تفسير سورة الشورى -11- من قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ (29)} إلى الآية 30

للاستماع إلى الدرس

الدرس الحادي عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الشورى، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:

وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) 

السبت 22 رمضان 1446هـ 

 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مُكرمنا بنور القرآن؛ وبيانه على لسان عبده المصطفى سيد أهل العِرفان، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه في كل شأن وحين وآن، وعلى آله المطهرين من الأدران، وصحبه الغُرِّ الأعيان، وعلى من والاهم في الله، واتّبعهم بإحسان، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ من جعلهم الله سادة التعريف والبيان؛ والهداية إلى سبيل الحق والهدى والعرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أما بعد؛

فإننا في فضل تلقّينا لمعاني كلام ربنا ودلالة وحيه، انتهينا في سورة الشورى إلى قول الله -جلَّ جلاله-: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(29))، -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-، يُوالي سبحانه وتعالى التعرف إلينا؛ ببيان عظمته وجلاله وآياته الواضحة البينات المُدركات لنا: بالحس وبالمعنى، بالأبصار وبالبصائر، بالحواس وبالعقول والقلوب؛ آيات بينات تدل على عظمته وعلى قدرته المُطلقة، وأنه يحيي الموتى وأنه يرُدّهم كما شاء. 

(وَمِنْ آيَاتِهِ) العلامات الواضحة العظيمة الدالة على عظمته وقدرته (خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ):

  • (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [فاطر:3]. 

  • (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّه) [النمل:60]؟

دلّونا على أي علم هذا؟ أي هيئة هذا؟ أي فريق هذا؟ أي دولة هذا خلقت السماوات والأرض؟ تكلموا بصراحة، هاتوا البيان؛ أمام أعيننا نشاهدها ليلا ونهارا، من خلقها؟ وكيف نمشي في العالم هكذا ولا نُفَكِّر في المُوجِد البارئ الخالق الفاطر؟ أي عقليات عقلياتنا إذا نسينا هذا الأمر؟!.

وحالنا كان يشبّهه بعض العلماء بمثل؛ لو فرضنا أن إنسانا عنده عقلٌ، بات في منزله ما درى كيف جاء، ويستيقظ وإذا هو في سفينة، وفيها ناس ما يعرفهم وتجري بهم في البحر! فهل بمقتضى عقل هذا الإنسان أن يفكر قبل كل شيء ويقول: من جاء بي إلى هنا؟ وكيف وصلت إلى هذا المكان؟ ومن هؤلاء الناس؟ وإلى أين تمشي السفينة؟ أو أنه يقوم من النوم يشوف أحدا يضحك معه، وأحدا يلعب معه؟ اصبر، أولًا أنت الآن من أين جئت؟ وما الذي أوصلك إلى وسط هذه السفينة؟ 

هذه السفينة التي نحن عليها هذه الحياة على هذه الأرض، سفينة تمشي بنا، كيف جئت؟ من أين جئت؟ فكّر قبل أي شيء، وتشتغل بالترهات والبطالات والبناء والأحزاب والسياسات. قل لي: من أين جئت؟ وأي شيء جاء بك إلى هنا؟ وماشي إلى أين؟ من أين جئت؟ قل لي ماذا؟ وماهو سبب وصولك إلى هذا المكان؟ ومقتضى العقل قبل ما نفكر في أي شيء؛ نفكر لماذا جئنا؟ وكيف جئنا؟ ولماذا؟ ومن الذي جاء بنا؟ وإلى أين تمشي بنا هذه السفينة؟ وتُرسي إلى أين؟

يقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ)، (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ:12] قوية مُحكمة الصنع، وعلى مدى هذه القرون والألوف من السنين صيانتها عند من؟ أين الصيانة حقها؟ ولم ما تكسرت وما تشققت؟ بأمره، سيجيء يوم تشققها وسيشُقها خالقها؛ لكنها الآن ثابتة محكمة قوية (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا)، (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر:57]. 

كم طولك وكم عرضك؟ ومن أنت؟ حتى ولو كنت من قوم عاد! ماذا تساوي أمام السماوات والأرض؟ تقول: كيف أنا أرجع؟ ماذا تشاهد قدامك؟ القدرة التى كونت هذا! تقول كيف أنا أرجع؟ هل هذا عقل؟ّ! هل هذا منطق؟ كيف؟ انظر أمامك آيات بارزات واضحات، والذي كوَّن هذا كله ألن يقدر على مثلك؟ أنت كم أذرع؟ من أنت؟ ماذا تساوي؟ (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [غافر:57].

(مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) من شاركه فيها؟ من ادّعى خلقها؟ حتى دعوى ما أحد قدر يدّعي ويقول: أنا الذي خلقت، من هو هذا؟ هو وحده قال: أنا خلقت، وأرسلت الرسل، والكون صامت ما أحد قدر يخلق ويقول لا لا أنا! ولا أحد، كل يعرف أنه ما شارك في خلقه. قال: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [الأحقاف:4]، إيش من بقعه هم التي خلقوها؟ قولوا لي إيش؟ هاتوا المكان الذي خلقوه هم؟ والله ولا خلقوا ذرة، (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) [الأحقاف:4]، كم يطبّلون عليكم في الزمن الأخير زمن التقدم؛ ساعة يقولون لكم: قمر، وساعة يقولون لكم: مريخ. ولا جابوا خبر سواء إلى الآن، ويتعاكنون (يختلفون) بينهم البين، بعضهم يقول حقيقة وبعضهم يقولون ليس حقيقة، هم علميون؟ علميون؛ علميون ما هم داريين إيش يقولون! علميون يتناقضون! العلم ما فيه تناقض؛ العلم: إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع.

  • (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الرحمن:33]. 

  • (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۚ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف:4].

أي دلالة؟ هل في أحد من رسلي من أنبيائي الذين اخترتهم على الأرض قالوا شيئا من هذا الكلام؟ من أين تجيبون الكلام هذا؟ من أين؟ ما مصدره؟ ما أصله؟ وإلا كل من حرك رأسه بفكرة يجيب فكرة وخلاص تكون هي؟!

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ..(29)) وما بثَّ: نشر وفرَّق فيهما من دابة. فالملائكة في السماوات لا يُحصِي عددهم إلا الله؛ وهم أكثر خلق الله عددًا، والأرض ملآنة بالدواب؛ لو تريد أنت تُحصي أنواع الدواب التي في الحارة حقك، فقط من الحشرات والحيوانات؛ ما تقدر تحصيها، بعضها ما تعرفها، وبعضها ما شفتها، وبعضها لا تعلم بها، وعندما تراها تتساءل: من أين ظهرت هذه؟ هذا نوع كذا وهذا نوع كذا! دواب تدُب؛ كلها من عند مُكوّن، من عند صانع، من عند مُنشئ، من عند فاطر، من عند خالق، من عند مُوجِد.

   (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ)

  • وقد يراد بالدبِّ والدابة: الحياة، يعني الأشياء الحية؛ من ملائكة، من إنس، من جن، من حيوانات بر، من حيوانات بحر.

  • وقد يشمل الدَّبُّ؛ فيدخل في الدابة: الملائكة من حيث أنهم يمشون، كما أنهم يطيرون أيضًا يمشون؛ فمن حيث هم يمشون يدبُّون؛ فصاروا من الدواب، وكذلك الناس، وكذلك بقية الحيوانات التي تدب على وجه الأرض.

    (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) -جل جلاله- وكل نوع من أنواع هذه الدواب عالم له نظامه، وله ترتيبه، وله أقْيسََته، وله سبيل حياته، وله غذاؤه، وله معاملاته، وله مسكنه، وله توالده، ما هذه العظمة؟! -سبحانه عزَّ وجل-.

   (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) يقول: أنا الذي أوجدت هذا، فهل يصعب علي جمعهم؟ هل يصعب علي ردهم إذا أمتهم؟ أنا أوجدتهم من لا شيء! (وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(29)) في أيِّ وقت يريد يجمعهم يجمعهم وفي أي وقت يريد يفرقهم يفرقهم؛ وقد حكَم بجمعهم في يوم القيامة (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام:38]. يُجمعون أنواع ما على ظهر الأرض من دواب وما في البحر، ومعنا الملائكة من فوق؛ كلنا نجتمع في جمع واحد (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:47].

