للاستماع إلى الدرس

الدرس الأول من شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب: فتح الكريم الغافر في شرح جلبة المسافر، للعلامة الحبيب عقيل بن عمران.

عصر الجمعة 14 ربيع الأول 1445هـ

ضمن فعاليات موسم الاحتفال بذكرى المولد النبوي في صلالة.

يشرح فيه مقدمة الكتاب ومعاني الأبيات:

لما بَدَتْ لي جَلْبَـة  المُسافـر في بحر باحات الهَوى زواخِر

ناديت يا أهل الوُد هل مُسافِر هذي سفينة تطلب المفــاخِر

لتحميل الكتاب نسخة pdf:

https://omr.to/fathalkarim1

لقراءة فوائد من الدرس الأول:

https://omr.to/fathalkarim-1

 

نص الدرس مكتوب:

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي خلق الإنسان من عدم، وأجرى بمشيئته القلم، وأيقظ قلوب السالكين إليه عن سِنة الغفلة وهداها إلى المنهج الأقوم، والصراط المستقيم الحكم، و أفاض عليها من الطافه وعافاها من جميع الألم. وأنهض همم العارفين عن الركون إلى الأغيار، وجعلهم أبحر العلم ومعادن الحكم، أحمده على ما ألهم، وأشكره شكرًا أستزيدُ به ترادف النعم، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ اللَّه وحْدهُ لاَ شَرِيكَ لهُ المنفرد بالوحدانية في سابق القدم المنزه عن أن يلحقه في آخرته حدوث أو عدم، و أشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجن والعرب والعجم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه كنز الفضائل ومحاسن الشيم. و بعد، فقد خطر في أيها الإخوان من كل عاشق واله عطشان لاكل محجوب مُنتَقِدٍ فَتَان. أن أشرح قصيدة الشيخ المحقق المدقق العارف بالله العالم الرباني سعيد بن عمر المكنى بالحاف، المدفون بالشحر نفع الله به و بعلومه ،آمين وهي القصيدة التي مطلعها وأولها: لمَّا بَدَت لي جَلْبَة المسافر، وذلك بعد أن سوئلتُ من بعض الإخوان الصادقين، وطولبت بذلك مراراً وحيناً بعد حين ثم لا زالت الخواطر تجذبني والواردات الزعجني أشهراً وأعواماً وسنين، والآن فقد استخرتُ رب الأرباب أن يكشف عن قلبي الحجاب، وأتبرأ إليه عن الحول والقوة وعن الدعوى، مع كثرة الذنوب والأوزار وذهول القلب بالحظوظ العاجلة والشهوات الزائلة، وتراكم الأغيار، ومع هذا فإنّي أحب هذه الطريقة وأهلها وأبغض المعاصي وإن أتيتُ بمثلها كما قيل شعرًا:

أُحِبُّ الصَّـالِحِينَ وَلَسْتُ منهم *** وأَرْجُو أَنْ أَنـَالَ بِهِمْ شَفَاعَة

وأَكْـرَهُ مَـنْ تِجَارَتُهُ المَعـَاصِي *** وَإِنْ كُنَّا سَوَاءً في البِضَاعـَة.

أحب الصالحين ولستُ منهم *** لعلَّ الله يرزقني شفاعة 

وأبغضُ من بِضاعتُه المعاصِي ***  وإن كنا سواءً في البِضاعة

وأُقِرُّ وأعترِف بأني طُفَيليهم وطُفَيلي الكرام لا يُطردُ ولا يُضام؛ بل أرجو أن أكون ممن قال فيهم من لا ينطِقُ عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم: "المرءُ مع من أحبَّ"، وفي لفظٍ آخر: "من أحبَّ قوماً فهو مِنهم" إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية والآيات القرانية فلا نُطوِّل بذكرها.

كيف ومُحبَّة أولياء الله هي عنوان السعادة كما قال الشيخ العارف: أحمد بن عُلوان اليمني -نفع الله به-  كلٌّ يحتاج إلى من فوقه بدا أو خفي فينبغي أن يكون مفتقرًا إليه وإن لم يعرفه، كافتقار الأوتاد إلى الأقطاب وافتقار الأبدال إلى الأوتاد وافتقار الصالحين إلى الأبدال وافتقار الجُهال إلى الصالحين.

 فينبغي لكل سالكً أن يأتمَّ بهؤلاء، ويحسن الظنَّ بهم ويحبُّهم ويتشفَّع إلى الله بحبِّهم، ويتمسَّك بسببهم، وينتسب بنسبهم؛ وإن لم يعرفهم فإن الله إذا عرفَ ذلك منه أخبرهم عنه فكان على خواطرهم وإن غابَ عنهم، ومن جملتهم بين يدي رب الأرباب.

قلتُ: هذا في من لم يعرفهم في الظاهر، فما ظنُّك بمن تقرب وتحبَّب إليهم بالخدمة والصُّحبة والمحبَّة، وأَحسن الظنَّ بهم، وإدخال السرور على قلوبهم، والانتساب إليهم،  فكيف لا يكون  في خواطرهم ويعتنوا به؟

نفعنا الله بحبِّهم وحشرنا في زمرتهم وعاد علينا من بركاتهم في الدنيا والآخرة فإنه على ما يشاء قدير وبالإجابة قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل. 

-جل الله- 

الحمد لله مكرمنا وإياكم بهذه الساعات المباركة في هذا المسجد المبارك: لنقرأ رسالة صاحب المسجد عليه رحمة الله تعالى سيدنا الشيخ عقيل بن عمر، المشهور بعمران " والده"  من ذُريَّة سيدنا أحمد بن الفقيه المقدم محمد بن علي، من ذُريَّة سيدنا المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى، من ذُريَّة سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، ورضي عنهم أجمعين من ذُريَّة المصطفى محمد ﷺ، الذين أُمرت الأمة بذكر الصلاة عليهم عند ذكر الصلاة عليه فيما جاء في الصحيح: لما سألوه ﷺ: علِمْنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟  فعلَّمهم صيغة الصلاة الإبراهيمية، ومن جملة الصيغة التي وردَت في الصحيح قوله: "اللهم صلِّ على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل سيدنا محمد وأزواجه وذرِّيته، كما صليت على سيدنا ابراهيم وعلى آل سيدنا ابراهيم، وبارك على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى سيدنا محمد وأزواجه وذريته كما باركت على سيدنا ابراهيم وعلى سيدنا ابراهيم في العالمين إنَّك حميد مجيد".

