تفسير سورة الشورى -06- من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ (16)} إلى الآية 20
الدرس السادس من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الشورى، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:
{ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) }
الأحد 16 رمضان 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله على فَضله العَظيم ومَنِّه الجَسيم، وإنزاله الكتاب الكريم على عبده المُصطفى ذي القدر العَظيم والخُلق العظيم، وتَبيينه على لِسان هذا المصطفى الرؤوف الرحيم.
اللهم لك الحمد شكرًا، ولك المنُّ فضلًا، وصلِّ وسلِّم أفضل الصلاة وأزكى التسليم على عبدك المُختار سيدنا محمد الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله وأصحابه والسائرين على مَنهجه القويم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسَلين أهل الإجلال والتكريم والتفخيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقَرَبين، وعلى جَميعِ عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ،
فإننا في نِعمَة تأمُّلنا لكلام إلٰهنا مولانا وخالِقنا وبارِئنا ومن إليه مَصيرُنا -جل جلاله-، وصلنا في سورة الشورى إلى قوله جل جلاله وتعالى في عُلاه: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)).
(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ) بَعدَ ما بيَّن سبحانه وتعالى في الآية التي قَبلَها:
-
منهجَ النبوَّة.
-
وأتباعَ النبوَّة في الدعوة والاستقامة.
-
والبُعد عن اتباع الأهواء.
-
والإيمان بَكُتُبِ الله تبارك وتعالى.
-
والأمرِ بالعدل.
-
وأنه لِكُلٍ عَمَلُه؛ ولا حُجَّة بيننا وبين جَميع الخَلقِ إلا:
-
توضيح الأمر.
-
والدعوة إلى الحق.
-
وإلى ردُّ عُدوان من اعتدَى.
-
وظُلمِ مَن ظَلَم، ومُجاهدَةَ من صدَّ عن سبيل الله، (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256].
-
ويُشير الحق إلى أنه مع هذا المَنهَج القَويم لجميع الأنبياء فلا يزال في أُمَمِهم من يُحاجُّ ويُعانِد ويُكابِر.
قال: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ) -يُخاصِمون- (فِي اللَّهِ) وعَظَمتِهِ وَوِحدانِيَتِه وألوهِيَتِهِ وَ رُبوبِيَتِهِ واستحقاقه العِبادة دون غيره، وما أَنزَل من الكُتب وما أرسل من الرسل.
-
(يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ) يُحاجُّون أنبيائُهم؛ ومن يَخلُفُ أنبيائُهم.
-
(مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) جلَّ جلالُه؛ بإيضاح الحُجَّة وإقامَتِها وبيان البُرهان، فيستجيبُ كلُّ مُنصِفٍ وكلُّ عاقلٍ يُريدُ الحق فتحصلُ الاستجابة.
ومع ذلك كلِّه وبعد وضوح المَحَجَّة وإقامة الحُجَّة واستجابة من يَستَجيب، يَظَل قومٌ يُحاجُّون ويجادِلون في الله، قال تعالى: (حُجَّتُهُمْ) استِدلالاتُهم وما يَقومُ عليه أمرُهم وفِكرُهم (دَاحِضَةٌ). (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) باطلةٌ عند ربِّهم، وما كان باطلاً عند الله فهو الباطلُ على الحقيقة لا وَجهَ له في الحقِّ من قريبٍ ولا من بعيد.
(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) من الجبَّار -جل جلاله وتعالى في عُلاه-، فإنما سعَوا لِحَتفِ أنفُسهم ولعظيم الشَّقاء ولموجِبِ الطردِ والهلاكِ الأبدِي؛ لمُحاجَّتهم في الله، وقد ظهرَت آياتُه وأقامَ الحُجَّة (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165]، فعليهم غضبٌ والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)) لا يُطاق.
-
مِنُه ما يُعَجَّلُ في الدُّنيا مما يُحَسُّ ومما لا يُحسُّ:
-
وما يُحسُّ: من أنواع الهزائم، والعِلَل والأمراض، ومجيئ الأمور على غير مُراداتهم، ونُصرةَ أهل الحقِّ عليهم.
-
وما لا يُحسُّ: من بُعدِهم وطَردِهِم وحِجابِهم.
-
-
وبَعد ذلك الجميعُ يُحَسُّ وعذابٌ شديدٌ لا يُطاق حِسًّا ومعنىً في الدارِ الآخرة - والعياذ بالله-.
هذا جزاءُ الذين يعيشون على ظهرَ الأرض مُخاصِمينَ للأنبياء وورثَة الأنبياء، ومُجادلين في ردِّ ما جاء به الأنبياء- صلواتُ الله وسلامُه عليهم-، وما جاء به خاتمُهم سيِّدُ المُرسَلين، لأجل:
-
أهوائهم أو شهواتهم.
-
ولأجل أغراضهم وخُبث نفوسهم.
-
وبأي دافعٍ من الدوافع.
انقطعوا ويعيشون مُضادِّين لما جاء به الرسُل، هؤلاء لا حُجَّة لهم في المَنطِق والعقل من قريبٍ ولا من بعيد، فيما يُزاولونه ويقومون به، وهؤلاء أورَدوا أنفسَهم مورِدَ الهلَكَة الكُبرى؛ فيحِلُّ عليهم الغضبُ من الله ولهم العذابُ الشديد -أجارَنا الله من ذلك وحمانا وأهالينا وأولادَنا-، إنه أكرمُ الأكرمين.
(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ) -يُجادِلون ويُخاصِمون- (مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) -قامَت الحُجَّة واستجاب أهلُ الإنصاف- (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ) -باطلة- (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16))، ذلك أنهم تَنَكَّروا لِمُنشِئهم ومُوجِدهم وخالِقِهم؛ وقد آتاهم من الأسماع والأبصار والعقول ما يَكفي استبصارًا مع إرسال الرسل وإنزال الكتب.
(اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ)، يقول سبحانه وتعالى: أنا تولَّيتُ بفضلِي إنزالَ الكُتُب مِني ومِن عِندي على أنبيائي ورُسُلي؛ لِتَكون وُصلةً لِعبادة المُكَلَّفين على ظَهر الأرض، يَسمعون خِطابي ويعلَمون ما أحبُّ منهم في مساعِيهم وأقوالهم وأفعالهم ومقاصِدهم ونيَّاتهم.
(اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ)، أنزَلَ الكتاب على الأنبياء والمُرسَلين إلى أن خَتَمَهم بخاتم النبيين محمد وأنزلَ عليه القرآن: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [المائدة:48].
يقول: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) بالهُدى والنورِ والواقعِ والحقيقةِ.
(اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) أنزَلَ الميزان، وما الميزان؟ العدلُ والقِسطُ، أو الإدراك لحقائق الأمور بواسطة النور الذي نَزَل مع ما أوتي الناس من سَمعٍ وبَصَرٍ وعَقلٍ وإدراكٍ وذَوق، بذلك يقوم الميزان، أي: وَزنُ الأشياء المَعنوية كما توزَنُ الأشياء الحِسية بموازين الأواقي والأرطال والكيل وما إلى ذلك، والجرامات وما إلى ذلك، فكذلك توزَن الأشياء:
-
أحقٌ أم باطل؟ أهدىً أم ضلال؟
-
أخيرٌ أم شر؟ أصلاحٌ أم فساد؟
-
أنورٌ أم ظُلمة؟ أأنور أم أقل نورًا؟
-
أأفضل أم أقل؟
كل هذا بالميزان يُعرَف؛ فالميزان أنزله الله بما جَبَلَ عليه خِلقَة هؤلاء المُكَلَفين مِن عَقلٍ وسَمعٍ وبَصَرٍ وإدراك وذوق، مُنورٍ بنور الوحي والتنزيل؛ هذا حلالٌ وهذا حرام، افعلوا ولا تفعلوا، به يقوم الميزان، فمن أحسن استعمال عقله وذوقه وإدراكه بالإستنارة بنور الوحي فقد أقام الميزان، وقد أدرك الميزان، وصَحَّ وَزنهُ للأفكارِ والأعمال والمُحاوَلات والوِجهات قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25]، ويقول سبحانه وتعالى: (الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) [الرحمن:1-7] آتاكم عقولًا وأفئدة وأذواقًا، وأنزل كتب وأرسل رسل، قام الميزان:
-
(وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ)، لا تَلعَبوا على أنفسكم، ولا تقبلوا خديعة الأنفس، ولا خديعة عدوكم إبليس.
-
(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) وتَميلوا بالهوى والشهوة إلى ذا أو ذاك، تُحِلون الحرام وتُحَرِمون الحلال. وتقولون للهدى ضلال، وتقولون للضلال هدى، وتقولون للخير شر، وتقولون للشر خير (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن:7-9].
يقول تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) فماذا يريد هؤلاء المخالفون لأمر الله من موازين يصطنعونها من عِندهم في فِكرٍ أو سلوكٍ أو خُلُق؟ مَن هم؟ وماذا يَعلَمون؟ ومن أين جاؤوا؟
-
هذا الخالِقُ الذي وضع الميزان و(أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ).
-
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
-
(قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة:140].
-
(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14] -جل جلاله-.
هذا هو الميزانُ الصحيح، تَقومُ عليه الأشياء، وعلى ضَوئه وأثره يوضع الميزان في القيامة:
-
وهذه كِفَّةُ الهدى والنورِ والخيرِ والبِّر والصلاح.
-
وهذه كِفَّةُ الفساد والشر والظلمة والفسوق.
ويوضع كل شيء في موضعه بالميزان الدقيق (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [القارعة: 6-9].
-
فمن أقام الميزان في الدنيا:
-
كثرت حسناته.
-
وتَجَنب الباطل والضلال والشر والإثم.
-
فَيَرجح وتَثقل موازينه في القيامة.
-
-
ومن لعب بالميزان في الدنيا وكثرت سيئاته:
-
فَتَرجح في الآخرة كفة سيئاته وظلماته وآفاته.
-
-
فيخسر الميزان وتَخِفُ موازينه.
(فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة:9-11] اللهم أجرنا من النار.
قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17))، يقول: هذه السنوات ومدى القُرون التي بينك وبين الساعة يَرَاها قاصِر النظر من عامة الخَلقِ أنها بعيدة؛ ولكن لِتَيَقُن وقوعها ولطول الأمد بعدها هي في الميزان عندنا قريبة، قال الله عن ذاك اليوم:
-
يقول سبحانه وتعالى: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج:4].
-
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج:6-7] مُتَحَقَق مُتَيَقَن واقِع.
والذي بعده من الآمال لا نسبة لما قَبلَه، لا نسبة لما قَبلِهُ إليها، فهو إذًا قريب (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا).
(وَمَا يُدْرِيكَ) يقول الله لحبيبه (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)) ولم يَقُل "قريبة"؛ لأن التأنيث فيها مجازي، والمُراد إتيانُها ومَجيئها قريب.
-
(لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي إتيانُها قريب، ومَجيئها قريب.
(لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)):
-
والساعة الكبرى هي جَمعُ الخَلقِ عِندَ النفخة الثانية في الصور، ليوم القيامة والجزاء والفَصل بين الناس بما كانوا فيه يختلفون.
-
والساعة بعد ذلك لكل فرد ساعة وفاته وانتقاله من هذه الحياة إلى عالَم البرزخ، وانكشاف الستارة عن كثيرٍ من أمر الغيب، وما أُمِرَ بالإيمان به مما كان يُنكِره فَيُعايِنهُ مُعايَنَة مِنَ المَلائكة وأخبار الآخرة فَيُشاهِدها مُشاهدة، الكُل مِنَ الموتى يُشاهد ذلك بِروحه.
(لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)) والساعة الكبرى يوم القيامة يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، ويقولون: متى الساعة هذه حقّك؟ أي: هات الساعة؛ إما استهزاء وتكذيبًا وإما غرورًا وكِبرًا فيستعجلونه بها، ويقولون للرسل: (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ) [العنكبوت:29]، وقال الله: (إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال:32].
(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا)؛ لأنهم لا يُدرِكون حقيقتها ولا عَظَمَتها، وهكذا شأن المُستَخِفين بالقيامة، هم بعيدون عن الإيمان، والناسُون لذاك اليوم، هم المعذَّبون في ذلك اليوم، ويقال لهم:
-
(إِنَّا نَسِينَاكُمْ) [السجدة:14].
-
(كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا) [الجاثية:34].
-
(لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص:26].
فيا ما أقبح حال النسيان ليوم المصير والمآب، والرجوع إلى الحق، والقيام بين يديه يوم الحَشر والمآب، يوم جمع الأولين والآخرين، يجب أن يكون في ذهن المؤمن مرسومًا كأنه يراه، مُستعِدًّا له: (ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ) [هود:103-104].
يقول تعالى: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا) خائفون؛ لأنهم يَعلمون فيها عظمة الجزاء والحساب، وعظمة الحاكم رب الأرباب، مالك يوم الدين، (قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) [الأنعام:73] وهم مُستَحيون من الله، مهما اجتهدوا في الطاعات والعبادات، واجتنبوا السيئات والمخالفات؛ فهم مستحيون من عظمته ومن جلاله، ويرون أنهم لم يقوموا بحق العبودية له كما ينبغي، وهم يخافون أن يؤاخذهم على شيءٍ من ذنوبهم وسيئاتهم، وهكذا.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) الأمر الواقع الآتي لا ريب فيه، (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) [الحج:7]. فيا حاكِم يوم القيامة، اجمعنا في صفِّ حبيبك في ذاك اليوم، وصفوف المقرَّبين إليك، ولا تُخلِّف أحدًا منا عن ذاك الرَّكب الكريم، واكفِنا الهولَ العظيمَ في يوم الهولِ العظيم، واجعلنا ممن تتنزَّل عليهم ملائِكَتُك (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30] برحمتك يا أرحم الراحمين.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) الأمر الواقع الصريح الذي لا مَفَرَّ منه، والذي يقوم فيه كلُّ ما أخبرَ به الله ورسولُه حق.
(وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ۗ أَلَاإِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ) يتشكَّكون ويتردَّدون في أمر القيامة، ويجادِلون فيها.
(لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)) ذهبوا بعيدًا عن مَدارِك العقل، وعن شواهِد النقل، وعن ما أقامَ الله عليه الحُجَّة على أيدي الرسُل -صلواتُ الله وسلامُه عليهم-.
شطُّوا بعيدًا وضلُّوا ضلالًا بعيدًا -والعياذ بالله- ناقَضُوا فيه العقول، وناقَضُوا فيه الشواهِد القائمة التي تدلُّهم على قُدرة الله على إحياء الموتى، من إحياء الأرض، ومن نومهم ويقَظتهم، ومن آياتٍ بديعة في الأرض والسماوات وما بينهما، كلُّ ناظر إليها، أنَّى يَشُكُّ أنَّ الفاعل لهذا فعَّالٌ لما يريد، وأنَّه يُحيي ما يشاء ويُميت ما يشاء، وكما أحيا أول مرة كيف يَعجز عن أن يُحيي مرةً أخرى؟! لا إله إلا هو، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104].
فلا تَقُل كيف أرجع؟! قُل كيف جِئت؟! خلّك كيف تَرجع أول! كيف جئت أنت أول الآن؟ كيف جئت؟ والذي جاء بك بيرجعك؛ عَرَفنا القُدرة التي جاءت بك سَتُرجِعَك -سهل-، لكن المجيء هو ذا كيف كان؟ (قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس:78-79] وأول مرة من أين جاءت؟ من خزانتك، ولا من حكومتك، ولا من أين جاءت؟ من عند صنمك؟ من أين جاءت؟ فَكَوَّنتَها مِن نُطفة! بعد ذلك تقول لي كيف أرجع؟!
-
كيف جئت؟ هو الذي جاء بك أول مرة برجعك ثاني مرة، وثالث مرة أسهل بحكم انسانيتك أنت وعقلك وخَلقِيَتَك، ثاني مرة أسهل من أول مرة.
-
قُلْ لي: كيف جئت؟ أمّا كيف سترجع، سترجع، لكن كيف جئت أوّل مرة؟ إن كان الذي جاء بك أوّل مرّة، هو الموجود والقادر يجيبك ثاني مرّة وثالث مرّة ورابع مرّة؛ لكن المُشكلة المجيء الأوّل، من أين جئت أنت؟ لا إله إلا هو!.
(أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18))، (مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)، يقولون هكذا ويَغْتَرّون ويقولون: (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) [الكهف:36]، (وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ) [فصلت:50]، على أيّ أساس؟ وَحْي أوحى إليك؟ رسول مِن رسله أخبرك؟! تتّبِع هواك وشيَاطينك وتَجْحَد به وَبِعظمته، وتُكذِّب رُسُله وتقول: (إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ)؟! على أيّ أساس؟ ولا أيّ أساس؛ عنجهية.
فيا ربّ ثبّتنا على الحقّ والهدى *** يا ربّ اقبضنا على خير ملّة
-
(إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ) [غافر:56].
-
(فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5].
(أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) وإلّا ما عاد يَبقى أحد، ولَطِيفٌ بِعِبَادِهِ: كيف كوَّنهم؟ وكيف أَخْرجهم؟ وكيف مِن حفنة تراب جاء بنا؟.
كان يقول بعض العارفين: "لو شَفَّعْنِي الله -لو فَرَضْنَا في يوم القيامة- في بني آدم كلّهم، ما اسْتَكثَرْت ذلك عليك؛ لأنّه إنّما شفّعني في حفنة تُراب":
-
حفنة تراب كوّن منها آدم وتناسلوا كلّهم.
-
وبعد ذلك من النّطفة هذا التّكوين.
-
ويُغذّيه في بطن أمّه بواسطة السّرّة وعبر السّرّة.
-
وأوّل ما يخرج يعلّمه يلتقم من ثديها.
من أين هذا؟ ما هذا؟! لطف! لطف؛
(لَطِيفٌ):
-
الذي يَعْلَم دقائق المَصالح وخفِيّاتها، ثمّ يُوصلها بأسلوب رَفِيق لين، هذا اللّطيف.
-
وبالمعنى الواسع ليس إلّا لله، هو الذي يعلم الأشياء كلّها، وكيف يوصل عجائب نعمه ومِنَنِه الظّاهرة والباطنة، الذين آمنوا والذين كفروا.
-
ويؤخّرهم ويَرزقهم ويعطيهم فوق حاجتهم، ويطلب اليسير منهم، وَبِطاعتهم في العُمر القصير يُعطيهم فوز الأبد بلا نهاية ولا أمد؛ ما هذه العجائب في الإفضال؟! اللّطيف.
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)، الله أكبر، ويرزقهم من الطيّبات، ويجعل كلّ كائن له رزق من الطيّبات، ثم يُيسِّره ويُوصله إليه؛ وعجائب لطفه لا غاية لها ولا نهاية.
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ)، ويُكذّبون ويَفترون ويَجترِؤُون، وما يَعجل عليهم بالعُقوبة، ومازال يُذكّرهم بمُذكِّرات بعد الكُتب والرّسل، ويُنبِّههم منبيهات خلال حياتهم، ضربة من هنا أو سقطة من هنا، ترجع أو ما ترجع؟!
-
(وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:21]، وفيهم مَن يُصِرّ ويُعاند ولا يَستفيد مِن شيء أبدًا.
-
"وَلَا يَهْلِكُ عَلَى الله إِلّا هَالِك".
-
"مَنْ شَرَدَ على الله شُراد البعير النّاد على أهله"، هؤلاء هم الهالكون، وإلّا الحقّ لطيف بعباده.
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) وَيَهَبهم مواهب ظاهرة وباطنة لا حصر لها، (يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ)، إنسان، حيوان، صغير، كبير، ذكر، أنثى، مسلم، كافر، (يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ)، الذي لا يُعجِزه شيء، الله أكبر! تامّ القوّة وَلِشدّة القوّة هو متين.
(وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19))، ما معنى عزيز؟ (الْعَزِيزُ):
-
هو الذي لا يوجد له مثيل ولا نظير، ولا شبيه.
-
ولا يُستغنى عنه.
-
يُحتاج إليه، ولا يُمكن الوصول إليه.
والعزّة بهذه المعاني:
-
ما هي إلّا له تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، وهو الواحد الأحد، أمّا سِواه (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) [الذاريات:49]، اثنين.
-
وما ظهر أنّه واحد مثل الشّمس، ففي الإمكان خلق ثانية وثالثة ورابعة؛ لكن هو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]، الواحد الفرد الأحد، هو وحده جلّ جلاله، الله أكبر! فالعزّة له.
أمّا مِن خلقه، فالعزّة عندهم مَن على قدرهم عند هذا العزيز، وصار بأمره نافعًا لعباده، لا يَستغنون عنه، ولا يَتمكّنون من الوصول إلى درجته، فهو عزيز.
ولذا قال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون:8]:
-
أوّل واحد من الخلق عزيز محمّد، هو في الخلق الأعزّ، لا مَقامه يُوصل إليه، ولا درجته يُبلغ إليها، والكلّ في حاجة إليه جعلهم الله تعالى حتّى في أفظع المواقف في شدّة القيامة، يرجعون إليه، ويقول: "أنا لها"، يا ربِّ صلّ عليه وعلى آله، فهو أعزّ الخلق.
-
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بالتّبعيّة لهم، على قدر اتّباعهم يُعزّون فيعزهم الله تعالى، ويتولّاهم ويَنْصرهم، ولا يمكٍّن عَدُوّهم منهم، ويُؤتيهم مِنحًا وعطايا يَقِلّ وُجودها في أكثر الخلق، فَبِهَذا يكونوا أعزّاء، الله أكبر!.
أمّا العزّة المُطلقة فلله وحده، وأكبر مراتب العزّة في المخلوقات والبريّة عند واحد يُسمّونه محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، يا ربي صلِّ عليه، هذا أعزّ الخلق على الإطلاق، ابتدأ الله الخلق به، وختم به النّبوّة، وجعله أوّل شافع وأوّل مُشفَّع، وجعل أعلى درجة في الجنّة الوسيلة له، يا ربِّ صلِّ على سيّدنا محمّد، عزيز:
-
(يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].
-
يقول تعالى فيمن يتّخذ من دون الله أربابًا: (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النساء:139].
فما لا تَعظم الحاجة إليه، أو يُمكن الوُصول إليه بسهولة مِن دون أيّ تعب؛ مثل الشّمس وحيدة ومُحتاج النّاس إليها، لكن كُلًّا يجد هذا سهلا، أو كان لا يُحتاج إليه، فما هو بعزيز؛ ولذا الذين يحتاج إليهم في تهذيب النّفوس والوصل بالرّبّ هو الأعزّ، لأنه يحتاج إليهم في الأمر الغالي والأمر الأعظم؛ فلهذا كان الدّالُّون على الله والمُقرِّبون عباد الله إلى الله أعزّ الخلائق وأعظمهم منزلة عند الله تعالى: "خَيْرُ النّاس مَن دَعَا إلى الله وَحَبّب عِبَادَه إليه".
(وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19))، جلّ جلاله، ومع ذلك تجري ألطافه في الخلائق بعجائب مِن المِنَن:
-
(وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل:18]،
-
(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20]، جلّ جلاله.
وجرى اللّطف في خلايا العين وخلايا السّمع، وجرى اللّطف في اللّسان وتكوينه وطعمه وتحريكه، وجرى اللّطف في الأسنان وتركيبها وقواطعها ومُكسّراتها من أنيابها وَطواحنها؛ لطف! لطف عجيب! كلّه بميزان وبمقدار..
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19))، ومن أعلى الرّزق أن يَرزُقك المعرفة به، (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ) [آل عمران:163]، اللّهمّ وفّر حظّنا مِن المَعرفة بك في لُطف ومعافاة.
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19))
(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) حَرْث: تضع البذر في الأرض تنتظر الجزاء، قال لك الحقّ تعالى: أعمالكم حرث، بذور تحطّونها وهي حَرْث ولها جزاء، والحرث: إمّا للدّنيا، وإمّا للآخرة، وإمّا للأصْفياء الأكابر، يريدون الحرث لله وحده.
قال: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ)، يعني: ما جعله الله هو سبب السّعادة في الآخرة والفوز في الآخرة والنّجاة في الآخرة.
(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ)، فيعمل لأجل النّجاة والدّرجات والفوز والسّعادة في الآخرة؛ (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، نُوفِّقه توفيقًا بعد توفيق، نُضاعف له الحسنة إلى عشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، نفتح له في هذا الحرث أبواب المعرفة الخاصّة، المحبة الخّالصة، (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ).
(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، الله أكبر! وكان شيخنا الشّيخ سعد محمد بن علوي العيدروس -عليه الرّحمة- يقول: وقعت في قلبي (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، ما يُمكِّنهم فيه من زيادة الآمال إلى حدّ يتعجّب النّاس فيه، يقرؤون كثيرًا ويقومون كثيرًا ويُصلّون كثير لأنهم يريدون حرث الآخرة، قال الله: (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، نعطيه، فلا غرابة في ذلك أنّ الله يزيد له.
(نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) فالذين يعملون لله والدّار الآخرة كما قال الله لزوجات النّبيّ: (وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب:29].
(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، أنواع الزّيادة من الأجور والثّواب والمُضاعفة والتّوفيق بعد التّوفيق ورِفعة الدّرجة وفتح باب المعرفة، (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)، الله أكبر!.
(وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا)، مقصور فِكره ومُراده وعَقله: مال وصحّة جسد وديار وزواج وسيّارات وتاليفون، (نُؤْتِهِ مِنْهَا)، ما قَدَّرنا وقَسَمنا له.
(وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20)) -أعوذ بالله!- لا له نصيب في مغفرتها، لا له نصيب في عفوها، لا له نصيب في النّجاة ولا له نصيب في الدّرجات ولا له نصيب في النّعيم، أعوذ بالله! لأنّه انقصر؛ كان أبيّ بن كعب ويرويها عن النّبيّ ﷺ يقول: إِنَّ الله وَعَدَ المُؤمِنِين سَنَاء ورفْعة ورُتب في الدّنيا، قال: فمن عَمِلَ لأجْلها لَمْ يكن له في الآخرة نَصِيب؛ يعني: فقط منتظر الموعد من النّصر والسّناء والرّفعة، أراد هذا فقط، عمله فقط لهذا، في الآخرة ما له نصيب؛ لأنّه ما عَمِل لها أصلا.
-
ولكن من كان يعمل لأجل الله (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].
(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا (20)) ما قُدِّر له، كما قال: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ) [الاسراء:18]. قال في الآية الأخرى: (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة:200-202]؛ فلهم نصيب في الآخرة، أمّا هذا ما له في الآخرة من نصيب، قالوا علامته:
-
يَرضى بِنُقصان دينه إذا زادت الدّنيا ما يقول شيء.
-
ويعظّم أهل الدّنيا ويحتقر الفقراء.
-
ولا يَدعو إلّا بالدّنيا، يَدعي ويريد الدّنيا..الدّنيا..الدّنيا.
-
حتّى إذا ذهب إلى مسجد بغى الدّنيا، إذا حضر جمعة بغى الدّنيا، حتى إذا ذهب للحج يقول بغى الدنيا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) [البقرة:200]، ما له نصيب أبدًا، أعوذ بالله. وبالعكس مُريد الآخرة؛ وفوق الاثنين مَن تمكّن حُب الله مِن قلبه وتعظيمه فأراده؛ فله كلّ شيء في الدّنيا والآخرة هذا يريد الله -جل جلاله-.
اللّهمّ ارزقنا إرادة وجهك الكريم، اللّهمّ ثبّتنا على الصّراط المستقيم وانْفعنا بكلامك العظيم وقُرآنك الحكيم، وما بلّغ رسولك الكريم، ثبِّتنا على الاستقامة وأتْحِفنا بالكرامة، يا أرحم الراحمين.
وهؤلاء الذين تجمعوا مثل هذا اليوم وصلوا إلى بدر، مثل هذا اليوم سيّدنا الحُباب يقول له: هذا منزِلٌ أنزَلَكَه اللهُ ليس لنا أن نتقدَّمَه ولا نتأخَّرَه ؟ أم هو الرَّأيُ والحَربُ والمشورة، قال: "الرّأي والحرب والمشورة". قال: لَا تَنْزل بنا هنا يا رسول الله، تقدّم إلى أقرب ماء وَقُمْ بنا هناك واتْرُك الماء مِن وراءنا نشرب ولا يشربون. قال: "بالرّأي أشرت"، وقام ﷺ، وقال سيّدنا سعد: نَبْنِي لك عَرِيش يا رسول الله، ونجعل ركائبك حولك، نَلْقَى عدوّنا غدا، فإن انْتصرنا كان ما أحْبَبنا، وإن كانت الآخرة رَكِبْتَ رَكَائِبَك ولَحِقت بمن ورَاءنا؛ فما نحن بِأَشَدّ حُبًا لك مِنهم، ولو عَلِموا أنّك تَلْقَى حربا ما تَخَلّفوا عنك، فدعا له بخير، وبنوا العريش -الذي فيه الآن مسجد اسمه مسجد العريش- وبات في ذاك العريش ﷺ، بات قائم طول اللّيل وساجد، يكرر: "يا حيّ يا قيوم"، مثل ليلتكم هذه يكرّر: يا حيّ يا قيوم. وعامّة الصّحابة أخذوا نومة من اللّيل وقاموا فيها، وصلّى بهم الصّبح وهو لم ينم طول اللّيل ورَتّب موقع الجيش وأُمورهم وأخذ يَلْهج على الله ويُلِحّ على الله ﷺ؛ حتّى أصبح اليوم الثّاني وأشرقت الشّمس وصفّ الجيش صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، وبَقِي حارس العريش معه أبو بكر الصّديق، وبدأت المعركة وانتهت مع الظّهر، وقت الزّوال.
يقول سيّدنا عليّ بعدما تَبَارزوا وبَدأت رجع النّبيّ إلى العريش، قال فجئتُ إليه، قاتلت ما شاء الله، ثم جئت إلى رسول الله ووجدت أبو بكر عنده يحرسه، قال فوجدته ساجد يقول: "يا حيّ يا قيوم". قال وعُدت فقاتلت ما شاء الله أنّه قاتل ورجعت إليه فوجدته في سجدته يقول: "يا حيّ يا قيّوم"، قال وقاتلت ثالثا ما شاء الله أنّه قاتل وَعُدت فوجدته في سجدته يقول: "يا حيّ يا قيّوم"؛ ثمّ أنّه انتهض ﷺ وخرج يقول: "الله أكبر! هذا جبريل على ثناياه النّقع -يعني: الغُبار- يَزجر فَرسه"، وتقدّم ﷺ يَقرأ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر:45].
سمعه سيّدنا عمر بن الخطاب قال فهمت تفسير الآية، قال: كنت أقرأها في مكّة (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر:45]، قلت أيّ من جمع هذا؟ وكيف؟ واليوم عندما سمع الّنبيّ ﷺ، قال: هذا مِن أيّامها.
وجاء جبريل وميكائيل وإسرافيل معه ﷺ، مع كل واحد ألف من الملائكة وتقدّم؛ فكان أقربهم إلى العدوّ، يُقاتلُ ﷺ؛ حتى كادت أن تزول؛ فأخذ حَفنةً من تُراب ورماها في وجههم وقال: "شَاهَت الوُجُوه"؛ فما بقيت عين منهم إلّا دخل فيها شيء؛ فَيَفْحَصُون عيونهم وهُزِموا، فرّ البقية، وقد قُتل سبعون وأُسر سبعون وفرّ البقية هاربين.
فأقام ﷺ ثلاثة أيّام ببدر ثمّ عاد إلى المدينة المنورة وهو في الطريق مات هذا عبيدة بن الحارث الذي كان في أول القتال في المُقابلة، قابل شيبة بن ربيعة، سيّدنا حمزة قابل عتبة بن ربيعة، سيدنا عليّ قاتل وليد بن عتبة، وفيهم نَزَل: (هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج:19]، الله أكبر!.
وخرج لاسْتقباله أهل المدينة، إذ أرسل لهم وهو داخل إليها، ينشدون: طلع البدر علينا، ﷺ ودخل المدينة حين نَفَضُوا أيديهم من دفن ابنته رُقيّة، وجَاءته أمّ حارثة، تقول: أين ابني؟ قال: "احْتَسِبِيه عند الله"، أنت تعلم منزلة حارثة منّي وأنّه ليس لي من الولد غيره، فأخبرني أين ابني، إن كان في الجنّة صبرت، وإن كان غير ذلك لتريَنّ ما أصنع. قال: "يا أمّ حارثة ليست جنّة واحدة، إنها جِنان كثيرة وإنّ ابْنَكِ أصاب الفِردوس الأَعْلى"، "وإنّ ابْنَكِ أصاب الفردوس الأعلى"، ثمانية عشرة سنة، رضي الله عنه، أحد الأربعة عشر الذين قُتِلوا من أصحاب نبيِّنا في يوم بدر، شُهَدَاء بدر، عليهم رضوان الله، أرانا الله ُوجوههم وَحَشَرَنا في زُمْرتهم، إنّه أكرم الأكرمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
اللّهمّ اجْعلها ليلة فتح وليلة نصر وليلة عِناية مِن عندك يا حيّ يا قيوم، بِوجْهة حبيبك سيّد المعصومين، انْظُر إلى أّمته، تدارك أمّته، أَغِث لأمته، وأصلح أحوال أمّته، فرّج كروب أمّته، ارفع البلاء عن أمّته، رُدّ كيد أعدائك وأَعدائه واجْعل كيدهم في تَضْليل، واجْعلهم كَعَصْفٍ مأكول، وخُذهم أخْذَ عزيز مقتدر، ومزّقهم كلّ مُمَزَّق مزّقته أعدائك انتصارًا لأنبيائك ورُسلك وأوليائك يا حيّ يا قيّوم، تدارك أمور الأمة أجمعين برحمتك والحمد لله رب العالمين.
18 رَمضان 1446