وجاء في الأخبار:

  • أنَّ أول من تنشق عنه الأرض عند النفخة الثانية في الصور: سيدنا محمد ﷺ، ويقوم وينظر سيدنا موسى معلقا بقائمة من قوائم العرش؛ -لأنه لم يَصْعَق من النفخ في الصور؛ لما قد سبقت الصاعقة له فجازاه الله بها؛ ممن استثنى الله؛ قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) [الزمر:68]؛ مثل سيدنا موسى -عليه السلام–. 

  • فإذا رفع ﷺ رأسه يحصِّل موسى ماسكا قائمة من قوائم العرش؛ فيقوم ﷺ ويلتفُّ حوله مَن قُبِر حواليه، وأهل البقيع كلهم، ويمر على من بمكة والحجون، ويمضون، وتُحشر الخلائق أصنافًا: (یَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ كَأَنَّهُمۡ جَرَادࣱ مُّنتَشِرࣱ) [القمر:7]، واحدًا بعد الثاني وواحدًا بعد الثاني.

فيجمع الله أول بني آدم، ومن فيهم الأنبياء، وأتباعهم من الأمم؛ فيجتمعون، فإذا كَمُل حشر بنو آدم:

  • يُحشر الجان فيحيطون ببني آدم. 

  • ويُحشر حيوانات البر فيحيطون بالإنس والجن من الجوانب. 

  • وتُحشر حيوانات البحر فيحيطون بمن قبلهم من كل جانب. 

حتى أن كل صنف مثل الذي قبله عشر مرات!

  • وتدور السماء: (یَوۡمَ تَمُورُ ٱلسَّمَاۤءُ مَوۡرࣰا) [الطور:9] ويَفزع أهل الموقف، وتتشقَّق، وينزل ملائكة السماء الأولى، ويحيطون بالإنس والجن وحيوانات البر وحيوانات البحر من ورائهم. 

  • ويُمد الله الأرض: (وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ * وَأَلۡقَتۡ مَا فِیهَا وَتَخَلَّتۡ) [الانشقاق:3-4] حتى تتَّسع لهذه العوالم. 

  • وتمور السماء الثانية مرة أخرى، وينزل ملائكة السماء الثانية ويحيطون بمن قبلهم. 

وكل طائفة مثل الذين سبقوهم في الموقف مقدار عشر مرات، وملائكة السماء الثالثة، والرابعة والخامسة والسماء السابعة! في صعيد واحد!

ويذهب الله بعد ذلك من شاء من المؤمنين إلى ظل العرش، ويُبقي البقية، فيأتي بالشمس وقد أذهب ضوءها وبقيت حرارتها، ويُدنيها من الرؤوس حتى تكون بينهم وبينها مقدار ميل؛ فتعرَق الأبدان ويسيل العرق حتى يغوص في الأرض سبعين ذراعًا، ويُلجم هذا إلى كعبيه، وهذا إلى ركبتيه، وهذا إلى سُرَّتِه وحقويه، وهذا إلى رقبته، وهذا إلى فمه، وهذا منغطس كله في هذا العرق والحر، حتى يتمنون النُّقْلَة ولو إلى النار!

ولا يقدرون يمشون من أهل الموقف فيروحون يجرون نحو الأنبياء يريدون الشفاعة، ويريدون الإنقاذ مما هم فيه، يقولون: ألا ترى ما نحن فيه؟ اشفع لنا عند ربك؟ من عند آدم إلى نوح، ومن نوح إلى إبراهيم، ومن إبراهيم إلى موسى، ومن موسى إلى عيسى؛ وكل منهم يعتذر ويقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده، كل يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري لست لها، ما أنا صاحب هذه الشفاعة، يقول لهم آدم: اذهبوا إلى نوح، ونوح يقول لهم: اذهبوا إلى إبراهيم. وإبراهيم يقول: اذهبوا إلى موسى. وموسى يقول: اذهبوا إلى عيسى. وعيسى يقول: اذهبوا إلى محمد ﷺ، قال: فيأتونني فأقول: "أنا لها"، وأسجد، فيناديني ربي ويلهمني ﷺ، فهو الشفيع الأعظم، وهو صاحب المقام المحمود. 

(وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(29)) -جل جلاله وتعالى في علاه- (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(29))، ثم له حِكَم في الجمع؛ فيجمع في عالم الدنيا مَن يجمع، وفي عالم السماوات كذلك.. في الأرض والسماوات، في العمر الأول قبل النفخ في الصور، ويجعل هذا في الوقت هذا، وهذا في الوقت هذا، وهذا في العصر هذا، والعصر هذا في المكان هذا، وهذا يُوجده في مكان بعيد ويروح يجتمع مع واحد في الشِّق الثاني، وهذا يولد بجنب هذا ويبتعد عنه ولا يجتمعون ولا يتشاوفون، ولا يوجد فيها عبث كلها، كلها تحت الحكمة.

لا إله إلا الله!

ولذا يُحب رب السماوات والأرض ما يجمعه من المجامع التي تريد وجهه على ظهر الأرض، فيذكرونه ويتعلمون أحكامه ويتعاونون على إقامة أمره؛ هؤلاء محل نظره في الأرض، حتى الملائكة يتنافسون في الحضور معهم، وهناك صنف خاص من الملائكة سائحون سيَّارون في الأرض، سماهم النبي : سياحين سيَّارة، وظيفتهم: قصد هذه المجامع التي تُعقد لوجهه، ويُذكر فيها ويُذكر أمره، ويُتعاون على القيام بمنهجه في الأرض؛ هذه المجامع تحفها الملائكة بأجنحتها، وطبقة فوق طبقة إلى السماء؛ لمنزلتها عند الله.

ومن هنا عَظُم الاجتماع في الفرائض في الجماعة في الصلوات الخمس، والاجتماع على صلاة القيام في رمضان وصلاة التراويح، وإن كان جمعهم في عهد سيدنا عمر بن الخطاب -عليه رضوان الله تعالى-، وكان يصلي الناس واحدا وراءه واحدا، وواحدا وراءه اثنين أوثلاثة، أوزاعا، وواحدا يصلي وحده، في آخر عهد النبي ﷺ وفي خلافة أبي بكر الصديق كذلك، وفي خلافة سيدنا عمر مرَّ في عام ستة عشر من الهجرة، رأى المصلين، قال: الناس مفرقون، لو جمعناهم على إمام واحد كان أفضل، واستشار الصحابة ومنهم سيدنا علي وغيره؛ فأشاروا عليه بذلك. 

  • ومر يوما ورأى الناس وهم يصلون صلاة واحدة خلف إمام واحد، جماعة متوجهون، قال: نعمت البدعة هذه. سيدنا عمر يقول: نعمت البدعة هذه!. 

  •  وبعد وفاته مرَّ سيدنا علي على بعض المساجد وإذا الناس جماعة في صفوف واحدة، فقال: نوَّر الله قبرك يا عمر كما نورت مساجدنا. 

فكان هذا الاجتماع في صلاة قيام رمضان وصلاة التراويح من ذاك العهد إلى ليالينا هذه؛ منظورة، ومحل عناية من الله تعالى، خصوصًا إذا توفر إخلاص القصد فيها لوجه الله، وكلما حضر في جمع من الجموع مع قلوب تعرّف الرحمن إليها فعرَفها، واستخلصها لنفسه، وصفَّاها ونقَّاها؛ كانت منزلتها لديه أكبر، واعتنى بها من الملأ الأعلى قومٌ أكثر.

والحق ذكر لنا القيام لجماعة الفجر، وقال: (وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودࣰا) [الإسراء:78]، يعني يشهده ملائكة كثير (إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودࣰا) تشهده ملائكة كثير، يحضرون للذين يقومون لله في الفجر، الحمد لله رب العالمين.

ويجمع من يشاء ويُفَرِّق، كثير من الصالحين والعارفين في البلدان هنا وهنا وهناك، وإذا اقتضت رحمته اجتمعوا، إما في موسم حج أو في شيء من المناسبات، أو وفَّر عدد منهم كثير في مكان واحد؛ تنصب الرحمة بقوة عليهم؛ وهذا من النفحات والنوادر، لأنهم مشتتون بأكناف البلاد. 

نزلوا بأقطار البلاد نزول ماء *** المُزنِ أمطرَ  في المحل الماحل

فلكل أرض حظُّها  منهم  فلا *** يُخشَى على الدين اغتيال الغائل

وإذا شاء جمعهم، وإذا جمعهم أظهرهم، وإذا أظهر أهل النور والحق؛ ظهر الحق في العالم (وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)) -جلّ جلاله-.

ثم الجمع الكبير سمَّاه ربنا: (یَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ) [الشورى:7]، ما عاد يبقى أول ولا آخر، ولا إنس ولا جن ولا ملائكة إلا اجتمعوا، هذا يوم الجمع.

يوم يَغبُن المؤمنون الكفار: (فَٱلۡیَوۡمَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنَ ٱلۡكُفَّارِ یَضۡحَكُونَ) [المطففين34:]، يقول بالباطل قعدتم تضحكون على المؤمنين، وقلتم وقلتم، أما الآن شوفوا أين مصيركم، أماكنكم في الجنة لهم، وأماكنهم في النار لكم، هذا مقابل هذا؛ يغبن: (ذَ ٰ⁠لِكَ یَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِ) [التغابن:9]؛ لأنه في عالم الدنيا أبيتم أن تدخلوا منازل في الجنة باتباع رسلنا وأنبيائنا، وهم دخلوا وأبوا ورفضوا أن يلقوا أنفسهم في النار.

 فما النار؟ الكفر نار، الظلم نار، الفواحش نار، المسكرات نار: (إِنَّ ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَ ٱلۡیَتَـٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا یَأۡكُلُونَ فِی بُطُونِهِمۡ نَارࣰا) [النساء:10]، يقول خلاص أماكنهم التي في النار لكم، وأماكنكم التي في الجنة لهم، لأنكم هكذا تقاسمتم في الدنيا، أخذوا منازل الجنة وأنتم أخذتم منازل النار، "إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلاً، فهم بعمل أهل الجنة يعملون، وخلق النار، وخلق لها أهلاً فهم بعمل أهل النار يعملون"، ويوم المصير كل يعرف مكانه (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7].

(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ..(30))، يقول الله أنواع الشدائد والنوازل التي تنزل بكم سببها ما تكتسبون من الذنوب والمعاصي (ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟) [الروم:41]، ومنه ما شرع الله من الحدود التي تقام ببعض الذنوب والمعاصي، ما يقام الحد إلا على من عصى الله بتلك المعصية (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). 

(وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(30)) ومن ذلك من حكمة إقامة الحدود؛ أن الله تعالى من رحمته؛ إذا ندم العبد الذي عمل الجريمة، وأقيم عليه الحد في الدنيا؛ عفى عنه (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)، وكذلك يصيب الناس عامة الناس.

  • أما أهل العموم بالذنوب والمعاصي والسيئات.

  • وأما الخواص فما كسبت أيديهم من كل ما لا يليق بالمقام الذي هم فيه -وإن كان ليس بذنب ولا معصية- ولكن يؤاخذون بشيء من الشدائد؛ لئلا تنقص مراتبهم ومواهبهم في دار الكرامة، فيؤاخذون بهفوات، لكنها حسنات الأبرار؛ ولكن عند المقربين سيئات.

  • واحد من المقربين جلس يستغفر الله تعالى عشرين سنة، يتوب ويستغفر من واحدة سيئة عملها! ما هي؟ قال: الحمد لله في غير موطنها. الحمد لله! الحمد لله حسنة! حسنة تملأ الميزان!

جاءوه يقولون له: النار اشتعلت في السوق فأحرقت الحوانيت إلا حانوتك، كلما قَرُبَت منه انطفأت، قال: الحمد لله، ثم قال: أنا أقول في هذا الموقف، وقت احتراق دكاكين المسلمين وسلامة دكاني: الحمد لله! كأني أفرح بما أصاب المسلمين، ولا أهتم لهم، وأحب لنفسي وحدها النجاة! وقعد يستغفر ويتوب من هذا الذنب!. هل هذا ذنب؟ هذا عدَّه سيئة! وخاف أن يؤاخذه الله!

وعلى هذا يأتي بمراتب ودرجات، وإن كان كثير من النوازل والآفات تقع بمن لا ذنب له؛ من مثل:

  • الأطفال الذين لم تكتب عليهم الذنوب. 

  • وإما من المعصومين من الأنبياء -صلوات الله عليهم- ينازلهم بلايا وآفات وشدائد، فتكون بالنسبة لهم رفع درجات وتخصيصات واصطفاءات، بعطايا ومزايا من الحق -جل جلاله-.

وكذلك لهذا الصبي تُرفع بها درجته، وترفع درجات أبويه؛ بتسليمهم الأمر، وصبرهم، وقيامهم بمعالجته، ثم حتى لو مات صغيرًا قبل البلوغ يُحَصِّل درجات في الجنة من الآلام التي مرَّت به. هو ما عنده حسنات ولا زال طفلا ما عمل شيئا من الحسنات، لكن يحصِّل درجات بالآلام التي مرت عليه.

إذًا فالأمر راجع إلى حِكمة من الحكيم في كل ما يحدث في الوجود، وأنَّىٰ تصل عقول الخلق إلى إدراك حكمة الحكيم! 

  • ولكن عندنا على ألسن أنبيائه ما يكفينا أن نرتدع عن أن نتهم الخلاق بظلم أو إجحاف على صغير أو كبير.

  • بل هو الملك الذي له الحق في ملكه؛ يتصرف ما يشاء، ومع ذلك ما يُحدِث شيئا إلا وله فيه من الحكم؛ الذي إن وصل علم الخلق إليها كاف، وما لم يعلموه أكبر وأكثر من حكمة الحكيم -جل جلاله-. 

ولمَّا أراد أن يخلق بني آدم ويعطيه سر الخلافة على وجه الخصوصية في الأرض، اعترضوا جماعة من الملائكة وقالوا: (قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ…قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ)؛ وجاءت الحكمة؛ بداية لمَّا خلق آدم علّمه الأسماء: (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ)، قالوا الملائكة: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، قال: علِّمهم يا أدم (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ)، فقام سيدنا آدم -كرسي التعليم- والملائكة عنده تلامذة طلاب، وقال هذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا.. فعلَّمهم، (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة:30-33]، يعني في خلقي للأشياء وتكويني؛ حَكَم فوق عقولكم -وهم ملائكة-، فهكذا حكمة الخالق. وأنت تأتي أمام مهندس كبير حاذق، أوخبير بالزراعة، أو خبير بالطب، أو خبير بالطيران، تشوفه يصَلِّح فتسأله لماذا تصلِّح هكذا ولماذا تصلح هكذا؟ فيقول لك كيف لماذا؟ أنت إيش تعرف! هل عندك خبرة عن هذا؟ اسكت ساكت! تنتقد على المتخصصين المهندسين الكبار! فهذا الجبار الخالق، وتقول: ليش؟ إيش ليش!

لو، ولم، وكيف، قول ذي الحمق *** يعترض على الله الذي خلق 

 هو أعلم بما يخلق -جلَّ جلاله- سبحانه!

(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(30))، وهذه لصنف من المؤمنين من أرجى الآيات، كما جاء عن سيدنا علي عن أبي طالب: صنف من المؤمنين ينظر الله إلى ذنوبهم وسيئاتهم؛ فيُعجل لهم بعقوبة بعضها في الدنيا، ويعفو عن الباقي. فإذا وصلوا إلى الآخرة الذي قد عاقبهم عليها خلاص روح، والذي قد عفى عنه ما يرجع في عفوه ثاني مرة، قد محت حسناتهم الذنوب، فلا وجود لها، يحصِّل أمامه حسنات. 

(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ):

  • والمصيبة ذي التي تُقابل البعض،

  • والباقي الثاني، قال: (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(30))، الكثير يعفو عنه؛ هذا واحد. -لكنَّ القرآن حمَّال المعاني- فهذا يكون لصنف من المؤمنين الملطوف بهم.

  • وصنف آخر ما يُنازلهم من الشدائد في الدنيا بما كسبت ذنوبهم عذاب معجل، و معنى العفو في حقهم (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ): تأجيل العقوبة إلى الآخرة، فهولاء في شدة في الدنيا ثم في الآخرة كذلك (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [آل عمران:56].

 اللهم أجرنا من عذابك.

(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(30))، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) [فاطر:45]، -سبحانه عز وجل-؛ ليبقى الكون معمورًا إلى الأجل الذي حدده سبحانه.

يقول الله: (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ)، يعني ما تقدرون تفوتون علينا، ما تقدرون تخطفون علينا، ما تقدرون تهربون منا، أين تروح؟ "لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك". (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) ما أحد منكم يقدر يهرب، ما أحد يقدر منكم يفوت علينا، ما أحد منكم يقدر يمتنع أن نُنزِل به شيئا، مَن؟!

(وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ) -يحميكم ويحرسكم ويمنعكم- (وَلَا نَصِيرٍ (31)) يدفع عنكم السوء الذي أنزلناه بكم، (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَه وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد:11]، (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم) [يونس:107] -جلَّ جلاله سبحانه وتعالى-.

فلا يغرّك الكون وما فيه، المَلِك لم يُسلِم مملكته إلى أحد، الملك قيوم فوق المملكة، هو المقدم وهو المؤخر، وهو الرافع وهو الخافض، وهو الضار وهو النافع، وهو المعطي وهو المانع، وهو المقرب وهو المبعد، والأمر كله إليه ويرجع إليه؛ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة:5]، هو الذي يدبره ومرجعه إليه، وما لأحد شيء معه -حاشاه- في ذا ولا ذاك.

دَعِ الناس يا قلبي يقولون ما بدا *** لهم واتّثق بالله ربّ الخلائق

ولا ترتجي في النفع والضرّ غَيْره *** تباركَ من ربٍّ قديرٍ وخالق

دع الناس يا قلبي يقولون ما بدالهم

 إيش همك منهم؟ لا خلقوك ولا مرجعك إليهم، فالأمر الخطير قدامك، هو الذي خلقك ومرجعك إليه، صلِّح حالك معه وخلّهم يقولون الذي يقولوه.

 واتّثق بالله ربّ الخلائق

ولا ترتجي في النفع والضرّ غَيْره ***  تباركَ  من  ربٍّ  قديرٍ  وخالقِ

فليسَ  لمخلوقٍ  من  الأمر  ها هُنا *** ولا ثَمَّ شيء، فاعتمد قولَ صادقِ

 وأكثر الناس أمثلتهم مع من رأى القلم يكتب به شيئا، فراح يخاصم القلم ويحارب القلم ويريد يكسر القلم، ولا درى باليد التي حملته ولا بالإنسان، ولا بعقل هذا الإنسان. يقول: يا مجنون؛ ليس القلم إلا جمادا! شوفه بيد محرك، والكون ذا كله بيد محرك (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران:26].

قالوا لسيدنا إبراهيم بن أدهم، وقد جاءه جندي، وكان سيدنا إبراهيم حارسا على مزرعة أحدهم، قال له: أعطنا من ذي العنب، قال: لا، هذا مُلك لصاحب المزرعة، وما عندي إذن حتى أنا ما آكل منه، فكيف أعطيك؟! حتى أنا بنفسي ما آكل منه!، قال: أنت بغيت تبيّن ورعك؟ أعطنا، قال: ما أعطيك، فلطمه الجندي. فقال سيدنا إبراهيم : أمَّا هذا رأس قد عصى الله يستحق الضرب لا بأس، اضرب. فضرب رأسه لطمة ثانية، فقال: اضرب رأسًا طالما عصى الله. وثالث مرة، وما وجد فائدة! فذهب يمشي، وأحدهم من بعيد شافه فسأله: إيش تصلح أنت وذاك الحارس؟ قال: نريد نأكل عنبا ومنعنا يريد يبيّن نفسه أنه وليّ ويقول لا أملكه!. قال: تعرف من هو هذا؟ وكان اسمه ذائع بين الناس لكن ما يعرفونه الناس، فقال: ذاك إبراهيم بن أدهم، قال: ها! هذا الولي العالم! يا الله! أنا لطمته لا تصيبني مصيبة! ورجع إليه: سامحنا ما عرفتك! فقال: لا، أنت تب لربك، وانقذ نفسك، ولا تفكر في أكل الحرام، أمَّا أنا ما رفعت يدك من فوق خدي مرة إلا وقد قبل ما ترفع يدك سامحتك. قال له: ولماذا تسامحني؟ قال: لأني عَلِمَت أني أنال بسببك أجرا -لما لطمتني الله سيعطيني أجرا- فكرهت أن أحصل بسببك أجرا وأنت تحصل بسببي وزرا، فأنا سامحتك، وما بقي الآن إلا ما بينك وبين الله، أنا فد سامحتك بس أنت اذهب صلِّح نفسك مع الله.

انظر كيف هؤلاء يتحقَّقون بأن الفعال هو الله تعالى، وأنه محل لأن يناله الأدب، وأنه عاص يستحق (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، متيقن بالآية هذه تيقن ذوق وحقيقة، فلهذا مباشرة سامحه.

 وأنت لو غلبك هذا الشعور ستسامح؟!  الشعور هذا عزيز ما يُعطى لكل أحد؛ إلا لصادق مع الأحد.

قال: (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(31))، يقول: 

فليس لمخلوق من الأمر هاهنا *** ولا ثم شيء فاعتمد قول صادق

 هو الرب لا رب سواه وكلهم *** عبيد وتحت الحكم من غير فارق

كلهم الذين في السماوات والذين في الأرض، نعم والله (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا) [مريم:93].

            نعم بعضهم ممن يحب ويرتضي  *** لطاعته والبعض عاصٍ ومارقِ

(لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ) [الحشر:20]، (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ) [السجدة:18]؛ 

بتوفيقه صار المطيع يُطيعه

-اللهم وفقنا واجعلنا من أهل الطاعة الظافرين بالحظِّ الكبير من خواتيم رمضان-

بتوفيقه صار  المطيع  يطيعه ***  وخالف بالخذلان كل مفارق

فاسأل ربك التوفيق والعفو والرضا *** وكوناً  مع أهل  الهدى والطرائق

من هؤلاء؟ قال:

رجالٌ إلى الرحمن ساروا ***

  إلى أين؟ إلى وين راحوا؟ إلى الرحمن ساروا! الله .. الله .. الله!

رجال إلى الرحمن ساروا بهمة *** على الصدق والإخلاص من غير عائق

فَنَالُوا الَّذِي كُلُّ الْمَطَالِبِ دُونَهُ

 المطالب كلها أقل منه، أعطاهم فوق كل المطالب! الله!

 فَنَالُوا الَّذِي كُلُّ الْمَطَالِبِ دُونَهُ *** فَلِلَّهِ مِنْ عَيْشٍ كَرِيمٍ وَرَايقِ

 إيش هذا العطاء؟ قال: 

دُنُوٌّ وتقريبٌ وأنسٌ بحضرةٍ *** مُقدَّسةٍ في منتهى كل سابق

فآهٍ على عيش الأحبة كم أسى  ***عليه  وكم دمعٍ  على الخد دافق

الله أكبر، اللهم أكرمنا بقربهم.

 فوأسفي إن مُتُّ من قبل أن أرى *** وجوهًا عليها نور علمٍ وخشية

قال: (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(31))، اللهم تولَّنا وانصرنا، فنعم المولى ونعم النصير، وأنت الذي قلت: (وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ۚ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال:40].

يا نعم المولى ويا نعم النصير: ثبتنا على خير مسير، في قدم الاتباع للبشير النذير السراج المنير، في اعتقاداتنا وعاداتنا، وأعمالنا وأقوالنا، ونظراتنا ومعاملاتنا، وحركاتنا وسكناتنا، وظواهرنا وخفياتنا، يا بَرُّ يا كريم يا رحيم، مُتابعة تامة لخير الخلق ننال بها محبتك الكبيرة.

يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين: ثبتنا على الحق فيما نقول، وثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد، واعصمنا من الشرك، واغفر لنا ما دون ذلك، وفرج كروب هذه الأمة يا كريم، وفرج كروب هذه الأمة يا كريم، عجِّل برحمة هذه الأمة يا رحيم، ارفع عنهم الشدائد والبلايا والآفات من النوازل، رُدَّ يا رب سلطة المعتدين الظالمين الغاصبين المجترين المفترين، ولا تبلغهم مرادًا فينا ولا في أهل "لا إله إلا الله"، ولا في أحد من أهل "لا إله إلا الله" أجمعين، يا حي يا قيوم يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمد ﷺ

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه

 الفاتحة

من كرمه تنزَّل لنا، وصار يُخاطبنا بواسطة رسوله وعلى لسان رسوله، ويُبَيِّن لنا ويُعرِّفنا، له الحمد وله المِنَّة. اللهم أتمم النعمة علينا، وارفعنا بالقرآن، وانفعنا بالقرآن، واجعلنا عندك من أهل القرآن، يا كريم يا منَّان، يا أرحم الراحمين، يا أرحم  الراحمين، يا أرحم الراحمين.

تاريخ النشر الهجري

25 رَمضان 1446

تاريخ النشر الميلادي

23 مارس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام