تفسير سورة الحِجْر، من قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}، الآية: 16

تفسير سورة الحِجْر، من قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}، الآية: 16
للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الحِجْر : 

(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) )

 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مُكرمنا بتنزيل القرآن، وبيانه على لِسَان عبده وحبيبه سيِّد الأكوان محمَّد بن عبد الله صلى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأهل بيته المطهرَّين عَنْ الأدران وعلى أصحابه الغُرِّ الأعيان وعلى مَنْ والاهم في الله واتَّبعهم بإحسان وعلى أنبياء الله ورسله معادن الفضل والإحسان وعلى آلهم وأصحابهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقرَّبين وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أما بعد،، 

فإننا في نعمة تأمل كلام ربنا لإله الخلَّاق - جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه - وصلنا في سورة الحجر إلى قوله تعالى: {وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (16) وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ ٱسۡتَرَقَ ٱلسَّمۡعَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ مُّبِينٞ (18) وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ (19) وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ (21)} 

يقول  جلَّ جلاله -: {وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا..} هذه السماء التي رفعها الله بغير عَمَد، يراها كل عاقل على ظهر الأرض فيعلم ويوقن أن رافعها قوي قدير عظيم حكيم بيده الأمر كلُّه. سُبحان من رفعها بغير عَمَد. 

{وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا..} فكم يعيش تحتها مَنْ لم يمتدَّ به عقله إلى أن يحسن النظر. مَن خلق هذه السماء وَمَنْ رَفَعَهَا؟. وهذه غايةٌ مِنَ الجهالة وقلَّة العقل؛ تعيش فوق أرض لا تعرفُ مَنْ خلقها ومَنْ مهَّدَها لك؟ وتحت سماء لا تعرِف مَنْ رفعها ومَنْ أقامها وسوَّاها؟ جلَّ جلالهُ وتعالى في عُلاه. فالجاهلون عن ذلك يعيشون على ظهر الأرض ناقصي العقول، ومَنْ لم يدرِ بنفسه إلَّا في مكان، لم يعرف ما هذا المكان ولا ما وراءه؛ فبقي لا يُبالي مِنْ أين جاء؟ ولا إلى أين يذهب؟ واشتغل بما هو فيه، كمن لو فرضنا إنسانا في بيته وأسرته يبيتُ على سريره فلم يشعر إلَّا وهو في سفينة تجري في لُجَّةِ بحر، فهل مِنَ العقل أن يبقَى في السفينة مشغولًا بما فيها وكراسيها؟ أين كرسيي؟ وأين هذا؟ وماذا يقولون أهل السفينة؟ لو يفكِّر أولًا؛ ما الذي جاء به؟ كيف جاء إلى هنا؟ وكيف وصل؟ وإلى أين تمشي به هذه السفينة؟ وإلى أي بقعة؟ وإلى أيِّ وادي؟ وإلى أيِّ بلدة؟ فإذا لم يُفكِّر في ذلك، فما العقل عنده؟ وهذا عقلُ جميع مَنْ يعيش على ظهر الأرض ولا يُحسِنُ النَّظر، في من جاء به على ظهر الأرض؟ وكيف وُجِد؟ ومَنْ خَلَقَ هذه الأرض؟ ومَنْ جعلها بهذه الصورة؟ ويتبجَّحون بعد ذلك أنَّنا اكتشفنا كوكب، فمَنْ الذي أوجدها؟ وهذا الكوكب حجم كذا، فمَنْ الذي كوَّنَهُ بهذا التَّكوين؟ مَنْ الذي صوَّرَهُ بهذا التَّصوير؟ مَنْ الذي قدَّرَهُ بهذا التَّقدير؟ فهُم يتفرجون في خلق الله وينسون الخالق جلَّ جلالُه، فما أقلَّ عقولهم ولكن أكثر الناس لا يعقلون. والحمدُ لله على نعمة الإسلام، اللهُمَّ كما أنعمتَ علينا بالإسلام فزِدنا مِنْهُ، وكما أنعمتَ علينا بالإيمانِ فزِدنا مِنْهُ، وكما أنعمتَ علينا بالعافية فزِدنا مِنْهَا، وكما أنعمتَ علينا بالعُمرِ فبارِك لنا فيه.

