في شرح المقدمة لابن عطاء الله ( وعرجت إلى الملكوت الأعلى روحه فعادت وعلى ثنايا لسانه تلك الحكم التي ترجم فيها صفاء روحه وصدق معاناته) ما معنى هذا القول ؟

من المعلوم في الإنسان بعد حبس الروح في قفص الجسد ارتباطه بعالم الحس والمادة وهذه الدنيا، وقد علمنا أنه بالتزكية التي يبعث بها النبيون والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم يحصل للروح صفاء، ويحصل في صفاء هذا الروح مجالسة للملائكة في حلق الذكر والعلم وارتقاء في المعرفة وخروجٌ من العِقال إلى العقل ومن الحبس للفهم والإدراك فوجود نور المعرفة بالله في القلب الذي يأخذ الإنسان عن عالم حسه حتى يغيب عن شهوده عبَّر عنه بالملكوت الأعلى، فإن عالم الملك اسم لعالم الشهادة والمحسوسات وعالم الملكوت اسم لعالم الروح والغيب ، فيبقى الإنسان محبوسا مع عالم الحس حتى يتصفى قلبه وتتطهر نفسه فيتصل بعالم الغيب وعالم الملائكة ويقول في ذكر هذا المعنى سيدنا أبو بكر وكذلك يقول سيدنا علي: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. فكل منهما في هذا الأمر متجاوز الانحصار في عالم الحس وإدراكه، فصار من اتصاله بعالم الغيب والملكوت على حال لا يؤثر في كشف الغطاء إما بالموت أو بكشف هذا الحجاب العادي المُلقى الطبعي وذلك لأنه قد انكشف لروحه الحقيقة فعبر عن وصوله إلى هذا المقام في المعرفة واتصاله بعالم الغيب بعروج روحه إلى الملكوت الأعلى وأعلى ما في الملكوت المعرفة بصفات الحق تبارك وتعالى من الجبروت والرحموت والأسماء والصفات الإلهية العلية فهي الملكوت الأعلى والغيب الأعلى ما يتعلق بصفات الذات وأسماء الذات الإلهية الرحمانية فسباحته في تلك المعارف عروج في الملكوت الأعلى وسنة الله تبارك وتعالى أن يعيد أرباب تلك المشاهد والشهود الأصفى إلى عالم الحس ليدركوا ما حولهم فيستطيعون أن يقيموا ظواهر الأمور وأن يخاطبوا الناس وأن يكلموهم، وهذا الذي يعبر عنه عند أهل السلوك وأرباب الأرواح بالبقاء بعد الفناء، فالفناء هو عروجه إلى عالم الروح والعود إلى عالم البشرية للقيام بالتكاليف والواجبات والقدرة على مخاطبة الناس وعلى التنزل لهم والتخلق معهم وذلك شأن أمانة البلاغ عن الله تبارك وتعالى فبعد أن يكون هناك الفناء وذلك العروج يمد الإنسان بقوة تمكنه من أن يكون دائم الحضور مع الله مع القدرة على مخاطبة الناس ومشاهدة الحس فلا غيب يحجبه عن الشهود ولا شهود يحجبه عن الغيب ، ولا ظاهر يحجبه عن الباطن و لا باطن يحجبه عن الظاهر وفي هذا يقول الإمام الحداد عليه رضوان الله :

ولي أمل وراء هذا بعيدٌ        وذاك أن أصيرَ إلى الحبيب 

وأشهده مشاهدةً وأفنى      عن الكون البعيد مع القريب

وأن أبقى به بعد التفاني      فيا بشراي ما أوفى نصيبي

يأتي الإمداد من الله بالقوة فلو استمر على الإنسان الغيبة في مطالعة عظمة الله وجلاله ما قدر أن يقوم بكثير من الأعمال الظاهرة ولا قدر أن يخاطب الناس ويجالسهم ويتكلم معهم ، ولذا قال العارفون: إنما يحصل منا التأليف وقت الغفلة ، نؤلف الكتب للناس ونعلمهم ما ينفعهم وما يدلهم في وقت غفلتنا ، أما وقت سلطان الحضور مع الله فما عندنا فراغ نكلم أحداً ولا ندري بأحد ولا نشعر بأحد، فكانت غفلتهم رحمة بالأمة ، فالتي يسمونها غفلة هي رحمة بالعباد ورحمة بخلق الله تبارك وتعالى إذن فالعبارة التي ذكرها الشيخ إشارة إلى هذه المعاني التي أشرنا إليها.