فتح الكريم الغافر - 4- شرح: (علم الظاهر والباطن، والتوكل، والتنقل في المقامات)

للاستماع إلى الدرس

الدرس الرابع من شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب: فتح الكريم الغافر في شرح جلبة المسافر، للعلامة الحبيب عقيل بن عمران.

فجر الأحد 16 ربيع الأول 1445هـ

ضمن فعاليات موسم الاحتفال بذكرى المولد النبوي في صلالة.

يوضح فيه معاني الأبيات:

وقيدوا سكانها بعلمين * ظاهر وباطن مجتهد باثنين

يذب عن قلبي غياهب الرين * و باطنه أول وكان آخـر

هذا التجهز بحره التوكل * عمارة التجهيز للتوصل

وأمست جلبته تنقله غاية التنقل * تجريها سابات دمع سابر

يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:

  • تقيد الشهوة والغضب بقيد العقل والشرع
  •  ما هو علم الظاهر؟
  •  على ماذا يطلق علم الباطن؟
  •  مشاهدة عين القلب لأحوال البرازخ والقيامة
  •  أصلان يحصل بهما العلم اللدني
  •  دعاء: اللهم إني أسألك العلم اللدني والمشرب الصافي الهني يا وهاب يا غني
  •  ما هو علم المكاشفة؟
  •  ما هي علامة الصدق في العلم الظاهر؟
  •  التردي لرتبة الحيوانات وفقد الإنسانية
  •  من أسوأ ما ضرب من الأمثال في القرآن بعلماء السوء
  •  من صفات العلم النافع
  •  أول خطوة في طريق المعرفة الخاصة بالله
  •  انضباط السير بالعلم الظاهر والباطن
  •  كيف تتجلى حقائق العلوم في روح الإنسان؟
  •  قصة للإمام الشعراوي
  •  نصيب الإنسان من توكله على الله
  •  مراتب البكاء من الخوف
  •  البكاء من الفرح واختلاف الدمعة

لتحميل الكتاب نسخة pdf:

https://omr.to/fathalkarim1

نص الدرس مكتوب:

طلب العلم

وقيـدوا سكانـها  بعلـمين *** ظاهر وباطن مجتهد باثنين

يذب عن قلبي غياهب الرين *** وباطنه أول وكان آخـر

أي تقيد الجَلبة المذكورة بالسُكّـان لتسلم من الزيغ والشطط وتستمر في سيرها. أما إذا لم يكن لها سُكَّان فلا تنجح في سيرها ولا تصل إلى البندر المقصود وربما هلكت وانكسرت وهلك ما فيها ومن فيها. فهكذا هذه السفينة إذا لم تكن مقيدة بعلمين؛ ظاهر وباطن كما قال الشيخ يحير سالكها ويتعوق في سيره وسفره وصار يخبط خبط عشواء في ظلمة الجهل، والذي يفسده في اجتهاده أكثر مما يصلحه. وأما إذا اجتهد بالاثنين كما قال الشيخ أي بالعلمين فقد أتى البيوت من أبوابها فيوشك أن ينجح في سفره ويتيسر ويستقيم ويهتدي إلى الصراط المستقيم.

فالعِلم الظاهر ما يجب عليك من معرفة أحكام الظواهر من العبادات الظاهرة، من الصلاة ومايتعلق بها وكذا الحج والصيام والزكاة وغير ذلك من معرفة الحلال والحرام، وهذا كله متعلق بعلم الظاهر وكذلك علم العقائد بل هو مقدم على ما ذكرناه من علم الظاهر، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "بني الإسلامُ على خمسٍ : شهادةِ أن لا إله إلا اللهُ، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ، وحجِّ البيتِ، وصومِ رمضانَ". فيجب عليك حينئذٍ أن تتعلم ما يجب في حق الله وما يجوز وما يستحيل، وذلك مشهور في عقائد أهل السنة. و قد ذكرناه في عقيدتنا المنظومة التي أولها:

شهدت بأن الله أول أولا *** ولا يخلق الأشياء إلا تفضلا

و فيه ظاهر و باطن فلا نطول بذكره.

وأما العلم الباطن الذي ذكره الشيخ الناظم رضي الله عنه وهو أيضاً على قسمين. ذكره الشيخ أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في الإحياء، فالقسم الأول علم المكاشفة. وهو علم الباطن وذلك غاية العلوم. فقد قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى النصيب منه، التصديق به وتسليمه لأهله. وقال آخر: من كان فيه خصلتان لم يفتح له شيء من اول هذا العلم: بدعة و كبر. و قيل: من كان محبًا للدنيا أو مصرًا على هوى لم يتحقق به، و قد يتحقق بسائر العلوم. واقل عقوبة من ينكره لا يذوق منه شيئاً. وهو علم الصديقين والمقربين. انتهى قول الغزالي و فيه تطويل ايضًا  فاقتصرنا منه على ما ذكر طلبًا للاختصار.

وأما القسم الثاني الذي ذكره الشيخ في الإحياء بقوله وهو علم المعاملة بالباطن، وهو علم أحوال القلب، أما ما يحمد منها فكالصبر والشكر والخوف والرجاء والرضا والزهد والتقوى والقناعة والسخاء ومعرفة المِنة لله تعالى في جميع الأحوال إلى غير ذلك من صفات الإيمان. ثم ذكر الشيخ ايضًا أضدادها وهي صفات المنافقين وهي الصفات المذمومة كالرياء والعجب والغل والحسد والحقد إلى غير ذلك أيضًا. فيجب عليك التخلي عن هذه الصفات المذمومة والتحلي بالصفات المحمودة، وهذا هو معنى العلم الباطن الذي ذكره الشيخ الناظم.

ثم اعلموا أن العلم هو أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى، كيف والعلماء ورثة الأنبياء. ولهذا قال : "إن نوم على علم خير من صلاةٍ على جهل" إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية و الآيات القرآنية. و كل ما ورد في الكتاب والسنة بفضل العلم والعلماء، لا يرضى حصول ذلك، إلا لمن صحت نيته بأن يكون طلبه مرضاة لله، واستعمال العلم فيما يقرب إلى الله من العبادات والمعاملات والخروج عن ظلمة الجهل إلى نور العلم. فهذه النية إذا صحت هي التي يحمد عاقبتها آجلاً وتجنى ثمرتها عاجلاً، وهي مطلوبة في كل حين وأوان. قال : "كلُّ يومٍ لا أزدادُ فيهِ عِلمًا يقرِّبُني إلى اللَّهِ عز و جل فلا بورِكَ لي في طلوعِ شَمسِ ذلِكَ اليومِ".

وهذا هو العلم النافع الذي يورث الخشية، كما قال عز وجل: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]. وقال الشيخ ابن عطاء في الحكم: "العلم إن قارنتْهُ الخشية فلك وإلا فعليك". وقال الشيخ ابن عباد أيضاً في شرح الحكم: واعلم أن العلم النافع المتفق عليه فيما سلف وخلف إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية وملازمة التواضع والذلة والتخلق بأخلاق الإيمان وتوافق الإسرار والإعلان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها وإيثار الآخرة عليها والموالاة في الله تعالى والمعاداة فيه، والحرص على التفطن للأسباب الباعثة على الاستقامة ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى فيراعيها حفظاً وطلباً، ومعرفة الأسباب الصادَّة له عن ذلك فيرفضها رفضاً وهرباً. إلى غير ذلك من الصفات العلية والمنائح السنية. فبهذا كله تحصل له فوائد العلم وثمراته الدنيوية والأخروية. فإن خَلا طالب العلم عنها أو عن بعضها فإن كان ما يطلبه علمًا حقيقيًا كان حجةً عليه، وإن كان رسميًا كان وبالًا عليه وأصلاً إليه والعياذ بالله من ذلك. انتهى قول الشيخ ابن عباد وهو في غاية الحسن والجمال.

الحَمدُ لله مُكرِمِنا بالتَدَبُر لِما يَكون بِه السَير إلى عالِم الجَهر والسِر، وصلى الله وسلم على عَبده وحَبيبه سَيدِنا المُنَبه، المُوَجه، المُعَلِم المُذَكِر، البَشير، المُنذر، سَيدنا مُحمد وعلى آله وصَحبه ومن سار في مَنهَجه مُقتَدِياً به صَلى الله وسَلِم وبارِك وكَرم عليه وعلى آله، في كُل ما يُعلِن ويُسِر، ويُبدي ويُضمِر، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسَلين سادات المُقَرَبين الأكابِر، وعلى آلهم وصَحبِهم وتابعيهم والمَلائِكَة المُقَرَبين، وجَميع عِباد الله الصالحين، وعَلينا مَعَهُم وفيهم إنه أَكرَمُ الأكرمينَ وأرحَمُ الراحمين.

يُواصِل سَيدنا الحَبيب عَقيل بن عُمران -عليه رحمة الله تَبارك وتَعالى- شَرح أبيات الشيخ بالحاف ويَقول عَن هذه الجَلَبَة والسَفينة التي يَسيرون فيها إلى الله -تَبارك وتَعالى-

وقَيَّـدوا سُكانـها بِعِلـمين *** ظاهر وبَاطِن مُجتَهِد بِإثنين

يَذُبُّ عَن قَلبي غَياهِب الرِين *** وباطِنُه أَوَلٌ وكان آخِـر

يَقول أَنَهُم قد قَيَدوا هَذه الجَلَبَة المَذكورَة بِسُكانها، يقول وَلَولا هذا السُكَّان وتَقييدها به لَضاعت وَغَرِقَت، ولَكن بِتَقييدها بِهذا السُكَّان تَمضي إلى بَر الأَمان، حَتى تَصِل إلى ما رامَت مِن المَراتِب والمَواهِب والقُرب من حَضرَة الرَّب جَلَّ جَلاله وتَعالى في عُلاه، تَسلَم مِن الزيغ والشَطَط وتَستَمِر في سَيرها حَتى تَصِل إلى بَندَرِها المَقصود، بِواسِطة هذا العِلم. وهكذا تَتَقَيد الشَهوة والغَضَب عِندَ الإنسان بِقَيد: العَقل، والشَرع. فبهذا السُكان لا تَنبَعِث إلا فِيما دعا إليه العَقلُ والشَرع، فيما كان مُباحًا أو مَندوبًا أو مَطلوبًا في الشَرع المَصون، وكذلك ما يَتَعَلق بالغَضَب؛ لا يُطاوِع نَفسه في غَضَبِه إلا حَيثُ يَأمُرهُ الشَرع بالغَضَب في هذا الحال، وبِحَسَب العَقل الذي يُطَبِّقُ أَمر الشَرع بالإحسانُ والإعتِدال.

يَقولُ يَصيرُ مُقَيَداً في أحوالِه فَيَبدأ مِنهُ فَناء أفعالِه بالشَريعة المُطَهَّرَة، فَيُفني في الشَريعة المُطَهَّرَة؛ أفعالُه ومَساعيه وحَرَكاتُه وسَكَناتُه؛ حينَئِذٍ تَبدأ فيه الصِفات، الصِفات المَحمودة التي يُحِبُها الله -تَبَارَك وتَعالى-، وتَخرُج عَنه وَتُزاح عنه الصِفات المَذمومة التي يَكرَهُها الحَق تَعالى ورَسوله، وَحينَئِذٍ بعد فَناء هذه الأفعال في نور الشَريعة وتوجيهها تَفْنى مِنهُ الصِفات في صِفات الحَبيب صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى ٱله، ويَتَخلى عن كُل ما يُناقِض أوصافُه وأخلاقُه الحَميدَة ويَتَمَسك بِما قُدِّر لَهُ مِن الحَظ والنَصيب في هذه الأخلاق النَبَوية المُحَمَدِية والصِفات الأحمَدية لِزَين الوجود ﷺ. وحينئذٍ يَتَهَيأ بَعد ذلك لِفَناءِ الذات من حيث الشُهود والذَوق، وإذا حَصَلَ لَه ذلك نَالَ من حَقائِق التَوحيد ما يُسَمى بالفَناء في الله -تَبارك وتَعالى- وقد يُرفَع إلى البَقاءِ بالله إذ أُريدَ بِه دَلالَةً على الله ودَعوةَ الخَلقِ إلى الله -تَباركَ وتَعالى-. يقول لك، فَهُنا بِالعِلم الظاهِر والبَاطِن يَتِمُّ السُكان في سَيرِ هذه السَفينَة في وِجهَتِك إلى الرَب -سُبحانه وتَعالى-. 

قال فالعِلم الظاهر أن تَعرِف ما يَجِب عَليك من مَعرِفة الأحكام الظاهرة من أنواع العِبادات كَمِثل أَداء الصَلاة بِشُروطِها وأركانها واجتناب مُبطِلاتها ومَعرفة أوقاتِها وما تَعَلَق بِذلك، ومن طَهارَتِها وجَميعِ شُروطِها وكَذلك الزَكاة والصَوم والحَج وما تَعَلَقَ بِذلك من مَعرِفة الحَلال والحَرام فيما يتعلقُ بجوارحِك هذا هو عِلمُ الظاهر.

 ومنه أن تَعلَم ما يَجِب عَليكَ اعتِقاده من التَوحيد وَصِفات الحَق الحَميد المَجيد وصِفات رُسُله -صَلَوات الله وسَلامه عَليهم-

وما يُسَمى بالسَمعِيات وهي الغُيوب التي فَرَضَ الله عَلينا الإيمان بِها (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة:3] من شُؤون أَحوال البَرزخ والقِيامة والجَنَة والنَار وما إلى ذلك، قال فَيَجِب تَعَلُم هذا وهذا، هو عِلمُ الظاهِر ويَرتَبِط بِعلم الباطِن.

وذَكَر لَنا عِلمُ الباطِن يُرادُ بِه أَمران:

  • الأمرُ الأول مَعرِفَة الصِفات القَلبِية، والتَحَلي بِحَميدِها والتَخَلي عن ذَميمِها فَهذا من عِلم الباطن وما يُطلَق عليه عِلمُ الباطن.
  • ولكن يُطلَق أيضًا عِلمُ الباطن على ما وَراء ذلك، وهو نَتيجَة العَمَل بالعِلم الظاهِر هذا والباطِن الأول هذا.

وهو انكِشاف أَنوار الحَقيقَة في افتِقار هذا العالَم إلى مُكَوِّنة وموجِدِه وقَهر الجَبار الخالِق المُكَوِن لَهُ بِتَدبيرِه وتَسييرِه كَما شاء وكَما يَشاء -سُبحانَهُ وتَعالى-، وإدراك عَظَمَة الإلٰه -سُبحانَهُ وتَعالى- و وُجود قُدرَتِه وإِرادَتِه في كُل ذَرَةٍ مِن ذَرَات الكائِنات التي هي في قَبضَتِه -سُبحانه وتعالى- وتَحتَ قَهرِهِ وسُلطانِه -سُبحانه وتعالى-، وما يَتَعَلق بِذلِكُم مِن إِدراكِ مَعاني الصِفات والأَسماء للرَحمٰن -جلَّ جَلاله-.

وإدراك بَعض مَعاني حَقائِق النُبوة والرِسالَة والمَلائِكَة المُقَرَبين وما يَحصُل لِعَين القَلب والروح من مُشاهَدِة أحوال البَرازِخ وما يُعرَض عَليها من أَحوال القِيامَة وأحوال الجَنة والنَار، وقال سَيِّدُهُم ﷺ : "ما من شيءٍ لمْ أكُنْ رَأيتُه، إلَّا أُريتُهُ في مَقامِي هذا، حتى الجنَّةَ والنارَ" وقد كان يُصَلي بِهم مَرة، صلى الله عليه وعلى ٱله وصحبه وسلم، فَدَنا إلى الأمام حتى كادَ أن يَلصَقَ بالجِدار، ثُمَ رَجَع إلى مَكانِه ثُمَ تَقَهقَر وَرَجَعَ إلى الوَراء حَتى كادَ أَن يَلتصَق بِالصَف، ثُمَ عادَ إلى مَكانِه وأَكمَلَ صَلاتَهُ، فَسُئِلَ بَعدَ صَلاتِه عَما رَأوهُ مِنهُ فَقالَ: "عُرِضَت عَلَيَ الجَنَةُ والنار في عَرضِ هذا الحائط، فَحينَ عُرِضَت عَلَيَ الجَنة دَنَوتُ حتى عَزَمتُ أن أقطِفَ قِطفاً مِن عِنَبِها وَلَو أَخَذتُهُ لأَكَلتُم مِنهُ إلى يَومِ القِيامة" لأن طَعام الجَنة لا يَفنى، وكُلما أُخِذَت مِنهُ حَبَة تَنبُت مَكانها خَير مِنها وَهكذا إلى الأبد.

وهذا يَدُل على أنَّ هذه الإراءة بِقُدرة الجَبار الأعلى الخالِق المُكَوِّن حَقيقَية لا مُجَرَد صورَة، وتَوَصَّلوا الآن بِهذه الأجهِزَة إلى نقل الصُوَر، وما انتَهوا إلى نَقل حَقائِق الأجسام فَضلاً عن الأَرواح، وما وَصَلوا إليه، ولكن يُظهِرون في الشاشات الصُوَر حتى تَظهَر الصورة في أماكِن مُتَعَدِدَة في العالَم وفي كُلِ جِهاز، وحتى يُشاهَد بَعض حَرَكاتَها وما يَصدُر مِن أقوالِها مِن أبعد بِلاد في العالَم وما إلى ذلك.

ولكن هذه الرُؤيا النَبَوية فَوق هذا، حَقيقَة يُمكِن أَن يَقطِف مِنها العِنَب ويَخرُج صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وقال: "ثُمَ عُرِضَت عَلَيَ النَار حَتى خَشيتُ أن يَلهَبَني قَشيبُها وذاكُم حينَ رَأيتُموني تَقَهقَرتُ وتَأخَرتُ حتى كدتُ ألصق بالصَف مِن لَهيب النَار" فالمسألة حَقيقَة وهكذا كان يُشاهِدُها ﷺ.

وهذا الذي طَلَعوا فيه مَعاني الصِفات والأسماء وحَقائِق ما وجب به من الإيمان بالغيب الذي يُسَمى بِـ "عِلم المُكاشَفَة" ذَكَرَهُ الإمام الغَزالي عليه -رحمة الله تبارك وتعالى - ونَقَلَهُ عنه الشيخ، هذا هو العِلمُ الباطِن وقَد يِقالُ عَنهُ العِلمُ اللدُني: أي الذي يُلقى من لَدُنِ الحَق -تَبارَك وتَعالى- إلى عَبدِه المُتَطَهِر المُتَنَور الصادق الحاضر مَعَهُ -سُبحانه وتَعالى- ويَحصُلُ لَهُ ذلِك التَفَضُل بإحكام أَصلين:

  • الأصلُ الأول: التَخَلي عَن الرُعونات، وجَميع المَكروهات والمُحَرَمات والصِفات المَذمومات والإلتِفات إلى غير الله تعالى.
  • والأصل الثاني: تَزيين الباطن بِدَوام الحُضور مع الله.

ومن أَحكمَ هٰذَين الأَصلَين، إنكَشَف حِجاب قَلبه وكوشِفَ بِحَقائِق ما أُمِرَ بالإيمان بِه فَأُعطِيَ نَصيبَه من العِلم اللَدُني، كان من دعوات سيدنا الشيخ أبي بكر: "اللهم إني أسألك العِلم اللدني، والمَشرَب الصافي الهَني، يا وَهابُ ياغَني"  اللهم إني أسألك العِلم اللدني والمَشرَب الصافي الهَني يا وهابُ ياغَني، اللهم إنا نَسألُك العِلم اللدني والمَشرَب الصافي الهَني يا وَهابُ ياغَني فأَكرِمنا بِنَصيبٍ وافر، ولكن طَريقَه عِلمُ الظاهر وإقامَتُه والعَمَل بِمُقتَضاه هو الذي يوصِلُك إلى ذلك.

قال إذًا: العِلم الباطن؛ منه ما يَتَعَلَّق بِعِلم القُلوب وأحوالَها في عباداتها وفي صِفاتٓها، ومنه عِلمُ المُكاشَفَة هذا هو النُور الذي يُقذَفُ في القَلبِ نَتيجَة العَمَل بالعِلم.

إذًا فالعِلمُ الأول: الذي يُراد مِنهُ العَمَل. ولَكن العِلمُ الثاني: الذي هو نَتيجَة وثَمَرَة العَمَل، أشرَف مِن العَمَل وأَعظَم مِن العَمَل؛ لأَنهُ سِرُ المَعرِفَة بالرَحمٰن -جَلَّ جَلالُه- وسِرُّ القُرب مِنهُ سُبحانَهُ لأن القُربَ من رَبِنا لا يَتَعَلق بِمَسافة ولا يَتَعَلق بِصورَة ولا يَتَعَلق بِمَكان ولا يَتَعَلق بِشَيء من هذه المَظاهِر؛ ولكنهُ دُنُوٌ مَعنَوي يَنكَشِف لَهُ سِرُّ الدُنو الحَقيّ مِنهُ، من سِرّ دنو الحَقِّ مِنهُ ما يَنكَشِف، ودنو الحَق مِنا ما قال عَنهُ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق:16] ما قال مِثل حبل الوريد،  حاشاه أن يَكون قُربه مِثل حبل الوريد وغَيرِه مِن الكائِنات، وهو أَقرَب إلينا من كُل شَيء؛ قُربٌ مَعنَوي، ويَنكَشِف لَك مِن سِر قُربِه مِنك ما سَبَقَت لَك بِه السابِقة مِن الحَظ والنَصيب وتُدرِك أسراره فَتَكون قَريب، في "كان كُنتَ وحَيثما كُنت" تَكون قَريب مِنهُ -سُبحانه وتَعالى- في هذا القرب المعنوي، و"أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ"، وكُلَما تَمَكَن القَلبُ في حَقائِق السُجود كان أقرَب إلى الرَبّ الوَدود -جلَّ جَلاله وتَعالى في عُلاه-.

وقال: إن هذا العِلم أَفضَل ما يُتَقَرَبُ بِه العَبدُ لله تَبارك وتَعالى، و"العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ" وإنَّ "نَومٌ على عِلمٍ خَيرٌ مِن صَلاةٍ عَلى‏ جَهلٍ"، ووردت الآيات والأحاديث في فضلهم قال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11]، قال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) [آل عمران:18]، وقال: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9]، والعِلم الظاهر هذا عَلامَة صِحَتِه والصِدق فيه أنه يورِثُ الخَشية، وشاهِدُ قَول الرَحمٰن: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]، ولهذا قال صاحب الحِكَم: "إن قارَنَت العِلم الخَشيَة كان لك، وإن كان عِلم بِلا خَشية فَهو عَليك"، يعني من جُملَة الحُجَج تَكون حُجَة عَليك عِندَ الله تعالى ولا تَنتَفِع، فإن كَثيراً من عِلم الظاهر وأَحكام الظاهر مَوجودة حَتى عِند إِبليس المرجوم، ويعرِف حتى اختِلاف المَذاهب في مَسائِل الصَوم والصَلاة والطَهارة، يَعرِفها إبليس، يعلم، لذلك يوسوس على هذا بذا وعلى هذا بذا، وساعة يدخلهُ بلخْبطة في هذا المذهب وساعة في هذا المذهب وساعة يلعب عليه، أي يَعرِف الأَحكام ويَعرِف كيف يَلعَب بِها، ولكن علمه هذا ما يَنفَعُه لأنه عِلم ما أَثمَر الخَشية، عِلم  أثمر التَحَيُّل واستعمالُه للأغراض التافِهَه.

فهذا العِلمُ الصوري الذي لا يَنفَع صاحِبُه بَل يَضُرُّه إذا لم تُقارِنهُ الخَشيَة فالعِلم عَليك، العِلم إذا لَم تُقارِنهُ الخَشية فَهو عَليك، إن قارَنَتهُ الخَشية فَهو لَك، تُرفَع بِه دَرَجات، كما قال تعالى في بَلعام بِن باعوراء، كان عالِم من عُلَماء بَني إسرائيل فَانحَط وانقَطَع عن حَقيقَة العِلم والعَمَل بِه وقال: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا.. ) [الأعراف:175-176]، لأننا بِهذا العِلم نَرفَع كَثير مِن عِبادِنا، نُقَربهم إلينا (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.. ) [الأعراف:176]، فَضَرب لهُ أسوأ مثل قال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) [الأعراف:176]  .

وكان هذا إذًا أيضاً بِمُقتَضى الفِطرة البَشَرية أنَ الإنسان يَعزُّ عليه ويَثقُل، ويَشرُف أن يَتَحَول من رُتبَة إنسان إلى حَيَوان، ولكن في زَمان الجَهالَة والضَلالَة عِندَهُم قالوا إنهم تَقَدَموا فَصاروا يُطالِبون أن يَتَحَولوا إلى كِلاب، وأنه في الأسبوع الواحِد عَدَد مِنهُم كَثير يَأتون وأنه كان حَتى الأَطِباء والمُستَشفَيات يَمتَنِعون، أمَجنون أنت؟! فَجاءَت لَهُم أَوامِر مِن الدُوَل المُتَقَدِمَة؛ لبُّوا طَلَبهُم، واحد أراد أن يتحوّل الى كلب دَعُوه كَلب والعياذ بالله تبارك وتعالى، وأنَّه تَنفُر الطَباع البَشَرِية وتَنفُر الإنسانِية في كَرامَتِها أن تُمَثَّل بِشَيء من الحَيوانات، وبَعضُهم أحَبَّ نوع ثاني غير الكَلب لكن يريد أم يتحوّل الى حيوان، يريد مثله، يُرَكِّبون لَه من صورة جلده ويَمشي على يَديه ورِجلَيه ويَقول إنَّ هذا هو سَعادَتُه، سَعادَتُه في النار، سَتَكمُل سَعادَتُه بالنار وذلك بالحرق والإحتِراق بها -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

وهَكذا إذا فَقَدَ الإنسان حَقيقَة إنسانِيَته بِفَقدِه مَعرِفَتِه بالخالق الذي خَلَقَهُ -جَلَّ جَلاله- ومَن لَم يَعرف الله فَكَأَنَهُ لم يَعرِف شَيء مَهما كان عِنده من العُلوم، ولم يَعرِف رَبه ما كأنَّه عَرَفَ شَيء أصلًا، ومن عَرَفَ الله تَبارَك وتَعالى فَقَد عَرَف كُل شَيء وما فاته شَيء، الله يَرزُقنا كَمال المَعرِفَة واليَقين.

وهذا ضَرَبَ الله له المَثَل: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) [الأعراف:176] والذين مَضوا أيضاً من عُلَماء الكِتاب الذين ضَيَّعوا الأمانة وخانوها ضَرَب لَهُم المَثَل أيضًا بالحِمار قال: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًاۚ) [الجمعة:٥] فكان من أَسوأ ما ضُرِب من الأمثال في القرآن بِعُلَماء السوء كالكَلب والحِمار، ضُرِب بِهم المَثَل، عالِم السوء يَصير مِثل الكَلب ويَصير مِثل الحِمار -والعِياذُ بالله تَبارك وتَعالى-، قال وهذا الكَلب (إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) [الأعراف:176]  دائما لَهَث، وهذا إنْ ذَكَّرتُه أو ما ذَكَّرتهُ، وإنْ نَصَحته أو ما نَصَحته، وإن بَيَّنتَ له أو ما بَيَّنتَ له هذا هو، على وتيرَة واحدة وطبيعة واحدة فقط، مثل الكَلب ما يَعرِف إلا يَلهَث وفقط، لِسُكرِه وَراء الفَانِيَات (وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ)[الأعراف:176]  أجارَنا الله من ذلك ومن كُلِ سوء.

قال الإمام عبد الله بن حسين بن طاهر:

العلم خشية كُله *** يُعرف بذاك أهله

العلم بالأعمال*** يزكو وبالأحوال 

 وليس بالأقوال**** وكثرة الجدال

الله يرزقنا العلم النافع الذي نزداد به خشية من الله فهذا الذي يُتحسر على فقده، وجاء في الحديث: "إذا أتَى عليَّ يومٌ لا أزدادُ فيهِ علمًا يُقرِّبُنِي إلى اللهِ تعالى، فلا بُورِكَ لي في طلوعِ شمسِ ذلكَ اليومِ" يوم ماهو مبارك، والحمد لله نفتتح أيامنا هذه إذاً بالاتصال بهذا العلم، فالله يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويرزقنا العمل به ويزيدنا منه علمًا. قال الله لِأعلم الخَلق به على الإطلاق، وبأسرار أسماءه وصفاته وذاته العليَّة، قال له: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114]، فهو يزداد علما ﷺ في كلّ لمحةٍ وفي كلّ نفس، صلوات ربي وسلامه عليه، وأعاد علينا من عوائد عِلمه ما نَدخُل به في دائرة أهل قُربِه وَمَحبَّته.

ونَُقِل عن ابن عباد في شرح الحكم لابن عطاء الله قال: "العلم الذي يؤدّي بصاحبه إلى الخوف والخشية، وملازمة التواضع والذّلة لله تبارك وتعالى، والتّخلّق بأخلاقِ الإيمان، وتوافُق الإسرار والإعلان". لأنّ أول خطوة في طريق المعرفة الخاصة بالله؛ استواء السرّ والعلانية، أول خطوة في الطريق العام إلى الله تعالى تصحيح التّوبة، ولكن في طريق المعرفة بالله بعد ذلك أول خطوة؛ استواء السّريرة والعلانية، ثم تكون السّريرة خيرٌ من العلانية، ومهما ظهر من حسن وصفاء على ذاك المُوفّق في ظاهِره، فباطنه أحسن، مهما بَرز مِن نيّة حسنة، الذي يكنّه في باطنه أكثر مهما ظهر من قولٍ حسن وفعل حسن وتصرّف حسن، الذي يحمله باطنه أقوى، مهما ظَهر من آثار رحمة للغير، ظهر نصيب من هذه الرحمة، والذي في باطنه أقوى من هذا الذي ظهر من رحمته لمن رحمه وهكذا..، فيكون سرائرهم محل نظر الله تبارك وتعالى، ومحلّ الشهود الأسنى، ويقول: أمّا العلم الذي انفصل عن الخشية وعن التقوى، فما يزداد صاحبه إلا بعدا من الله تبارك وتعالى.

فبان لك أيها المسافر هذين العلمين الظاهر والباطن. فاجتهد بهما في سفرك، وقيّد بهما سفينتك لتصل إلى مطلوبك ومقصدك وتسلم من الزيغ والشطط، وتذهب عنك غياهب الرين، وهي الشكوك والظنون الفاسدة الحائلة الزائلة، وتنظرَ بنورِ العلم وتخرج من ظلمة الجهل وتحظى بعلوم لا يمكن تسطيرها، كما قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: "مَنْ عَمِلَ بما عَلِم، أوَرَثَه اللهُ عِلمَ ما لم يعلمْ" وهذا العلم هو غاية المطلوب الذي أشار إليه الشيخ رضي الله عنه بقوله: وباطنه أول وكان آخر.

وقد أوحى الله في بعض الكتب: "يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحر، من يعبر به فيأتي به، العلم مجعولٌ في قلوبكم، تأدبوا بين يديه، تأدب الروحانيين، وتخلقوا بأخلاق الصديقين، أظهروا العلم في قلوبكم حتى يغطيكم ويغمركم". انتهى، 

وهذا هو علم المكاشفة الذي ذكره الشيخ الإمام الغزالي فيما نقلنا بعضَ كلامه من الإحياء، وهو بحر عميق لا يوجد له قعر، فلا يُعثرُ عليه، بل على بعضهِ إلا من وفقه الله بالاستقامة بالعلم والعمل والإخلاص، فتنكشف له علوم ومعارف وأحوال وغير ذلك على ما قُسِم له في الأزل بإذن الله الواحد الصمد وما ذلك على الله بعزيز.

اللهم وفّر حظنا من هذا العلم وزيّنّا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى وزدنا علمًا، وتولّنا بما تولّيت به مَن علّمت واصطفيت وتعرّفت إليه من خاصّة بريّتك يا أرحم الراحمين.

يقول: يبين لك أيّها المسافر في هذه السفينة السير إلى الله تبارك وتعالى، أنك بالعِلمين هذين، الظاهر والباطن ينضبط سُكّان حركتك ومسعاك، وجَرْيك في مَسارِك إلى مَولاك -جلَّ جلاله- فتُقيّد بهما سفينتك، مُجتهدًا بهما في سفرك إلى ربك سبحانه وتعالى، فتسلم من أنواع الشطط والرين والشكوك والظنون.

كما قال الشيخ عليه رحمة الله تبارك وتعالى:    يذبُّ عن قلبي غياهب الرّين

يذبُّ بواسطة العِلمين، وباطنه أوّل يعني هو الذي علم لأول المقصود، وكان آخر ما تصل إليه إلا بعد قطع تلك العقبات، وهذا مما جعله الله تبارك وتعالى في سرّ النّفخة، نفخة الرّوح التي قال عنها: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر:29] فكمن حقائق من هذا التَّجلِّي الرَّبَّاني بهذه العُلوم في الرُّوح الإنسانية.

فإذا صفا بالَهُ، وعذُبت وصلُحت أقواله وأفعاله، وصفت صفاته من جميع الذّميم، ظهر وانكشف له ما في هذه الرّوح، و مِثاله: كالشريحة الصغيرة كما ترونها في ما اكْتُشفَ من الأجهزة في زماننا، وسطها كثير من المعلومات ومن الكتب، لكن ما تظهر إلا عندما تضعها في محلها من الجهاز، وتكون هي صَالحة والجِهاز صَحيح وصالح تُركّبها فيه تَظهر لك، وعلى حَسب ما تَعرف التّحكّم فيها، تَقدِر تتقلّب من صفحة إلى صفحة، ومكان إلى مكان، كذلك شأنُ هذا العلم الباطن مَودوع وسَط الرّوح، ولكن إذا تهيأ للانكشاف بواسطة الجهاد (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69] وكلّ قلب من قلوب بني آدم قابل لأن تتجلى فيه الحقيقة. ومثاله: المرآة، إذا صفتْ وكملت، قابلة بأن تظهر فيها الصورة، لكن إذا قابلتها، لكن الذي يمنع ظهور الصورة في المرآة:

  • إما نقص في المرآة نفسها، قبل تصقيلها وتكميلها.

قال: مثل قلوب الصّبيان والأطفال، ما يُدركون المعارف والعلوم، غير قابلة حتى يَكمل؛ لأن الله يَمدّه بالتمييز والعقل شيء فشيء، ولا يزال يزيد، يزيد، يزيد إلى الخامسة والعشرين من السّنين، ويزداد إذًا إلى بعض الشؤون والنّواحي للأربعين، ثم يبقى فقط ما بُني على ما مَضى من التّجارب والاستنتاجات، ويبقى هذا مُستوى المَوهوب في العقل الذي يُعطيه الله سبحانه وتعالى. فهذا قلب الصّبي الصّغير، عادهُ ما صَقُل مثل المرآة التي عُدم تصْقِيلُها، لا تظهر صورة فيها، ولكن إذا تم تصقيلها وكمُلت وتمت.

  • قد لا تظهر أيضًا فيها صورة بسبب كُدورَة فيها ووسخ طَالع عليها، تحتاج إلى تصْفية حتى تظهر فيها الصورة.
  • وقد تكون صافية وما تظهر فيها الصورة بسبب حائل بينها وبين الصورة، فما يظهر إلا الحائل، الصورة ما تظهر. 
  • وقد تكون أيضا من دون حائل وليس فيها كدورة، ولكن ما تظهر صورة فيها لأنها لم تتوجه إليها، تكون الصّورة في جهة والمرآة في جهة، ما تظهر فيها الصورة، لابدّ أنْ تُقابلها.

فإذا تمت هذه الأشياء لابُدْ أن تظهر، فكلّ قلب إذا تمّ تمامه وصفاءه ونقاءه ووجّهتُه إلى الحقّ تعالى؛ إنجلتْ الحقيقة فيه، ولابُدَّ أن تظهر الحقائق في القلب كما تظهر الصّورة في المرآة. ولكن إن كان لازال، مثل الصغير ما كمُل. لكن إن كان مثل الكبير؛

  •  إن كان عنده اعتقاد باطل سابق فهذا يحول بينه وبين ظهور الحقيقة في قلبه مثل الحائل. 
  • وإن كان ما عنده اعتقاد باطل، ويعتقد ما جاء عن رسول الله وآله وصحابته، ولكن عنده سيئات وذنوب، أو أكل شبهات وحرام، مثل مرآة موجودة وصورة موجودة؛ لكن طالع عليها وسخ فتحتاج  الى تصفية وتصقيل حتى تظهر الصورة فيها. 
  • وقد يكون بالجهل بكيفية التَّوجُّه؛ (السُّكان) غير مضبوط، مثل هذا ما تظهر فيه الحقيقة، أو ما له شيخ يقوده. 
  • وقد يكون بسبب عدم المواجهة؛ الصورة هنا والمرآة كذا لم تقابلها، وحتى تقابلها.

 وكذلك صدق التوجه إلى الله تبارك وتعالى ودوام الحضور معه هو الذي تُقابل به الحقائق، فتقابل مرآة القلب حقيقة الشيء وتنجلي فيه الحقيقة بصدق التوجه إليه سبحانه وتعالى

سَافِر إِلَيهِ بِهِمَّةٍ عُلوِيَّةٍ *** حَتَّى تَرَاهُ وَقُل لِنَفسِكَ مُوتِي

ولهذا أورد لنا قول الحقّ في بعض كتبه المنزلة لبني إسرائيل:"لا تقولوا العلم في السماء، مَنْ ينزل به، ولا في تخوم الأرض، مَنْ يصعد به، ولا من وراء البحر، مَن يعبر به فيأتي به، العلم مجْعولٌ في قلوبكم" بل تجلَّيتُ عليكم وأعطيتكم علم لكن فَتِّشُوا عنه وابحثوا عنه، مثل ما يريد الإنسان أحيانًا ماء، ومن أين يأتي الماء، الماء في الأرض وينزل يبحث ويحفر حفرة حتى يصل إلى الماء، وينبع من نفس الأرض ، من أين أتيت بهذا؟ لا نزل، ولا استجلبته من مكان ولكن؛ في نفس المكان عندما أحسَنت الحفر ووصلت إلى المستوى ظهر لك الماء المخزون في هذه الأرض، وكذلك مخزون في روحك معارف، مخزون في روحك لطائف، إذا قمتَ بالتصفية والتّنقية وصلت إلى النور المُودوع في روحك، والعلم المجعول في باطنك، بتجلِّي الحق تبارك وتعالى. قال: وهذا علم المكاشفة يقول: "تأدبوا بين يديَّ تأدُّب الرّوحانيين، وتخلقوا بأخلاق الصّديقين، أُظْهرُ العلمَ مِن قلوبكم حتّى يغطّيكم ويَغمركم".

يقول لي واحد في جدة كان منتظر الشيخ الشعراوي ليخرج إلى مُحاضرة وكلمَة يُلقيهَا وقال لي: أتيتُ فوجدته يصلي ويركع، تأخّر عن المَوعد قال لي: ثاني ركعة وثالث ركعة وأنا جالس منتظر، ورابع ركعة وخامس ركعة وقال قريب مائة ركعة، قال: الحمد لله هيّا قُم الآن نمشي، قال لي: كان عندي إشكال في بعض النُّصوص والآيات، الآن انحلّ؛ مازلتُ أُصلِّي حتى انحل الإشكال، وهكذا بواسطة الحضور مع الله و بواسطة الصلاة وهكذا.. -لا اله الا الله-

قال لي مرة: الله إذا وجد الإنسان مأمون على العلم (يِدِّيلُه دِيَّ، ويِدِّيلُه دِيَّ، ويِدِّيلُه دِيَّ) -بلهجته المصرية-، وقال أُصيك؛ إذا مررت بشيء من الكتب ووقفت على أي مسألة ما اتضحت لك؛ اترك الكتاب وقم توضأ، وإن كنت متوضئ، توضأ ثاني مرة وصلِّ ركعتين، وارجع ستجدها مفهومة، تجد المسألة مفهومة عندك وتتضح لك. وهكذا وكان مرائي بعض الشيوخ من قوتها تسري إلى من يقرأ عليهم ومن يحضر عندهم، وقال الحبيب علوي بن شهاب: كنا نأتي عند الحبيب أحمد بن محمد الكاف فما يُكْثِر تقريره، وقد يكرر نفس عبارة المتن الذي نقرأ عليه، ونخرج من المجلس عنده ونحن عرفنا تفاصيل وأخبار العبارات ومعانيها، وما ترتب إليها وتفريعاتها نجد أنفسنا فهمناها، وبعضهم يقول: عندي بعض الإشكالات تأتي، لمَّا اجلس مع الشيخ تنحل هذه الإشكالات، بعضها من خلال كلامه، وبعضها من أول ما يراه ينحل الإشكال وتتضح المسألة. فالعلم مودوع في القلوب والأرواح؛ ولكن بالصفاء والنقاء ومعرفة كيفية الاصطياد؛ يُوصَل إليه ويُتَحَصَّل على النصيب منه، الله لا يحرمنا خير ما عنده لشر ما عندنا.

التوكل

قال الشيخ :

هذا التجهز بحره التوكل***​عمارة التجهيز للتوصل

أي تجهيز هذه الجَلبة المذكورة مما تحتويه من هِراب وألواح وغير ذلك مما ذكره سيأتي. وقوله: بحره التوكل إذ المسافر في البحر لابد أن يكون متوكلاً بالضرورة حساً ومعنى، خصوصاً في هذا السفر الخطر، لكثرة قطَّاعهِ الباطنة والظاهرة. ومن أعظمها أربعة ذكرها الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في قوله:

إنـي بليـتُ بأربعٍ يرميننـي *** ​بالنبل عن قوس له توتير

إِبْلِيْس والدُنْيَا ونَفْسِي وَالهَوَى *** ياربِّ ​أنت على الخلاص  قديـر

فينبغي للسالك المسافر هذا البحر التوكل والاستعانة بالله، كما تقدم عند قوله و لا يحسب ضرها والأخطار وهو موافق لهذا المعنى أيضًا. كيف وقد أمر الله سبحانه و تعالى بالتوكل فقال عز من قائلٍ كريم: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة:23] وأمر بالاحتساب على ذلك فقال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، أي كافله وكافيه وموقِيهِ من أمور الدنيا والآخرة. والتوكل هاهنا في أمرين: في الرزق المضمون، والَّسفرَين المذكورين.

أما في أمر الدنيا فقد قال ﷺ : "لو توَكلتم علَى اللهِ حقَّ توَكلِه لرزقكُم كما يرزقُ الطَّيرُ، تغدو خماصًا وتعود بطانًا". وقال سبحانه وتعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات:22] ثم أقسم بقوله: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات:23]، والآيات والأحاديث كثيرة في التوكل وفضله، ولا على هذا مزيد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وأما التوكل المعنوي في هذا السفر المذكور، فإليه الإشارة بقوله عز من قائل: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ) [النحل:9] وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69]. ثم اعلم أنه لا بد للمسافر السالك هذا البحر، المتوكل فيه من السعي والجد كما قال الله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) [النجم:39] وقوله في الآية السابقة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا.. )، فأمر بالمجاهدة أولاً ووعد بالهداية ثانياً فقال: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69].

و قال الشيخ سعد بن علي تاج العارفين نفع الله به: "الرزق رزقان: رزق القلوب، ورزق الأجسام. فالطالب لرزق القلوب مرزوقٌ الاثنين. أما طالب رزق الأجسام يعيش كالبهيمة".

​و فيه كلام طويل اقتصرنا منه على هذا، وهو موافق لما نحن بصدده. فبان لك أنه لابد من السعي والجد الاجتهاد والتوكل على الله وحسن الظن في التيسير إلى الوصول وتوالي الإمداد. فحُقَّ على العبد الوقوف على الباب، وعلى الله سبحانه وتعالى كشف الحجاب.

وقول الناظم رحمه الله: عمارة التجهيز للتوصل

أي أن توكل السالك المسافر في هذا البحر، فإن صح توكله وإيقانه حصل له التوصل والوصول إلى مقصده ومطلوبه بإذن الله تعالى وتيسيره وهدايته، وأتته النفحات والمواهب بالرياح الطيبة الوطية والأمواج الساكنة الهنية.

وأمست جَلَبته تنقلهُ غاية التنقل *** تجريها سابات دمع سابر

يقول: هذا التجهز في السير إلى الله تعالى، بحره التوكل، فلا بد من التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه؛ يصير عمارة التجهيز للتوصل، إذا توكل حق التوكل وصح توكله؛ حصل له الوصول الى مقصوده، فيتجهَّز للتوصّل إلى المطلوب من القرب من الحق تبارك وتعالى ونيل رضوانه.

ونقل عن الشيخ سعد بن علي الضفاري الذي توفى بالشحر عليه رحمة الله تبارك وتعالى، تلميذ سيدنا محمد صاحب مرباط، وشيخ سيدنا الفقيه المقدم محمد بن علي، الذي كاتبه في بدايته سيدنا الفقيه المقدم بما حصل لقلبه من استنارة ومشاهدات، فكان يقول له: إياكَ أن تركن الى شيء من ذلك وتعوّل عليه، وأمضِ في قصدك الى الله تبارك وتعالى؛ حتى أيقن الشيخ سعد أن فتوحات الرحمن على هذا الإنسان كبيرة وعظيمة، كتب إليه: وأنت يا فقيه أهدى مِنْ أنْ تُهدى واعرف بالشريعة والطريقة والحقيقة منّا، ويقول الشيخ سعد عليه رحمة الله الملقب بتاج العارفين: "الرزق رزقان: رزق القلوب، ورزق الأجسام، فالطالب لرزق القلوب؛ مرزوق الاثنين"، يعطيه الله رزق القلب ويسخر له رزق الجسد، قالوا: والطالب رزق الأجسام فقط، يعيش كالبهيمة" يمشي مثل البهايم تعيش (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ) [محمد:12]، ولكن من أحسن الطلب، أوتي الرغب، ووهبه أكرم من وهب؛ ولابد مع التوكل على الله تعالى وإحسان الظن به، من بذل الوسع مع كمال الثقة والطمانينة أنَّه الكريم الذي قال: "من تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقربْتُ منه ذراعًا ومن تقرَّبَ إلي ذراعًا تقربتُ منه باعًا ، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً" فنِعمَ الرحمن، ويجب أن يتوجه إليه العبد مهما أخذ نصيبه من الخشية والخوف، يجب أن يكون معه نصيب وافي من الفرح بالله -تبارك وتعالى- ومن الرجاء فيه، ومن الثقة بهذا الإله سبحانه وتعالى، فليس إثم الأمن من مكر الله بأكبر من إثم القنوط من رحمة الله، كله فيه إثم كبير، فلا يجوز أن يَأمن مكر الله، ولا يجوز أن يقنط من رحمة الله، بل بحسن الرجاء وحسن الظن يسرع السير ويسهل الوصول.

والمواهب جميعًا والمنن تحت *** حسن الرجاء فأحطط هنا

وما وصلوا إلى الرحمن إلا بقوة الرجاء وصدق الرجاء فيه سبحانه وتعالى، فيجب على العبد مهما كان حاله أن يمتلي برجاء ربه وبالرغبة فيما عنده، وبالثقة به والاعتماد عليه سبحانه وتعالى، وبحسن الظن به وهو الذي فتح لنا الباب، وقال: "أنا عِنْدَ حسن ظَنِّ عَبْدِي بي فليظُنَّ بي ما شاء".

قال الناظم رحمه الله ونفعنا الله به وبكم:

وأمست جَلَبتهُ تنقله غاية التنقل​، يجرها سابات دمع سابر

وأمست، أي الجلبة المذكورة تنقله غاية التنقل أي تترقى وتتنزل من مقام إلى مقام بتيسير الملك العلّام. تجريها سابات دمعٍ سابر، والسابات هنا كناية أيضًا عن السابات الحسية لكنها مصحوبة بالتيسير والإمداد والأرياح الطيبة كما ذكرنا. بخلاف السابات الحسية.

وقوله (دمع سابر) والدموع هنا مختلفة: دمعة خوف، ودمعة شوق، الى ذلك باختلاف الأحوال لخواص الخواص أهل اليقين والإخلاص، لا حرمنا الله وإياكم هذه الموارد بحق الله الكريم الماجد. اللهم آمين

يقول: تنتقل هذه السفينة من مكان إلى مكان تمر به في السابات، من ساب إلى ساب؛ بواسطة الدمع السابر، الدمع المنحدر، والدمع يأتي من خشية الحق -تبارك وتعالى- دمعة الخوف، ويأتي بعد ذلك من خوف الفوات، ويأتي من الشوق والمحبة فإن خالص المعرفة يُدمع العين قال: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) [المائدة:83] كذلك الشوق والمحبة والفرح لها دمعات من هذه العين، كذلك الخوف والخشية لها دمعة، والخوف؛ إما أن يكون خوف من العذاب وخوف من العقاب وهذا لعموم المؤمنين، أو يكون خوف من فوات القرب وفوات المعرفة الخاصة وهذا مخصوص بأهله، وبعد ذلك هناك دموع لأرباب المحبة والشوق؛ فيبكون شوقًا وولعًا ومحبةً وفرحًا بإلههم -جل جلاله- وهذه دموع أغلى. هي من أغلى الدموع التي تنزل من العين، وهذه الدموع، خروج مثل رأس الذبابة منها أفضل من جبل من ذهب يُتَصَدق به، وتطفيء بحارًا من النار، الدمعة من خشية الله.

ولو أن باكيًا بكى في الأمة أي من خشية الله؛ لرحمهم الله تبارك وتعالى، خارج هذا تفيض كثير من دموع الناس لشيء من الأحزان أو المصائب الحسية، أو لشيء من فقد حظوظهم الحسية، وهذا يشترك فيه المؤمن والكافر والقريب والبعيد والفاسق، لكن البكاء من خشية الله لا يكون إلا من مؤمن، والبكاء من خوف عذابه وعقابه أو من خوف فوات قربه ما يكون إلا من المؤمن، والبكاء من معرفته، والبكاء من محبته والشوق إليه، لا يكون إلا في خواص الخواص.

وهكذا قال:

  • دمعة خوف العذاب للعوام 
  • ودمعة خوف الفوات للخواص 
  • ودمعة شوق لخواص الخواص

قالت السيدة عائشة ما كنت أعرف أن أحدًا يبكي من الفرح إلا يوم رأيت أبي يوم قال للنبي ﷺ: الصحبة يارسول الله، وأريد أن أصاحبك في الهجرة. لما أخبره أن الله أذن له بالهجرة قال الصحبة؛ فبكى أبي فرحًا بصحبته لرسول الله ﷺ ومرافقته له في هذه الهجرة. قالت فما كنت أعرف أن أحدًا يبكي من الفرح إلا ذاك اليوم، يبكي؟ ما سبب بكائه؟ فرحًا به، كما يشتاق الأب إلى ابنه واللقاء به، فلمَّا يلقاه أول مرة بعد الغيبة يبكي، هذا البكاء من الفرح ومن الشوق ومن المحبة.

وهكذا فتختلف، ولهذا حتى نفس الدمع الذي يخرج: الذي يخرج من آثار الخوف والحزن يخرج فيه حرارة، والدمعة تخرج من آثار المحبة والفرح باردة. 

ولهذا يقولون عن من يسرُّ القلب والفؤاد (قرة عين) يعني برودة العين، يخرّج الدمع البارد من الفرح به، والثاني الذي يُحزِن القلب (سخنة عين)؛ يخرج الدموع الساخنة من الحزن عليه والنظر إليه. وهكذا جعلنا الله قرة عين لسيد الكونين، ولعباده الصالحين أجمعين إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، املأنا بالإيمان واليقين ووفّر حظنا من عطاياك الكبيرة، ومنحك الوفيرة في لطف وعافية.

 بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمّد اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

 الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

08 ربيع الثاني 1445

تاريخ النشر الميلادي

21 أكتوبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام