(229)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع تاربة، بوادي حضرموت، 15 رجب الأصب 1440هـ، بعنوان: آثار ما يحل في الأذهان من تذكُّر وتصوُّر
الخطبة الأولى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمدُ للهِ مُكْرِمِنا بأنوارِ الوَحْيِ والتَّنْزيل والدَّلالةِ على سواءِ السَّبيل، وأشهدُ أنْ لَّا إله إلا الله وَحْدَه لا شريكَ له، جامِعُ الخلائق ليَومِ الهَوْلِ الثَّقيل، والحَاكِمِ بينَهُم ولا مُعَقِّبَ لحُكْمِهِ في كلِّ صَغيرٍ وكبيرٍ وكثيرٍ وقليلٍ. وأشهدُ أنَّ سيَّدنا ونبيَّنا وقُرَّةَ أعْيُنِنا ونُورُ قلوبِنا محمداً عبدهُ ورسولُهُ، المُعَلِّم الهادي الدَّليل، السِّرَاج المنير الذي بَيَّنَ فأحْسَنَ البَيَان، وهدانا إلى أقْوَمِ الصِّفاتِ والفِعْلِ والقِيل. اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المخصُوصِ بالإسراءِ والمعراج، والهادي لأقومِ مِنهَاج، وعلى آلهِ الأطهارِ وأصحابهِ الأخْيَارِ ومَن على مِنْهاجِهِم سَارَ على مَدى الأعْصَار، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِنَ الأنبياءِ والمُرسلينَ وآلهِم وصحبهِم أجمعين، وعلى ملائكتِكَ المُقَرَّبينَ وجميعِ عبادِكَ الصَّالحِين.
أما بعد، عبادَ الله: فإنِّي أوصيكُم ونَفْسِيَ بِتقوى الله، فاتقُوا اللهَ وأحْسِنُوا يرحمْكمُ الله (إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
أيُّها المؤمنون بالله: دَعائِمُ التَّقوى أنْ يَحضُرَ في ذِهْنِ المؤمِن أخْبارُ الحقِّ وأنْبَاءُ رَسُولِه، وما جاءَ عن هذا المصطفى في البلاغِ عَنِ اللهِ تبارك وتعالى؛ وذلِكُمُ الاسْتِشْعارُ وذَلِكُمُ الاسْتِحْضَارُ نورٌ يَسْتَنِيرُ بهِ الضَّميرُ لِيَثْبُتَ على تقوى عالمِ السِّرِّ والنَّجْوَى جلَّ جلالُه، وبِذَلِكَ يَزْدادُ الإيمان، ويتصَفَّى الإنسانُ عنِ الرَّانِ والأدْران، باسْتِحْضارِ الذِّهنِ لِمَا أوْحى الله إلى مُصْطَفاه، وما بلَّغَهُ المصطفى عنِ الله .
ولقد كان مِنْ عظيمِ ما أوحى الحَقُّ إلى رسولِه، وكبيرِ ما بلَّغنا الرَّسُولُ عَن إلَهِه ما تَتَذَكَّرُهُ الأُمَّةُ في مِثْلِ هذا الشَّهْرِ مِنْ حَادِثَةٍ هِيَ آيةٌ عَظِيمةٌ ؛ تِلْكُم حادِثةُ الإسراءِ والْمِعْراج، قال عنها الجبَّارُ سُبْحانَهُ في كتابِهِ، مُستَفْتِحاً بِتَقْدِيسِ نَفْسِهِ وتَنْزِيهِهَا: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا)، ولَقَد قالَ في الآيَةِ الأُخْرَى: (لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ)، صلَّى الله عليْهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلَّم.
وفيها أخبارٌ عن عالَمِ البَرْزَخِ، وعن ما يكونُ في عالَمِ القِيامَةِ والجنَّةِ والنَّار، وأخبارٌ عن عالَمِ السَّماءِ، والملائِكَةِ والأنْبِياءِ، وَوُجُودِهِم في السَّماوَاتِ على المراتبِ التي رتَّبَهُم اللهُ جلَّ جلاله، وفيها إهْداءُ التَّحِيَّةِ والسَّلام صِلةً بينَ خِيَارِ الأنام، والترحيبُ بنبِيِّكُم المصطفى في كلِّ سماءٍ وصَلَ إليها، وقولُ كُلِّ نبيٍّ يُخاطِبُهُ بعد أنْ يَرُدَّ عليه السَّلام: "مرْحباً بالنبيِّ الصَّالِح والأخِ الصَّالح" صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
أيُّها المؤمنون بالله: غَيَابُ المعاني المُوحَاةِ إلى رسولِ الله عنِ الذِّهْنِ هِيَ مُعَشْعَشُ أنْ تَرِدَ عليهِ خَوَاطِرُ السُّوءِ مِن النَّفْسِ والشَّيطان، قال جلَّ جلاله: (وَمَن يَعْشُ ..) أي: يَغْفَل (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ).
أيُّها المؤمنون بالله جلَّ جلاله: وهذه الذِّكرى التي تَنْفَعُ المؤمِن، والتَّذَكُّر الذي يَحْمِي باطِنَهُ مِن أنْ يَلْتِفَت إلى السُّوء؛ مِن أجْلِهِ جاءَ في القرآنِ قَصُّ القَصَصِ، وقال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ) وقال جلَّ جلاله: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
أيَّها المؤمنون بالله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه: لِذَلِكَ كان مِنْ عادةِ الصَّحابةِ فتابِعِيهِم بإحْسانٍ أنْ يُكْثِرُوا ذِكْرَ ما أخْبَرَ الله وأخْبَرَ رَسُولُهُ، وذِكْر قَصَص الصَّالحينَ مِن النَّبِيينَ والأُمَم السَّابِقَةِ، وأخْبَارِ الصَّحَابَةِ بَيْنَهمُ البَّين فَمَن بَعْدَهُم، كان هذا هوَ الدَّيْدَنُ لهم، ولَمْ يَزَلْ عليهِ أخْيَارُ الأُمَّة في مُخْتَلَفِ الأماكِن ومُختلَفِ العُصُور.
وكان مِن جُملةِ ما دَاهَمَ المُسلِمين: أنْ تَغِيبَ الأذهانِ عَن هذه المعاني الكبيرةِ العظيمةِ الرَّائِقَةِ المُنَوِّرَةِ المُطَهِّرَةِ الرَّافِعَةِ لأصْحَابِها، ثُمَّ تُحشَى الأذهانُ بأخْبارٍ إمَّا لا قيمةَ لها، وإما لها ظُلْمَةٌ تُظْلَمُ بها القُلوب، وإمَّا لها زَعْزَعَةٌ تُزَعْزِعُ الإيمانَ والعِياذُ بالله؛ مِن قَصَصِ الفُجُورِ، وقَصَصِ الحَرامِ، وقَصَصِ الاعْتِداءِ على أمْرِ الله جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
ومِنِ امتلاءِ الأذْهانِ بهذه الأخبارِ والقَصص ترى الأثَرَ مِن عند الأطفالِ الصِّغار في ديارِ المُسْلِمينَ وبُلدانِهم إلى الشبابِ والكبار، خاصَّةً مِنَ الشَّبابِ في وَقْتِ الشَّباب؛ ينظرون ما ينظرون في هذه الصُّورِ وتِلكَ التَّمْثيليَّاتِ، وتلك المعْرُوضَاتِ، ثم يُطَبِّقُونَها ثم يَعْمَلُونَ مِثْلَها، حتى في أنواعِ السَّرِقَةِ وحِيَلِها، وأنواع القَتْلِ وأنواعِ الاعْتداءِ، تَجِدُهُ حتى عند الأطفالِ يُقَلِّدُ شيئاً مما شاهدَ في تلفزيون أبيهِ الغافِل الذي يَغْفَل عن أنَّ الولَدَ يتأثَّر بما يَنْظُر وهو يَفْتَحُ البرامِج السِّيئة والولدُ يَنظُر؛ فرُبَّما تعاملَ مع أخيهِ الأصغر منه أو أخْتِهِ في اليومِ الثاني بشيءٍ مما شاهدَهُ في تلك الصُّوَرِ مُتأثِّراً بها!. وكم حَدَثَ مِن مِثْلِ هَذا.
ثم تَعلَّمَ كثيرٌ مِنَ الشَّبابِ خِدَعِ السَّرِقَات؛ بل كَيْفِيَّةِ القتلِ، بل كَيْفيَّةِ الحِيَلِ أمَام الشُّرطةِ وغيرِها مِن قُوَى الأمْنِ في الأرضِ ليُنَفِّذَ شرَّاً أو فساداً أو ضُرَّاً.. إلى غير ذلك. هكذا يُلعَبُ بالأذهان، وإذا غابَ عنها القُرآنِ ومَعْنى القُرآن، وغابَت عنها قَصَص الأنْبِياء والصَّحابة والصَّالِحين ودَخَلَت وعَشْعَشَت قَصَص الغافِلينَ والمارِقينَ تأثَّرَ الإنْسانُ في فِكْرِهِ ثُمُّ في سَعْيِهِ؛ لأجْلِ ذلِكَ مضى خِيَارُ الأمَّةِ في شَرْقِ الأرضِ وغَرْبِها على الإمْعَانِ في ذِكْرِ القَصَصِ والأخْبارِ الصَّالِحَة، والاحْتِفَاءِ والاحتِفَالِ بالذُّكْرَيَاتِ المباركة للأنبياءِ والمرسلِين، ولخاتمهم نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلَّم، وذِكْرِ أخْبار الصَّحابة والتَّابعينَ وتابِعِيهِم بإحسان.
أيُّها المؤمنون بالله جلَّ جلاله: ومِمَّا تَتَناقَلُ الأفْكارُ بعد ذلك كثيراً مما يُثِيرُ الغَيْظَ أوِ الحَنَقَ أو الحَسَدَ أو الحِقْدَ في القَلْبِ؛ مِنَ الصُّورِ التي تُرَى أو الْكَلِمات التي تُسْمَع، حتى يَصِلَ الإنْسَانُ فيها إلى ما يَصِل، وكذلك سَمِعْتُم ما حَدَثَ في الجُمعة الماضِيَةِ وانْتَشرَ خَبَرُهُ في الأقْطَارِ مِن اعْتِداءِ صاحِبِ قلْبٍ حَاقدٍ حَاسدٍ؛ حَمَلَ في التَّصَوُّرات التي في ذِهْنِهِ، وحَمَلَ فيما يُراوِدُ فِكْرَهُ وذِهْنَهُ تلك الصُّورَ الخَبِيثَةَ التي قَصَدَ بها بَيْتَينِ مِن بُيُوتِ الله في ساعةِ إقامَةِ الجُمُعة واجتماعِ المُسْلمينَ في الجُمُعةِ في نيوزلندا، ثُمَّ إطْلاقُهُ الرَّصاص على هؤلاءِ، وإذا أكْمَلَ رصاص بُندقية ذهبَ إلى البُندقيَّةِ الأُخْرى وجاءَ برصَاصِهِ. وهي من الحوادث الغريبة!، وإنْ كُنَّا في وقْتِ الهَرْجِ؛ وهو وقْتُ القَتْلِ، وفي اليَومِ مِن دِمَاءِ المُسْلِمينَ تُسْفَكُ وتُسْتَباحُ كثيرُ وكثير؛ ولكنَّ بَعْضَها يُصَادِفُ شيئاً مِن مصالِحِ أهْلِ السِّياسَاتِ، فيرَوِّجُونَ لَهُ بِحَسَبِ ما يكونُ عِنْدَهُم، وشيءٌ لا يُصَادِفُ مَصالِحَهُم فَيَسْكُتونَ عنه، وشيءٌ يَضْطَرُّونَ إلى القِيَامِ بِهِ.
فَهُوَ مُسْتَغْرَبٌ في مِثْلِ تِلْكَ البَلْدَةِ أو الدَّوْلة، ولا مِن عُذْرٍ عِندَ القائمِ به، ولا بالتَّسَاهُلِ الذي أوْصَلَهُ إلى أنْ يُنفِّذَ مِثْلَ تِلْكَ العَمَلِيَّاتِ، وأنْ يُزْهِقَ أرواحاً اجْتَمَعَت في بُيُوتِ اللهِ لِتُؤَدِّيَ فرِيضةَ الله جلَّ جلاله، رَحِمَ اللهُ أولئك الشُّهداء، ورَفَعَ قَدْرَهُم عِنْدهَ وقَبِلَهُم في الشُّهداءِ لَدَيْه، وأنْزَل على قلوبِ أهلِهِم السَّكينة والطُّمأنينة، وجعلَ فيما جَرى رِفْعَةً لِدِينِ الله وإعْلاءً لِكَلِمةِ الله، وظهوراً لِجَمالِ هذا الإسْلامِ وهذه الشَّريعة، مَظْهَرٌ مِن المظاهرِ المتعلِّقَةِ بما يُراوِدُ فِكْرَ الإنسانِ وتَصَوُّرَ الإنسان.
ألا إنِّنا نحتاجُ أنْ نَتَربَّى ونُرَبِّيَ أبناءَنا على تصوُّراتِ الخَيْرِ وتَذَكُّرَاتِهِ، بِوَاسِطَةِ ذُكْرِيَاتِ المصطفى محمَّد صلَّى الله عليهِ وسلَّم، وما جاءَ بهِ عَنِ اللهِ، وفي ليلةِ الإسراءِ والمِعْراج رأى نتائِج ما يميلُ إليهِ النَّاسُ ويَتَصرَّفونَ فيه، ويُقَرِّرُونَ فِعْلَهُ أوْ قَوْلَهُ مِن مَحمُودٍ أو مَذْمُوم، رأى نتائِجَ ذلكَ، وشاهدها بِعَيْنِهِ في الجزاءِ الذي يلاقونَهُ على ما صَدَرَ منهم.
ملأَ اللهُ قُلُوبَنا إيماناً ويقيناً، وجعلنا مِن أهلِ الصِّدقِ معهُ، وأهلِ النُّورِ الذي تمتلئُ بِهِ صُدُورُهُم إيماناً وثباتاً ونوراً مبيناً، اللهم إنك عُدَّتُنَا مِن كُلِّ بَلْوَى ومِن كُلِّ شَرٍّ وسُوءٍ، نسْألُكَ أنْ تَقِينا يا مَن بِيَدهِ مَلَكُوتُ كلِّ شَيءٍ وإليهِ ظَوَاهرنا وخَوَافينا.
واللهُ يقولُ وقولُهُ الحقُّ المبينُ: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
أعوذُ باللَّهِ مِنَ الشيطَانِ الرَّجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ) [النجم:1-18].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعنا بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكرِ الحَكيم، وثبَّتَنا على الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وأجارَنا مِنْ خِزْيهِ وعَذابِه الأليم.
أقولُ قَوْلِي هذا، وأستغفرُ اللهَ العَظِيمَ لي ولكم، ولوالدِينا ولجميعِ الُمسلِمين، فاستغفرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية:
الحمْدُ للهِ حًمْدَاً يُوقِظُ بِهِ الْقُلُوبَ مِن نَوْمِها وسُبَاتِها، ويُذَكِّرُ بِهِ الأفئِدَةَ والأذْهَانَ مِنْ غَفَلاتِها، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، المحِيطُ العَالِمُ بِشُؤُونِ بَرِيَّتِهِ في ظَوَاهرِها وخَفِيَّاتِها، وأشْهَدُ أنَّ سيدنا ونبينا وقُرَّةِ أعْيُنِنا ونُورَ قُلُوبنِا مُحمَّداً عَبْدُهُ ورسولُه، زَيْن الوُجُودِ، مَنْ جَعَلَ اللهُ لَهُ في الجنَّةِ أعلى دَرجاتِها، وجَعَلَهُ بَيْنَ الرُّسُلِ خَاتَمَ رِسالاتِها.
اللهم صَلِّ وسلِّم على النَّاطِقِ بالحقِّ الهادي إلى السَّبيِل الأقْوَمِ، عَبْدِكَ المصْطَفى سيِّدنا مُحمَّد، وعلى آله وصَحْبِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحْسَان، وعلى آبائِهِ وإخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ والمُرسْلِينَ وآلهِم وصَحْبهِم، والملائكةِ المُقرَّبين، وجميع عبادكَ الصَّالحين، وعلينا مَعَهُم وفيهِم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإنِّي أوصيكُم ونْفْسِيَ بِتقْوَى الله؛ تقوى الله التي لا يَقْبَلُ غيْرَها، ولا يرْحمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليْها. وعُمْدَتُها وعُدَّتُهَا تَذَكُّر الحقيقةِ، وما جاءَ عنِ الرَّبِّ وخيرِ الخَلِيقَة محمَّدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم، وعِمَارةُ الذِّهْنِ بِتِلْكَ الأخْبَارِ ذاتِ الأنْوار، الشَّارِحَة للصُّدورِ، الُمنَزِّهَة لها عنِ الكُدُور.
أيَّها المؤمِنُونَ بالله جلَّ جلالُه: لَقَد رأى نَبِيُّنا صلَّى الله عليه وسلم نَتائِجَ الحرَكاتِ والسَّكناتِ والكَلِماتِ والأفْعالِ في ليْلةِ الإسراءِ والمِعْراج، ورأى حالَ الذين يُخلِصونَ معَ اللهِ يُجاهِدونَ في سبيلِه: (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ).
ورأى الذين يأكُلُونَ الرِّبا لهم بُطونُ قَدْ عَظُمَت تجْري فيها الحيَّاتُ والعَقارِب، كُلَّما قامَ أحَدُهم سَقَطَ في مكانهِ (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ).
ورأى الذين يقولونَ مالا يفعلُون، تُقرَضُ شِفاهُهم بِمَقارِيضَ مِن نارٍ ومِن حَديدٍ، كُلَّما قُرِضَت عادَت كما كانت.
ورأى الذين تَتَثَاقَلُ رؤوسُهُم عنِ الصَّلاةِ تُرضَخُ رؤوسُهم بِمَقامِعَ مِن حَديدٍ أو حِجَارة مِن النارِ، كُلَّما رُضِخَت عادَت كما كانت، قال: "هؤلاءِ مِن أُمِّتِك، الذين تَتَثاقَلُ رُؤوسُهم عنِ الصَّلاةِ". فعَظِّمِ الصَّلاةَ وأمْرَها، و{مُرُوا أوْلادَكُم بِالصَّلاةِ وَهُم أبْناءُ سَبْعٍ، واضْرِبُوهُم عَلى تَرْكِهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ}.
أيُّها المؤمِنُونَ بالله جلَّ جلاله: وتَجري أعمالُ النَّاسِ على حَسَبِ ما اسْتَقرَّ في أذْهانِهِم وبَوَاطِنِهم مِن تَصَوُّرٍ وفِكْرٍ، وفيما يُشاهِدونَ، وفيما يَتفكَّرونَ ويتذكَّرون، فامْلأوا بَوَاطِنَكُم بِذِكْرِ أخْبارِ المصْطَفى صلَّى الله عليْهِ وسلَّم، وما جاءَ بهِ عَنِ الْملِكِ الأعْلى سُبحانَهُ وتعالى.
واعلَمُوا أنَّ في ما يَجْري مِنَ الحَوَادِثِ عِبْرَةٌ وعِظَة، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، ولَقَد يْجَعَلُ اللهُ مع هذهِ الذِّكْرَى فَوائِدَ تُعودُ لِمَن اتَّعَظَ، ولمن ادَّكَرَ، ولمن راجَعَ نَفْسَهُ وحِسابَه .
ولَقَد جعلَ اللهُ تباركَ وتعالى في الحادِثَةِ التي حَدَثَت في الأسْبوعِ الماضي انْتِباهَ كَثيرٍ مِن عُقولِ كثيرٍ مِنَ النَّاسِ إلى هذا الإسْلامِ وإلى هذا الدِّين، وَقَدْ عُمِلَ ما عُمِلَ مِن أجْلِ تَشْويهِهِ قَبْلَ سنواتٍ في حادَثةٍ كانت في بلادِ الغَرْبِ هدى اللهُ بعدها كثيراً مِن عِبادِهِ إلى دينِ الله، وفي خلالِ هذا الأسبوعِ عَشَراتٌ إنْ لم يكونوا مئاتٍ هداهُم اللهُ إلى الإسلامِ بعد هذهِ الحادِثَةِ التي جَرَت مِن صاحبِ ذلك القلبِ المُظْلِم الحاسِد الحاقِدِ المتطاوِلِ الـمُعْتَدي، الذي تَصَوَّرَت عِندَه التَّصوُّراتُ الفاسِدة، ما أخطرَ التَّصَوُّرات الفاسِدة على بني آدم !
ولقد كانَ لِعَمَلِ النَّفْسِ وتصوُّراتِها وحِياكَةِ الأفْكارِ في ذِهْنِ ابنِ آدمَ الأوَّلِ الذي قتَلَ أخَاهُ ما لها، حتى وقَعَت تِلْك الجَريمَةُ التي يكُونُ عليهِ إثْمُ كُلِّ مَن يَقْتُل بعدَهُ إلى يومِ القِيامة؛ (لا تُقتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلَّا كانَ عَلَى ابْنِ آدَمِ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا)؛ لمَّا اتَّبَعَ تِلكَ التَّصُوَّراتِ الخَبِيثَةِ لِنَفْسِهِ في حِقْدِهِ على أخِيهِ وحَسَدِهِ لَهُ: (..لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ)؛ لا جُبْنَاً ولا خَوْفاً ولا ضَعْفَاً، ولكن: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ..) (.. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
أيُّها المؤمِنُونَ بالله: اعْمُرُوا بَوَاطِنَكُم بالخيرِ، وَقَدْ وَعَدَ أهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ أنْ يَنْشُروا الأذانَ اليومَ بأجْهِزَتِهِم في مُخْتَلَفِ أنْحاءِ دَوْلَتهِم؛ اعْتِرافاً بِحَقِّ هَؤلاءِ الـْمُضَطَهَدِينَ المظلومِينَ مِنَ المؤمنينَ وَمُنَاصرَةً لهم، فإنْ صَدَقوا في ذلِك فَلَعَلَّهُ خيرٌ يُرِيدُ الله بهِ أن يُظْهِرَ اسْمَهُ واسْمَ نَبيِّهِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليِه وسلَّم؛ لِيَنْتَشِرَ الإيمانُ إنْ شَاءَ الله في أقْطَارِ الدُّوَلِ وَأنْوَاع البُلْدانِ شَرْقاَ وغَرْباً.
ألا تَذَكَّرُوا رابِطَتَكُم بالحَقِّ الذي خَلَقَكُم، والقُدْوَةِ التي اصْطَفاهُ لكُم: نَبِيّكُم المُجْتَبى محمَّد، وانْتَهِجُوا دَرْبَه، واعْمَلوا على سُنَّتهِ وامتلِئُوا بِمَحَبَّتهِ.
اللهُمَّ امْلأ قُلُوبَنا إيماناً ويقِيناً وصِدْقاً وإخْلاصاً وَوِجْهةً إليْكَ، وتَعْظِيمَ ما عظَّمتَ وتَحْقِيرَ ما حقَّرتَ، والهَيْبةَ لأمْرِكَ ولِنَهْيِكَ فنُحْسِنُ الامْتِثالِ والانْتِهاِء عمَّا نَهَيْتَ يا ذا الجُودِ والإفْضَالِ.
وأكْثِروا الصَّلاةَ والسَّلامَ على المصْطَفى مُحمَّد؛ فإنَّ أوْلاكُم بهِ يومَ القِيَامةِ أكْثُرُكم عليهِ صَلاة، وإنَّ اللهَ أمرَكُم بأمْرٍ بَدَأَ فيهِ بِنَفْسِهِ، وثنَّى بِملائِكَتهِ، وأيَّهَ بالمؤمنينَ مِن عبادِه، فقالَ مُخبراً وآمِراً لهم تَكْرِيماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عَبْدِكَ المختارِ سيِّدِنا محمد، نورِ الأنْوارِ وسِرِّ الأسْرارِ، وعلى الخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدهِ المختار، وصاحبِهِ وأنيسِهِ في الغَارِ، مُؤازِرِ رسُولِ الله في حالَيِ السِّعَةِ والضِّيق، خَلِيفةِ رسولِ الله سيِّدِنا أبي بكرٍ الصِّديق، وعلى النَّاطقِ بالصَّوابِ شَهيدِ المِحْرابِ أميرِ المؤمنين سيَّدِنا عُمَر بنِ الخطَّاب، وعلى مَنِ اسْتَحْيَت مِنهُ ملائِكةُ الرَّحمن، مُحيِي الليالي بِتلاوةِ القُرآنِ، أميرِ المؤمنين ذي النُّورَينِ سيِّدِنا عُثمان بن عفَّان، وعلى أخِ النَّبيِّ المُصْطفى وابنِ عمِّه، ووليِّه وبابِ مَدِينِة عِلْمِهِ، إمَامِ أهلِ المشارقِ والمغارب أمير المؤمنين سيِّدِنا علي بن أبي طالب، وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيّدَي شبابِ أهْلِ الجنةِ في الجنة، ورَيْحانتَي نَبيِّك بِنصِّ السُّنَّة، وعلى أمِّهما الحَوْراءِ فاطِمةَ البَتُولِ الزَّهْراء، وعلى خَدِيجةَ الكُبرى، وعائِشةَ الرِّضى، والحَمْزة والعبَّاس، وأهْلِ بيتِ نَبِيِّكَ الذين طهَّرْتَهُم مِن الدَّنَسِ والأرْجَاسِ، وعلى أهْلِ بَدرٍ وأهْلِ أُحُدٍ وأهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ، وعلى سَائِرِ الصَّحْبِ الأكرَمِينَ وآلِ بيْتِ نَبيِّكَ الأمِين، وجميعِ عبادِكَ الصَّالِحينَ، وعليْنا مَعَهُم وفيهِم برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمين.
اللهُمَّ أعزَّ الإسْلامَ وانصُرِ المسْلمِين، اللهم أذِلَّ الشِّركَ والمُشْرِكين، اللهمَّ أعلِ كَلِمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعْداءَ الدِّين. اللهُمَّ اجمع شَمْلَ المْسِلِمين، اللهم ألِّف ذَاتَ بين المسْلِمين، اللهم خُذْ بِأيْدِينا ونَوَاصِينا إليْكَ أخْذَ أهْلِ الفَضْلِ والكَرَمِ عليك. اللهم اغْفِر لنا ولِوَالدِينا ولِمن تَقدَّمَ في مساجِدِنا هذه، وآبائِنا وأُمَّهاتِنا وذوي الحقوقِ عليْنا، والمؤمنين والمؤمنات، مَغْفِرةً شامِلةً واسِعةً يا خَيْرَ الغافِرين.
اللهم فرِّج كُروبَ الأُمَّة، واكْشِفِ الغُّمَّة، واجْلِ الظُّلْمَة، وادْفَعِ النِّقْمَة، وعامِل بِمَحْضِ الجُودِ والرَّحْمةِ. اللهم ارْفَعِ البلايا والكُروبَ والحُروبَ مِن بلادِنا وبلادِ المُسْلِمينَ في المشارِقِ والمغارِبِ أجمعين يا قويُّ يا مَتين، اللهم رُدَّ كيْد الكافرين وأعداءكَ أعداء الدِّين عنَّا وعن جميعِ المُسْلمين.
اللهم رقِّنا أعْلى مَرَاتِبِ عِلْم اليَقِينِ وعَيْن اليَقِينِ وحَقِّ اليَقِين، اللهم اخْتِم لنا بالحُسْنى وأنتَ راضٍ عنَّا.
اللهم بارِك لنا في رَجَب وما بَقِيَ مِنْهُ وفي شَعْبان وبَلِّغْنا رَمَضان، وأعِنَّا على الصِّيَامِ والقِيَام، وَاحْفَظْنَا مِنَ الآثام، وارْزُقْنا الاجْتِماع على الخَيْرِ، وعلى ما يُرْضِيك عنَّا، وتَذَكُّرِ ما قَصَصْتَ علينا في الخَبَرِ وفي الكتابِ المُنَزَّلِ وقَصَّ علينا نبيُّكَ صلى الله عليه وسلَّم مِن أنْباءِ المُرسَلِينَ وأخْبارِهِم، وما كان بَيْنَهُم وبَيْنَ أُمَمِهِم، وارْزُقنا الاعتِبارَ والادِّكارَ يا أرحمَ الرَّاحمين. اللهم اجَعَل آخِر كلام كُلٍّ مِنَّا من الدُّنيا: " لا إله إلا الله" مُتَحقِّقاً بِحَقائِقها وأنتَ راضٍ عنْه يا ربَّاهُ يا غَوْثاه.
اللهم إنَّا نَسْألُكَ لنا ولِلأمَّةِ مِنْ خَيْرِ ما سألكَ مِنهُ عَبدُكَ ونبيُّك سيِّدُنا محمَّد، ونعوذُ بِكَ مِن شرِّ ما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيِّدُنا محمد، وأنتَ المستعانُ وعليكَ البلاغُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العَليِّ العَظيمِ.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاثٍ، ونهَى عن ثلاث:
{إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فاذكرُوا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكرُوه على نِعَمِه يَزدْكم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
17 رَجب 1440