عاش الشيخ عليه رحمة الله تبارك وتعالى في القرن الحادي عشر، من أواخر القرن العاشر، وأخذ عن الأكابر في ظفار، ورحل إلى مكة المكرمة ورحل إلى حضرموت، واتصل بأولاد الشيخ أبوبكر بن سالم؛ منهم الحسين والحسن ومجموعة أدركهم من أولاد الشيخ ومن تلامذتهم: مثل الشيخ حسن بن أحمد باشعيب وغيره من الأكابر، كما أخذ أيضا عن صاحب الوهط  الحبيب عبد الله بن علي، وله اتصال بالأكابر، ورسوخ قدم في الوجهة إلى الحق تبارك وتعالى، ومرتبة عليَّه في الإرث المصطفى ﷺ علمًا وخلقًا وسلوكًا ودعوةً إلى الله سبحانه وتعالى، أعلى الله درجاته وجمعنا به في أعلى جناته.

شرح فيها قصيدة للشيخ بالِحاف عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وكان الشيخ سعيد بن عمر بالِحاف من تلامذة سيدنا الفقيه المقدم محمد بن علي، وكان يتلقى عنه كثيرًا من المعارف والعلوم وله عدد من القصائد، منها هذه القصيدة التي شرحها الإمام الذي قرأ هذا الشرح عليه المترجم له مؤلف "المشرع الروي"، جاء إلى ظفار وأخذ عنه هنا في ظفار وقرأ عليه كتب منها لابن عطاء الله السكندري وغيره، و كتابه هذا الذي شرح فيه هذه القصيدة: التي فيها إشارات بديعة إلى الطريق في السير إلى الله تبارك وتعالى بالشريعة المطهرة التي بُعث بها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

ابتدأ الشيخ عليه رحمة الله بالبسملة والحمدلة، اقتداءًا بالقرآن واتباعًا للسنة الغراء، وذكر خلقَ الحق تبارك وتعالى للإنسان من عدم؛  والعدم أصل كل كائن غير الحق تبارك وتعالى، وكل موجود فأصله العدم، إلا الموجود الحق صاحب الوجود المطلق، الإله الذي لا افتتاح لأوليته ولا ابتداء لوجوده سبحانه وتعالى، بل هو الموجود بذاته -جل جلاله وتعالى في علاه-،  وأوجد كل ما سواه، وما سواه فهو فعله سبحانه وتعالى، خالق كل شيء، وينبغي للمؤمن أن لا يغفل عن أن أصله عدم، وقد ذكَّرنا الحق تبارك وتعالى وقال: (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان:1].

ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى خلقنا بحكمته، فشأن هذا الخلق البديع وما خص به العقلاء الثلاثة:  الإنس والجن والملائكة. شأن عظيم جعل بقية الكائنات في خدمة هؤلاء، وتحت هؤلاء في القَدْر والمنزلة، وهيأهم بما أتاهم سبحانه وتعالى من عقل لوعيٍ خاص في الخطاب منه، والمعرفة الخاصة به سبحانه وتعالى، والتهيؤ لزيادة المحبة منه والمحبة له جلّ جلاله، والقرب أيضاً منه سبحانه وتعالى بما لا يكونُ لبقية أجناس هذه الكائنات وهذه الموجودات.

  • فعلى المؤمن أن يتذكر أصله أنه عدم؛ حتى يتدرج في مدارج السجود القلبي.
  • وسجود القلب، به ينتفي شهود وجوده الذاتي ذوقاً، أمَّا علمًا سهل!

تعلم أنك كنتَ معدوما وأنك وُجدت قريب، وأنَّ مُوجدك متصرِّف فيك هذا سهل، لكن أن تذوق أن أصلك عدم ولست بشيء فلا تنازع الحق في وجوده، هذا سجود القلب،  يتحقق به صاحبه إذا وصل إليه، عنده يرتفع امتحانه واختباره بالذنوب والسيئات، ويكون في حفظ الله تبارك وتعالى بتحققه بسجود القلب وشهوده فنائه وأن لا وجود له ولا حول ولا قوة ذوقًا. إذا كان ذلك؛ فعندها يكون هذا الإنسان محفوف بالألطاف فيما يحول الله بينه وبين كل ذنب وكل سيئة وكل معصية ظاهرة وباطنة صغيرة وكبيرة، فينال درجةَ الحفظ التي يصل إليها الأولياء. والعصمة للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مخصوصة بهم. 

أنبياء الله والملائكة هم أهل العصمة، من حين تكوينهم وحين خلْقهم وإيجادهم، ولكن ينتهي إلى الحفظ كثير من الأولياء وقد يبتدئون بها أهلُ السوابق ويُحْفظون منه في البداية والنهاية، وقد يصل إلى هذه الدرجة بعد أن يكون قد تلطَّخ بشيء من الذنوب المعاصي، و مَن صدقتْ  توبته وأقبل بكلِّيته؛ حتى ظفر بسجود القلب، يدخل بدائرة الحفظ من الذنوب والسيئات حتى يلقَ الله على حال جميل، وأجْرى بمشيئته القلم، يأمر القلم أن يكتب ما سبق في مشيئته من وجود الكائنات كلها.

"وأيْقَظ قلوب السالكين إليه عن سِنة الغفلة"،  فمن سبقتْ له سابقة السعادة بالسير إلى الله تعالى، يوقظ قلبه عن سِنة الغفلة التي يغرق فيها أكثر الخلق، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ)  [الأنبياء:1]، (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف:164]. فسبَبت الغفلة لهم حجابهم عن إدراك الآيات وعن إدراك معانيها ودلالاتها التي ترفع أصحابها إلى الدرجات الرفيعات. رفعنا الله بالقرآن ورفعنا الله بالآيات؛ "إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ".

"أيقظ قلوب السالكين إليه عن سِنة الغفلة وهداها إلى المنهج الأقوم"، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور:35]، "والصراط المستقيم المحكم"، الذي قال الحق سبحانه وتعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى:52]، (وإنَّك) باختصاصنا إيَّاك وختْمنا النبوة بك والرسالة وإنزالنا الكتاب عليك وما أعطانك من خصائص؛ (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى:52-53]. فنعم الهادي رسول الله محمد ﷺ إلى الصراط المستقيم؛

  •  وهو إمام أهل الصراط المستقيم كلهم.
  •  وهو سيد أهل الصراط المستقيم كلهم.
  •  وهو مقدم أهل الصراط المستقيم كلهم.

 وأهل الصراط المستقيم هم الذين أنعم عليهم وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون لكن مُقَّدمهم كلهم سيدنا محمد وإمامهم كلهُم سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

"وأفاض" -سبحانه وتعالى- على قلوب هؤلاء السالكين- "من ألطافه وعافاها من جميع الألم المُوجِب للندم" وهو من الغفلة بأصنافها، والمعاصي والذنوب والسيئات، هذا ألَمْ يوجب الندمْ. "وأنهضَ هِمم العارفين عن الركون إلى الأغيار"، وهي الظلمات المتعلقة بالغَير، غير الحق سبحانه وتعالى فلا يركنون إلى شيء من الأغيار وهي جميع الكائنات، الظُلَم الكونية، لا يَغتَّرون بها ويلتفتون إليها ولا ينحجبون بها.

"وجعَلهم أبْحر العلم ومعادن الحِكم" عليهم رضوان الله تبارك الله، اختصاصًا، كما اختَصَّ النَبِيين والمُرسَلِين، فقد اختَصَّ حَمَلَة أسرارِهم وورَثَة علومهم ومعارفهم سبحانه، قلوب ينتقيها من أُممهم وأتْباعهم كما يشاء، فمن أخذه - يقول ﷺ- هذا العلم النافع فقد أخذ لحظٍ وافر، وأهل العلم هؤلاء، على حسب إخلاصهم وعلى حسب صدقهم وعلى حسب أدبهم، ينالون درجات في إرثه ﷺ وفي الخلافة عنه، وتكون قلوبهم هذه هي القلوب المُشار إليها بالاختصاص الرباني.

"أحمده على ما ألهم، وأشكره شكرًا أستزيدُ به ترادُف النِعم." وشاهد قوله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]. "وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ اللَّه وحْدهُ لاَ شَرِيكَ لهُ"، وكل خطبة لا شهادة فيها فهي كاليد الجذماء، فَشَهِدَ أن  لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أي لا معبود بحق إلا الله، "وحده لا شريك له المنفرد بالوحدانية في سابق القدم المنزه عن أن يلحقه في آخريته حدوث أو عدم." جلَّ جلاله وتعالى في علاه فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، "وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجن والعرب والعجم،"؛ فرسالته اختُصَّت بأنَّها إلى العالمين، "صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه كنز الفضائل ومحاسن الشِيم" -الله أكبر-، كنز للفضائل ولمحاسن الشيم، جُعل لآله وصحبه، فآله وصحبه أخصُّ الأمة به عليه الصلاة والسلام، ثم من تبعهم ووالاهم واهتدى بهديهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ) [التوبة:100]، وبقوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ) [الفتح:29] إِلَى آخِرِ مَا وْصَفَهُمْ بَه سبحانه وتعالى، وبقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب:33]. وبما جاء أيضًا عنه صلى الله عليه وسلَّم في آلِ بيتِه وصحابتِه، فالآل والصحابة كنوزٌ للفضائل ولمحاسن الشِيم اختَصَّهُم الحق فهم خاصة الأمة المطهرة.

"وبعد، فقد خطر لي أيها الإخوان، من كل عاشقٍ والهٍ عطشان، لا كلَّ محجوب مُنتَقِدٍ فَتَّان."، - نفس عقيدة الشيخ- خاطب الإخوان الذين وصل إلى قلوبهم نور المحبة وقوّتها المُعَبَّر عنها بالعشق وقوتها المُعَبَّر عنه بالوَلَه، قال الذين عندهم هذا الإقبال وهذا التوجه من المحبة والعشق والوَلَهَ والعطش إلى المعارف والعلوم، أنا أخاطبهم؛ لأن الكلام ينفع معهم، ولأنهم هم محطّ هذا اللب الذي يُثمِر في قلوبهم وفي أرواحهم، وينتج المعارف والعلوم. 

يقول: أمَّا كلُّ محجوب وفوق الحجاب "مُنتَقِدٍ -فصار- فَتَّان"؛ يفتن نفسه ويفتن غيره بكلامه الفارغ وبصده عن سبيل الله تعالى، ليس خطابي لهم ولا كلامي هذا موجه إليهم، هؤلاء لا ينتفعون ولا يرتفعون ولا يتصلون إلا من سبقت له منهم سابقة برجوعه عن انتقاده وعن افتتانه، وإلا (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [البقرة:6]،  في هذه القلوب البعيدة. 

كذلك بين المسلمين من ينتفع بالقرآن ومن لا ينتفع، ومن يكون انتفاعه كثير، ومن يكون انتفاعه قليل. والمنتفع بالقرآن ينتفع بأهل سر القرآن كذلك، وما بين انتفاعه قليل وكثير. ومن لا ينتفع كذلك وهو مسلم لا ينتفع بالقرآن ولا يرتفع بالقرآن، "إنَّ اللهَ تعالى يَرفَعُ بهذا الكِتابِ أَقوامًا، و يَضَعُ بِه آخَرينَ"، فالمنتفعون بالقرآن والسنة هم المنتفعون بكلام حاملي سرِّ القرآن والسنة ورثة الحبيب ﷺ، وعلى قدر انتفاعهم بهذا ينتفعون بهذا، وعلى قدر انتفاعهم بهذا ينتفعون بهذا. 

وأصحاب الاِفْتِتَان أو أصحاب الانتقادات، وعنده سيل من الانتقادات سهل عليه، ويعرف ينتقد على أي شيء، ليل ونهار، على كل حاجة يعرف ينتقد، لكن.. يعمل شيء! يَصدُق في شيء! يُبرِز من الخير شيء! هو ليس حوله، يعرف فقط ينتقد، فلان  وفلان  وفلان  وفلان، يسُب خلق الله تعالى ويتكلم عليهم، فلا يترك وَلِي ولا عارف ولا صالح، وكل من أراده الله بخير يعرف ينتقده؛ هؤلاء علامة الفتنة. والمنتقِد ما ينتفع، إذا عنده أكبر الأولياء في زمانه، إذا عنده أعظم الصديقين في وقته، في بلاده ما ينتفع بهم؛ بسبب انتقاده يُحال بينه وبينهم والعياذ بالله تبارك وتعالى، وبين السر الذي يحمله، كما يُحال بين المنتقد وبين القرآن وسر رواياته. 

يقول: (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ) -يقول الله لهؤلاء المنافقين والكفار- ( إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ) -يتكلمون بينهم البين- (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا) [الإسراء:47]، انظر كيف معه سحر هذا؟ لن يجلب الناس، ومغلوب على عقله، يتكلمون وهكذا، ويأتون يستمعون وما ينتفعون بكلامه ﷺ ولا بالآيات التي يتلوها عليهم، كما قال: (حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا) [محمد:16]، ماذا قال هذا؟ ما هو كلامه هذا؟ ما هو معناه هذا؟ وهو الكلام الذي ارتقت به قلوب الصحابة وأرواحهم إلى المراتب العُلى، وهؤلاء بينهم وعندهم ولكن ماذا يقول؟ ما هذا الكلام؟ ما ينتفعون!! والعياذ بالله تبارك وتعالى. ولكن أولئك الذين كانوا معه لا يحدُّون النظر تعظيماً له وينصتون وكأن على رؤوسهم الطير وينتفعون بكلامه ﷺ وبلاغه؛ ويخرجون ملأنين بالنور بسبب كلامه ﷺ وبسبب صدق إقبالهم.

يقول عليه رحمة الله تبارك وتعالى: "نشرَح قصيدة الشيخ المحقق المدقق العارف بالله العالم الرباني"، (وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران:79]؛ يأخذون العلم بسنده عن أهله، صغاره قبل كباره، فيرتقون فيصيرون ربانيين روحانيين، لا أصحاب أهواء ولا نفوس ولا ميل عن القدوس سبحانه وتعالى؛ (وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)، "سعيد بن عمر المُكنَّى بالحاف، المدفون بالشِحر" في المقبرة التي قُبِر فيها الشيخ سعد الدين الظفاري، خرج من ظفار وقُبِر هناك في الشِحر، وهو تلميذ سيدنا محمد صاحب المرباط وشيخ سيدنا الفقيه المقدم الشيخ سعد الدين بن علي وأخوه أيضًا كان محمد بن علي من تلامذة سيدنا محمد صاحب مرباط بن علي، عليهم رحمة الله ورضوانه ونفع الله به و بعلومه، آمين.

وهي القصيدة التي مطلعها وأولها: لمَّا بَدَت لي جَلْبَة المسافر، وذلك بعد أن سُؤلتُ من بعض الإخوان الصادقين، وطولِبتُ بذلك مراراً حيناً بعد حين"، يقولُ: اشرح لنا معاني الكلام هذا ماذا يقصد الشيخ بهذه الألفاظ العجيبة البديعة ويشير إلى ماذا من المعاني، قال: "ثم لا زالت الخواطِر تجذبني -أو تجاذبني-، والوارِدات تُزْعِجُني أشهُراً وأعواماً وسنين، والآن فقد استَخَرتُ رب الأرباب، أن يكشِف عن قلبي الحِجاب، وأتبرَّأ إليه عن الحول والقوة وعن الدعوى"، يعني لا أدَّعِي أنَّني من أهل سر العارفين وذوق كلامهم، وإنما أحاول بما أتاني الله من فهم، بأنَّ هذا شأن كل الصادقين والمخلصين، يرون أنفسهم بهذا التذلل للرحمن والتواضع والحق تعالى يُعليهم. 

يقول: "أتبرَّأ إليه عن الحول والقوة وعن الدعوى، مع كثرة الذنوب والأوزار، وذهول القلب بالحظوظ العاجِلة، والشهوات الزائلة، وتراكُم الأغيار، ومع هذا فإنِّي أحب هذه الطريقة وأهلها"، كما قال الإمام الحداد: لكن أعلم من نفسي محبتهم وليست بقليلة إذا صَدَقَت فإنَّ المحبة تقتضي الإتِّباع والإهتداء والإقتداء بهم وذلك يوصل إلى الدرجات الرفيعة، يقول: أستشهد بالابيات المنسوبة للإمام الشافعي "كما قيل شعرًا:

أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم *** لَعَلَّ الله يرزقني شَفاعَـــة

وَأَبغَضُ مَن بِضَاعَتَهُ المَعاصي *** وَلَو كُنّا سَواءً في البِضاعَة"

قال إنَّه أُجِيب الإمام الشافعي وقيل له:

تُحِبُّ الصَّـالِحِينَ وأَنْتَ مِنْهُـــم *** مُحِب القَوْمِ يَلْحَقُ بِالْجَمَاعَة

وَتَكْـرَهُ مَنْ بِضـَاعَتُه المَعَاصِي *** حَمَاكَ اللهُ مِنْ تِـلْكَ البِضَاعَة

فما هو حُوُلها، عليهم رضوان الله تعالى، قال: "و أُقر وأعترف بأني طُفيلِيهم"، والطُفَيلِيُ الذي يحضر المائدة ويحضر العزومة من دون دعوة، من دون أن يُدعَى إليها ويأتي ويدخل وهو ليس من أهل الدعوة ولكن يدخل معهم. "بأني طُفيلِيهم وطُفيلِي الكِرام لا يُطرد"، يقبلون مائدة فضلك، يقول الحبيب علي الحبشي: مائدة فضلك تقبلُ الطُفيلِي، مائدة فضلك تقبلُ الطُفيلِي، حتى ما هم من أهل المقام، "هُمُ القَوْمُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ"، "ولا يُضام، بل أرجو أن أكون مِمن قال فيهم من لا ينطِق عن الهوى صلى الله عليه وسَلَّم: (المرءُ مع مَن أحبَّ)، وفي لفظٍ آخَر: (مَن أحب قوماً فهو مِنهم) -جعلنا الله إياكم منهم إنه أكرم الأكرمين- إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية. فلا نطيل بذِكرها". 

في شواهد أن المحبة هي الأمر العظيم الذي ينتجه الإيمان، والمقام الكبير الذي ينتهي إليه العاملون بطاعة الله سبحانه وتعالى، أي التحقق بالمحبة الخالصة هي شؤون عظيمة، الذرة من محبة الله، تُفني الإنسان عن ما سوى الله -جل جلاله وتعالى في علاه، كما قال سيدنا الحداد:

يَا اللّٰه بِـــــذَرَّة مِنْ مَحَبَّـــــةِ اللّٰه *** نَفْنَى بِهَا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللّٰه 

وَلَا نَرَى مِنْ بَعْدِهَا سِوَى اللّٰه *** اَلْوَاحِدُ المَعْبُودْ رَبِّ اَلْأَرْبَاب

 

بالمحبة الخالصة وهي شؤون عظيمة؛ الذرّة من محبة الله تُفْني الإنسان عمّا سوى الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه، كما قال سيدنا الحداد: يالله بذرة من محبة الله، أفنى بها عن كل ما سوى الله، ولا أرى من بعدها سوى الله الواحد المعبود ربِّ الأرباب. بالعلم والعبادة والغيب عندي صار كالشهادة.

 

 فالله يرزقنا محبته، والله يرزقنا حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.

كُلٌ يحتاج إلى مَنْ هو فوقه، فينبغي أن يكون مُفتَقِراً إليه وإن لم يعرفه، كافتِقار الأوتاد إلى الأقطاب وافتِقار الصالِحين إلى الأبدال، وافتِقار الجُهَّل إلى الصالحين، فينبَغي لكل سالِكٍ أن يأتمَّ بهؤلاء ويحبهم ويتشَفَّع إلى الله بحبهم ويتمسك بنسبهم ويتسَبَّب بِسَبَبِهم وإن لم يَعْرِفهم، فإن الله إذا عَرَف ذلك مِنهم أخْبَرَهُم عنه، فكان على خواطرهم وجملتهم بين يدي ربِّ الأرباب

 يقول ما ورد من الآيات والأحاديث الشواهد للمحبة العظيمة وذَكَر كلام العارف بالله، أحمد بن علوان الحسني عليه رحمة الله تعالى: "كل عالِم يحتاج لمن هو فوقهُ -سواء أن بدا أو خفي، ظهر أو بطن-، فينبغي أن يكون مُفتَقِراًإليه وإن لم يعرفه، كافْتقار الأوتاد للأقطاب، وافْتقار الأبدال للأوتاد، وافتقار الصالحين الأبدال، و افتقار الجُهَّال الى الصالحين، فينبَغي لكل سالِكٍ أن يأتمَّ بهؤلاء -ويحسن الظن بهم- ويحبهم ويتشَفَّع إلى الله بحبهم ويتمسك بنسبهم -أي بحبلهم- ويتسَبَّب بِسَبَبِهم -أو بالانطواء فيهم والانتماء إليهم- وإن لم يَعْرِفهم، فإن الله إذا عَرَف ذلك مِنهم أخْبَرَهُم عنه"، وجَمَعهم عليه، مادام يوالِيهم ويحبهم و يمتليء بحسن الظن، فيهتدي إليهم ويأتون إليه. حتى قالوا: لو صدق المريد لوجد الشيخ على الباب، لو صدق المريد لوجد المشايخ على الأبواب، كانوا يصدقون، إذا صدقوا فهم قريب، وإذا لم يحصل الصدق، يقول: لا أحد، و الزمان لا أحد فيه والوقت لا أحد فيه، وبعد ذلك؟ هل انطوى القرآن وإلا  لازال القرآن موجود؟ إذا القرآن لا زال موجودًا فمراتب الولاية كلها موجودة، ولازالت في الأمة، لكن إذا أنت عندك عمى وغشاوة في عينك، ماذا نفعل بك؟!  فإحسنْ الظن، و سيدلَّك  الله عليهم، وسيوصلك إليهم.

 

 وكم بحسن الظنِّ من إمـدادِ ***  قـد ناله من كان ذو اعتقاد

 في خاملٍ إمام حق هادي *** يرونه الناس من الجُهَّالِ

 فكم خفي في الخلق من مسكين *** قـــد امتلأ من صفْـــــوةِ اليقينِ

 وهان بين الناس ذو طِمرينِ *** وهو لدى الحق عظيم عالي

 

 ومن كان لا يعرف  العَظَمة إلا لِلعب أو تمثيل أو مصارعة، فهذا من أين سيعرف العارفين؟ من أين سيعرف على الهوية، كيف سيجتمع عليهم؟ وهو قلبه معظِّم للعبة أو مصارعة أو تمثيل أو شيء من أموال، مسكين قلبه مشغول بتعظيم التافهات الساقطات، وكيف سيجتمع على أهل الدرجات العالية؟ ويجتمع على المقرَّبين والعارفين؟  كيف سيجتمع عليهم وهو منحرف؟ هم كذا وهو كذا؟! و النزول إلى السُفُل، لا يوصلك إلى أهل العلو! تعلُّقك بالعلو يوصلك إلى العالين، وكلٌّ له وجهة يتجه إليه، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة:148]. 

الله يرزقنا محبة الصالحين والعارفين والمقربين، قال: "فكان على خواطرهم -وإن غاب- و جملتهم بين يدي ربِّ الأرباب"، أي يجعل الله هذه السِرايات التي جعلها لنا الآن هنا في شأن الأجهزة هذه، وشأن الكهرباء و شأن المواصلات والاتصالات؛ تراها كذا وتربط هذا بهذا وهذا في المكان هذا وهذا في المكان هذا، مثل هذا موجود بين القلوب والأرواح، ويرتبط هذا بهذا. ولكن يزيد هذا عليه، بأنه أقوى وأرفع وأنه أحيانًا لا يدري به صاحبه، لكن إذا صدق في المحبة يُذْكر من دون ما يدري، ويرتبط من دون ما يدري، وعند كشف الستارة يجد نفسه قد ربِح ربح كبير، من أين لك هذا؟ من محبتك لأهل قُرْبِه من الله، فيرتقي في ذلك وهو يشاهد قوله ﷺ: "أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ"،  "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"،  الله يرزقنا محبتهم ومتابعتهم.

قال: هذا فيمَن لم يَعرِفهم في الظاهِر فما ظنك بمن تقرب وتحبب إليهم بالخِدمة والصُحْبة والمحبة وأحسَن الظن بهم وإدخال السُرور على قلوبهم و الانتساب إليهم، فكيف لا يكون في خواطِرِهم ويعتَنوا به؛ لأنهم قوم لا يَظلِمون أصلًا، من أسْفَلِهم الى فوق، لو يحمِّلهم الحيد الثقيل استخفُّوه. 

  • كان تنكَّر لبعض شيوخنا بعض الناس، وصدّ عنه وصار يسبُّ الشيخ ويتكلم عليه ومرّتْ مدة، توفي هذا بسرعة، فقام الحبيب بالاعتمار عنه، وبالقراءة له، وأمر بالصلاة عليه في الأماكن والمساجد، وعندما سألوه قال أنه في وقت من الأوقات، كتب لي أبيات في الدعوة لله تعالى فما أنساها له، وهم ما يُظْلمون أصلا من أسفلهم ومافوق، لو يُحمِّلهم الحيد الثقيل استخفوه.
  • وعندنا في الحديث أن الله رحِم امرأة، وفي رواية رجل من بني اسرائيل كانوا من أهل الفسق، في خدمة كلب، سقط كلب ورحمها الله بذلك، وكيف بخدمة الصالحين؟ أما يرحم الله تعالى من يخدمهم؟

وهكذا قال: كما روي عن سيدنا ومولانا قطب الأقطاب، سيدنا محمد بن علي بن الفقيه المقدم عليه رحمة الله تعالى، فيما يذكر من آثار هذه المحبة في الصالحين وأنها تُثمر المرافقة الموعود بها من قِبل النبي ﷺ وأن هذا لا يتخلَّف لكل من صدق في المحبة، رزقنا الله محبتهم، نفعنا الله بحبهم، احشرنا في زمرتهم، وأعد علينا من بركاتهم في الدنيا والآخرة وإنه على ما يشاءُ قدير وبالإجابة جدير.

 

شرح القصيدة 

لما بَدَتْ لي جَلْبَـة المُسافـــــر ***  في بحر باحات الهَوى زواخِر

ناديت يا أهل الوُد هل مُسافِر ***  هذي سفينة تطلب  المفــاخِر

قوله: لما بدت لي، أي ظهرت وانكشفت لي بعين البصيرة وهي عينُ القلب ونورُه لأنَّ من أُنيرَ قلبُه وانفتحت بصيرتُه، نظر هذه الطريق وسَلَكها، ودلَّ عليها وعرف السفر فيها، وما يترتب عليه من شروط وآداب ومقامات وأحوال إلى غير ذلك مما سيذكره المؤلف. 

وقوله: جَلَبة المسافر؛ هي ما تُعْمَل من الخشب الكثيف في عالم المُلك الحِسِّي. فأشار المؤلف بذلك إلى الجلبة المعنوية والسفر المعنوي، الذي لم يُخْلَق الإنسان إلا لأجلِه، قال اللهُ سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، والعبادة هي نفس هذا السفر، مِنْ مَوطِن الغُربة إلى مَحَلِّ القُرب. بَلْ الإنسان غَريب في هذا العالم بنفسِه وروحِه، فيجِب عليه حينَئذٍ السَفَر ويَعْتَني بما يَتَرَتَّب عليه مِن شُروطٍ وآداب وغير ذلك مِمَّا سيأتي.

وقولُهُ : في بَحر باحات الهَوى زواخِر، والبحر والباحات إشارات وأمثلة وكِنايات. قال الله سبحانه وتعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ) [العنكبوت:43] الآية، وقوله تعالى: (أوَلَمْ ينْظُروا في مَلَكوتِ السَمواتِ والأرضِ وما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيءٍ) [الأعراف:185]، إلى غير ذلك من الآياتِ الشَريفةِ والأحاديثِ المُنيفة. ومَنْ ألْهَمَه اللهُ رُشْدَه واستَنارَ قَلْبُه، اسْتَدَلَّ بالصَنعةِ على الصانِعْ وعَرَفَ اللهَ في كُلِّ شَيء، كما رُوِيَ في الكُتُبِ السالِفة: "يا ابنَ آدم، خَلَقْتُ الأشياء كُلَّها مِنْ أجْلِك وإنما خلقتُك مِن أجلي"، وذلك للتَعَرُّف والتَعَبُّد، كما قال تعالى في الآية المتَقَدِّم ذِكرها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وقيل لِيَعرِفون فافهم، هُديت.

وقولُهِ: نادَيْت، امتثالاً لقولِه تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55]، وقولِه تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل:128] الآية، وهذه الدعوة عامة ومطلوبة مِنَ الكُل، وإنما يَفهَم ذلك ويَسْمعه ويبادر به أهلُ الوُدْ، كما قال المؤلِّف. وأهلُ الوُدِّ هُمُ الأولِياء السامِعون المُذَكِّرون، كما قال تعالى: (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ابراهيم:52]، وهُم أهلُ القلوب أيضاً، كما قال اللهُ تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق:37] الآية. وأما الغافِلون والمنهمكون فبعيد أنْ يسمعوا، وإن يسمعوا لا يستطيعون،  كما قال تعالى: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا) [الأعراف:198] الآية. وإنما ذلك لموت قلوبهم وحياةِ نفوسهم الأمَّارة كما قيل:

لقد أسمعتَ لو ناديْتَ حيّاً *** ولكن لا حياةَ لمن تُنادي

ومَنْ كان هذا حالُه، يصعُب عليه هذا السفر لكثرة علايقه وعوايقه، فلذلك ترى أكثر الخلق عاجزين عن هذا السفر الذي فيه نجاتُهم وصلاحُهم إلا مَنْ اصطفاهُ الله تعالى فسَمع وأجاب. 

اللَّهِ يجَعَلْنَا ممِنَ اصْطَفَاهُ تَعَالَى فَسَمِعَ وَأَجَابَ، فَحُقَّ لَهُمَّ ماوصفهم به رَبِّ الأرباب؛ (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) [آل عمران:193]؛ استجابوا له ﷺ فوصلوا به إلى الرحمن جلّ جلاله.

القصيدة للشيخ، مطلعها:  "لما بدت لي جلبة المسافر؛ السفينة التي سافرت، المتُخَذة من هذه الأخشاب. في بحر باحات الهوى زواخر، ناديت… أي، نصيحةً وأداءً للمُهمة، ناديت؛ من يركب في مثل هذه السفينة التي تقصد الشؤون العظيمة والمفاخر، ولما بدت لي، أي ظهرت وبانت لي، أي انكشف له بعين البصيرة، جلبة المسافر، -أي السفينة- كيفية السير إلى الله تعالى والوصول إليه؟ و كيف يُنال الوصول إلى الله تعالى؟ ما هي الصفات والأعمال والنيات التي بها يُوصل إلى الله؟ هذه الجلبة هي صحيح العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، انكشف له سرّها، في رفعها شأن العابد إلى مراتب القرب من المعبود، فعَّبر عنها بـ جلبة المسافر، بالسفينة التي يدخل فيها إلى البحر فتمشي به، وتمْخر به في عُباب هذا البحر؛ وإن كان من أهل الصيد صاد، وإن كان من أهل اكتساب الجواهر اكتسب، وإن كان ممن ينوي الوصول إلى مكان بعيد أوْصلتهُ إليه السفينة، فقال، لما انكشفت لي أسرار الطريقة في السير إلى الله، ناديت، على من حواليّ، حد بايُسافر؟ وهذا السفر إلى الرحمن جلّ جلالهُ، بُغْية كل مؤمن صادق قال سيدنا الإمام الحداد:

 اللَه لا تشهد سواه ولا ترى *** إلَّاهُ في مُلكٍ وفي ملكوت

 يقول: سافر إليه بهمةٍ عُلويةٍ، وهذا السفر المُشار بقول الله للنبيِّه، يأمره أن يقول لنا: (ففِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الذاريات:50]، ففِرُّوا إِلَى اللَّهِ؛ سافِروا:

  • وهذا السفر من أرض العادات
  • السفر من الذنوب والمعاصي إلى تحقق التوبة
  •  والسفر بالطاعات إلى حقائقها وأسرارها
  • والسفر بحقائقها وأسرارها إلى معرفة الصفات، ومعرفة الذات، ثم القُرب من الذات؛ 

كلُّه مبني على هذه العبادة، إذا صحَّتْ وقامت على وجهها.

 

يقول: لما بَدَتْ لي جَلْبَـة المُسافـر*** في بحر باحات الهَوى زواخِر

قال: البحر والباحات إشارات الى ما يُصادف هذا السائر الى الله تبارك وتعالى، من أسرار الطاعة والعبادة وما تنتجه من صفاء الباطن، فيجد أمامه ساحات، ويجد أمامه بُحوُر زاخرات، وخصوصا من باحات الهوى؛ أي المحبة والشوق والذوق، ويُعبَّر عنه بهذا، هذا الهوى العلوي الذي قال عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يكونَ هواه تبعًا لما جئتُ به".

 إذا تحوَّل الهوى تبَع، صار الهوى هذا عُلوي، يرفع صاحبه، وخِلاف الهوى النفسي والهوى السفلي وهو اجتماع قُوى الشر عليك،  فتميل إلى الذنوب والمعاصي والى المخالفة والى التأخر، هذا الهوى يهوي بصاحبه. إن اتباع الهوى هوان، وهو -والعياذ بالله تعالى- مما يُعبد من دون الله، ويتّخذه من يتخذهُ إله، والعياذ بالله. (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23]، قال سبحانه وتعالى: (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم)  [محمد:14].

 فهذا الهوى المُرْدي والمُخْزي، صاحبه يُهان -والعياذ بالله تعالى- في المآل وفي العُقْبى، بل يلحقه شيء من الهوان في الدنيا قبل الآخرة، بسبب اتباع الهوى. قال الله فيما أوحى الى نبيِّهِ سيدنا داود وهو نبي معصوم: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص:26]؛ إشارة إلى أن التمكُّن من الهوى على قدْر نسيان الحساب والرجوع إلى الرب.

 وإلّا من استحضر أنه مُحاسَب وراجع الى إرادة الرب؛ الهوى عنده يتلاشى ويرجع، ويتحوّل إلى الهوى العُلوي، فيهوى المراتب الرفيعة، ويهوى المنازل الشريفة، ويهوى المراتب العالية والقرب من الرب سبحانه وتعالى، يهوى مرافقة النبي محمد ﷺ، هذا هوى عجيب هذا الذي سيطر على عقول وقلوب الصحابة رضي الله عنهم، هَوَوا مرافقته، هَوَوا البقاء معه والمرافقة له في الدار الآخرة عليهم رضوان الله. وهم في الدنيا يتذوَّقون حلاوة المرافقة فيكون أحدهم بين أهله وأولاده وقت راحته، ووقت طعامه وشرابه، يخطر على باله الحبيب، فلا يطيب له مقعد أهل، ولا مجلس بيت، ولا تناول طعام، يخرج يترقَّب حتى تقع عينه على وجه رسول الله ﷺ ولا يطمئن حتى ينظر إلى هذا الوجه، فهكذا كان حالهم عليهم الرضوان، الله يرزقنا نصيب من هذه المحبة والولَه.

 في بحر باحات الهَوى زواخِر

ناديت يا أهل الوُد هل مُسافِر*** هذي سفينة تطلب  المفــاخِر

يا أهل الودّ - من عنده مودة في الله ولله- هل أحد بيسافر منكم إلى حظائر القدس؟ إلى مراتب القرب من القدوس؟ إلى مرافقة المقربين؟ هل من مسافر؟ هل منكم من يريد أن يسافر؟ تعالوا؛ فالسفينة أمامنا؛ هذي سفينة تطلب المفاخر. الله يلحقنا بأهل تلك السفينة، وقد جعل الله لنا سُفن النجاة، ومنهم الهداة المُهتدين من أهل بيته ﷺ،  يقول سيدنا أبو ذر: "من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا أبوذر - صاحب رسول الله ﷺ، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلَّف عنها غرِق". لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. 

ناديت مثلك، وقال: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55]، يقول: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ) [النحل:128]، الدعوة عامة مطلوبة من الكل، ولكن يفهم مُراد الدعوة هذه، أهل الوداد، يبادر أهل الود ولهذا قال:  ياأهلُ الوُدْ، هل من مسافر؟ كما قال تعالى: (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ابراهيم:52]، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق:37]. قال: أرباب الغفلة والإنهماك ما يسمعون، وتكلِّمهم ما يفهمون، وماينتهضون للإجابة. ويا مُقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك.

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وقوله رضي الله عنه: هل مسافِر؟ إشارة إلى الخواص السامعون المتهيئون لهذا السفر و الراغبون في ركوب هذه  الجلبة، السامعون المتهيئون لهذا السفر و الراغبون في ركوب هذه الجلبة المذكورة طلباً للمفاخر، و هي السلع الغالية النفيسة من القرب من الله تعالى و المعرفة و الشهود الصرف العاري عن الشوائب، كما سيقوله ببندر القربة. و هذه المفاخر إنما توجد بذلك البندر، فعليك بالتعليق عليه إن شئت بالسعادة والغبطة في الدنيا والآخرة، أما ترى أهل الدنيا كيف يخاطرون بأرواحهم ونفوسهم في ركوب البحور والأهوال لطلب الفائدة الخصيصة المُضْمَحِلة، فترى الواحد يمضي عمره في كله في تعب الأسفار والتغرب لأجل هذه الفائدة الحقير، فما لك أيها المؤمن لا تبذل نفسك وروحك في طلب هذه المفاخر. 

روي عن الشيخ عبد الرحمن المغربي وكان مقيما بشرقي الاسكندرية أنه قال: حجّجتُ في سنة من السنين فلما قضيت الحج عزمت على رجوع إلى الاسكندرية، فإذا قائل يقول لي: إنك العام المقبل عندنا، فقلت في نفسي إذا كنت العام القابل ها هنا فلا أعود إلى الإسكندرية، فخطر لي الذهاب لليمن فأتيت عدن، فإذا أنا يوم على ساحلها، فإذا بالتجار قد أخرجوا بضائعهم ومتاجرهم، ثم نظرت فإذا رجل فرش سجادته على البحر ومشى على الماء فقلت في نفسي لم أصلح للدنيا ولا للآخرة، فإذا قائل يقول لي: من لم يصلح للدنيا ولا للآخرة، يصلح لنا وانتهى؛ وهذا معنى قول الشيخ بن عطاء حيث قال في الحكم: لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ولكن ارحل من الأكوان إلى المُكَوِّن، (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ) [النجم:42]؛ وهذه هي غاية المفاخر الذي قاله المؤلف، ظفرنا الله وإياكم بذلك ووفقنا لما هنالك.

 فنادى أهل الوداد؛ هل من مسافر؟ ولا يزال العارفون والصالحون حريصون بإرثٍ من نبيهم ﷺ  على الناس: (حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:128]؛ حريصون على أن يُقربوا المُقرَّب والمتوجه، وهكذا كلما وجدوا مُتهيئ، متأهل، راغب، ملتفت إلى الخيرات، مقبل عليها، مُتشَوِّف إلى هذه العطايا؛ فرحوا به وأعانوه على قطع العقبات وتسهيل الطريق له في السير إلى الله سبحانه وتعالى، كما أوحى الله إلى داود: "يَا دَاوُودُ، إذا وجدت لي طالبًا فكن له خادمًا، يا داود من رد آبقًا إلي كتبته عندي جِهْبِذا"، من رد آبِق؛ هارِب وفارّ من الطاعة، ردَّهُ إلى الله تعالى وإلى الإقبال عليه. كتبتُه عندي جهبذا؛ أي رئيسًا رفيع القدر، "من رد آبقًا إلي كتبته عندي جِهْبِذا"،  فهكذا حرْصهم على دعوة الخلق وإفادة المستفيد بما يقْدر عليه، وهم المتخلِّقون بالأخلاق النبوية، ورحم الله كل متخلِّق بأخلاق الحق سبحانه وتعالى، والحق تعالى يقول: "من تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقربْتُ منه ذراعًا ومن تقرَّبَ إلي ذراعًا تقربتُ منه باعًا ، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً".

وقال هذه سفينة ذي الجلب المذكورة، تطلب المفاخر، قال ما المفاخر؟ قال: تستخرج السِّلع الغالية النفيسة من القُرْب من الله والمعرفة والشهود الخالص، شهود الرحمن، سبحانه وتعالى في تكوينه للأكوان وتصريفه للأكوان وتقديمه وتأخيره ورفعه وخفضه وعطائه ومنعه وإسعاده وإشقائه، والكون كله في قبضة المكوِّن، يفعل فيه ما يشاء؛ (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [البروج:16]، جلّ جلاله وتعالى في علاه.

قال: الشهود الخالص هذا تُحصِّله في بنْدر القُربة، وقال: بندر؛ لأنه ذَكرَ البحر والسفينة، والبندر هو ساحلها. قال: هناك لمَّا تصل الى البندر - الساحل الثاني- وبتحصل في بندر القربة هذه، بتحصل هذه الشهود، السرّ وتحصل هذه البضائع الغالية. تعال البندر بنركِّبك في السفينة من شان تصل إلى محل البضائع هناك الغالية وتأخذ لك نصيبك منها،  لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

 وقال: عليك بالتعريج عليه إن شئت السعادة، توجَّه إلى ذلك البندر، توجَّه إلى ذلك المكان، توجَّه إلى ذلك الموطن، موطن العنايات والرعايات بصدق وجهك إلى الله بالعمل بطاعته، وأهل الدنيا خاطروا وركبوا مخاطر كثيرة وغامروا من أجل حصول شئ يفنى، وأنت تريد شئ عظيم يبقى، ما بتخاطر!! قال سيدنا الإمام العدني: 

ومن لم يبذل الروح *** ما يشفى الخواطر

وقال سيدنا الأمام الحداد:

يا طالب التحقيق قــــــم وبــــــــادر ***  وانهض على ساق الهمم وخاطر

واصبرا علي قمع الهوى وصابر ***  واصدق ولا تبرح ملازم الباب

 فمَنْ دقّ بـابَ كـريمٍ فـتَـحْ، وقال:  

ومن لم يبذل الروح *** مـا يشفى الخواطـــــر

ولا نال الجوائز  ولا يُدعى *** بفائز على التحقيق عاجز 

سافني العمـــــر فيهم *** خسر من لم يُخاطر

ومن لم يبذل الروح *** مـا يشفى الخواطـــــر

 فلا بد من الصدق مع الله في الوجهة إليه.  ويقول: هذا رأى في حجَّتهِذكر عنه الشيخ عبد الرحمن المغربي عليه رحمة الله تبارك وتعالى- وكان من أهل شرقي الإسكندرية، قال: حجّجتُ في هذا الحج، وعزمتُ على الرجوع للإسكندرية،  فإذا قائل يقول لي: إنك العام المقبل عندنا، قلت في نفسي أنك قلت العام القابل تكون عندنا، كنت لن ارجع الى الإسكندرية، وخطر له الذهاب إلى اليمن وجاء إلى عدن، وفي يوم على الساحل حقها، إذ التجار أمامه أخرجوا بضائعهم ومتاجرهم من السفن التي وصلت، نظر إلى الرجل، فإذا به فرَشَ سجادته على البحر، يمشي على الماء بقوة الله -تبارك وتعالى- وقدرته؛ هذا الذي كان يحصل للأنبياء والصحابة وكثير من العُبّاد الصالحين. 

حتى جاءنا أن سيدنا العلاء بن الحضرمي مشى بثلاثة ألف معه من الصحابة على الماء، الى البحرين لما فتحوا البحرين، يقول: وحصَّلته يمشي على الماء، قلت أنا الآن لا أصلح للدنيا لأنني لستُ كما هؤلاء أصحاب البضايع وأخرجوا بضائعهم، ولا أصلح للآخرة، مثل هذا الذي يمشي على الماء، فإذا بنداء بالسرّ يقول له: "الذي لا ينقطع بالدنيا ولا ينحجب بها ولا بالآخرة، بل يريد رب الدنيا والآخرة هو الذي يصلح لرب الدنيا والآخرة، ومن لا يصلح للآخرة ولا للدنيا يصلح لنا"، يعني لا عاد تتعوق بدنيا ولا بالآخرة ولا تسافر من كون إلى كون، كلها مخلوقات وإن كان بعضها أشرف من بعض، وبعضها أعز من بعض؛ ولكن مقصوده الآخرة هي بذاتها، لا جنَّاتها ولا عُروضها، بل هي مظاهر من مظاهر رضاه، المقصود هو جلّ جلاله وتعالى في علاه. 

والذي يرحل من كون إلى كون مثل حمار الرحى، طول النهار يُخلُّونه يمشي يمشي وبعدين يصل الى أين؟! في نفس البقعة يدور يدور يدور فيها، وآخر النهار يصل إلى أين ؟! قطع كم مسافة ولكن أي مسافة؟ محلّهُ في المكان الذي كان فيه، لأنه مثل الذي يرحل من كون إلى كون، لا، يرحل من الأكوان إلى المُكوِّن، يكون حاضر مع الله تبارك وتعالى وقاصد وجه الله تبارك وتعالى، وإلا ما كان من كون إلى كون كلها أكوان، فتصير مثل حمار الرحى يدور يدور يدور وهو في نفس مكانه، ما قطع مسافة، ولا وصل إلى بقعة أخرى، وهكذا قال الذي يرتحل إلى المُكوِّن: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) [النجم:42]، هذا غاية المفاخر، وهذا يشرح عن الجلَبة هذه والسفينة، إيش الهَراب حقها؟ قال هِرابها هو التقوى.وسيأتي معنا إن شاء الله شرح معانيها وبعض ما فيها. 

والله يرزقنا حسن الإقبال عليه وصدق الإقبال عليه، وكمال الإقبال والوصول إليه، اللهم أوصلنا إليه وقرِّبنا إليك زلفى وارفعنا مراتب أهل الصدق والوفاء في خير ولطف وعافية برحمتك يا أرحم الراحمين.

بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمّد اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

15 ربيع الأول 1445

تاريخ النشر الميلادي

29 سبتمبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام