم يُطاوِعك الواقع، اقتل من أمامك لِما تتوقع أن تصل إلى واقعك، وهل وصل إلى مراده؟ هل وصل إلى مقصوده وشهوته في الدنيا؟ فرَّ ولم يستطع أن يقابل أباه آدم وما كان يلتفت إليه من الترفُّعِ أو تزوّج ربيضته التي ولدت معه في بطن واحد، لم يتيسر له شيئاً من ذلك، اتّبع الهوى وضل وخسر الدنيا والآخرة.
وهذا حالُ كل نظامٍ خالف شرع الله في الأُمم السابقة الذين خالفوا الأنبياء إلى أن بُعِث النبي محمد، نعمْ هو السنة التي لا تختلف وإن كان العذاب في الآخرة بِفضل رحمة رب الدنيا والآخرة، لم يجعله إلا على الذين وصلت إليهم رسالات الرُّسُل فجحدوا وكذبوا وعاندوا (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)، أما الفسادُ في الأجساد وفي الصِّحَّة وفي الدنيا وفي المال وفي الآخرة، فلازِمٌ لكل من خالف منهج الله كائناً من كان، الذي خلق أعلم، الذي خلق أعرف، الذي خلق أحاط علماً بكل شيء جل جلاله، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
آيات الذين كان تكوينهم من نُطَفٍ وعلَقٍ ومُضَغٍ وخرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ليقولوا علِمنا واطّلعنا واتّسع علمنا فدعُوا الرب الذي خلقنا وخلقكم وخُذوا عِلماً دون ربكم! أهذا عقل؟ أهذا فِكرٌ صحيح؟ أهذه نظرة تتناسب مع الفطرة مع المدارك الذهنية لِعقل الإنسان؟ إنها فرعونيةُ (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، إنها فرعونية (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي)، إنها فرعونيةُ (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) تأتي بِصُوَر التقدُّم والتطوُّر والقانون والنظام، فهل لكم الحق أن تضعوا الأنظمة ونخضعُ لها ونحترمها وليس لِمن خلقنا وخلقكم حقٌّ أن يضع النظام؟ بِعقل من؟ بِفهمِ من؟ بِوَعيِ من؟ مَن الأحقُّ أن يتحكّمَ في الخلق ويقول افعلوا ولا تفعلوا؟ من أحقّ بهذا من إلههم الذي كَوَّنهم؟ مِن خالقهم الذي خلقهم جلّ جلاله وتعالى في عُلاه؟!
إنهُ الفسادُ والانحراف في استعمال العقل أوصلَ الأمة إلى أن تُعظَّمَ أفكارُ فَسَقةٍ وفُجار لا يعرفون من خلقهم ولا مآلهم إلى أين، لِيحلُّوا محلّ الإله والعياذ بالله تبارك وتعالى، وما ذاك إلا خَبَلٌ وشِركٌ لا حقيقةَ له (وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) تعالى في عُلاه، ولقد نادى الله سيدنا داوود: (يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين، وارزُقنا حُسن استعمال السمع والبصر، وحُسن استعمال العقل في إدراك الحقائق واستعدادنا لِلقائك، يا بارئ يا مُكوِّن يا خالق، برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
(تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ (1) ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ (2) ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ (3) ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ (4) وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ (6) إِذَآ أُلۡقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقٗا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلۡغَيۡظِ كُلَّمَآ أُلۡقِيَ فِيهَا فَوۡجٞ سَأَلَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَذِيرٞ (8) قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِيرٖ (9) وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ (10) فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ (11) إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٞ (12) وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (13) أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (14)
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذِّكرِ الحكيم، وثبَّتنا على الصِّراط المستقيم، وأجارنا من خِزيِهِ وعذابه الآليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروهُ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ لله مالك المُلكِ إليه مرجع الأولين والآخرين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ رب العالمين، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، خاتم النبيين وسيد المرسلين، اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على القدوة العظمى والأسوة الحسنى عبدك المصطفى محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك، وآلهم وصحبهم وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عباد الله: فإني أوصيكم ونفسِيَ بِتقوى الله، فاتقوا الله، اتقوا الله في عقولكم واتّقوا الله في أسماعكم وأبصاركم، واتقوا الله في نظركم إلى الحياة، واتقوا الله في إدراككم لسر الخلق والإيجاد، واتقوا الذي فسح لكم باب عبادته ليكرمكم، ولترتقوا ولِتُعَزّوا في الدنيا والآخرة، واحذروا بطش الذي بيد ملكوت كل شيء، لا يُبالي بشيء وهو القدير الغفور جل جلاله وتعالى في علاه، لا يُبلَغُ ضَرُّه فيُضَر ولا يُبلَغ نفعه فيُنفَع، بل هو الذي يضرُّ وينفع ويخفض ويرفع، ويُقدّم ويؤخّر ويُسعِد ويشقي جل جلاله وتعالى في علاه، والإيمان به قيدٌ لهذا الإنسان يُمسِك به عن هواه.
لقد قال الرحمن جل جلاله: (فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ (34) يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35) وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36) فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَءَاثَرَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا (38) فَإِنَّ ٱلۡجَحِيمَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ (39)
يا بائعَ دينه وقِيَمهِ مُقابل شهوة من الشهوات أغراهُ بها المُفسدون على ظهر الأرض مِمّن قال الله عنهم (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)، أحسِن استعمال عقلك تُنقِذ نفسك قبل فوات الأوان، وإذا بلغت الروح الحلقوم فلن تُقبَل منك توبة، ولن ينفعك المُفكِّر الفلاني ولا الطائفة الفلانية ولا المؤسسة الفلانية ولا الجماعة الفلانية.
أيها المؤمنون: لكُم شرف الاستِخلاف عن الحق في الأرض، فاعلموا قدر الإسلام والإيمان وقوموا بالميزان الذي وضعه لكم الإله الرحمن جل جلاله وتعالى في عُلَاه، فإنّ الكفار كذّبوا وقالوا ما أنزل الله من شيء، قالوا لِرسلهم ما أنزل الله من شيء أنتم إلا تكذبون.
(وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ)، لكنّهم الذين عطّلوا العقول في الحياة واستخدموها لِكسبِ الرذائل، اضطرّوا للاستعباد لأنواع الأنظمة إلا نظام الإله الحق، خالفوه وانطلقوا في تسخير العقول كيف يكتسبون بها الرذائل ويتحيّلون بها لقضاء الشهوات، وأشدّها الزِّنا واللِّواط، وهو مِن أكثر ما يدخل الناس النار والعياذ بالله جل جلاله، وهو الذي به تنحرِف الطبيعة عن أصلها، وهو الذي استحدثهُ وابتدعهُ قوم لوط وناداهم النبي لوط: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) أي: قرونٌ مرّت من عهد آدم إلى وقته ما ظهرت هذه الفاحشة الخبيثة، حتى ظهرت في هؤلاء القوم فقلب الله عليهم أراضيهم وجعل عالِيها سافلها وأهلكهم العياذ بالله تبارك وتعالى، وغضب عليهم وهم في العذاب إلى الأبد، لأنهم رفضوا نِداء الله وتلبية الإيمان به وبرسوله لأجل أن يقضوا شهواتهم في اللواط، فَبِئس ما اختاروا لأنفسهم وخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
أيها المؤمنون بالله: إننا الذين بِحُكم الإيمان نُحسِن استخدام العقل ونُخضِع الهوى والشهوات، أما الذين لا يعرفون إخضاع شهواتهم إلا لأجل مصلحةٍ فانية أو خوفاً من قانون بشريٍّ موضوع عليهم، فأولئك الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، وأولئك الذين أساءوا استخدام عقولهم، ولو عقلوا لعلموا أن صدَّهم لأنفسهم عن الشهوات من أجل الخالق أهم من أجل القوانين ومن أجل المصالح، ومن أجل الأغراض الفانية وأنّ في ذلك عِزهم وكرامتهم في الدنيا والآخرة.
اللهم انظر إلينا واعفِ عنا وبارك في هذه الجامعة الإسلامية وفي مواطن العلم بأنواع العلوم، التي إذا أُحسِن استخدام العقل في اكتسابها ثم في الاستفادة منها وافق منهج الرحمن الذي كوَّنَ الأكوان، ونفع الإنس والجان والقاصي والدان، وكذلك يجب أن ينصرِف المسلمون بِعقولهم إلى حُسن التفكير والاستبصار، وحُسن التلبية لنداء القهار، وحُسن الاغتنام لما أوتوا في الحياة الدنيا من نِعَم الحق جل جلاله، وسخّر لهم ما في السماوات والأرض جميعا تعالى في علاه.
اللهم أيقِظ قلوب المؤمنين، اللهم أصلِح أحوال الأمة، اللهم اكشِف الغُمّة، اللهم أجلِ الظلمة، اللهم خذ بأيدينا وأصلح ظواهرنا وخوافينا، وارزقنا الاستعداد للقائك، ولا تُخزِنا يوم يُبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، اصرِفنا من الجمعة بقلوب سليمة مسلولة السخيمة، وثبِّتنا على ما تُحب واجعلنا في من تحب، برحمتك يا أرحم الراحمين.
يا من ميَّزتَ أهل الإيمان في الأمم كلها وخصَّصت الأمة بخصائصها، وقالوا الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة، نسألك اللهم أن تُثبِّتنا على أقوم طريق، وأن تُلحِقنا بخير فريق، وأن تجعلنا سبباً لنفع العباد بميزانك الذي ارتضيته وأنزلته على رسلك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وأصلح شؤون الأمة واكشف الغمة، وعامل بمحض الجود والرحمة، وخُذ بيد ملك البلاد ومن يعينه على الخير، وخذ بيد رئيس البلاد ومن يعينه على الخير، وادفع عنا وعنهم كل شر وضير، أصلح ماليزيا وبلداننا وبلاد أهل الإسلام والمسلمين في المشارق والمغارب، وادفع البلايا عنا وعنهم، واغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا ومعلمينا وذوي الحقوق علينا، والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزِدكم، ولَذكر الله أكبر.
16 ذو القِعدة 1444