قال ربِّي: {وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا..} منازِل، عالِيَات، والمنزل إذا اعتلى وارتفع سُمِّي بُرج. وهذه منازل الشمس ومنازل القمر ومنازل النجوم والكواكب مَنْ الذي هيَّئَهَا؟ مَنْ الذي أوجَدَهَا؟ {وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (16)} لِمَنْ يملك النَّظر الصَّحيح، ويخرُج مِنْ نَظَرِ بصرهِ إلى نَظَرِ عقلهِ وقلبهِ إلى عظمةِ مُكوِّن هذه السَّماء ومُزيِّنِهَا. {..وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (16)} بالكواكب. {إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِزِينَةٍ ٱلۡكَوَاكِبِ * وَحِفۡظٗا مِّن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ مَّارِدٖ[الصَّافات:6-7]، {..وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (16)} المُستبصرين المُتأمِّلين، أمَّا الذي يكتفي على النَّظرِ بمُجرَّد البَصَر ويقولُ هذا شيء كبير وهذا أصغر مِنْ هذا، وهذا يتحرَّك كذا ثُمَّ لا يُفكِّر كيف تمَّ ذلك؟ ومن الذي رتَّب ذلك؟ هذا ناقِص النَّظر، هذا أبله بَلِيد. الله أكبر. يقول {..وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (16)} لِمَن لَهُ نَظَرٌ صحيح يُدرِك أنَّ هذه السَّماء وزينتها ما قامت عَبَث ولا لَعِب ولا هُزُؤ ولا صُدفة ولا مِنْ نفسها، أي عقل يقول ذلك؟ ماذا يَعقِل مَنْ يقول ذلك؟ وما يحدُث مُحدَثٌ إلَّا بمُحدِث، ولا يتكوَّن كائنٌ إلَّا بمُكَوِّنْ، أمرٌ قَطعي يقطَعُ بِهِ العقل ويجزِم. فمَنْ الذي كوَّن هذا؟ 

قال: { ..وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (16) وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ (17)}: 

  • أمَّا الحِفظُ الأوَّل؛ بمَنْعِهِم الدُّخول فيها، فذلك مِنْ أوَّل ما كُوِّنَها وكوَّن هؤلاءِ الشَّياطين على ظَهرِ الأرض. 
  • وأمَّا حِفظَهَا بعد ذلك مِنْ استَرَاقَ السَّمعَ؛ فجاء كما دلَّتِ النُّصُوصُ على مَراحِل. 
  • وأمَّا استكمالُ حِراسَتِهَا؛ بكثرة الملائكةِ والرَّميِ بالشُّهُبِ لِمَنْ اقترب مِنْها مِنْ الشَّياطين، فكان ذلك ببعثةِ نبيِّنا مُحمَّد ﷺ. 

وقد أخبرنا الله في سورة الجنّ عن الجنِّ قولهم: {وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدۡنَٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسٗا شَدِيدٗا وَشُهُبٗا * وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ ..} [الجن:8-9] أي مقاعد نستَمِع فيها كلام الملائكة وما يقولون {..فَمَن يَسۡتَمِعِ ٱلۡأٓنَ يَجِدۡ لَهُۥ شِهَابٗا رَّصَدٗا}[الجن:9] يُرمى بشِهَابٍ كما قال في هذه الآية: {وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ (17)} فكان كذلك. ولا يملِك مَنْ في السَّماء ومَنْ في الأرض أن يهدم السَّماوات ولا أن يهدم الأرض، ولكنَّه -سُبحانه- يُبدِّلُها متى ما شاء، ويشُقّ السَّماوات متى ما شاء، ويَمُدُّ في الأرض مَدًّا متى ما شاء، وتُحمَل مَعَ جِبَالِهَا فَتُدَكُّ دكًّا متى ما شاء، ولا يفعل ذلك غيره. كما أنَّه لم يُكوِّنها غيْرُه، فلا يملِكُ تحطِيمَهَا وهَدمَهَا غيْرُه؛ وإنَّما يُؤتِ الخلائِق ما يهدِمُونَ بِهِ أشجارًا ويُقتِّلُونَ بِهِ بَنِي آدم وحيوانات، وما يُكَسِّرُونَ بِهِ عمائِر، وشيئًا يعمرونَهُ بأيديهم، ولكن لا يملكُ أحدٌ مِنْهُم أنْ يُنهي كَوْكَبْ الأرضِ ولا أنْ يُغيِّرَه، ولا شيئًا مِنَ الكَوَاكِبْ في السَّماوَات كائِنًا ما كان. الله أكبر. بَلْ لا يملِكُ أحدٌ مِنهُم التَّغيير في كَيْفِيَّة تَكْوِينِه هُوَ لِيَتَكَوَّنْ على فِطرَةٍ أخُرى، أو التَكوين في أولاده ليَتَكَوَّنْ على مِثَال آخر، غير هذا النَّمَط الذي خَلَقَ اللهُ الإِنسانَ عَلَيْه، لا يقدِرُونَ على ذلك؛ مَخْلُوقُون، مَقهُورُون، عَاجِزُون، مُغْتَرُّونَ بما يُؤتَوْنَ مِنْ قُوَّةٍ تَحْتَ أمرِه، ومِنْ إرَادَةٍ تَحْتَ أَمرِه، ومِنْ أسباب هُوَ الذي ركَّبَهَا وسبَّبَهَا، فَيَغتَرُّونَ بِذَلِكَ ويَظُنُّونَ أنَّ لَهُمْ شيء، ولَيْسَ لَهُمْ مِنَ الأَمرِ شيء. 

قال تعالى: {وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ (17)}، وقَدْ كَانَ الشَّياطين يتَّخِذُونَ مِنهَا مَقَاعِدَ للسَّمعِ ويَستَمِعُونَ إلى الملائكة. ومِنْ جُملَةِ ما يُوحِي الله إلى الملائكة: إخبارَهُم بالأقدار التي قدَّرَهَا والتي قَضَاهَا في عَالَمِ الأرض وما يجري فيها. فإِذَا جَاءَ الوَحْيُ لِهذا الصِّنفُ مِنْ الملائكةِ الذين يُبلِّغُونَ الأخبارَعَنِ الله -ومِنهُم المُوكَّلُونَ بِشُؤُونٍ في هذا العالم وفي هَذِهِ الأرض- أصغوْا خاضعين خاشعين، فإِذَا أوْحى اللهُ إليهِم قَالَ بعضُهُم لبعض: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الْحَقَّ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، قالَ كذا قالَ كذا قالَ كذا، فيَستَمِعُ بعضُ الجِنِّ مِنهُم ذلك، فَيَخرُجُوا إلى ولِّيِهِ وقَرِينِه مِنَ الإِنْسِ فيَقُول لَهُ يكونُ كذا وكذا ويَزِيد فوقها كلام، ويَزِيد الإِنْسِي فوقها كلام؛ فيخلطون بها مئة كذبه. ثُمَّ يكون ما سمعوه من حديث الملائكة، فيصدِّقَهُم الناس، -ويقولون: ألم يقل أنه يكون كذا؟ يقولون: انطروا الى هؤلاء كهنة، هذا إنسان صادق- كهنة؛ أُبطِلَت هذه الكَهَانَة ببعثة المُصطفى ﷺ ومُنِعُوا أن يستَرِقُوا السَّمع. قبل ذلك كانوا يَستَرِقُون وقد ترميهم الشُّهُب، فإذا جاء الشِّهاب قَتَلَ ذلك الجنيَّ أو خبَّلَهُ أو أمْرَضَهُ. وقَدْ يُلقي كلٌّ مِنهُم إلى من ورائه، و إلى من ورائه، فيركَبُ بعضُهُم بعضا. وقَدْ يُلقي الكَلِمة قبل أن يُصِيبَهُ الشِّهاب؛ فما بقي مِنْ ذلك أو وَصَلَ إلى مَنْ في الأرض جاءوا بِهِ وقَرْقَرَهُ في أُذُنِ وليِّهِ قَرْقَرَةً، فهذه الكَهَانة التي امتَنَعَتْ وبطلت ببعثة المُصطفى عليه الصَّلاةُ والسَّلام. "ومَنْ أتى كاهِنًا أوعرَّافًا فَصَدَّقَهُ بما قال، فَقَدْ كَفَرَ بما أُنزِلَ على مُحمَّد أو لَمْ تُقبَل لَهُ صلاة أربَعِينَ صباحًا" - والعياذُ بالله تبارَكَ وتعالى. فكذبوا . قالوا: إنَّهُم يقولون القَوْلَ فيحصُل يا رسول الله! قال: "تِلكَ الكلمة التي اختَطَفَهَا الجنيُّ مِنْ ألسِنَةِ الملائكة يُقَرْقِرُها في أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرْقَرَةَ الدَّجاجة، ثُمَّ يَزِيد فوقها مِئَةَ كِذبة".

قال تعالى: {إِلَّا مَنِ ٱسۡتَرَقَ ٱلسَّمۡعَ ..(18)} يعني لكن مَنْ اسْتَرَقَ السَّمع. {..فَأَتۡبَعَهُ..} لَحِقَهُ وأدرَكَهُ. {..شِهَابٞ مُّبِينٞ (18)} هذا الالتهاب الذي يحصل بواسطة الشُّهُب مِنْ تِلكَ الحرارة، فيُلقى على ذلك المُتَطَاوِل مِنَ الجان {..فَأَتۡبَعَهُ شِهَابٞ مُّبِينٞ (18)}. فهذه آيَةُ السَّماء، وكَمْ في السَّماءِ من آيات {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1]، يقُولُ جلَّ جلالُهُ وتعالى في عُلاه: {..وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} [الفرقان:61]، وجَعَلَ فيها تِلكَ الأبراج التي تنزِلُ فيها الشَّمسُ والقمر {وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (16) وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ ٱسۡتَرَقَ ٱلسَّمۡعَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ مُّبِينٞ (18)}. إذًا فلا طريقة لمعرفةِ ما سيكون إلا مِنْ قِبَلِ وَحْي الله، وما يُعَلِّمُ الله به ملائكته أو رُسَلَه. ولا طريقة بعد ذلك لأحدٍ أنْ يَعرِفَ ما يكونُ على وجه الجَزمِ والتَّعيين إلَّا ما كانَ مِنْ إِلهامِ الله تعالى وإنبائه لِمَنْ يشاء فَهُوَ علَّامُ الغُيُوبِ - جلَّ جلالُه  {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26-27].  

ولذلك نَجِدُ المُتعامِلِينَ مَعَ الأسباب على ظهر هذه الأرض، يُرتَّبُون ويخطِّطُونَ ويُدَبِّرُونَ تدابير كثيرة مِنْ خلال استعمال الأسباب التي وَضَعَهَا المُسبِّبْ -جلَّ جلالُه- ومَعَ ذلك، فكثيرٌ إن لمْ يَكُن أكثر ما يُرتِّبُونَه ويُخطِّطُونَه يفشل وياتي غيرُه، ويُفاجَئُون بغيره في مُختَلَفْ النَّواحي والجِهَات والأزمان والأماكن -هيئات وجَمَاعَات ومُؤسَّسات ودُوَلْ- يُرتِّبُون ويُخطِّطُون ويَقولون نُريد ونُريد ونُريد، وأكثر ما يُخطِّطُونَهُ يحدث غيره -ويصير غيْرُه- في الوُجُود لأنَّ فَوْقَ المَّملكة مَلِك يحكُمها كما يشاء -جلَّ جلالُهُ- وهُم وخواطِرَهُم مِنْ جُملَةِ حُكمِه، وهُم وخواطِرَهُم وما يَرِد على بالهم. لِذَا قال بعضُ العارفين، جميعُ الخلقِ مُؤمنَهُم وكافِرَهُم خَدَمَةٌ للقضاءِ والقَدَر مِمَّا قدَّرَهُ الله وقضى، هم يقومون فقط بإنضمام لشيء مِنَ التَّنفيذ فيما مَكَّنَهُم فيهِ ولا يَكونُ إلَّا ما أراد سُبحانَهُ وتعالى. ويُروى في الحديث القُدسي: "يا ابنَ آدم، أنْتَ تُريد وأنا أُريد ولا يكونُ إلَّا ما أُريد، فإن سّلَّمتَ لي فيما أُريد؛ كَفَيْتُكَ ما تُرِيد، وإنْ لَمْ تُسلِّم لي فِيمَا أُريد أتعبتُكَ فيما تُريد ثُمَّ لا يَكُونُ إلَّا ما أُريد". جلَّ جلالُه. ثُمَّ تنتهي الأوهام هذه كُلَّها بانكِشَافِ السِّتارة وظُهُور الحقيقة، وإذا بالنَّاسِ مَنْ مَلَكْ ومَنْ لَمْ يَملِكْ، والصِّغار والكِبَار والجن معهم الملائكة وقَدْ نُفِخَ في الصُّور وقالَ الربُّ: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]  ظَهَرَت الحقيقة، كانوا يَضْحَكُون على نفسهم وعلى النَّاس -نحنُ ونحنُ نطلع وننزل-. 

كما قال النَّمرود: { ..أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ..} [البقرة:258]، كيف أنا أُحيي وأُميت؟ أتى باثنين قتل واحد وأبقى واحد، وقال: انظر هذا احييته وهذا امَتّه! مسكين ما عرف ماهي حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة؟ وما سُلِّطَ  إلَّا بأمرِهِ سُبحانه وتعالى. وسيدنا الخليل تحدَّاه بأمر واضح بَيِّنْ آخر ما يَجِد فيه وَهم ومجال، قال له: { ..فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ..} [البقرة:258] أين الذين يُحبُّون التَّطوُّر؟ قل يا جماعة، النَّاس تطلع عليهم الشَّمس مِنْ المشرق كُلَّ يوم، هذا موديل قديم جدًا، نُريد طِرَاز جديد! نحن في عَصْرِ التَّقدُّم وعَصْرِ الذَّرة، نُريد تتحوَّل الشَّمس وتشرق مِنْ الشَّمال، وإلَّا مِنَ الجَنُوب، هيَّا يا أقوياء! اقوياء إيش؟ أقوياء إيش؟ عاجزون! ما يقدِرُون على شيء.  قال: {..فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الذي كَفَر..} [البقرة:258]. وهُم هؤلاء أيضًا المُدَّعُون للتَّقدُّم، هل يقدِرُون يفعلون شيء مِنْ هذا؟ لا والله، ما أعجَزَهُم! وما أكثر غُرُورَهُم! ما أكثر كبرياءهُم! {..أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ..} [البقرة:258]، {..أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات:24] واحد يحتاج كُل يوْم إلى التبوُّل وخُرُوج البُراز مِنهُ، ويَقٌول{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}، إيش مِنْ عَقِل هذا؟ لا إله إلا الله. وهُم هكذا {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍأَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ۚ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك:20-21] ، وهُم اليوْم على ظهرِ الأرض. نقول إذًا هذا الذي رتَّب الأرض كما نقرأ في الآيات الآتية الآن، ورتَّب فيها معادِنهَا بِوَزن مِنْ عِنْدُه، لماذا وأنتُم المُتقدِّمون تُطوِّرون بدل ما تجون وتسرقون المعادن والثروات مِنْ بلاد الغير؟ خلُّوها في بلادكم، انقلوها الى عندكم، اسحبوها مِنْ هناك هاتوها لكم! ما يقدرون، سبحان الله. وهذا الرِّزق الآن الذي يرزقكم إيَّاه، أراكم إياه أمام عيونكم أنَّه ليس تحت تصرُّفكم، إمّا حَِيل أو كذب أو حرب أو ذنوب. إذًا أنتُم في عجز كامل فلماذا بالغرور ولماذا بالكبرياء؟

🔺يقولُ جلَّ جلالُه:{..وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا..}  فقولوا لنا بالله عليكم مَنْ الذي خَلَقَ جُزءًا منها؟ نصفًا؟ رُبعًا؟ ثُمنًا؟ تُسعًا؟ عُشرًا من الأرض؟ هل خلقته دولة؟! دولة!!. قال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ..} [فاطر:40] أروني! إيش مِنَ الجزرهُمْ خَلَقوها؟ إيش مِنَ المُدُنْ هُمْ خَلَقوها؟ {..أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ..} [فاطر:40]  حاولوا، أروني! ماذا خلقوا مِنَ الأرض؟ جانب الجنوب ولا جانب الشَّرق ولا جانب الغرب، ماذا خلقوا؟ ما خلقوا شيء {..أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أمْ لَهُم شِركٌ في السَّماوات ..} [فاطر:40] هاتوا أيّ دليل على هذا؟ هاتوا أي بيان؟ قال سبحانه وتعالى: {..وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا..} انا الذي مددتُّها، مَنْ الذي قَدَّرَ حجم الأرض؟ مَنْ الذي رتَّبَ مساحة الأرض؟ مَنْ الذي عَيَّنْ حجم الارض؟ مَنْ؟ ونحن فوق الأرض هذه يعبد بعضنا البعض ونحنُ مَخلُوقين مِنْ نُطَفْ، محتاجين لأن نعرف مَنْ خَلَقَنَا نقوم يعبد بعضنا البعض ويستعبد بعضنا بعض؟. {..تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، حقَّقنا بحقائق الاسلام يا رب 

{وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ .. (19)} جبال شامِخَات ثابتات فيها. وإلَّا شيء مِنْ هذه الجبال ذي خَلَقَهَا المُخترعون المُفكِّرُون العباقرة، في واحد من الجبال في الدنيا هُمْ خَلَقُوه؟ في؟ لا يوجد. {.. وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ ..} الله رتَّب هذه الرواسي في الجبال. ثم يقولون: نحن اهل الجيولوجيا، هذه الجبال متكونة كذا ومكونة من أحجام مختلفة وتحتها في الارض مثل الذي فوق الارض مرتين بعظمة. ثم مَنْ الذي صلَّحها؟ انت؟ اهلك؟ حكومتك؟ وزارتك؟ من الذي صلحها؟ وبعدين هل هذا هو التطّور حقك؟!! تَصِفْ لي عَظَمَة خلْق ربِّي وتُريد انْ اكفُر به واؤمن بك يامجنون؟! ايش عملت؟ جئت تتعجَّب في آيات ربي ولا تؤمن بربِّي، وتريدنا أن اترُك ربِّي واتبعك. هذا كلام يُعقَل؟! هذا عملهم، هذا فِكرهم.

قال تعالى: {وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ .. (19)} في الفترات الاخيرة -السنوات هذه-، عندما بدأ يتغيَّر المُناخ في عدد مِنْ اقطار الارض، وبدأ ما يسمُّوه بالزَّحف الجليدي وغيرها؛ تغيَّرت مواعيد الزِّراعة في الدُوَل ، سواء دُوّل صغرى أو كُبرى كلُّه سواء. وتغيَّرت المواعيد وصار ما عادت تزرع الأرض في موسمها الذي كان يُعتاده. حاصل الآن في هذه السَّنوات؛ لأن الذي يُنبت ليس هُمْ ولا حضارتهم ولا آلاتهم ولا المواد المخلوقة لله التي في أيديهم وظنُّوها لهم، لا شيء مِنْ هذا يُنبت {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64]؛ يقول: لهذا تغيَّرت عليهم وما دروا. أراضي عندهم في البلدان المتطوِّرة المُتقدِّمة كانت خضراء مُتناهية وفي هذه السنَّة صحراء، ماهو الحاصل؟ ليس هُم الذين يزرعون، وليس هُم الذين يتحكَّمون في الهواء، وليس الذين هم  بأيديهم أمر الإنبات، هناك أوامر مِنْ فوق. 

يقول تعالى: {..وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا..} نحنُ الذين أنبتنا {..مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ (19)} ولا تجد بُقعة مِنْ بِقَاع الأرض فيها سُكَّان إلَّا وتلك البُقعة فيها ما يكفي أولئك السُّكان في كُلْ شؤون معائشهم؛ لو أحسنوا العمل والاستخدام لها. ماذا يحتاجون؟ طعام، شراب، كساء، سكن، والمركب موجود في البُقعة التي هُم بها، لكن يعتدي بعضهُم على بعض، يؤذي بعضهُم بعض، ويستخدمونها بأساليب غير صحيحة، ثم يعود هذا فقير، وذا لايملك شيء، وذا مقدَّر، وذا مكدَّسة عنده، وذا يسرق حق ذاك وإلَّا {وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ..}  الله يقول: {وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ..} الله الله الله. {..وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ (19)} اسمع؛ ما يكثُر أي نوع مِنْ أنواع المأكولات في النَّبات في أيّ بقعة، في أي فصل مِنْ فصول السنة، إلَّا وهُوَ في تلك البقعة وفي ذلك الوقت أحسن ما يكون لغذاء جسم الإنسان. هذا الذي يكثُر ويحسُن في هذه البُقعة في الفصل الفلاني، هُوَ في ذاك الفصل وفي تِلك البُقعة أحسن ما يكون لغذاء مَنْ في البُقعة مِنْ النَّاس. ترتيب مَنْ؟ لهذا كان يقول بعض العقلاء: إذا رأيت في أي مكان من أماكن الأرض ثمرة تكثُر تحسُن يعني موسمها جاء، أحسِنْ تناولها لأنها هذه أنسب شيء لجسدك الآن. لأن ما أوجَدها في هذا الوقت في هذا المكان إلَّا وهي أنسب ما يكون، سبحانه. 

{..وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ (19)} مُقدّّر؛ أحجامها وأشكالها واذواقها {..يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ..} [الرعد:4] جلَّ جلالُهُ وتعالى في عُلاه. يقولُ:{..وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ (19)} لمَّا أرادوا أن يتدخلوا أيضا بواسطة الأسباب - لكن جاوزوا حدَّهُم - فتدخلوا فيما ليس لهم، وصاروا يأتون ببعض الأنواع مِنْ المواد الضارَّة والسامَّة؛ لأجل يستعجلوا بها، بإنضاج الثَّمرة أو تكبيرها على غير وجهها الفطري الصَّحيح المُرتَّب في سُنَن الله تبارك وتعالى؛ جاءوا لنا بأنواع مِنْ مُسبِّبات السَّرطانات وأسباب مرض القلب وأسباب أنواع مِنْ الأسقام والعِلَلْ والأمراض من المواد هذه، ربّ الأرض يعرف ماذا يزرع فيها، ويعرف مصالح عباده، كيف يموت؟كيف حجمه، خذ بما رتبه هو ولا تتدخل باستعجالك وأسبابك فتأتي لنفسك ولغيرك المرض. 

قال: { وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا..} وما مدَّها غيره، أي قدَّرها، سوَّاها، حجمها ومساحتها وذرعها ووزنها بتقدير مِنْ عنده. {..وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ..} حتى لا تَمِيدَ بنا. {..وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ (19))

 وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ..} ما تحتاجونه في معيشتكم طعامًا، شرابًا، لباسًا، مركبًا، مسكنًا موجود. مَنْ الِّلي رتَّب هذا الترتيب؟ ولو وضعنا الله في مكان بعض الحاجات فيها غير موجودة من أين سنأتي بها ؟  ماذا نعمل؟ 

{وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ..} ما تحتاج في معيشتك طول عمرك موجود في الأرض هذه التي خلقك فيها {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ} [طه:55]، 

{وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ (20)}، أيضا جعلنا لكم فيها {..مَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ (20)} أولاد، وخَدَم، وموالي، وأتباع، ودواب، وأنعام، وأنواع من الحيوانات، تظنُّون أنفُسَكُم ترزُقُونها؟ قال لستم انتم اللي ترزُقُون، أنا أرزقهم وأرزقكم {وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ..} [العنكبوت:60] هُوَ الرزَّاق. فوهمًا تظنُّون أنَّكم تُقوِّتون وتؤكِّلون أولادكم، مُجرَّد أسباب أجراها المُسبِّب وهو الذي رَزَقَك ورَزَق ابنك، وهُوَ الذي خَلَقَك وخَلَق وَلَدَك هذا، وهو الذي سلَّط على قلب الأم أنْ تَحِنَّ عليه وأنْ تُرضِعَه، وسلَّط على قلب الأب أنْ يأتي له بذا وبذاك. والأمر أمره والرَّازق هُو؛ ولهذا قال: {..مَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ (20)} {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]. 

{وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَ وَمَن لَّسۡتُمۡ لَهُۥ بِرَٰزِقِينَ (20)} قال الله: هل تَرَوْن هذا الذي أمامكم تَسييدي وتَقديري، فأنا ربُّكُم فاعلموا وصفي وأمنوا به. ما وصفُك يا رب؟

 قال: {وَإِن مِّن شَيۡءٍ..} يعني ما مِنْ شيء، أي شيء {..إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ..} خَلْق، إيجاد، إنسان، حيوان، نباتْ، صحَّة، مَرَضْ، أمنْ، خوْف، رخاء، قحْط، شِدَّة، يُسر، عُسر، أي شيء؛ {وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ..} نحنُ الذي نوجِدُه، نحنُ الذي نخلُقُه. 

{وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ..} خير، شر، سعادة، شقاوة، نفع، ضر، {وَإِن مِّن شَيۡءٍ..} أي شيء كان إلَّا عندنا خزائنه -يعني تحت أمرنا وقُدرتنا- نَوجِد مِنْهُ ما نشاء ونعدِم ما نشاء، ومع ذلك كلِّه فإنَّا نُسيِّرُهُ بحكمة {..وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ (21)}. هذا الهواء الذي نستَنْشِقُهُ ومنْهُ الرِّياح التي يُشير إليها في الآية: { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ..(22)} بَقَدَر معلُوم. الآن هذا الهواء مُتحرِّك وبطبيعتِهِ مُتحرِّك، مُتحرِّك أمْ كيف؟ بطبيعتِهِ يستمر على طول ثُمَّ ساعة يزيد، ساعة ينقُص، ساعة يقف. إذًا ما هُو مُتحرِّك بنفسه؛ ساعة احد يوقِفُّه وساعة يمشِّيه. تشوفه يهب عليك الآن، قبل قليل ما هو كذلك -عجيب- إذنْ ما هذا الهواء هذا؟ ما هذه الرِّياح؟ وفي كُلِّ شيء لَهُ آيةٌ؛ تَدلُّ على أنَّهُ الواحِدُ. كل ما حوْلك يقول لك آمِنْ بربِّك، اتَّقي موْلاك، مرجِعَك إليه، مَعَك فُرصة محدودة في الحياة الدُّنيا تنتبَّه وتتزوَّد فيها وانتهت المسألة، وإلَّا كلُّ شيء مِنْهُ وبِيَدِهِ وبأمرِهِ جلَّ جلالُه. 

يقول سُبحانه وتعالى:{وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ (20)}، بهذا قال ﷺ لابن صيَّاد مِنْ اليهود أظهَرَ الله على يَدِه بعض الأمُور -غرائب مُخالفة للعادة- هذا اختبار للناس، قال لَهْ: "إخسأ فلن تعدو قدرَك"، قال له النبي ﷺ: "إخسأ فلن تعدو"، لك حَدْ محدُود ما تقدر تتجاوزه. وهكذا الدجاجلة كُلُّهم، ورأسهم الخبيث الأعوَرْ الدَّجال، لَهْ حَدْ معلُوم يَسِيح في الأرض، بعَمَلْ ربّ الأرض، بإرادة ربّ الأرض، بقدرة ربّ الأرض، وفِتنة كبيرة للنَّاس، وبعد ذلك واحد إنسان ما عنده أي سلاح ولا عنده أي جيش ولا عنده أي دُوَل يُريد يَقتلُه ما يقدر يِقتُله -انتهى- له حَدْ معلُوم. تحت المدينة المنورة في مكان وصفه النَّبي ﷺ في سِبَاخ المدينة يجي ويقِف هُناك ويخرج، فترجِف المدينة بأهلها ثلاث رَجَفَات، ويخرُج منها كُل مُنافق، وتخرُج طائفة مِنْ المؤمنين فيهم هذا الذي يُقتَل ثُمَّ لا يقدِر على قَتلِه؛ أي كيف قبل ساعة قتلتَه والآن عاجز عَنْ قتلِه؟ لأنَّه لك قَدْر محدُود، ما أنتَ مُحيي ولا مُمِيت، المُحيي فوقَك الذي أحياك، المُمِيت فوقَك الذي سيُميتَك -الله الله الله-. يقول: أتشهد أنِّي ربُّك؟ فيقول: أنتَ؟ الأعور؟ أنت الأعور الخبيث الدجَّال، تقول لي أنَّك ربَّنا وأنت حتى عينَك ماتِقدر تِصَلِّحها، أنتَ الأعور الخبيث الدجَّال الذي حدَّثنا عَنْكَ رسُول الله ﷺ. فيقول: شقُّوه نِصفين ويمشي بين النصفين، ثُمًّ يَرُدَّهُ ويقول: أُحييه لكم؟! تعلمون أنِّي ربّكم؟ كَذِبًا، نحنُ نَدري بهذا الخبر مِنْ قبل ما يظهر هذا الدجَّال لأنَّ الله أنبأنا على لسان نبيِّه ﷺ. ثُمَّ يردُّه فيقوم بإذن الله تعالى، ويقيم يحييه مرة ثانية؛ أتشهد أنِّي ربَّك؟ أنت الأعوَر وعينَك ما تِقدر عليها! أنْتَ الأعوَر الخبيث الدجَّال الكذَّاب الذي حدَّثنا عَنْكَ رَسُولُ الله ﷺ، والله ما ازدَّدتُ فيكَ إلَّا بصيرة. فيُريد أن يَقتُلَهُ فلا يُقدر. فَردْ، لا معُه جيش، ولا معُه سِلاح، وذا مالِك الأرض وعِندُه مُلك، ووراءه جيُوش ما يِقدَر يِقتُل هذا -أبدا- ويعلَم حينَهَا أنَّه خلاص انتهت المُهلة عنده، فيهرُب مِنْ المدينة إلى الشَّام، وما هُوَ إلَّا أنْ ينزِل سيِّدنا عيسى ابنُ مريم في شرقيِّ دِمَشقْ عِندَ المنارة البيضاء، ويتوجَّه ويحصِّلُه في باب لُد قريب مِنْ بيت المقدِس في فلسطين. إذا رأى عيسى ابن مريم انتهى، وإن كانْ يقُول على الرَّب كلام طويل عريض، ولما يرى عيسى ابن مَرْيَم فيتصاغَر يتصاغَر يتصاغَر ويَذُوب كما يَذُوب المِلح في الماء. ويأتي سيِّدنا عيسى يقتُلُه. انتهى هذا الدجَّال والذين قبلُه والِّذين بعدُه. الدجاجلة كلُّهم بس يزَمجِرُون ويكذبُون على خلق الله ويصَلِّحُون لنفسهم دعاوي باطلة، ولا مُلك إلا لواحد هُوَ الله. 

قال: {وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ..} تريد رِزق، تريد عافية، تريد صِحَّة، تريد عِزَّة، تريد كرامة عِندُه! انتبه تخالفه وتخرُج. شوف الإهانة عِندُه أمرُه، والخِزي عِندُه أمرُه، والعذاب عِندُه أمره، والشَّقاوة عِندُه أمرَهَا. بيشقيك وماأحَدْ بيقدر يساعدك، بيهينك وماأحَدْ بيقدر يعزَّك، بيخزيك وماأحَدْ بيقدر يِكرمَك، انتبه! شوف الخزائن عِندُه { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، الكون كُلُّه كونه {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران:27]، الَّلهُمَّ ارزُقنا مِنْ الإيمان بغير حساب، وأرزُقنا مِنْ المعرفة بِكَ بغير حساب، وأرزُقنا مِنْ اليقين بغير حِساب، وارزُقنا مِنْ خَير الدُّنيا والآخرة بغير حِساب، يا ربَّ الأرباب يا مُسبِّبْ الأسباب، يا كريم ياوهَّاب يا الله.

{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ..}  لمَّا أرادَ أن يَهلِك عاد -قوم سيِّدنا هُود- كيف سلَّط عليهم؟ الله أكبر، {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍفَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } [الحاقة:6-8]، مِنْ وقت لوقت على ظهر الأرض تهب الرِّياح تِقلَع الأشجار وتقلِّب سيَّارات، أليس هذا حَصَلَ قريب؟ وقبل أشهر عِنْدَكُم، شيء في بريطانيا، وشيء في غيرها، فهل شيء مِنْ التِّكنولوجيا مَنَع؟ يِمنَع ايش؟ دع المُتقدِّمين المُطوِّرين يقولون اقعدوا في بيوتكم، لا أحد مِنْكُم يتعرَّض ولا تخرجوا، ليش؟ لأنهم عاجزون. ومَنْ الَّلي الذي يُرسلها؟ الله أكبر. 

{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ..} أظهر الله مُعجزة كبيرة للنَّبي سُليمان {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص:36]، لا إله إلا الله. 

يقولُ جلَّ جلالُه:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ..} تُلقِّح الأشجار وتُلقِّح السَّحاب، وتكُون سبب لنزُول المطر. وكم في الرِّياح مِنْ حِكَم، وسُبحانَ العليِّ الأحكم، نسألُهُ أنْ يغفِر ويرحَم، وأنْ يُثبِّتنا على أقوَمِ قَدَمْ، وعلى الاستقامة على خير طريقٍ ومَنْهَج ولقم في مُتابعة حبيبه الأكرم، وعبدِهِ الأعظم سيِّدنا مُحمَّد ﷺ.

اللهُم ثبِّتنا على طريقه يا أرحم الرَّاحمين ويا أكرَم الأكرمين، وبِهِ بارِك لنا في ليالي العَشْر المُقبلة علينا؛ التي أقسمتَ بها في كتابك، واجعلنا مِنْ أسعَد النَّاس بها وبما فيها. وقد أخبَرنا نبيِّك أنّ قيام كُل ليلة مِنها يعدِل قِيَام ليلة القدر، وصِيَام كُلْ يوم مِنْها يعدِل صِيام سنَّة. وما مِنْ أيّام العمل الصالح أحبُّ إليكَ فيهنَّ مِنْ أيّام العَشْر، ولا الجِهَاد في سبيل الله إلَّا مَنْ خَرَجَ بمالِهِ ونَفْسِهِ فَلَم يرجِع بمال ولا نَفْس -لا إله إلا أنت- بارِك لنا في العَشْر، لياليها وأيَّامها واجعلنا مِنْ خواص أهل اغتنامها يا الله. قال لنا نبيُّك: "أكثروا فيهنَّ مِنَ التَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل والتَّكبير" فاجعلنا مِنْ المُتحقَّقين فيها بحقائق التَّسبيح، وبحقائق التَّهليل، وبحقائق التَّحميد، وبحقائق التَّكبير حتى نمتلئ بتنوير مِنْ عندكَ تكبُتْ به كُلَّ شرِّير، وتدفَع به عنَّا أهلَ الزَّيْغِ والضَّلال في جميع المعاني والأحوال، يا مُحوِّل الأحوال. وبارِك في الحُجَّاجِ والزَّائرين لسيِّد المُرسَلين، والطَّائفين والقائمين والواقفين والعاكِفِين والرُّكَعِ السُّجُود، وأشرِكنا فيما تُنزِل عليهم وما تجذِب عليهم، وارزُقهم الصِّدقَ والإخلاص والقبول، وافتَح أبواب الفَرَج لأُمَّة النَّبي مُحمَّد ﷺ، وأدِم حِفظَ الحرمين الشَّريفين وزِدهُما تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا، وخلِّص بيت المقدِس مِنْ سُلطة أعدائك، وأدِم لَهُ مِنْ عندك التَّأييد والتَّسديد والرَّفعة والعزَّة، واحفظنا في أوطاننا وبُلداننا وأهلينا وفي زمننا وأهل زماننا حِفظًا لائقًا بجُودِك فيما حَفِظتَ بِهِ الذِّكرَ الحكيم، وادفَع عنَّا شرَّ الشَّيطانِ الرَّجيم، واختم لنا بالحُسنى وانتَ راضٍ عنَّا في لُطفٍ وعافية. 

اللهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله.

تاريخ النشر الهجري

30 ذو القِعدة 1443

تاريخ النشر الميلادي

29 يونيو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام